وحدة الإحياءحوارات

نظام القيم ومركزيته في البناء الحضاري

حاوره: د. عبد السلام طويل

 يرى المفكر الموسوعي د. عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، أن الدين، إلى جانب كونه يُمثل حقيقة روحية لا معنى للحياة بدونها، يُشكل مقولة تحليلية متكاملة، وعنصرا أصيلا من الكيان الإنساني التاريخي ليس عارضا ولا منفصلا عنه. كما شدد على ضرورة التمييز بين النص الديني وبين التراث الثقافي، مؤكدا أن النص المقدس أساس كل حضارة..

وأشار المسيري في هذه المدارسة الفكرية مع مجلة الإحياء إلى أن العقل العربي لم يبدع نماذج مجتمعية وحضارية تساهم في دخول الإنسان العربي العصر الحديث، وأوضح أن نموذج الحداثة السائد غير مشجع بالمرة، وان عمليات التحديث في المجتمعات العربية الإسلامية “قامت بتفكيك تراثها دون أن تعطيها البديل الذي يستجيب لاحتياجاتها الفعلية وينسجم مع شخصيتها الثقافية والحضارية”.

وفي هذا السياق دعا المسيري إلى تطوير فكر جديد مبدع يساعد الإنسان العربي والمسلم على دخول عالم الحداثة دون أن يتخلى عن ذاكرته وعن قيمه وعن هويته وتراثه.

من ناحية أخرى أضاف المسيري أن الانفتاح على العالم بمختلف تجاربه ورؤاه، وليس على العالم الغربي فحسب، يمكن أن “يسعفنا في أن نستوعب وندرك ونرى الحقيقة الإنسانية في غناها وتعددها، وهكذا يغدو الغرب نسبيا وليس مطلقا؛ نتعلم منه ونتفاعل معه بإرادتنا وبكامل وعينا وخصوصيتنا”.

كما دعا إلى صياغة “عقد اجتماعي جديد” ينطلق من القيم الأخلاقية المشتركة بين الإسلام والمسيحية، بل وبين المنظومات الأخلاقية التي لا تستند إلى المرجعية الدينية..

 من التعاقدية إلى التراحمية..

ـ باعتباركم واحدا من أبرز الوجوه العلمية الرصينة التي يتجاوز إشعاعها أفق فضائنا العربي الإسلامي. ماهي أهم التحولات الفكرية التي عرفتها على المستويين المعرفي والمنهجي؟

كما تعلم، فقد أصدرت سيرتي التي أصررت على أن تكون سيرة غير ذاتية؛ تعنى، بشكل أساسي، بإبراز كيفية تبلور مساري المعرفي وتشكل النماذج المعرفية لدي؛ حتى يستفيد منها الشباب الباحثون بوجه خاص.. ولعل أهم التجارب الحياتية المبكرة التي كان لها تأثير مهم في وعيي المعرفي انتقالي من الحياة في قريتي بدمنهور حيث العلاقات الاجتماعية تراحمية إنسانية دافئة، إلى الحياة في المدن الكبرى سواء في مصر أو الولايات المتحدة الأمريكية حيث العلاقات تعاقدية مادية باردة…

بعد أن اجتزت مرحلة شك وجودي تبنيت الماركسية، لكنني سرعان ما تركتها لأسباب عديدة أهمها؛ أنني وجدت أنها كأي فلسفة مادية تظل قاصرة عن تفسير الظاهرة الإنسانية ومغزى الوجود الإنساني.. في حين أن جوهر تصوري الفكري يقوم منذ البداية على التمييز بين الإنسان والطبيعة؛ فالإنسان كائن مركب جدا بينما الطبيعة مهما بلغت من تركيب فهي ليست في تركيبية الظاهرة الإنسانية؛ فالإنسان لا يمكن التنبؤ بسلوكه، فهو مليء بالأسرار، وهو كائن ميتافيزيقي يسعى للبحث عن المعنى.. وهو ما جعلني أنصرف عن الليبرالية وأتوجه إلى الماركسية باحثا ضمنها عن تصور يميز بين الإنسان والطبيعة لكن دون جدوى؛ معتقدا أن نزعتها التاريخية من شأنها أن تسعف في تحقيق هذا الفصل، لكن كما أن هناك تفسيرا ماديا للتاريخ، هناك تفسير ميتافيزيقي يقوم على تفسير الظاهرة الإنسانية تفسيرا غير طبيعي. فإذا افترضنا أن الإنسان يستبطن أشياء مجاوِزة لعالم الطبيعة فإننا إذاك نكون قد تحركنا من عالم المادة إلى عالم ما وراء المادة.. وهذا ما حصل معي بالفعل حيث انتهيت إلى أن هناك عالم ما وراء المادة وبذلك اعتنقت الإسلام.

 كما أنني وجدت أن الكثير من الماركسيين يمثلون بسلوكهم الفعلي شخصيات داروينية نيتشوية غير مهتمة بقيمة العدل، وهذا يعني أن انتمائي للماركسية كان نابعا من اهتمامي بالعدل.. وعلى إثر ذلك جابهت مشكلة العقلانية الغربية خاصة حينما سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية بغرض استكمال دراساتي العليا لأكتشف أن الحضارة الغربية الحديثة هي حضارة النموذج العقلاني المادي وليس العقلاني فحسب، وهو ما ستجد تفصيلا له في العديد من كتاباتي. وما إنجازاتها الهائلة في مجالات العلم والتكنولوجيا والاقتصاد.. إلا نتاج لرؤيتها المادية التي مكنتها من تهميش واستبعاد الكثير من العناصر الأخلاقية والإنسانية غير المادية سعيا لاختزال الواقع وتبسيطه بغرض التحكم فيه. لكن بالمقابل فإن أزماتها وإخفاقاتها التي لا تقل ضخامة في مجالات الأسلحة النووية، والأزمة البيئية، والأزمات القيمية والأخلاقية من خلال تفشي شتى مظاهر الفساد واستشراء العبثية والعدمية وغياب المعنى.. تعد بدورها نتاجاً لنفس الرؤية المادية المستحكمة في البناء الحضاري الغربي رغم مختلف أشكال المقاومة والممانعة الجارية..

كذلك فإن دراستي للنازية جعلتني أستنتج أنها فلسفة لا عقلانية تماما رغم أنها وظفت العلم توظيفا هائلا؛ وهذا يعني أن المادية والعقلانية ليسا بالضرورة متلازمين، فنحن بصدد مجتمع لا عقلاني مع أنه مغرق في المادية..

ـ هل من عوامل أخرى ساهمت في هذا التحول الذي شهده مسارك الفكري؟

من الأمور التي هزت إيماني بالعقلانية المادية طغيان الحديث، خلال الستينيات، عن الأسطورة واللاوعي.. بحيث بدا كما لو أننا الوحيدون في العالم من يتحدث عن العقل! وقد أحسست، فعلا، كما لو أنني كنت الوحيد الداعي إلى العقل في صحراء اللاعقلانية الغربية. فالعقلانية المادية سرعان ما تجعل العقل مجرد خادم للمادة فتصبح المادة هي الأصل، هي الغاية النهائية من الوجود الإنساني، وهو ما يفسر كيف أن العنصر التجريبي بدأ ينفصل عن العنصر العقلي حتى أمسى التجريب ممكنا في حِل من أي إطار عقلاني؛ خلقي أو إنساني.. لأكتشف، في نهاية الأمر، أن العقلانية المادية عادة ما تؤدي إلى اللاعقلانية المادية..

ولأنني غالبا ما أجعل من خبراتي الحياتية موضوعات فلسفية للتأمل، فقد أثار انتباهي اهتمام الأمريكيين المبالغ فيه بالجنس لدرجة أنهم فصلوه عن العقل، وعن القلب ليغدو ماديا صرفا، في حين أن الجنس ليس نشاطا ماديا فحسب وإنما هو، بالدرجة الأولى، نشاط اجتماعي، نفسي، تاريخي، إنساني.. ولأنه أصبح نشاطا ماديا فحسب فقد طرحت بحدة مشكلة الإشباع، الأمر الذي يفسر ظاهرة السعار الجنسي وما يتصل به من مظاهر الشذوذ رغم أن إمكانيات الإشباع الجنسي متاحة بشكل ديمقراطي. ومن جهة أخرى، فقد تبين لي أن النسبية المعرفية والأخلاقية التي كان من المفروض أن تسهم في تحرر الإنسان وتمكنه من إثبات ذاته وفرديته، أفضت، إلى العكس تماما، ذلك أن النسبية تنزع القداسة على العالم بمُكونيه الإنساني والطبيعي، وتجعل كل الأمور متساوية بحيث يغدو من المستحيل على الإنسان الفرد أن يتخذ أي قرار بشأن أي شيء كما يغدو، تبعا لذلك، من السهل اتخاذ القرارات بالنيابة عنه والهيمنة عليه سياسيا..

ـ لا شك أن هذا التحول الفكري قد صاحبه تحول مماثل على مستوى تصورك للحقيقة الدينية. كيف تم ذلك؟

اكتشفت أن الدين، إلى جانب كونه يمثل حقيقية روحية لا معنى للحياة بدونها، يشكل مقولة تحليلية متكاملة وليس كما توهمته الماركسية مجرد بناء فوقي ليس له أي أهمية في حد ذاته، بحيث يمكن اختزاله ورده ببساطة إلى أصوله الاقتصادية المادية. لقد اكتشفت أن الحقيقة الدينية ليست مجرد وعي مستلب وإنما هي عنصر لا قوام لكيان ولا لهوية بدونه. وبهذا الوعي الجديد للدين والحقيقة الدينية سرعان ما اهتزت مقولة الانعكاس التي بمقتضاها يغدو البناء الفوقي، ومن ضمنه الدين، مجرد انعكاس للبنية التحتية، وزادت الهوة التي باتت تفصل الحقيقة الإنسانية المركبة، في وعيي، عن معطيات الواقع المادي اتساعا؛ بحيث زادت أهمية وفاعلية الأفكار والحقائق المعنوية والروحية في تفسير وتَمثّل ظاهر الوجود الإنساني..

 وكما أشرت، في أكثر من مناسبة، فقد تنامى لدي الوعي والشعور بأن الحقيقة الدينية ذات فاعلية قصوى وتأثير كبير في الواقع المادي الصلب وليست مجرد طلاسم مغلقة من عالم الغيب؛ أي أن الدين أصبح تدريجيا في تصوري عنصرا أصيلا من الكيان الإنساني التاريخي ليس عارضا ولا منفصلا عنه. من هذا المدخل المعرفي والنفسي ولجت فضاء التجربة الدينية في الإسلام لأفهم منطقها الداخلي.

الاجتهاد المنهجي وبناء النماذج التفسيرية والتحليلية..

ـ المتتبع لمشروعك الفكري يلاحظ أنك تتمتع بقدرة لافتة في مجال التنظير، والاجتهاد المنهجي، والنحت الاصطلاحي خاصة فيما يتصل ببناء النماذج التفسيرية، الإدراكية، والتحليلية. هل لك أن تقدم لنا بعض الإضاءات بهذا الخصوص؟

من أهم المشكلات التي واجهتني في مساري المعرفي مشكلة الموضوعية؛ حيث وجدت أنني أرى العالم بطريقة مختلفة.. وبالتدريج وجدت أننا لا نرصد الواقع مباشرة وإنما من خلال نماذج معرفية، والنموذج المعرفي، كما سوف أبرز لاحقا، عبارة عن صورة للواقع يكونها الإنسان في عقله من خلال ممارساته اليومية، بحيث إنه لا يدرك الواقع إلا من خلالها. ولذلك يصبح الرهان المعرفي لا ينصب على رصد الواقع، وإنما على محاولة جعل النموذج المعرفي قادرا على الإحاطة بأكبر قدر ممكن من عناصر الواقع؛ أي زيادة مقدرته التفسيرية..

ـ إذن، مشكلة الموضوعية هي التي جعلتك تنحت مفهومي” تفسيري أكثر” و”تفسيري أقل”؟

تماما، فأنا أطرح مفهوم التفسيرية بدل مفهوم الموضوعية. مفهوم التفسيرية لا يصدق في الموضوعية التطبيقية كما لا يصدق في الذاتية، ولذلك حينما أنظر للعالم وأحاول تفسيره فإنما أطرح تفسيري لا كنهاية وإنما كمحاولة اجتهادية يبقى من حق الآخرين اختبارها وتقييمها؛ فإن استطاعت أن تفسر عناصر كثيرة في الواقع فهي أكثر تفسيرية وإلا فهي أقل تفسيرية. وفي كل الأحوال فإن الموضوعية المطلقة تبقى، خاصة في مجال الإنسانيات، مستحيلة. ومن هنا عملت على بلورة وصياغة النماذج التفسيرية والإدراكية والتحليلية.

 فبالنسبة للنموذج التفسيري فإنه يحيل، في صياغاتي النظرية، إلى بنية تصورية أو قل خريطة معرفية يقوم العقل الإنساني بتجريدها وبلورتها؛ سواء بشكل واع أو بشكل غير واع، من كم كبير من العلاقات والوقائع والتفاصيل والحقائق العينية؛ حيث يقوم باستبعاد ما يعتقد أنه غير دال منها ويستبقي البعض الآخر؛ رابطا بين مكوناته ومنسقا بينها تنسيقا خاصا يسعفه في أن يجرد منها نمطا عاما يأخذ شكل خريطة إدراكية يتصور صاحبها أنها مماثلة في تناسقها وترابطها للعلاقات القائمة بين عناصر الواقع. فالنموذج التفسيري، بهذا المعنى، هو مجموعة من الصفات التي تحولت إلى صورة متماسكة ترسخت في أذهاننا ووعينا؛ بحيث لا نكاد نرى الواقع إلا من خلالها؛ فهي رؤية متكاملة للواقع في أغلب الأحيان..

 وتبعا لذلك فإن توظيفنا للنماذج التفسيرية يغدو، شئنا أم أبينا، أمرا حتميا؛ لأنها تدخل في صميم عملية الإدراك لدينا؛ فكل منا لا يدرك الواقع بشكل مباشر وإنما من خلال نماذج أنعتها بـ”النماذج الإدراكية”. وهي نماذج غير واعية في أغلب الأحيان يستبطنها الواحد منا تدريجيا لتغدو جزءًا لا يتجزأ من بنائه الوجداني وسليقته وإدراكه المباشر من خلال ثقافته وتفاصيل حياته وما تزخر به من رموز وعلامات وصور وأحلام.. ذلك أن النماذج الإدراكية كامنة في ثنايا النصوص التي نقرأها ونتمثلها، وفي الظواهر الاجتماعية التي تحيط بنا، وفي المعايير والقيم التي نعيش على هديها..

ـ هذا هو مفهومك للنماذج التفسيرية. نريد أن نسألك الآن عن المفهوم الذي تعطيه للنماذج التحليلية؟

“النماذج التحليلية”؛ فهي نماذج واعية يبلورها ويصوغها الباحث من خلال قراءاته للنصوص المختلفة، وملاحظته للظواهر المتنوعة ليقوم بتفكيك الواقع وإعادة تركيبه من خلالها، بحيث يمسي الواقع أو النص مفهوما ومستوعبا بشكل أعمق.. ولذلك فالنماذج التحليلية، كما هو جلي، تعد ثمرة إبداع واجتهاد ذاتي في تفاعل مع الواقع الموضوعي، بحيث أن تطبيق النموذج التحليلي على الواقع غالبا ما يسفر عن إغناء النموذج وإثرائه؛ لأن الظواهر الاجتماعية التي يروم تفسيرها عادة ما تتحداه بتعقدها وتطورها وتركيبيتها، فتكشف قصوره التفسيري. الأمر الذي يفرض تعديله حتى تزداد مقدرته التفسيرية.. وهكذا يتضح أن العلاقة بين النموذج والواقع علاقة حلزونية معقدة..

 التاريخ وخطاب النهايات..

ـ لا يعرف الكثيرون أن لكم أطروحة مبكرة عن نقد مقولة “نهاية التاريخ وموته” تعود إلى السبعينيات من القرن الماضي ما هو تقييمكم لمقولة نهاية التاريخ بالشكل الذي طرحه فرنسيس فوكوياما على ضوء أطروحتك؟

 في الواقع أنا أجد أن هناك انشغالا بنفس الإشكالية لدى فوكوياما ولدي؛ وهذه إشكالية جابهتها في رسالتي للدكتوراه التي تضمنت فصلا بعنوان “موت التاريخ”. رسالتي للدكتوراه كانت عبارة عن مقارنة بين وردزورث وويتمان؛ وهما شاعرين أحدهما بريطاني والآخر أمريكي كلاهما من القرن التاسع عشر، مستخدما مقولة التاريخ وموقف الإنسان منه كمقولة معرفية تحليلية في مقابل مقولة الطبيعة؛ أي إنني استخدمت نموذجا تحليليا ينطلق من التعارض بين الإنسان المركب صاحب الوجدان التاريخي الذي يستطيع تجاوز الطبيعة، والإنسان البسيط الطبيعي المعادي للتاريخ والذي يُردُّ إلى ما دونه؛ أي إلى عالم الطبيعة، وقد خلصت من مقارنتي بين الشاعرين إلى أن وولت ويتمان، الذي يسمونه في الولايات المتحدة “شاعر الديمقراطية الأمريكية”، هو في حقيقة الأمر شاعر الشمولية والفاشية وموت التاريخ والإنسان..

  ولابد أن أسجل هنا أن تجربتي المعرفية والحياتية في الولايات المتحدة الأمريكية قد طرحت على عقلي ووجداني وبإلحاح شديد الوعي بأبعاد المسألة التاريخية في المجتمع الأمريكي، الذي يعد مجتمعا حديثا يفتقد إلى تراث تاريخي خاص ومنسجم، ولذلك فهو شديد الاتصال بالراهن، بالمباشر، والمحسوس، والعملي. وكل هذه في تصوري أحاسيس معادية للتاريخ الذي يعبر عن نفسه من خلال أنماط تتبدى على مدى زمني ممتد وتفاصيل كثيرة،وإدراك هذه الأنماط يتطلب حسا تاريخيا لا يعرف في الآن وهنا.

 والأهم من هذا أن العنوان الفرعي للرسالة كان: “دراسة في الوجدان التاريخي والوجدان المعادي للتاريخ” وهو ما شكل بداية إدراكي أن هناك انشغال بمحاولة إلغاء التاريخ في الولايات المتحدة باعتباره مجتمعا استيطانيا؛ فبعد أن جاء الإنسان الأبيض كان لابد لتأسيس تاريخه الخاص من أن يلغي تاريخ السكان الأصليين حتى يمكنه أن يبرر أو يخفي جريمة الإبادة التي قام بها، كما كان عليه أيضا أن ينفي تاريخه الأوروبي حتى يمكن أن يحقق استقلاليته، وفي هذا الإطار تغدو الولايات المتحدة هي النقطة التي ينبغي أن يسعى الجميع نحوها؛ فالولايات المتحدة بهذا المعنى هي نقطة النهاية الهيغلية التي يتحد فيها العقل بالمادة أو بالطبيعة، وهي النقطة التي يتدافع نحوها التاريخ لكن لا يوجد أي تدافع بعدها. وقد درست شعر ويتمان وبينت أنه يدور في نهاية المطاف حول نهاية التاريخ، سميته كذلك شعرا حلوليا؛ بمعنى حلول الخالق في المخلوق فيتوحدان بحيث يصبح هناك جوهر واحد في العالم؛ أي  واحدية monisme))، وأن هذه الواحدية تمنع التدافع؛ إذ حتى لو كان هناك أي نوع من أنواع الجدل فإنه سيكون مؤقتا، وأرى أن الفلسفة الهيغيلية؛ لأنها في نهاية الأمر فلسفة مادية لا يمكن أن يكون فيها إلا نهاية للتاريخ. من هنا خلصت إلى أن نهاية التاريخ، في حقيقة الأمر، فلسفة فاشية؛ فبإنكارها للتاريخ، وإنكارها للجدل فأنها تنكر الإنسان لأنه، في نهاية الأمر، لا يمكن أن يعيش إلا في التاريخ وداخل الزمان ومن خلال التدافع..

 لك أن تتساءل: ما علاقة كل هذا بفوكوياما؟ أنا اعتقد أن فوكوياما حاول أن ينظر للتاريخ لا في تعدده ولا في تنوعه وإنما في إطار العلوم الطبيعية، مثلا، ففي نهاية الأمر وكما تلاحظ فإن النموذج الكامن في كل هذه الفلسفات هو نموذج المساواة بين الإنسان والطبيعة؛ هو نموذج واحدي ) (moniste وهو في جوهره نموذج حلولي..

ـ حتى وإن استحضر مقولة “الرغبة في نيل الاعتراف” باعتباره تفسيرا سيكولوجيا لحركة التاريخ؛ فبعد أن اصطدم بقصور التأويلات الاقتصادية المادية للتاريخ وبكون الإنسان ليس مجرد حيوان اقتصادي حاول أن يقدم تفسيرا يطال كلية الإنسان ولا يقتصر على الجانب الاقتصادي منه وذلك من خلال المرجعية الهيغلية التي تعطي للتاريخ، وفقا لأكثر التأويلات شيوعا عن الفلسفة الهيغلية والتي أعلم أنها تختلف مع قراءتك لها، تفسيرا غير مادي ينهض على مفهوم “الصراع من أجل الاعتراف” الذي يفيد أن الإنسان بالإضافة إلى كونه حيوانا بيولوجيا إلا أن له كرامة إنسانية ودرجة من الاستقلالية والخصوصية، وهو ما يجعله حريصا على ضرورة الاعتراف به ككائن إنساني له كرامة. هذه الكرامة ترتبط بالدرجة الأولى بإرادته واستعداده لاحتمال تعريض حياته للخطر في صراع من أجل الاعتراف به فحسب، من منطلق أن الإنسان ينفرد بالقدرة على تجاوز غرائزه الحيوانية الخالصة وفي مقدمتها غريزة البقاء من أجل الالتزام بمبادئ وأهداف أسمى وأكثر تجريدا؟   

على ما أعتقد فهذه المقولة، رغم كل ما أشرت إليه، ليست هامة ولا أصيلة في بنائه المعرفي؛ هي محاولة لخلق نوع من أنواع الجدل في نسق لا جدل فيه. لأنه إذا كان الاعتراف بالآخر مسألة أساسية فسوف تستمر إلى ما لانهاية فما الذي سيجعل التاريخ ينتهي؟ هل اعترف كل واحد بالآخر؟

ـ وهو ما يؤكده تصوير فوكوياما للتاريخ ونهايته بشكل كاريكاتيري؛ حيث اعتبر أن التاريخ عبارة عن قطار قاطرته الأولى هي الولايات المتحدة الأمريكية وما على باقي الثقافات الأمم الأخرى إن أرادت البقاء والاستمرار إلا أن تلتحق بالعربات الخلفية لهذا القطار الأخير..

  هذا ما كشفت عنه أيضا في رسالتي للدكتوراه في الستينيات؛ فويتمان يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية هي القمة… أي أنها قامت بتحويل التراث اليوناني والروماني إلى علم طبيعي له قواعد وقوانين محددة يمكن تتبعها والحذو حدوها. وهو ما ينسجم مع ما تصور الحداثة في جوهرها هي أن يرد الإنسان المتكامل المركب إلى الإنسان الطبيعي البسيط التي تسري عليه قوانين محددة يسهل التنبؤ بها.

 ـ لكن ألا ترى أن النزوع إلى القول بنهاية التاريخ ملازم لكل العقائد والأديان والإيديولوجيات الكبرى؛ فالماركسية قالت بنهاية التاريخ مع تحقق شروط المرحلة الشيوعية؛ حيث سينتهي الصراع وتنتهي الدولة وستتحقق رغبات الناس.. كما أن الديانات السماوية هي الأخرى قالت بشكل من أشكال نهاية التاريخ؟

 دعني أقاطعك هنا، هناك اختلاف لابد من إبرازه وتجليته؛ الإسلام والمسيحية الكاثوليكية على الأقل يقولان بيوم القيامة وعلمه عند ربي. أما مقولة نهاية التاريخ فتقتضي انتهاء التدافع في هذا الزمان وإنشاء الفردوس الأرضي. وهو ما لم تقل به لا المسيحية ولا الإسلام فهما يقران بأن هذا العالم فيه تدافع وفيه نزاعات وصراع.. وأن يوم القيامة خارج الزمان وخارج التاريخ. وهذه مسألة أساسية..

 الوعي بالأزمة الحضارية شرط لتجاوزها..

ـ نقر جميعا أن العالم العربي الإسلامي يعيش أزمة حضارية شبه شاملة ومركبة.. غير أننا نلاحظ تباينا حادا على مستوى تشخيص هذه الأزمة وتصور الحلول اللازمة لتجاوزها يصل حد التناقض؛ ما بين من يعتبر أن هذه الأزمة مردها عدم النجاح في خلق قطيعة مع التراث إلى قائل على العكس من ذلك أن الأزمة ما هي إلا نتيجة لهذه القطيعة أصلا، ومن ذاهب إلى أن الأزمة مرجعها بنية العقل العربي البيانية القائمة على قياس الغائب على الشاهد، ومن ذاهب بأن الأزمة مصدرها الأوضاع الاجتماعية والخلل في توزيع الثروة والسلطة، ومن قائل بأن مكمن الأزمة يعود إلى سيادة النظام الأبوي “البطرياركي”.. إلى غيرها من التفسيرات. كيف تفسر هذا التضارب؛ هل ترجعه لخلل في المنهج أم في الرؤية أم إلى التشوش الحاكم للمرجعيات والمشارب الفكرية المختلفة.. أم أنه أمر طبيعي وربما صحي يعبر عن حيوية وغنى الفكر العربي الإسلامي المعاصر خلافا للاعتقاد السائد؟ ثم ما هو تصورك لتشخيص هذا الواقع؟

أعتقد أن هناك شيئا من الحقيقة في كل ما قالوه؛ لا يمكن مثلا إنكار أن مشكلة غياب التداول على السلطة مشكلة أساسية.. أو أن مشكلة أزمة علاقة العقل العربي الإسلامي مع الحداثة أزمة حقيقية.. لكن مشكلة المشاكل هي أننا حتى الآن لم نبدع نماذج مجتمعية وحضارية تساهم في أن يدخل العقل العربي والإنسان العربي العصر الحديث. الإنسان العربي حينما يود أن يدخل العصر الحديث يجابه مشكلة حقيقية وهي أن نموذج الحداثة السائد غير مشجع بالمرة؛ في نهاية الأمر فالناس ليسوا من الغباوة ومن السذاجة بحيث تغيب عنهم أمراض هذا العصر؛ فهم يقرؤون عن مختلف مظاهر الفساد، وعن المخدرات، وعن الأسلحة والحروب، عن تلوت البيئة، عن الهيمنة الغربية وغياب العدالة الدولية.. وفي نهاية الأمر يدركون أن الحداثة لن تفيدهم كثيرا (…) لأن عمليات التحديث في المجتمعات العربية الإسلامية قامت بتفكيك تراثهم دون أن تعطيهم البديل الذي يستجيب لاحتياجاتهم الفعلية وينسجم مع شخصيتهم الثقافية والحضارية. فالإشكالية الكبرى هي كيف نضع أسس حداثة عربية؟ و هل يمكن تأسيس حداثة غير منفصلة عن القيمة (القيمة الأخلاقية والتاريخية)؛ بحيث لا يطلب مني باعتباري إنساناً أن أنسى أصلي العربي الإسلامي وذاتيتي الحضارية حتى أصبح إنسانا طبيعيا، أو أن أتخلى عن تراثي كي أتبنى العلم والتكنولوجيا المنفصلين عن القيمة. أعتقد أن العقل العربي الإسلامي يحتاج إلى أطر جديدة مبدعة من خلالها يمكن تطوير حداثة عربية جديدة تنظر إلى المستقبل لكنها لا تعرض على الماضي؛ فلا ماضي بدون مستقبل ولا مستقبل بدون ماضي..

   فالذاكرة التاريخية في الغرب تخفت بالتدريج ونمط الحياة الذي يسمى أمريكيا بدأ يكتسح كل الثقافات؛ فالماكدونالد هذا، على سبيل المثال، نوع من أنواع الطعام ليس له ذاكرة تاريخية وليس له طعم ولا لون ولا رائحة ولذلك فهو غير مفيد غذائيا؛ لأن كمية الطاقة التي تستعمل في إنضاجه مرتفعة جدا، واللحوم التي تستخدم فيه من أردئ أنواع اللحوم.. والإنسان العربي أمام كل هذا يخاف من الحداثة فيتشرنق ويتقوقع، ولذلك يتوجب على العقل العربي أن يطور فكرا جديدا مبدعا يساعد هذا الإنسان على دخول عالم الحداثة دون أن يتخلى عن ذاكرته وعن قيمه وعن هويته وتراثه..

    الإشكالية صعبة جدا؛ لأن الحضارة الغربية قد فرضت نفسها باعتبارها مطلقاً ومركزاً فشئتُ أم أبيتُ أجد أن الغرب هو المرجعية “الصامتة”؛ فحينما أقول أن السيارات تسبب التلوث في المدن يأتي اعتراض الناس: وهل تريدنا أن نعود إلى ركوب الجمال؟ بمعنى إما هذا أو ذاك. والقضية ليست بهذه البساطة؛ إذ يمكن، على سبيل المثال، تأسيس مدن تعتمد بشكل أساسي على مواصلات عامة جيدة تستجيب لسائر معايير الجودة. وبالتالي سنكتشف كيف أن المواصلات العامة تقرب بين الناس بينما السيارات الخاصة تفرق بينهم وقد تغذي الحقد الطبقي بينهم، وكيف أن نسب التلوث قد تقلصت، وأن الازدحام المروري قد خف، وأن حدة الضجيج قد تراجعت..

ـ إجابتكم على السؤال الأخير تسوقنا إلى مشكل ثاني هو مشكل التوفيقية؛ مشكل التوفيق بين الخصائص الثابتة في موروث الأمة وبين معطيات الحضارة الغربية، حيث تحضر هذه التوفيقية بكثافة في الخطاب الإسلامي المعاصر. هل التوفيقية، من وجهة نظركم، تُعد، بالضرورة، ضد العلمية؟ إذا كان الأمر كذلك فهل من إمكانية لتجاوز النزعة التوفيقية في الخطاب الإسلامي المعاصر؟

إذا كانت التوفيقية تقوم على انتقاء زهرة من كل بستان وتصنع من كل ذلك كيانا غير منسجم ولا متماسك ولا يتسم بأي نوع من أنواع الوحدة فأنا أعتقد أن هذه التوفيقية غير علمية؛ كمن يدعو إلى اقتباس التكنولوجيا الغربية وإلباسها لباسا إسلاميا.. وكأن نجد حديثا عن العقلانية وتبشيرا بما بعد الحداثة على ما بينهما من تناقض.. أعتقد أن في هذا خللا كبيرا. القضية هي أن أنظر إلى العالم ككل بمختلف تجاربه ومرجعياته (…).

 أتذكر أنني ذهبت مرة إلى جامع الفناء بمراكش وبينما كنت أتجول وجدت راويا يستعرض سيرة سيدنا علي، رضي الله عنه، فتوقفت أحاول الإنصات إليه رغم أنه كان يتحدث بالعامية المغربية، فلاحظت أن هذا الراوي يحمل حبلا وحجرا فيلقي بالحجرة أحيانا فينحني لالتقاطها، وحينما يهاجم الثعبان سيدنا علي يتحول الحي إلى حية رقطاء وأحيانا أخرى يتحول إلى طريق مستقيم، وهكذا.. فاكتشفت أنني أمام مشهد مسرحي ولست أمام قصيدة غنائية وأن الهدف من رميه للحجر هو تغيير المناظر؛ بحيث حينما نتابع بأبصارنا الحجر يقوم بتغيير المشاهد. فوجدت أنني وإن لم أكن أمام مسرح إلا أنني أمام شكل مسرحي له عمق تاريخي..

   أعتقد أن الانفتاح على العالم بمختلف تجاربه ورؤاه وليس على العالم الغربي فحسب، يمكن أن يسعفنا في أن نستوعب وندرك ونرى الحقيقة الإنسانية في غناها وتعددها، وهكذا يغدو الغرب نسبيا وليس مطلقا نتعلم منه ونتفاعل معه بإرادتنا وبكامل وعينا وخصوصيتنا. لكن الغرب أصبح إشكالية بالنسبة لنا؛ إذ ما علينا إلا قبوله أو رفضه. أما لو وضع إلى جانب الحضارات الأخرى لأصبح نسبيا قابلا للرفض أو القبول..

مشروع الحداثة وجدلية الديني والمديني..

ـ كيف تتصور طبيعة العلاقة بين الديني والمدني؟

أولا؛ لابد من وجود نص مقدس إذ لا يمكن تصور الوجود الإنساني دون مقولات قبلية.. وثانيا لا يمكن فصل المدني والسياسي عن الديني مادام الدين يحيل على منظومة القيم الأخلاقية الضابطة للسلوك الاجتماعي. كما أن المجتمعات الإسلامية كانت تاريخيا مجتمعات مدنية تقوم حياتها بشكل أساسي على المبادرة الأهلية خاصة في إطار المؤسسات الوقفية في شبه انفصال عن الدولة..

لكن يجب ألا يكون الانفصال بين الدولة والمجتمع المدني كاملا كما يجب ألا يكون الاتصال بينهما عضويا مستحكما؛ يجب أن تكون هناك مسافة تسمح للناس بالتحرك المدني لكن هذه المسافة يجب ألا تكون من الاتساع بحيث تهدد بتقويض سلطة الدولة ونفوذها، وهذا ما يهدف إليه النظام العالمي الجديد من خلال الدعم والتمويل الأجنبي للكثير من المؤسسات المدنية وفق أجندة وأولويات غير وطنية، الأمر الذي يشكل خطورة حقيقية بمجرد ما تشرع هذه الجمعيات في الانشغال وطرح إشكاليات لا صلة للمجتمع بها. أعتقد أن الدولة، رغم انتقادي لتغولها، مسألة أساسية؛ لأن الدولة في نهاية الأمر تشكل هوية وذاتا جماعية ويمكن للأجيال الجديدة أن تبحث عن هويتها من خلال هذه الدولة، واختفاء الدولة يجعلهم عرضة للاجتثاث..

ـ أي لا يمكن التفكير في مجتمع مدني قوي دون دولة قوية..

بالفعل. وسعيا  مني للتمييز بين الديني من جهة وبين السياسي والمدني من جهة أخرى، فقد سبق أن ميزت بين العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية؛ فالأولى تعبر عن رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي (كلي ونهائي) تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات (الميتافيزيقية) بكل مجالات الحياة. فالعلمانية بهذا المعنى ليست مجرد فصل الدين عن الدولة، وإنما هي فصل لكل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن العالم، فهي نوع من أنواع “الحلولية”؛ أي أنها واحدية ومادية طبيعية، إذ بعد أن تصل المتتالية العلمانية الشاملة إلى التحقق في معظم حلقاتها، تصفى الثنائيات، وتصفى، بذلك، تركيبية الإنسان ومقدرته على التجاوز، ومع إنكار تركيبيته وقدرته على التجاوز تستحكم الواحدية المادية، وتنزع القداسة عن العالم، حيث تعمل العلمانية الشاملة على تحويل العالم إلى مادة استعمالية، والقيم إلى أمر نسبي، والذات إلى مرجعية. كما تنحو إلى أن تجعل من البقاء والتقدم من أجل البقاء والتقدم الغاية النهائية، والصراع الآلية الأساسية لتكييف وحل التناقضات..

 أما العلمانية الجزئية فتحرص على الجوانب الإيجابية للمنظومة العلمانية دون السقوط في المادية والعدمية، ودون تقويض الأبعاد الإنسانية، وبناء على ذلك فإن الحوار والتواصل بين مكونات الأمة المختلفة لا يمكن تصوره إلا في إطار المفهوم الجزئي للعلمانية. أما العلمانية الشاملة فبإسقاطها لكل المرجعيات والغائيات لا تعمل إلا على تكريس الصراع في الداخل والتبعية لقوى العولمة في الخارج..

 وفي هذا السياق سبق أن طرحت فكرة “العقد الاجتماعي الجديد” الذي ينطلق من القيم الأخلاقية المشتركة بين الإسلام والمسيحية، بل وبين المنظومات الأخلاقية التي لا تستند على المرجعية الدينية..

 ـ هل هذه دعوة إلى نوع من المصالحة المرجعية؟

نعم، المصالحة المرجعية مصطلح جيد للغاية. أما “الاختلافات اللاهوتية” فيمكن النقاش بشأنها في المعاهد المتخصصة بين المتخصصين.. أعتقد أنه بهذه الطريقة يمكن أن نحقق نوعا من أنواع السلم الاجتماعي ولا نسقط في العدمية..

 ـ نجد لديك وعيا عميقا بأن المشروع التحديثي العقلاني المادي يستبطن عناصر تفكيكية معادية للإنسان، وأن المتتالية التحديثية،على غرار المتتالية العلمانية، بدأت تتحقق تدريجيا لتمر من عصر التحديث إلى الحداثة إلى ما بعد الحداثة؛ حيث تصل المتتالية التحديثية نهايتها، حينما لا تعترف ما بعد الحداثة بثنائية الذات والموضوع وتعمل، بدلا من ذلك، على حل إشكالية الثنائية الصلبة عن طريق السيولة الشاملة.. وفي كنف هذه السيولة الشاملة فإن عالم ما بعد الحداثة لا يغدو نظاما حركيا منفتحا له مركز وغاية وتراتب هرمي على غرار عالم التحديث، ولا عالما مغلقا يحاول الانفتاح كما هو الأمر بالنسبة لعالم الحداثة في سعيه لفرض ترتيب هرمي له معنى، وإنما هو نظام لا مركز له مكون من أنظمة صغيرة مغلقة.. لا يربطها رابط ولا توجد أية صلة بينها، ولا توجد بينها علاقة سببية واضحة.. كما نجد لديك ربطا قويا بين شروط وسياق تبلور هذه المتتالية التحديثية في علاقتها اللصيقة بالمتتالية العلمانية من جهة، وبين محدداتها الموضوعية كما تعكسها التجربة التاريخية للمجتمعات الغربية بكل تناقضاتها وأزماتها ونجاحاتها.. كيف تفسر، على ضوء كل هذا، المفارقة التي يغدو بمقتضاها خطاب ما بعد الحداثة خطابا متداولا تداولا غير طبيعي في مجتمعات عربية لا زالت لم تدخل بعد عالم الحداثة؟

لقد أعفيتني من إبراز الترابط بين المتتاليتين العلمانية والحداثية. أما عن مفارقة انتشار خطاب ما بعد الحداثة في العالم العربي في غياب الشروط الموضوعية المحددة لها فأعتقد، إلى جانب الإقرار معك أن الأمر يتعلق بمفارقة، أن ما بعد الحداثة من شأنها أن تنتشر دون وجود الحداثة؛ لأن  اللامعيارية أمست مسألة جذابة جدا، أن تصبح معيار ذاتك وأن تنكر أية معايير خارجة عن ذاتك، وهو أمر مريح على ما يبدو وكما أقول مرارا: “أن يعيش الإنسان في الوحل أسهل بكثير من أن يصعد إلى علياء النجوم” الصعود إلى النجوم يستدعي جهدا وتنظيما وعزما وتجاوزا للذات أما أن يستنيم المرء لذاته سعيا وراء منفعة أو لذة فأعتقد أنه شيء محقر للنفس الإنسانية..

ـ أخيرا انطلاقا من تخصصكم الأصلي في الأدب الإنجليزي كيف تقيمون حركة ما يسمى بـ”الأدب الإسلامي المعاصر”؟

يجب أن ندرك أن الحداثة قد صاغت حساسياتنا بمفاهيمها حول الاغتراب والانتحار وما شابه، وهذه معضلة حقيقية. لذلك من المطلوب إعادة صياغة الحساسية، وهذه تستوجب تغييرا مجتمعيا شاملا. فما يسمى بالأدب الإسلامي الآن رغم أنني أطلع على الكثير من نماذجه إلا أن توجهه أيديولوجي حاد، والتوجه الإيديولوجي عادة ما يجهز على الأدب وعلى الإبداع..

د. عبد الوهاب المسيري

عبد الوهاب المسيري مفكر مصري موسوعي تنوعت مجالات إنتاجه من النقد الأدبي إلى الإبداع الشعري والقصصي (خاصة بالنسبة للأطفال)، ومن التاريخ والأنثربولوجيا إلى الفلسفة وقضايا الفكر الإسلامي، ومن الترجمة إلى السيرة الذاتية..

– حصل على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي تخصص الأدب الرومانتيكي من جامعة رتجرزر بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1969.

– مارس التدريس في العديد من الجامعات المصرية والعربية..

– شغل العديد من المناصب من بينها؛ مستشار وزير الإرشاد بمصر، ومستشار ثقافي للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة بنيويورك، وخبير بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بمؤسسة الأهرام..

– فاز بالعديد من الجوائز على الصعيد المصري والعربي والدولي..

– ترجمت العديد من أعماله لمجموعة من اللغات الأجنبية.. كما شكلت كتاباته موضوعا للعديد من الدراسات والأبحاث والندوات..

من أعمال المسيري الفكرية والفلسفية

– إشكالية التحيز؛ رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد.

– موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد ( ثمانية مجلدات، 1999).

– فكر حركة الاستنارة وتناقضاته (1999).

– العلمانية تحت المجهر (بالاشتراك مع عزيز العظمة، 2000).

– العالم من منظور غربي  (2001).

– رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمار: سيرة غير ذاتية غير موضوعية (2001).

– الإنسان والحضارة والنماذج المركبة: (دراسات نظرية وتطبيقية، 2002).

– الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان (2002).

– اللغة والمجاز: بين التوحيد ووحدة الوجود (2002).

– العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (2002).

– الإنسان والحضارة (2002).

– دفاع عن الإنسان: دراسات نظرية وتطبيقية في النماذج المركبة (2003).

– الحداثة وما بعد الحداثة: (بالاشتراك مع فتحي التريكي، 2003).

–  دراسات معرفية في الحداثة الغربية (2006).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق