وحدة الإحياءدراسات وأبحاث

نظام القيم في القرآن والتجربة الثقافية الإسلامية في زمانين

أولا

    تميَّز الباحثُ اليابانيُّ المعروف توشيكو إيزوتسو T.Izutsu من بين قُرّاء القرآن المُحْدَثين بثلاثة أمور: أنه أولُ من قرأ القرآن الكريم من وجهة نظر رؤية العالَم Weltanschauung، وأنه أولُ مَنْ قال إنّ رؤيةٌ الله في الإسلام أخلاقية، ولذلك فإنه قرأ الشبكة المفهومية القرآنية من هذا المنطلق. والأمر الثالث أنه الأول بين قراء القرآن الذين تجاوزوا المنهج الفيلولوجي التاريخاني، ليتأمل القرآن تأمُّلاً سيمانطيقياً. وتعتبر نظريةُ “رؤية العالم” فيما بين فلهلم دلتاي (1846-1911)، وماكس فيبر(1864-1920) أنّ طريقة أي مجتمعٍ أو ثقافةٍ في فهم عالمها أو تكوين التصورات عنه، تكونُ بتحويله إلى مجموعةٍ مترابطةٍ أو متشابكةٍ من المفاهيم المتعالقة في شبكةٍ ضخمةٍ معقَّدةٍ أو كُلٍّ منظَّمٍ من التصورات التي يتضَّمنُها معجم المجتمع، بحيث يعبِّر عن وجوده وأسلوبه في فهم ما حَوْلَهُ وتنظيمه والتفاعُل معه. على أنّ هذه المقاربة الواسعة أو الشاملة من جانب إيزوتسو عندما وصلت إلى المسألة الأخلاقية، التي اعتبرتْها مسألةً دينيةً لِصِلتِها المباشرة بالأُلوهية، عادت للمفهوم الديني بالمعنى الضيق؛ أي الحساب والثواب والعقاب أو المسؤولية المباشِرة عن الفِعْل في عالَم الكون والفساد. وهكذا فإنها لم تخضع في هذا الأمر لا للآفاق التصورية لرؤْية العالم، أو لعوالم الاستخلاف والعمل الصالح. وبذلك فإنها لم تُراعِ أيضاً النظْم السيمانطيقيَّ القرآني مُراعاةً كافية، أو أنها ما استطاعت لهذه الناحية الخروجَ تماماً على المنهج الفيلولوجي في قراءة النصوص الدينية، وإن اعتزمت ونفّذت هذا التجاوُز في مسائلَ أُخرى كثيرة. وهناك ناحيةٌ أُخرى تستحقُّ الذكْر في هذه العجالة، وهي تتعلقُ أيضاً برؤية العالم، أو قراءة شبكة المفاهيم وتَدَاخُلِها ضمن الرؤية الشاملة. فأُستاذُنا الراحل محمد عابد الجابري انصرف في كتابه المعروف: “العقل الأخلاقي العربي” لقراءة ذلك العقل المفتَرَض من وجهة نظر المفاهيم الشاملة، لكنها المتقاطعة والمتنابذة، والتي تسيطرُ في النهاية إحداها، ومنذ القرن (الرابع الهجري/العاشر الميلادي)، وإلى اليوم. وهو يرى أنّ هناك منظومةً أخلاقيةً عربية، وأُخرى قرآنية/إسلامية، وهما تتداخلان لكنهما لا تتوحَّدان، وهما تتحولان إلى هُلامٍ غير منتظم، لتسودَ عليهما منظومةٌ أُخرى واردة هي منظومةُ أخلاق الطاعة والخنوع أو منظومة أخلاق أردشير، كما سمّاها. وهكذا فنحن عندما ندرس القيم والأخلاقيات القرآنية، نقفُ أمام محذورَين: محذور الأخلاق الحسابية، التي تُخْضِعُ عالَم القيم في الثقافات والحضارات للعواقب والتداعيات، ومحذور اعتبار العالَم الأخلاقي عالَماً لصراعاتٍ بين منظوماتٍ متكاملةٍ ومُغْلَقة ومتنابذة ولابد أن تفوز إحداها وتسيطر في المجال الحضاريّ كلّه، وعبر عصورٍ متطاولة. أمّا الأُولى؛ فهي جانسينية النزوع، وإن أفضتْ إلى براغماتيةٍ من نوعٍ ما. وأمّا الثانية؛ فهي تحكمية وغير تاريخية.

    إنّ النهج الذي أُحاولُ اتّباعه في هذا الاستطلاع ذو ثلاثة أُسُس: المظلّةُ هي “رؤيةُ العالم”، والتجربةُ الإسلاميةُ الوسيطةُ هي المجالُ لاختبار مآلات حوارية النصّ مع النُخَب العالِمة للأمة في التاريخ، وطرائقُ تأمُّل الاتّساق إبستمولوجية وسيمانطيقية بحسب التنوُّع بين النصّ المُعطى، وتناجات النُخَب بداخل الجماعة.

    إنّ الذي أستظهرُهُ أنّ المنظومة القيمية في القرآن، تتركز مصطلحاتُها المفتاحية في ستة مفاهيم: المساوة والكرامة والرحمة والعدالة والتعارُف والخير العام.

1. المُساواة: وذلك في مثل قوله تعالى: ﴿يأيها الناس اتّقوا ربَّكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساء...﴾ (النساء: 1). وهذا الخَلْق الواحدُ المتساوي يتكرر في القرآن عشرات المرات: (الاَعراف: 189، والزُمَر: 39)، وتُضاف إليه معانٍ ثَوان من مثل التماثُل في مادّة الخَلْق: (الاَنعام: 2، والروم: 20، وفاطر: 11، وغافر: 67، والحِجر: 26، والمومنون: 12)، والتماثُل في المبادئ والمصائر: (الشعراء: 184، والصافات: 96، وفُصِّلتْ: 21، والتغابُن: 2)، والتماثُل في القيمة الإنسانية بين النساء والرجال، والتماثُل في التفضيل على الكائنات الأُخرى. وهذا الخَلْقُ الواحدُ من كلّ وجهٍ هو واقَعٌ لا يمكنُ الخروج عليه فيما يتصل العلاقة بالله، عزَّ وجلَّ، لكنه يتحول إلى قيمةٍ أو فضيلةٍ عندما يتجاوزُ الأَمْرُ العلاقة بالله إلى العلاقات بين البشر. فالسواسيّةُ أمام الله، هي في وجهها الآخَر الدنيوي والاجتماعي سواسيةٌ ينبغي أن يُسعى إليها وأن تسودَ في نظرة كلِّ إنسانٍ إلى الآخَر، في الثراء والفقر، وبين الحاكم والمحكوم، وبين القويّ والضعيف. وهكذا فإنّ التألُّة في مواجهة الله مرفوضٌ؛ لأنّ العلاقة تقومُ على التمايُز، والتألُّه تُجاه الآخرين من الناس لأي سببٍ كان مرفوضٌ؛ لأنّ العلاقة والمنزلة تقومان على التساوي والتماثل. وتأتي الفضيلةُ هنا من مواجهة نوازع التمايُز من أجل البقاء على سَوِيّة إنسانية الإنسان التماثُلية. وعلى بلوغ فضيلة الإقرار بالتماثُل رؤيةً وفعلاً تترتب الفضائل المشتقة أو الفرعية مثل التواضُع والإنصاف وحُسْن التعامُل؛ لأنّ البشر أقرانٌ وأكفاءٌ متماثلون. ولذا فإنّ رذيلة الاستكبار هي أُمُّ الرذائل؛ لأنّ القرآن يعتبرها في الأساس كبيرةً في حقّ الله، عزَّ وجلَّ، وتطاوُلاً عليه، لكنها من جهةٍ أُخرى رذيلةٌ؛ لأنها خروجٌ على قيمة المُساواة بين الناس حتّى لو اعتبر المتكبِّر نفسَه مؤمناً بالله ؛ فكأنّ الرذيلة الثانية هذه تؤدّي حكماً إلى الجريمة أو الرذيلة الأولى: التطاوُلُ على الله أو إنكارُه.

2. الكرامة: الآيةُ المركزيةُ التي تقرر هذه القيمة  تردُ في سورة (الاِسراء: 70)، ونصُّها: ﴿ولقد كرَّمْنا بني ءادم وحملْناهم في البِّر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضَّلْناهُم على كثيرٍ ممن خلقْنا تفضيلا﴾. ولهذه الكرامة الإلهية في الأساس لبني البشر ثلاثةُ جوانب: التمييزُ على الكائنات الأُخرى بالعقل، واستخلافُ ذوي العقول على إعمار العالم، وتسخير إمكانيات هذا العالَم ومخلوقاته لهم (سورة البقرة: 30، والاَنعام: 167، وفاطر: 39، والنمل: 62). والكرامةُ والعِزّةُ هاتان تتصلان من جهةٍ بالإيمان، لكنهما تتصلان من جهةٍ اُخرى بالعمل الصالح. فالكرامةُ هذه تقتضي من جهةٍ واجباتٍ تُجاه الله يركّزها القرآن الكريم في عشرات الآيات في الإيمان. لكنها تقتضي من جهةٍ أُخرى أعمالاً تتلاءمُ مع العقل والاستخلاف والتسخير. وتقتضي من جهةٍ ثالثةٍ حُرْمةً أو حُرُماتٍ ينبغي أن تسودَ بني البشر في حقّ الفرد الإنساني. فإذا كان العملُ الصالح أو المُصِلحُ ضرورياً لعُمران العالَم وازدهاره؛ فإنّ الحُرمة، وهي حقوقٌ للبشر تُجاه بعضهم بعضاً، تُسهمُ في تمكين الإنسان من القيام بحقوق العقل والفرد والجماعة على حدٍّ سواء. فالكرامةُ تتضمن شبكةً من العناصر، تستند في الأصل مثل المُساواة إلى مُعطًى إلهي، لكنها ولكي يتسدَّدَ عملُها أو مقتضياتها تستلزم قيماً مشتقّةً أو مترتبةً على المعطى الرئيس.

3. الرحمة: الآيتان المركزيتان بشأن قيمة الرحمة تَرِدانٍ في سورة (الاَنعام: 13، 54). نصُّ أُولاهُما: ﴿كتب على نفسه الرحمة، ليجمعّنكم إلى يوم القيامة﴾. ونصُّ الثانية: ﴿فقل سلامٌ عليكم، كتب ربُّكم على نفسه الرحمة﴾. وهما في السياق الذي ترِدانٍ فيه تتّصلان بمحاسبة الله للناس على أعمالهم يوم القيامة. والفعل كتب إشعارٌ بعُلُوّ اعتبار هذه القيمة التي هي خصيصةٌ أو صفةٌ من صفات الله، عزّ وجلّ، تتجلّى في عباده: ﴿ورحمتي وسِعت كلَّ شيْء﴾ (الاَعراف: 156). لكنها تِردُ في معارضَ أُخرى تُشعِرُ جميعاً بقيمتها العُليا، مثل: بسم الله الرحمن الرحيم في بداية كلّ سورة. ثم إنّ إرسالَ الرسل لهداية البشر رحمةٌ منه، عزّ وجلّ، بهم: (الاَنعام: 158، وهود: 17، والاَنبياء: 106). ثم إنها قيمةٌ ينبغي أن يتّسم بها البشر في علاقة بعضهم ببعض: ﴿واخفض لهما جناح الذُلّ من الرحمة﴾ (الاِسراء: 24) في علاقة الإنسان بوالديه. وهي سِمةٌ قيميةٌ في علاقة الرجل بزوجته وأَولاده: ﴿ومن ـاياته أنْ خلق لكم من اَنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودَّةً ورحمة﴾ (الروم: 21). وهكذا فإنّ الرحمة أو الرأفة أو النعمة، على اختلاف المورد، هي القيمةُ العليا في علاقة الله، عزّ وجلّ، بالبشر. أمّا فيما بين البشر؛ فإنّ القرآن يعتبرها تارةً حالةً طبيعيةً أو مُعطاة، ويعتبرها تارةً أُخرى قيمةً يكونُ على البشر في رؤيتهم وسلوكهم أن يسعَوا لبلوغها.

    4. العدالة: يتميز “العدل” بوصفه قيمةً في القرآن؛ أنه في الأعم الأغلب يجري في النظرة السَوية إلى الأشياء، وفي التعامُل بين البشر. وبالنسبة للأمر الأول (النظرة الصحيحة أو المُنْصفة إلى الأشياء)، هناك الآيةُ في سورة (النحل: 76): ﴿وضرب الله مثلاً رجلين أحدُهُما أبكمُ لا يقدِرُ على شيء وهو كَلٌّ على مولاه  أينما يُوجِّهْهُ لا ياتِ بخيرٍ هل يستوي هو وَمَنْ يامر بالعدل وهو على صراط مستقيم﴾. فلدينا هنا رجلان أحدُهُما غير مُنْتج وهو عالةٌ على غيره، والآخَرُ آمِرٌ بالعدل، وسائرٌ في طريق الاستقامة؛ فالعدلُ هنا هو الاستقامةُ في التوجُّه والعمل. ويظلُّ هذا المعنى ظاهراً في الآية رقم 13 من سورة الشورى، بيد أنّ الأمر بالعدل آتٍ من الله عزّ وجلّ: ﴿فلذلك فادْعُ واستقم كما أُمرتَ ولا تتّبع اَهواءَهُم، وقل ـامنتُ بما أنزل الله من كتابٍ وأُمرتُ لأَعدِلَ بينكم، اللهُ ربُّنا وربُّكم، لنا أعمالُنا ولكم أعمالُكُم، لا حُجة بيننا وبينكم، اللهُ يجمعُ بيننا، وإليه المصير﴾؛ فالعدلُ هنا أمرٌ إلهيٌّ بالتساوي في النظرة والتعامُل مع المؤمنين وغير المؤمنين. وفي الآية يَرِدُ مفردُ الاستقامة من جديد، وهي كما سبق القول استقامةٌ في النظر والتصرف. والعدلُ باعتباره استقامةً في النظرة والتعامُل مع الناس في أيِّ موقفٍ أو موقعٍ كان فيه المرء، فيَرِدُ أيضاً:

ـ عندما يكون المرءُ في موقع المبادر: ﴿إنّ الله يامر بالعدل والاِحسان وإيتاء ذي القُربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي..﴾ (النحل: 90)؛ فالعدل هنا يعني التصرف بمبادرةٍ واستقامة. وهو مذكورٌ إلى جانب فضائل مشتقّة أُخرى هي الإحسان وإعطاء الأقرباء. والمفهوم في هذا السياق أنّ الإحسان يتجاوزُ العدلَ أو يعلو عليه باتجاه الرحمة، إلاّ إذا اعتبرنا المواردَ مختلفة. وفي كل الأحوال؛ فإنّ الفحشاء والمنكر والبغي هي مفاهيم تقع في المواقع المقابلة والمناقضة للعدل والإحسان وإيتاء القريب.

ـ وعندما يكونُ المؤمنُ في موقع المخاصمة: ﴿ولا يجر منكم شنئان قومٍ على ألاّ تعدِلوا، اعدلوا هو أقربُ للتقوى﴾ (المائدة: 9).

ـ وعندما يكونُ المرءُ في مواقع التحكيم: ﴿وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قُربى﴾ (الاَنعام: 153)، أو الحكم والقضاء: ﴿اِنّ الله يامركم أن تودوا الاَمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾ (النساء: 57)، أو الفتنة داخل الجماعة: ﴿وإن طائفتان من المومنين اقتتلوا فأصِلحوا بينهما، فإن بغت اِحداهما على الأُخرى فقاتِلوا التي تبغي حتى تفيءَ إلى أمر الله، فإن فاءت فأصِلحوا بينهما بالعدل وأقسِطوا..﴾ (الحجرات: 9)، والمورد نفسِه؛ أي المورِد القضائي يردُ مصطلحُ الشهود العدول (سورة النساء: 57، والمائدة: 95، 106، والطلاق: 2). وهناك آيةٌ في القرآن يردُ فيها العدل بصيغة الفعل، إنما في موقفٍ عبثيٍّ أو غير عادل. فالعدل في القرآن فيه معنى الاستقامة في النظرة والتصرف، وفيه معنى التسوية أو المساواة المقياسية الناجمة عن الاستقامة. إنما في سورة النمل: 62 هناك تسْويةٌ في غير موقعها: ﴿أإله مع الله، بل هم قومٌ يعدلون﴾؛ أي أنّ هؤلاء يُساوون بين الله وآلهتهم في التعبُّد والتماس النفع ودفْع الضرر، وهي قسمةٌ ضِيزى؛ أي غير عادلة، مع أنها تدعَّي العدل!

    5. التعارُف: الآيةُ المركزيةُ في تقرير هذه القيمة هي قولُهُ تعالى في سورة الحُجُرات: 13: ﴿يأيها الناس إنّا خلقْناكم من ذكرٍ وأُنثى وجعلْناكم شعوباً وقبائلَ لتَعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقْاكم﴾. ويقول المفسِّرون إنّ صيغة المُفاعلة هنا والمقرونة بلام العاقِبة معناها، أنه بخلاف ما يقتضيه الاختلافُ في العادة من تنابُذٍ فإنّ أثره في هذا المعرِض أن يُقْبل بعضُهم على بعضٍ بتأكيد المحبّة والمودّة. وغير المشهور أنّ  المفرَد يردُ مرةً أُخرى في القرآن الكريم حيث يعني التعارُفُ الإقبال والتأكيد إنما بمعنىً سلبيٍ، وهو الآية: 45 من سورة يونس: ﴿ويوم نحشُرُهُم كأن لم يلبثوا إلاّ ساعةً من النهارٍ يتعارفون بينهم، قد خسِر الذين كذّبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين﴾؛ أي يقولُ أحدُهُم للآخَر أنتَ أغويتَني وأضللْتَني وهو تعارُف توبيخٌ لا تعارُف محبةٍ ومودّة. وما لفت هذا المفرد انتباه المفسِّرين قديماً، ولا الدارسين حديثاً؛ لأنه لم يَرِدْ غير مرتين، اعتبروهما مختلِفَي المعنى. أمّا الواقع فهو أنّ هذا المفرد بالذات هو بين الأكثر تكراراً في القرآن مراتٍ وسياقاً، ومن الناحية السيمانطيقية بعد مفردي الرحمة ومشتقاته ومترادفاته، والخير ومشتقاته ومفرداته. وفي صيغة المعروف في الأكثر، وصِيَغ مقاربةٍ في الأقلّ مثل العُرف (الاَعراف: 199) والاعتراف (غافر: 10، والتوبة: 103). أمّا العرُف في سورة الاَعراف: 199، فهو يعني ما تعنيه الرحمة: ﴿خذ العفْو وامُرْ بالعُرف، وأَعْرضْ عن الجاهلين﴾. وأمّا المعروف فهو يعني ما يعنيه التعارُف من رؤيةٍ مستقيمةٍ وأخلاق فاضلةٍ تتماهى دائماً مع مفهوم أو مفاهيم متواترة اجتماعياً للخير العامّ. والمستقرُّ لُغَوياً وسيمانطيقياً أنّ مصطلح الأمر في الصيغة القرآنية الأشهر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا تعلّقت بغير الله، عزّ وجلّ، فإنها تعني التقرير والتأكيد لما هو مُتعارَفٌ عليه وللجهتين: المعروف والمنكَر. وأودُّ التذكير على سبيل الاستظهار بما سبق أن ذكرته في الحديث عن قيمة العدل من تقابُلٍ أقامته الآيةُ المشهورة بين ثلاثة فضائل وأُخرى اعتبرتْها من الرذائل، وهي: ﴿إنّ الله يامر بالعدل والاِحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي﴾ (النحل: 90)؛ فالإحسان الذي يعني العلوّ والسموق في اتجاهي الرحمة والخير، يقابلُهُ المنكَر في الطرف المقابل؛ وبذلك يترادفُ الإحسانُ مع المعروف والتعارُف، الذي يعني من ضمن ما يعنيه إحساناً في النظرة والقول والعمل الصالح. والذي نُلاحظه أخيراً فيما يتعلق بالمعروف والتعارفُ، أنه في السياق القرآني يردُ في الأغلب الأعمّ في معرض التوجيه إلى إقامة العلاقات السليمة بل الخيِّرة بين البشر، وليس في العلاقة بين الله والإنسان.

    6. الخير العامّ: إنّ قيمةَ الخير التي تعني في الأصل، اختيار الأحسن والأعلى والأفضل، هي الأكثر ذكْراً في القرآن بعد قيمة الرحمة ومشتقّاتها ومترادفاتها. وهي تَرِدُ في عدة سياقات:

ـ باعتبارها فعلاً لله، عزّ وجلّ، يدنو من مفهومي الرحمة والنعمة؛ من مثل: ﴿بيدك الخير، إنك على كلّ شيء قدير﴾ (ءال عمران: 26)، ومن مثلك ﴿ما يودُّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزَّل عليكم من خيرٍ من ربِّكم﴾ (البقرة: 105)، ومن مثل: ﴿قل اللهم مالكَ المُلْك توتي المُلْكَ من تشاء وتنزِعُ المُلْك ممن تشاء وتُعِزُّ مَنْ تشاء وتُذِلُ من تشاء بيدك الخير، إنك على كلّ شيء قدير﴾ (ءال عمران: 26).

ـ وباعتبارها عملاً للمؤمن على المستوى الأخلاقي النظري (النية) أو على المستوى القولي، أو على مُستوى التصرف المادي. وهذا السياق بشتّى مستوياته وبخاصةٍ الأخلاقي الرؤيوي، والعملي المادي، هو الأكثر وروداً في هذا المعرض (زُهاء الـ 116 آية). من مثل: ﴿وما تُقَدِّموا لأنفسِكم من خيرٍ تجدوه عند الله﴾ (البقرة: 109). ومن مثل: ﴿وما تنفقوا من خيرٍ فلأنفُسِكُم﴾ (البقرة: 271). ومن مثل: ﴿ولتكن منكم أمةٌ يدْعون إلى الخير..﴾ (ءال عمران: 104). ومن مثل: ﴿فلا جُناح عليهما أن يُصّالحا بينهما صُلْحاً، والصُلْح خير﴾ (النساء: 127). ومن مثل: ﴿ويدع الاِنسانُ بالشرّ دُعاءه بالخير، وكان الاِنسانُ عَجولا﴾ (الاِسراء: 11). ومن مثل: ﴿لا يسئمُ الاِنسانُ من دُعاء الخير﴾ (فُصّلت: 48). ومن مثل: ﴿وَمنْ يوتَ الحكمةَ فقد أوتيَ خيراً كثيرا﴾ (البقرة: 268).

ـ وباعتبارها من جانب المؤمن، وفي الأعمّ الأغلب، لا ينبغي أن تكونَ اختياراً بين الحسن والقبيح وحسب؛ بل ينبغي أن ترقى إلى مستوى اختيار الأفضل ولصالح الأشَقّ والأعلى والأحسن والأسمى. ويتكرر هذا التخيير أو الإلزام الأخلاقي عشرات المرات، بحيث يُذكِّرُ بكثرة تكرار مصطلح الأمر بالمعروف. وذلك من مثل: ﴿إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح، وإن تنتهوا فهو خير﴾ (الاَنفال: 19). ومن مثل: ﴿ذلك خيرٌ لكم وأطهر﴾ (المجادلة: 12). ومن مثل: ﴿إنّ الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريئة﴾ (البيِّنة: 7). ومن مثل: ﴿ولئن رُددْتُ إلى ربّي لأجدَنّ خيراً منها منقَلَبا﴾ (الكهف: 35). ومن مثل: ﴿وما تقدموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوهُ عند الله هو خيراً وأعظَم أجرا﴾ (المزَّمِّل: 18).

 ـ وباعتبارها مُنافسةً حميدةً مع أهل الديانات الأُخرى. فالذي ينبغي أن  يميّز أهل الدعوة المحمدية إنما هو التسابُقُ في الخيرات. ويرد ذلك في ثلاث آياتٍ في صِيَغٍ متشابهة: ﴿ولكلٍّ وجهةٌ هو مُوَلّيها فاستبقِوا الخيرات﴾ (البقرة: 147)، ﴿ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويُسارعون في الخيرات﴾ (ءال عمران: 114)، و﴿ليبلُوَكم فيما ءاتاكم فاستبقوا الخيرات﴾ (المائدة: 50). وقد اختلف المفسِّرون في أسباب جمع الخير على خيرات في هذا المعرض، وبعضُهم يذهب إلى أنّ السبب أنّ المسلمين يجمعون محاسن دعوات التوحيد؛ أي فضائل اليهودية والمسيحية والإسلام!

ـ وباعتبارها، وفي الأعم الأغلب، احتساباً، أو ينبغي أن تكونَ كذلك؛ أي أنه لا يُقصدُ بها العملُ التبادُلي أو الجزاء المُباشر، بل الخير المحض، أو بالصيغة الدينية رضا الله أو فعل هذا الأمر وذاك احتساباً. وذلك من مثل: ﴿فالله خيرٌ حِفظاً، وهو أرحمُ الراحمين﴾ (يوسف: 64). ومن مثل: ﴿ولأَجْرُ الاَخِرة خيرٌ للذين ءامنوا وكانوا يتّقون﴾ (يوسف: 57). ومن مثل: ﴿ولدارُ الاَخِرة خيرٌ للذين اتّقوا، اَفلا تعقلون﴾ (يوسف: 109). ومن مثل: ﴿للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ، ولَدارُ الاَخِرة خير﴾ (النحل: 30). ومن مثل: ﴿والله خيرٌ وأبقى﴾ (طه: 72). ومن مثل: ﴿ذلك خيرٌ للذين يريدون وجه الله، وأولئك هم المفلحون﴾ (الروم: 37). ومن مثل: ﴿ورحمتُ ربّك خيرٌ مما يجمعون﴾ (الزخرف: 31).

ثانيا

 لقد كانت هذه العُجالةُ استظهاراً لمنظومة القيم في القرآن، وهي تتكوّن كما سبق بيانُهُ من ستة مصطلحاتٍ مفتاحيةٍ متشابكة ومترابطة ومتعالقة، تشكّل ما يمكن فهمُهُ من منظور “رؤية العالم” لهذه الجهة. والخطوةُ التالية التي أُريد القيامَ بها هي قراءة شواهد وتحقُّقات رؤية العالم هذه في التجربة الدينية والثقافية الإسلامية في المراحل الكلاسيكية، وما استقرت عليه تلك التجربةُ الزاخرة بالنسبة لهذه المفاهيم. وقد اخترتُ للاختبار فئتين من فئات النخبة العالِمة هما: المتكلمون والفقهاء، وفي قرون التوهُّج والازدهار فيما بين القرنين الثاني والخامس للهجرة؛ أي ما بين القرنين الثامن والحادي عشر للميلاد. وقد يتساءلُ المستمع أوالقارئُ عن هذا الاختيار أو عن روائز هذا الاختبار. والذي أذهبُ إليه في التعليل أنّ فئتي المتكلمين والفقهاء، كانتا الألصقَ بالقرآن في هذه الحِقَب، وأنهما كانتا الأكثر تأثيراً في تشكُّل الوعي الإسلامي عبر التاريخ. ولذا فَسَأُحاول تأمُّل تجربة المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة في قِيَم الفعل والعمل الإنساني. وبالنسبة للفقهاء فقد اخترتُ الماروديَّ (450ﻫ/1055م) لأنني أعرفُ تفكيره جيداً، ولأنه بحسب خبرتي معه خلال الثلاثين عاماً الماضية؛ فإنه كان فقيهاً كبيراً، كما عرف جيداً العلوم الكلامية، كما أنه أخيراً كتب الكثير، بخلاف فقهاء كثيرين، عن تجربته والخبرات التي اكتسبها، ولم يقتصر على الاجتهاد الفقهي البحْت.

سمَّى المعتزلةُ أنفُسَهم منذ البداية أهل العدل والتوحيد. وقد اشتهر بين المُحْدَثين أنهم كانوا شديدي الاهتمام بالحرية الإنسانية، وقيمها. لكنّ المعتزلة، كما لا ينبغي أن ننسى كانوا لاهوتيين؛ أي أنهم معنيُّون بالدرجة الأُولى بصورة الله، عز وجلّ، في وعي المؤمن، دون أن يعني ذلك أنه ما كانت للواقع ومقتضياته تعلُّقاتٌ وثيقةٌ وتداعياتٌ فيما يتصل بحرية الإنسان.إنما الذي أذهبُ إليه أنّ الهمَّ الأولَ لديهم بدا في صورة الذات الإلهية ومتعلّقاتها، سواء أكانت نظرية أم عملية. فالتوحيد يقعُ في قلب منظومتهم العقدية، وفي رأس أُصولهم الخمسة: التوحيد والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والطريف والشاهد على ما أذهبُ إليه أنه بعد القرن الرابع الهجري، ما دأبوا على الاهتمام كثيراً حتّى بأُصولهم الخمسة، وانصرفوا للتركيز على الفلسفة الطبيعية أو تكوُّن العالَم  وأعرضوا عن أيّ اهتمامٍ بالمباحث القيمية والخُلُقية ذات المنحى الإنساني العامّ. ولستُ في معرِض تعليل ذلك أو دراسة أسبابه، لكنْ في الحقبة التي أقروها هنا، والمتعلِّقة بتجربتهم مع القرآن ووعيهم به؛ فقد كانت هناك قيمتان أخلاقيتان تقعان في قلْب المنظومة: الله، عزّ وجلّ، باعتباره كائناً أخلاقياً أعلى ومجرَّداً، والعدل باعتباره القيمة الأخلاقية الرئيسية الواقعة في قلب علاقة الذات الإلهية بالإنسان، وإن كانت المعتزلة تنفي الصِفات عن الله لتَنافي ذلك مع التنزيه من وجهة نظرهم. وأصلُ هذه النظرة أنّ الله كاملٌ من كلّ وجه، وكمالاً تجريدياً يتّفق وجلالَهُ ووحدانيتَه. وإذا كان نهجُ التأمُّل لديهم هو قياس الغائب على الشاهد؛ فإنّ الذات الإلهية المنزّهة عن مُدْركات الحواسّ الإنسانية، إنما تُدرَكُ من طريق العقل، إدراكاً يقومُ على النفي عن الله كل ما يدخُلُ في نطاق المُشاهَد أو المُدْرَك بضروريات العقول وبدائهها. وكلُّ هذا الكلام يعني فيما نحن بسبيله أنّ الله الخالقّ لكلّ الكائنات ومن ضمنها الإنسان، والذي لَطَفَ اللهُ به، وأَرسل إليه الرُسُلَ ونزَّل عليه الكتب لهدايته، مسؤولٌ أمامه. والمسؤوليةُ تقتضي أن ينفردَ الإنسانهُ بالفعل لكي يمكنَ مُساءلتُهُ عنه. ولو كان لله، عزَّ وجلَّ، من خلال القضاء والقَدَر، تأثيرٌ فيما يأتي الإنسان أو يَذَر، لما كان الإنسانُ فاعلاً كاملَ الفعل، ولكان من الظُلم أن يُعاقب الله الإنسان على فعل الشرّ، كما لكان المُحاباة أن يُثابَ الإنسانُ على ما يُعتبر عملاً خيِّراً أو حَسَناً لأنه ما انفرد في القيام به. إنّ مقتضى تنزيه الله وعدْله أن يكونَ مُحايداً وغير مؤثِّرٍ مباشرةً في أعمال الإنسان المعروضة أو المعرَّضة للثواب والعقاب. وذلك لأنّ العدل سمةٌ أو قميةُ كمالٍ أساسيةٍ لله، ولا يمكن تصوُّر أُلوهيته بدونها.

وما نشأت هذه الحِجاجيةُ أو التدليليةُ لدى المعتزلة مرةً واحدة. لكنها كانت قد تطورت إلى ما يُشبهُ ما ذكرناهُ في القرن الثالث الهجري. فقد قال القَدَرية، وهم أسلافُ المعتزلة، إنّ الله غيرُ مسؤولٍ عن أفعال الإنسان، ثم تطور الأمر إلى اكتمال رؤية ما عُرِفَ باسم “خَلْق الأفعال” والعدلُ الإلهيُّ باعتباره قيمةً عليا، يقول المعتزلة إنهم أخذوها من القرآن، هو أوضحُ نتائج هذا الاكتمال؛ ولذا يمكن تسميةُ لاهوت المعتزلة أو مميّزه الرئيس في القرن الثالث لاهوت العدل؛ لأنّ التنزيه ومقتضياته ظلَّ موضوعاً أساسياً لدى سائر الفِرَق الكلامية.

  وفي القرن الثالث بالذات، كان موضوعٌ آخرُ متّصلاً بالفعل الإنساني، قد ظهر أيضاً، وهو موضوع الحُسْن والقبح. إذ كيف ولماذا يوصَفُ فعلٌ بأنه حَسَنٌ أو قبيح. وتبعاً للرؤية المعتزلية لعلاقة الله بالإنسان، وأنها قائمةٌ على أنّ الإنسانَ يخُلقُ أفعالَه في استقلاليةٍ عن الذات الإلهية؛ فقد رات المعتزلة أنّ العقل الإنساني هو الذي يُحدّد الحُسْنَ والقبح في الأفعال والأشياء، ثم يأتي الشرعُ مصدِّقاً له؛ لأنّ الشريعة لا تُخالفُ العقولَ ومقتضياتها. وهكذا فإنّ الإنسانَ لا يخلُقُ الفعل وحسْب؛ بل إنه هوالذي يصنعُ أو يرى القيمة (= الحُسْن والقبح)؛ وهذا وإن يكن المعتزلةُ أو بعضُهم بعد المرحلة الأولى قد حاولوا التخفيف من آثار هذا التصور، بصيغٍ توفيقية أو تلفيقية، حاولت إعطاء الشارع نصيباً في تحديد القيمة، وليس الفعل.

    أما الأشاعرةُ ، فقد ظهروا في القرن الثالث الهجري بوصْفهم انشقاقاً عن المعتزلة. وكما كان للمعتزلة أسلاف؛ فإنّ الأشاعرة كان لهم أسلافٌ أيضاً هم أهلُ السنة، والذين صار الأشاعرةُ هم متكلِّموهم أو لاهوتيُّوهُم الرئيسيون منذ النصف الثاني من القرن الخامس الهجري. وبخلاف الشائع؛ فإنّ الخلاف بين الطرفين أو التيارين، ما كان سياسياً بل كان وبقي كلامياً وبنفحاتٍ جداليةٍ عارمة. وقد نبز أهلُ السنة المعتزلةَ بأنهم قدريةٌ؛ أي ينفون القَدَر، كما سمَّوهم جهميةً ومعطِّلة. وتدورُ بيئاتُ الخلاف ظاهراً على صِفات الله التي ينفيها المعتزلة، ويُثبتُها ويؤكدُ عليها أهل السنة وأشاعرتُهم. فالله حيٌّ وله حياة، وقادرٌ وله قدرة، ومُريدٌ وله إرادة، ورحيمٌ والرحمةُ من صفاته، وعالمٌ والعلم صفةٌ له. ومن طريق هذه الصفات تتواصلُ الذاتُ الإلهيةُ الخالقةُ مع العالم، بما يتفق وتنزيهها. أَوَلم يقُل الله، عزّ وجلّ، في كتابه الكريم: ﴿ألا له الخَلْقُ والاَمر﴾ (الاَعراف: 53)؛ فالخَلْق هو الإيجادُ من عَدَم، والأَمر متعلّقٌ بالقضاء والقَدَر والعلم والقُدْرة، وتدخُّل الله، عزّ وجلّ، في التاريخ وحياة الإنسان هدايةً وضلالاً، وعنايةً ورعايةً ورحمة. ولذا فإنّ الأشاعرةَ لا يَرَون أنّ العبد هو الذي يخلُقُ أفعاله، بل يكسِبُها؛ لأنّ الخَلْقَ لله وحدَه. أمّا الاكتساب فهو عملٌ وليس فعلاً للإنسان. والفرقُ بين الأمرين أنّ الخير والشرّ موجودان بخلْق الله وتقديره، والإنسانُ يتدخَّلُ على الفعل من طريق النية صالحةً أو طالحة، فيكسبه ولا يخلُقُهُ. ومسؤوليته هي في هذه الحدود؛ أي حدود الكسْب. ومحدوديةُ التأثير في الفعل، تستدعي تدخُّل الله المستمرّ بشؤون مخلوقاته على سبيل الرعاية والعناية والفضل.  وهذا معنى إرسال الرسل والكتب، والتسديد والتوفيق أو الخِذلان. وكلُّ ذلك لا يُفضي في نظر الأشاعرة إلى الجبر؛ لأنّ النية واختيار الفعل أو عدمه هو من شأن العبد. ولأن الله سبحانه هو الذي قال: ﴿كتب على نفسه الرحمة﴾، ﴿كتب ربكم على نفسه الرحمة﴾ (الاَنعام: 13، 54). فالمآلات والمصائر تبقى بيد الله، والمؤمن يدعو الله تورُّعاً وتعبداً أن يعاملَهُ بفضله لا بعدله! وهكذا فإنّ التحسين والتقبيح شرعيان وليسا عقلَّيين. فالعقلُ، بحسب الباقلاّني والجويني، لا يستطيع الحكم على هذا الأمر أو ذاك بأنه حَسَنٌ أو قبيح، لكنه إذا فعل ذلك في أصول الأمور والأشياء مثل وجود الله ووحدانيته، فإنه لا يستطيع إصدار حكم إذا تعلّق الأمر بالمثوبة أو العقاب على هذا العمل أو ذاك؛ لأنه لا استقلال له بالمعرفة أو الحرية، ولابُدّ من اتّباع الشَرْع في ذلك. فالعلاقةُ بين الله، عزّ وجلّ، وعباده قائمةٌ ليس على العدل المُحايد، بل على البقاء في عناية الله ورعايته وفضله ورحمته منذ الولادة وإلى الوفاة. والقيمة المركزية في علاقة الله بعباده هي قيمةُ الرحمة في الدنيا والآخِرة. وكما سبق القول؛ فإنّ هذه الرؤية لعلاقة العبد بالله ظهرت قبل الأشعري وتلامذته، وإنما أقام لها الأشاعرةُ لاهوتاً عقلياً، يعتمد أيضاً قياس الغائب على الشاهد، ويستحضر العناية والرحمة، وليس العدل في هذا العلاقة.

 لقد تعرضت الرؤية السنية الكلامية في الواقع لنقدٍ شديدٍ من جانب المعتزلة والفلاسفة؛ بل ومن جانب آخرين غير محسوبين بدقة على أحد التيارات. بيد أنها كسبت دعماً كبيراً، وصارت هي السائدة ضمن وعي الأكثرية الإسلامية، بسبب التبنّي المتبادَل الذي حصل بينها وبين الصوفية ذات النزوع القيمي الأخلاقي العرفاني. وقد داخلتْها تعديلاتٌ لدى المتأخرين، أعانت أيضاً على السواد والاستقرار. بيد أنّ حاجتها للتوسُّط ظهرت قبل ذلك، عندما ظهرت الماتريدية، والتي اقتربت من المعتزلة في عدة مسائل. لكنّ أُسَسَ هذا النظرة أو هذا اللاهوت لم تتخلخل إلاّ في الأزمنة الحديثة والمُعاصرة وعلى أساسين: علاقة المسؤولية بالحرية، والقدرة على التجدد والنهوض واستبطان قيم جديدة، وسط شروطٍ وظروفٍ مختلفة.

 لدينا مبدئياً، إذن، في التجربة الإسلامية الوسيطة لاهوتان هما لاهوتُ العدل، ولاهوتُ الرحمة والفضل. وهذا لا يعني غياب القيم الأربع الأُخرى بتاتاً عن كليهما مثل اقتراب المعتزلة من قيمة الكرامة من خلال مقولة خَلْق الأفعال، ومن الرحمة من خلال مفهوم اللطف. واقتراب الأشاعرة من قيم المُساواة والمعروف أو التعارُف. لكنّ مقولتي العدل والرحمة تبقيان المركزيتين في منظومات المتكلمين المسلمين على اختلاف مدارسهم.

 أما الماورديُّ، وهو الفقيه الشافعيُّ الكبير، في زمنٍ كان الشافعيةُ فيه قد صاروا في أكثريتهم أشاعرةً في العقائد؛ فيقال إنه كانت لديه ميولٌ معتزليةٌ. والواقعُ أنه في كتابيه: أعلام النبوة، وأدب الدنيا والدين، استعار موضوعاتٍ كثيرةً من المعتزلة والفلاسفة. لكنه في منظومته الفكرية/الفقهية، ظلّ سنياً بالدرجة الأولى، وأشعرياً بالدرجة الثانية. وقد لخّص هو في كتابه: “أدب الدنيا والدين” الأصول القيمية التي اعتبرها “ضروريةً لصلاح حال الإنسان” فاعتبرها ستاً وهي: دينٌ متَّبعٌ، وسلطانٌ قاهر، وعدلٌ شامل، وأمنٌ عامٌّ، وخِصْبٌ دائمٌ، وأملٌ فسيحٌ. وهو يرى أنّ هذه “الأركان” ليست من آداب أو نصائح الملوك، ولا من الأحكام السلطانية؛ بل إنها ركائزُ أخلاقيةٌ للحياة الإنسانية السَويّة. فالدين المتّبعُ أهميتُه في أنه يوحِّد الناس في الوعي والواقع، ويكون أساساً للتضامُن والاستقرار. أمّا السلطان فهو ضروريٌّ لعمران البلاد وأمن العباد. وأمّا العدلُ والذي يراه بمنظورين أخلاقي وقضائي؛ فإنه لا علاقة له عنده على وجه التقريب بالعدل الإلهي عند المعتزلة. لكنّ ذلك لا يمنُعُه تحت ركن الدين من معالجة مبحث العقل والشرع وأيّهما أسبق، وهما مبحثان معتزليان. إنما الطريفُ في الأركان الثلاثة الباقية: الأَمْنُ والخِصْب والأمل؛ إذ إنها تتعلقٌ عنده بالحياة الأخلاقية للمجتمع وليس بالسلطة السائدة أو القاهرة بالضرورة. وبذلك فهو يقترب كثيراً من عوالم القرآن، وعوالم الحياة المدينية الشاسعة والهانئة والمزدهرة في القرن الرابع الهجري، ويدفعه رغم استعاراته الكبيرة والكثيرة من كتب “تهذيب الأخلاق” الفلسفية النزعة، باتجاه القيم القرآنية والأُخرى الإسلامية العامة مثل المودة والرحمة والتعارُف والمعروف والخير العامّ.

ثالثا

 عندما كان المستشرق المجري Ignaz Goldziher في تسعينات القرن التاسع عشر، يكتب دراسته عن “الدين والمروءة في عوالم الإسلام الوسيط”، ذاهباً إلى أنّ المروءة هي القيمةُ الأعلى في حياة العرب الجاهليين، وأنّ الدين المُناقضَ لها حلَّ محلَّها في الإسلام؛ كان المفكرون الإصلاحيون المسلمون يتجاوزون منظومة القيم الإسلامية الوسيطة، كما تجلّت في الأشعرية المتأخّرة والتصوُّف؛ باتّجاه قيمتين اعتبروهما من مقتضيات القرآن والإسلام النهضوي الأول: قيمة الإنسان ومصالحه الضرروية، وقيمة المدنية بشروطها الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وقد استندوا في تجديد مبحث الإنسان أو خَلْقه خَلْقاً جديداً على “مقاصد الشريعة” والتي تتغيَّا المصالح الضرورية لبني البشر وهي: حق الدين، وحق العقل، وحق النفس، وحق النسْل، وحقّ الملك. وقد أمكنهم بالفعل التدليل على أنّ هذه المصالح أو الضرورات سبق أن قررها الفقهاء والأُصوليون وأبرزُهم الفقيه المالكي أبو إسحاق الشاطبي (790ﻫ/1388م) في كتابه: الموافقات. أمّا البناء القيمي الذي تصبحُ فيه هذه المصالحُ أركاناً وأعمدةً فقد وجدوه، كما سبق القول، في المدنية الأوروبية بشروطها التاريخية، والتي وجدوا أنها حاضرةٌ في زمن الإسلام الأول، وفي مقاصد الشريعة. وفي حين كانت مقدمة ابن خلدون المعنية بعلم العُمران قد طبعت في خمسينات القرن التاسع عشر في باريس، نشر التونسيون في مطبعة الدولة كتب محمد بيرم الخامس: السياسة الشرعية (1883)، والموافقات للشاطبي (1884)، وأقوم المسالك لمعرفة أحوال الممالك لخير الدين التونسي (1885). وهذه الكتب تُعنى جميعاً بالمدنية والعُمران وأحوالهما. وأُضيف إليها بعد ذلك بقليل كتاب المصري محمد حسين المرصفي باسم “الكلم الثمان” وهي مصطلحاتٌ وبراديغمات تتعلق كلُّها بتبْيئة المفاهيم الأوروبية للتقدم في البيئات الإسلامية. لقد كان الهمُّ: كيف يمكن تحقيق التقدم على النمط الأوروبي. وقد جرى التوسُّل لذلك بمفاهيم أوروبية، وأدوات تأويلية مستمدّة من الأزمنة الوسيطة حفاظاً على الأصالة، ولعدم إثارة الهواجس نتيجة الاستعانة بالغريب والوافد. وإنما في النهاية ما أمكن تبيئةُ فكرة المصالح العامة للإنسان، ربما لاستنادها إلى فكرة المستبد العادل، الذي لا يحتاج لتحقيق التقدم غير خَرْط الشعب في سياقٍ واحدٍ إرادوي ومسياني. وهكذا ماتت بالتدريج فكرةُ أو قيمةُ المصالح الضرورية، مُلحقةً أضراراً كبيرةً بقيمة الحرية التي ما أمكن ربْطُها كما كان يُرجى بأيديولوجيا التقدم. وعندما عادت “مقاصد الشريعة” للظهور في أبحاثٍ كثيرةٍ منذ السبعينات من القرن الماضي؛ فقد كان ذلك من ضمن تيارات الصحوة والأصالة والخصوصية.

    ولدينا منذ أواسط القرن الماضي عودةٌ إلى القرآن لاستلهامه بشأن منظومةٍ متجددةٍ للقيم، وبعضُ هذه المحاولات تتغيّا أخلاق الواجب الكانطية وبخاصةٍ كما تجلّت في فكرة “أخلاق العمل” لدى ماكس فيبر. إنما هناك مَنْ يستلهم فكرة “الاحتياجات الجديدة” من خلال علم الكلام الجديد، وإعادة قراءة القرآن، كما سبق، في ضوئه. والذي أراه أنّ الثورات العربية الجديدة والتي تحمل شعارات الكرامة والحرية والسِلمية، إنما تُطِلُّ بطريقةٍ منطقيةٍ أيضاً على قيم العدالة التداوُلية، والرحمة والتعارُف والخير العامّ. وهذه فُرصةٌ تاريخيةٌ لكي تتلاقى قيم المنظومة القرآنية على سَويةٍ واستقامةٍ واتّساق افتقدتْها منذ قرنٍ ونصفٍ وأكثر حيث تضاربت تلك القيم تحت وطأة الاستعمار الأجنبي والطغيان الوطني والتمرد الأُصولي.

Science

د. رضوان السيد

 أستاذ الدراسات الإسلاميةـالجامعة اللبنانية  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق