وحدة الإحياءدراسات محكمة

نحو منهج متكامل لحسن فهم السنة

لقد أرسل الله رسوله محمدا، صلى الله عليه وسلم، بالهدى ودين الحق، وأنزل عليه القرآن الكريم ناسخا لما قبله من الكتب السماوية، باعتبارها لم تعد صالحة، نتيجة التحريف والتبديل، لإرشاد الإنسان وهدايته وتمكينه من تحقيق عبوديته وإسلامه لله وحده: ﴿يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب، ويعفو عن كثير، قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين﴾ (المائدة: 16-17).

ومن ثم فالقرآن الكريم منذ أنزله الله عز وجل على رسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم، إلى قيام الساعة، هو المصدر السماوي لدين الله، أي الإسلام، ولكنه المصدر الوحيد، ذلك أن الله عز وجل أوحى إلى نبيه الكريم، صلى الله عليه وسلم، بوحي آخر غير القرآن هو السنة النبوية الشريفة.

فالسنة وحي من الله إلى رسوله، كالقرآن سواء بسواء من حيث الأصل، بيد أن القرآن الكريم كلام الله فهو من الله بلفظه ومعناه، وأحاديث الرسول الأمين وحي من الله عز وجل بالمعنى المفهوم، ولفظها وحروفها من صياغة الرسول، صلى الله عليه وسلم.

فالقرآن الكريم والسنة الصحيحة هما مصدرا الإسلام وتلك قضية لم ولن يختلف عليها اثنان من المسلمين أفرادا وجماعات، مدارس وفرقا، مذاهب واتجاهات، والمختلف مع المسلمين حيالها بالرفض الكلي أو الجزئي أو بمجرد التحفظ البسيط ليس مسلما[1].

إذا كان ذلك كذلك فما وجه الخلاف إذن بين العلماء؟ فالبرغم من أن جميع المفكرين الإسلاميين على اختلاف مذاهبهم وفرقهم يقررون جميعا بأن القرآن الكريم والسنة النبوية هما المصدر الوحيد لجميع الحقائق الكونية والمبادئ التشريعية فإنه – لما يؤسف له-ظهور الفرق المختلفة والمتباينة والمتعارضة في تاريخ الفكر الإسلامي فالسؤال المنطقي الذي يطرح نفسه هو: ما سبب اختلاف بعض مفكري الإسلام وتفرقهم إلى شيع وأحزاب كل حزب بما لديهم فرحون وبه متمسكون؟

الاختلاف واقع في المنهج لا في المصدر

تتضح الإجابة على هذا السؤال إذا علمنا أن المعرفة الإنسانية موضوع ومنهج وذلك لأن أجهزة الإدراك والمعرفة البشرية عندما تبحث وتدرس وتستنبط فإنها تكون بإزاء أمرين، وليس أمرا واحدا.

الأول: هو الموضوع وهو مادة البحث ومصدر المعرفة.

الثاني: هو المنهج ونعني به السبيل الفكري والخطوات الذهنية التي يتبعها فكر الباحث أو العارف في مساره بقصد تحصيل المعرفة.

وبناء على ذلك، فإن علة اختلاف الفرق والمدارس، ما دام الاتفاق قائما بينهم حول الموضوع والمصدر، تكمن في المنهج الذي تتبعه وتستخدمه كل مدرسة أو كل فرقة من الفرق الإسلامية المخلصة؛ أي أن اختلاف الوسائل والمناهج التي بدأ بها مفكرو الفرق بحثهم في القرآن والسنة أدى بهم في النهاية إلى التباعد والتقابل والتناقض في نتائج أبحاثهم، مما جعلهم فرقا وشيعا وأحزابا، أو على الأقل نقول إن اختلاف المناهج هو من أهم العوامل التي أدت إلى ظهور الفرق[2].

معالم وضوابط لحسن فهم السنة

إذا كان الأمر كما بينا فإنه لابد، إذن، من تحديد قواعد منهجية تضبط تعاملنا مع الحديث النبوي الشريف، في محاولة للوصول إلى معناه الحقيقي المراد به أو على الأقل الاقتراب من معناه.

ولا يمكننا في هذه العجالة طرح منهج شامل، وإنما هي بعض القواعد العامة التي تعين الدارس وتساعده على حسن فهم حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهي قواعد قابلة للتطوير والتعديل والإضافة، ولكنها، على كل حال، جهد مشكور لعلماء كرسوا حياتهم لخدمة الإسلام والمسلمين.

1. التأكد من سلامة النص وصحته

إن الخطوة الأولى في المنهج العلمي الدقيق هي التأكد من صحة النص المنقول، حتى لا ينسب الخبر جزافا دون تمحيص إلى غير صاحبه، فكيف إذا كان الخبر واردا عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، فهو تشريع والاحتياط له أولى، لما فيه من عظيم الخطر إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل أو تحريم أو أمر أو نهي ترغيب أو ترهيب، فمن روى حديث غير متأكد من صحته كان آثما بفعله ذلك غاشا لعوام المسلمين، إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها، أو يستعمل بعضها، ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها.

والفقه استخراج من الكتاب ومن السنة فكيف يستخرج من شيء لا يعرفه ومن القبيح تعليق حكم على حديث لا يدري أصحيح هو أم لا؟[3].

“وقد أخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، بأن في أمته من يجيء بعده كذابين، فحذر منهم، ونهى عن قبول رواياتهم، وأعلمنا أن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، فوجب بذلك النظر في أحوال المحدثين والتفتيش عن أمور الناقلين، احتياطا للدين وحفظا للشريعة من تلبيس الملحدين”[4].

“فالواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع والدليل على أن الذي قلنا من هذا هو اللازم دون ما خالفه قول الله جل ذكره ﴿يأيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين﴾ (الحجرات: 6) وقال جل ثناؤه ﴿ممن ترضون من الشهداء﴾ (البقرة:281) وقال عز وجل ﴿وأشهدوا ذوي عدل منكم﴾ (الطلاق: 2) فدل بما ذكرنا من هذه الآية أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول وأن شهادة غير العدل مردودة.

وقد نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن الحديث بكل ما سمع حيث قال، صلى الله عليه وسلم، (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع)، وروى ابن وهب عن الإمام مالك أنه قال له: “ّاعلم أنه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع ولا يكون إماما أبدا وهو يحدث بكل ما سمع” وروي عن ابن سيرين أنه قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم.

روى الإمام مسلم عن مجاهد قال جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه فقال: يا ابن عباس مالي لا أراك تسمع لحديثي أحدثك عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا تسمع فقال ابن عباس إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف[5].

والاشتغال بما لم يصح عناء وتضييع للوقت، لذا يجب عدم الاحتفال بما لم تثبت صحته من الأحاديث، وقد كثر ذلك من المفسرين والمؤرخين وأهل الآداب وبعض أهل الفقه، فكثرت الروايات الباطلة والإسرائيليات.

وقد نقل القرطبي عن الحافظ بن العربي قوله: “والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البتات، فأعرض عن سطورها بصرك، وأصمم عن سماعها أذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالا، ولا تزيد فؤادك إلا خبالا”[6].

لذلك حذر منهم ابن العربي فقال: “… إنما ذكرت لكم هذا لتحترزوا من الخلق، وخاصة من المفسرين، والمؤرخين، وأهل الآداب، بأنهم أهل جهالة بحرمات الدين، أو على بدعة مصرين، فلا تبالوا بما رووا، ولا تقبلوا رواية إلا عن أئمة الحديث، ولا تسمعوا لمؤرخ كلاما إلا للطبري، وغير ذلك هو الموت الأحمر، والداء الأكبر، فإنهم ينشئون أحاديث فيها استحقار الصحابة والسلف، والاستخفاف بهم، واختراع الاسترسال في الأقوال والأفعال عنهم، وخروج مقاصدهم عن الدين إلى الدنيا، وعن الحق إلى الهوى. فإذا قاطعتم الباطل واقتصرتهم على رواية العدول، سلمتم من هذه الحبائل…”[7].

وقال أيضا: “وبعد هذا قفوا حيث وقف بكم البيان بالرهان دون ما تتناقله الألسنة من غير تثقيف للنقل”[8].

وقال أيضا: “وقد أوعزنا إليكم أمرا أن أضر شيء بالمتعلم والعالم الاشتغال بالحديث الضعيف”[9].

 

وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي:

“إن الإنسان لكي يمارس الإسلام يقينا وسلوكا، لابد أن يجتاز المراحل الثلاث التالية:

أ. التأكد من صحة النصوص الواردة والمنقولة عن فم سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، قرآنا

كانت هذه النصوص أم حديثا، بحيث ينتهي إلى يقين بأنها موصولة النسب إليه، وليست منقولة عليه.

ب. الوقوف بدقة على ما تتضمنه وتعنيه تلك النصوص، بحيث يطمئن إلى ما يعنيه ويقصده

صاحب تلك النصوص منها.

ج‌.  عرض حصيلة تلك المعاني والمقاصد التي وقف عليها وتأكد منها، على موازين المنطق

والعقل (ونعني بالمنطق هنا قواعد الدراية والمعرفة عموما) لتمحيصها ومعرفة موقف العقل منها.

واجتياز الإنسان بهذه المراحل الثلاث لا يتم إلا بعد الاستعانة بأداة، وهذه الأداة هي ما نعنيه بكلمة (المنهج)… إذن فمنهج المعرفة الإسلامية والانضباط بمبادئه وأحكامه، يتكون من ثلاثة أجزاء كل جزء منها يتكفل بحمل صاحبه إلى ثلث الطريق[10].

والقاعدة الأصولية تقول: “التأويل فرع التصحيح“، ومن الممتنع ثبوت الفرع مع عدم الأصل فحين نتعامل مع النص بضرب من التأويل أو التفسير أو المناقشة… فذلك معناه تصحيحه مسبقا، فأول خطوة في المنهج، إذن، هي التأكد من سلامة النص، خصوصا بعد أن ظهر المتهاونون في ضبط الحديث وروايته، وظهر الوضاعون والزنادقة.

2. حسن فهم النص

يقول د. محمد سعيد رمضان البوطي:

“فإذا تم الوثوق العلمي بالنصوص من حيث الرواية لها، فلا ريب أن المرحلة التي تلي ذلك، هي الالتفات إلى تلك النصوص ابتغاء الوصول إلى دراية تامة وصحيحة بها، وإنما كان مرد جانب كبير من الاضطراب والنزاع المتفاقمين في الاجتهادات والفتاوى الفقهية، والمسائل الاعتقادية إلى فقدان ميزان متفق عليه بين أيديهم في فهم النصوص وتحديد دلالتها”[11].

والناس متفاوتون في قواهم العقلية وسعة مداركهم وقوة ملاحظاتهم، لذا وجب وضع موازين عملية تعين على حسن فهم السنة.

إن أزمة المسلمين الأولى في هذا العصر هي أزمة فكر… وأوضح ما تتمثل فيه أزمة الفكر هي أزمة فهم السنة والتعامل معها.

فإذا استوثق الباحث من ثبوت السنة فعليه أن يحسن فهم النص النبوي، وفق دلالات اللغة، وفي ضوء سياق الحديث، وسبب وروده، وفي ظلال النصوص القرآنية والنبوية الأخرى وفي إطار المبادئ العامة، والمقاصد الكلية للإسلام”[12].

ومن جملة الضوابط والقواعد ما أورده الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه القيم كيف نتعامل مع السنة.

أ‌.  فهم السنة في ضوء القرآن الكريم

يقول د. يوسف القرضاوي: “من الواجب، لكي تفهم السنة فهما صحيحا، بعيدا عن التحريف والانتحال وسوء التأويل أن تفهم في ضوء القرآن، وفي دائرة توجيهاته الربانية، المقطوع بصدقها إذا أخبرت، وعد لها إذا حكمت ﴿وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا، لا مبدل لكلماته، وهو السميع العليم﴾ (الأنعام: 116) فالقرآن هو روح الوجود الإسلامي، وأساس بنيانه، وهو بمثابة الدستور الأصلي، الذي ترجع إليه كل القوانين في الإسلام…

والسنة النبوية هي شارحة هذا الدستور ومفصلته، فهي البيان النظري والتطبيقي العملي للقرآن؛ ومهمة الرسول أن يبين للناس ما نزل إليهم، وما كان للبيان أن يناقض المبين، ولا للفرع أن يعارض الأصل، فالبيان النبوي يدور أبدا في فلك الكتاب العزيز لا يتخطاه.

ولهذا لا توجد سنة صحيحة ثابتة تعارض محكمات القرآن وبيناته الواضحة. وإذا ظن بعض الناس وجود ذلك، فلابد أن تكون السنة غير صحيحة أو يكون فهمنا لها غير صحيح أو يكون التعارض وهميا لا حقيقيا”[13].

فلا نعمم مثلا قوله، صلى الله عليه وسلم، “إذا تواجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار”[14].

على قتال الصحابة بل نفهم الحديث في ضوء قوله عز وجل. ﴿وإن طائفتان من المومنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما﴾ (الحجرات: 9) قال الإمام النووي: “واعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة، رضي الله عنهم، ليس بداخلة في هذا الوعيد ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم والإمساك عما شجر بينهم وتأويل قتالهم وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا، بل اعتقد كل فريق أنه المحق ومخالفه باغ فوجب عليه قتاله ليرجع إلى أمر الله”[15] فقتالهم لم يكن على الدنيا ولا هوى وعصبية بل كان بتأويل سائغ.

تنبيه

ولابد من التحذير من التوسع في دعوى معارضة القرآن، دون أن يكون لذلك أساس صحيح أورد الأحاديث لمجرد عدم فهمها.

ب‌.  جمع الأحاديث الواردة في الموضوع الواحد

من المعلوم بالضرورة لكل مسلم: أن القرآن يفسر بعضه بعضا، فما أجمله في موضع أفاض فيه تفصيلا في موضع آخر.

ونتيجة لهذا ينبغي علينا، لمعرفة حقيقة من الحقائق الكونية أو الإنسانية في القرآن، أن ننظر فيه جملة، باعتباره وحدة واحدة، وأن نحاول معرفة هذه الحقيقة أو استخلاصها من هذا القرآن الواحد ككل وليس كسور متباينة، أو آيات متفرقة…

فإذا كان بنو إسرائيل قد آمنوا ببعض الكتاب وكفروا بالبعض الآخر، وذلك عن قصد وسوء نية واضحين، فإن كثيرا من مفكري أو متكلمي الإسلام قد أخذوا ببعض الكتاب وتركوا البعض، عن قصد أو غير قصد، حين تبويبهم وتصنيفهم للحقائق الإلهية والكونية والإنسانية واستخراجها من القرآن، وذلك بتركهم النظرة الشاملة الكاملة، فجاء تقريرهم للحقائق مشوها قاصرا غير واف أحيانا كثيرة، ومضطربا ومتناقضا في بعض الأحيان[16].

والسنة لا تخرج عن هذه القاعدة، “فمن اللازم لفهم السنة فهما صحيحا: أن تجمع الأحاديث الصحيحة في الموضوع الواحد، بحيث يرد متشابهها إلى محكمها، ويحمل مطلقها على مقيدها ويفسر عامها بخاصها. وبذلك يتضح المعنى المراد منها، ولا يضرب بعضها ببعض إن الاكتفاء بظاهر حديث واحد، دون النظر في سائر الأحاديث وسائر النصوص المتعلقة بموضوعه، كثيرا ما يوقع في الخطأ. ويبعد عن جادة الصواب، وعن المقصود الذي سيق له الحديث.

وقد مثل فضيلة الدكتور بمثالين مهمين

الأول: حديث إسبال الإزار فقد ورد عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان، الذي لا يعطي شيئا إلا منة، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمسبل إزاره”[17].

وفي رواية أخرى عن أبي ذر أيضا: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. قال فقرأها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثلاث مرات قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب”[18].

وقد بينت أحاديث أخرى أن المراد بالإسبال هنا الجار له خيلاء، فالجر لغير الخيلاء لا يلحقه الوعيد، إلا أن جر القميص وغيره من الثياب مذموم على كل حال كما بين ذلك ابن عبد البر[19].

الثاني: حديث أبي أمامة الباهلي حين نظر إلى آلة حرث (محراث) فقال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: “لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل”[20].

إن ظاهر هذا الحديث يفيد كراهية الرسول للحرث والزراعة التي تفضي إلى ذل العاملين فيها، وقد حاول بعض المستشرقين استغلال هذا الحديث لتشويه موقف الإسلام من الزراعة وهذا ما تعارضه النصوص الصريحة الأخرى التي تحث المسلم على الاهتمام بهذا المجال الحيوي بل جعله عبادة يثاب عليها ويؤجر إضافة إلى منافعها الدنيوية. وأما الحديث فالمقصود به: “من يقرب من العدو فإنه إذا اشتغل بالحرث لا يشتغل بالفروسية فيتأسد عليه العدو، فحقهم أن يشتغلوا بالفروسية وعلى غيرهم إمدادهم بما يحتاجون إليه[21].

ج‌. الجمع أو الترجيح بين مختلف الحديث 

وعلم “مختلف الحديث” أو “مشكل الحديث” أو “تلفيق الحديث” والمراد بهذه الأسماء مسمى واحدا: هو العلم الذي يتناول الأحاديث التي ظاهرها التعارض من حيث الجمع والتوفيق بينها، إما بتقييد مطلقها أو بتخصيص عامها أو غير ذلك، كما يتناول بيان وتأويل ما يشكل من الحديث النبوي وإن لم يعارضه حديث آخر.

ويظهر بالتالي أننا بإزاء أمرين: مختلف الحديث ومشكل الحديث.

فالأول يبحث في الأحاديث التي ظاهرها متعارض فيزيل تعارضها، أو يوفق بينهما، والثاني يبحث في الأحاديث التي تطرح إشكالا في فهمها أو تصورها، فالمشكل هو المتلبس يقال أشكل الأمر: التبس واختلط.

فمشكل الحديث أعم من اختلاف الحديث، لأن الإشكال – وهو الالتباس والخفاء-قد يكون ناشئا من ورود حديث يناقض حديثا آخر من حيث الظاهر، أو من حيث الحقيقة ونفس الأمر، وقد ينشأ الإشكال من مخالفة الحديث للعقل أو للقرآن أو للغة.

وهذا العلم من أهم العلوم يحتاج إليه المحدثون والفقهاء وغيرهم من العلماء، ولابد للمشتغل به من فهم ثاقب، وعلم واسع، ودربة ودراية، ولا ينبغ فيه إلا من جمع بين الحديث والفقه. قال الإمام السخاوي: “هو من أهم الأنواع مضطر إليه جميع الطوائف من العلماء، وإنما يكمل للقيام به من كان إماما جامعا لصناعتي الحديث والفقه غائصا على المعاني الدقيقة[22].

والاختلاف مصدر: اختلف، نقول تخالف الأمران واختلفا أي لم يتفقا، وكل ما لم يتساو فقد تخالف واختلف، ومنه قوله تعالى: “والنخل والزرع مختلفا أكله”[23].

والاختلاف والمخالفة أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو قوله، والخلاف أعم من الضد، لأن كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدين، إذ من الاختلاف ما ليس بمذموم، قال ابن قتيبة في مشكل القرآن: “الاختلاف نوعان: اختلاف تغاير واختلاف تضاد، فاختلاف التضاد لا يجوز ولست واجده بحمد الله في شيء من القرآن إلا في الأمر والنهي من الناسخ والمنسوخ، واختلاف التغاير جائز…”[24].

وقد أفرد شيخ الإسلام ابن تيمية فصلا من مقدمته “الشهيرة في التفسير لاختلاف السلف فقال: “وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد”[25].

ومثل لذلك بأسماء الله الحسنى، وأسماء الرسول، وأسماء القرآن، وغيرها، وبسط ذلك في كتابه القيم “اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم.

طرق الجمع بين الأحاديث المختلفة

قال الشاطبي: “وذلك أن التعارض إذا ظهر لبادي الرأي في المقولات الشرعية فإما أن لا يمكن الجمع بينهما أصلا، وإما أن يمكن، فإن لم يمكن فهذا بين قطعي وظني، أو بين ظنيين، فأما بين قطعيين فلا يقع في الشريعة، ولا يمكن وقوعه، لأن تعارض القطعيين محال. فإن وقع بين قطعي وظني بطل الظني، وإن وقع بين ظنيين فههنا للعلماء فيه الترجيح، والعمل بالأرجح متعين،وإن أمكن الجمع فقد اتفق النظار على إعمال وجه الجمع، وإن كان وجه الجمع ضعيفا، فإن الجمع أولى عندهم، وإعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها”[26].

فالأحاديث المختلفة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: يمكن الجمع بين الحديثين ولا يتعذر إبداء وجه ينفي تنافيهما فيتعين حينئذ المصير إلى ذلك والقول بهما معا.

قال الشافعي: “ولزم أهل العلم أن يمضوا الخبرين على وجوههما ما وجدوا لإمضائهما وجها، ولا يعدونهما مختلفين وهما يحتملان أن يمضيا”[27].

وقال الخطابي: “وسبيل الحديثين إذا اختلفا في الظاهر وأمكن التوفيق بينهما وترتيب أحدهما على الآخر، أن لا يحملا على المنافاة، ولا يضرب بعضهما ببعض، لكن يستعمل كل واحد منهما في موضعه”[28].

القسم الثاني: أن يتضادا بحيث لا يمكن الجمع بينهما وذلك على ضربين:

أحدهما: أن يظهر كون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا فيعمل بالناسخ ويترك المنسوخ.

والثاني: أن لا تقوم دلالة على النسخ فيرجع حينئذ إلى الترجيح، ويعمل بالأرجح منها والأثبت:

والترجيح هو: إثبات الفضل في أحد جانبي المتقابلين أو جعل الشيء راجحا وله شروط:

شروط الترجيح

  1. التساوي في الثبوت فلا تعارض بين الكتاب وخبر الآحاد.
  2. التساوي في القوة فلا تعارض بين المتواتر وخبر الآحاد.

3. اتفاقهما في الحكم مع اتحاد الوقت والمحل والجهة.

من أهم المصنفات في هذا العلم

ـ اختلاف الحديث للشافعي 204ﻫ.

ـ تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة 276ﻫ.

ـ مشكل الآثار للطحاوي 321ﻫ.

ـ مشكل الحديث وبيانه لابن فورك 406ﻫ.

وممن تناول هذا الموضوع أيضا 

ـ الإمام الشافعي في الأم والرسالة.

ـ ابن حزم الأندلسي 456ﻫ في الإحكام في أصول الأحكام.

ـ الشاطبي 790ﻫ في الاعتصام.

ـ ولي الله الدهلوي1176ﻫ في حجة الله البالغة.

ـ نماذج من الأحاديث المختلفة والمشكلة:

ـ منها على سبيل المثال حديث “اللهم احيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين”[29].

ـ فقد وردت أحاديث أخرى يتعوذ فيها النبي، صلى الله عليه وسلم، بالله من الفقر ويسأله الغنى قال ابن قتيبة: ونحن نقول “إنه ليس ها هنا اختلاف – بحمد الله تعالى-وقد غلطوا في التأويل، وظلموا في المعارضة (الخصوم) لأنهم عارضوا الفقر بالمسكنة، وهما مختلفان… ومعنى المسكنة في قوله “احشرني مسكينا” التواضع والإخبات. كأنه يسأل الله تعالى أن لا يجعله من الجبارين والمتكبرين ولا يحشره في زمرتهم”[30].

ـ وحديث: ” إنا، معشر الأنبياء، لا نورث ما تركناه صدقة[31] وهذا في نظرهم قول الله عز وجل حكاية عن زكريا ﴿وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا..﴾ (مريم: 5) وخلاف قوله عز وجل ﴿وورث سليمان داود﴾ (النمل: 16).

قال ابن قتيبة: “وأي مال كان لزكريا عليه السلام، يضن به عن عصبته حتى يسأل الله تعالى أن يهب له ولدا يرثه؟ لقد جل هذا المال إذن: وعظم –عنده-قدره، ونافس عليه منافسة أبناء الدنيا، الذين لها يعملون، وللمال يكدحون… وقد قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه في قوله عز وجل ﴿وهب لي من لدنك وليا يرثني﴾ أي يرثني الحبور، وكان حبرا. (ويرث من آل يعقوب) أي يرث الملك…

وأما قوله “وورث سليمان داود “فإنه أراد ورثه الملك والنبوة والعلم…[32].

ـ وما ورد عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قرأ في الصبح “إذا الشمس كورت” وفي حديث آخر أنه قرأ سورة (ق) وغيرها.

ـ وأحاديث النهي عن الكتابة والإذن بها.

ـ وحديث: “يا بن آدم مرضت فلم تعدني، فيقول: أي رب وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنه لو عدته لوجدتني عنده؟[33] فقد بين ابن فورك أن في ذلك إكراما لوليه ورفعا لقدره فقال: وهذه طريقة معتادة في الخطاب عربية وعجمية، وذلك أن يخبر السيد عن نفسه ويريد عبده إكراما له وتعظيما[34].

وحديث “لعن الله زوارات القبور”[35] الذي يخالف: حديث: “كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة[36] وغيرها كثير.

د. فهم الأحاديث في ضوء أسبابها وملابستها ومقاصدها

يعد علم أسباب ورود الحديث من أهم علوم السنة، لأنه يوضح الظروف والملابسات التي قيل فيها الحديث إنه، في السنة، على نمط علم أسباب النزول فيما يتعلق بالقرآن.

ومعرفة سبب ورود الحديث من المهمات كما في معرفة سبب نزول القرآن: “فقد لا يمكن معرفة تفسير الحديث دون الوقوف على قصته وبيان وروده، قال ابن دقيق العيد: “بيان السبب طريق قوي في فهم معاني الكتاب والسنة”[37]. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية معرفة السبب تعين على فهم الحديث والآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب[38] ومن فوائده أن اللفظ قد يكون عاما ويقوم الدليل على تخصيصه، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته فإن دخول صورة السبب قطعي وإخراجها بالاجتهاد ممنوع إجماعا… ومنها معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.

قال سراج الدين البلقيني: “واعلم أن السبب قد ينقل في الحديث، كما في حديث سؤال “جبريل” عن الإيمان والإسلام والإحسان وغيرها[39] وحديث القلتين: سئل عن الماء يكون بالفلاة وما ينوبه من السباع والدواب[40]. وحديث الشفاعة: سببه قوله، صلى الله عليه وسلم، “أنا سيد ولد آدم ولا فخر”[41] وغيرها[42].

وقد لا ينقل السبب في الحديث أو ينقل في بعض طرقه فهو الذي ينبغي الاعتناء به: ومن ذلك: حديث: “أنتم بأمور دنياكم”[43].

وحديث: “ولد الزنا شر الثلاثة”[44].

وحديث: “أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين”[45] وغيرها.

فلابد إذن: “لفهم الحديث فهما سليما دقيقا، من معرفة الملابسات التي سيق فيها النص، وجاء بيانا لها وعلاجا لظروفها حتى يتحدد المراد من الحديث بدقة ولا يتعرض لشطحات الظنون، أو الجري وراء ظاهر غير مقصود”[46].

ﻫ. التمييز بين الوسيلة المتغيرة والهدف الثابت للحديث

قال: د. يوسف القرضاوي: “ومن أسباب الخلط والزلل في فهم السنة: أن بعض الناس خلطوا بين المقاصد والأهداف الثابتة التي تسعى السنة إلى تحقيقها، وبين الوسائل الآنية والبيئية التي تعينها أحيانا للوصول إلى الهدف المنشود فتراهم يركزون كل التركيز على هذه الوسائل كأنها مقصودة لذاتها مع أن الذي يتعمق في فهم السنة وأسرارها يتبين له أن المهم هو الهدف وهو الثابت والدائم، والوسائل قد تتغير بتغيير البيئة أو العصر أو العرف أو غير ذلك من المؤثرات[47].

ومثل لذلك بأحاديث الرسول المتعلقة بالتداوي والتطبيب والسواك، وغيرها.

و. التفريق بين الحقيقة والمجاز في فهم الحديث

وهنا لابد من الإلمام بعلم العربية، فإنه بأنواعه عمدة علوم الاجتهاد وبالتبحر فيه وعدمه تتفاوت النقاد. والعلم بلغة العرب واجب على كل متعلق من العلم بالقرآن والسنة والفتيا بسبب، حتى لإغناء بأحد منهم عنه. وذلك أن القرآن نازل بلغة العرب، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، عربي، فمن أراد معرفة ما في كتاب الله عز وجل، وما في سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من كل كلمة غريبة أو نظم عجيب، لم يجد من العلم باللغة بدا[48].

وقد خصص الحافظ الخطيب البغدادي فصلا حافلا من كتابه القيم “الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع” لـ”الترغيب في تعلم النحو والعربية لأداء الحديث بالعبارة السوية” وفصل الإمام الشاطبي ذلك في النوع الثاني من مقاصد الشريعة “مقاصد وضع الشريعة للإفهام”، حيث بين أن هذه الشريعة عربية فعلى أسلوب العرب تفهم[49].

“فإن الله لما أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل رسوله مبلغا عنه الكتاب والحكمة بلسانه العربي. وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به: لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان، وصارت معرفته من الدين وصار اعتياد التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله وأقرب إلى إقامة شعائر الدين، وأقرب إلى مشابهتهم للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في جميع أمورهم”[50].

في هذا الصدد يقول ابن حزم الأندلسي: “وأما النحو واللغة ففرض على الكفاية، لأن الله يقول: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم﴾ (إبراهيم: 4) وأنزل القرآن على نبيه عليه السلام بلسان عربي مبين، فمن لم يعلم اللسان الذي به بين الله لنا ديننا وخاطبنا به ومن لم يعلم ذلك فلم يعلم دينه، ومن لم يعلم دينه ففرض عليه أن يتعلمه، وفرض عليه واجب تعلم النحو واللغة، ولو سقط علم النحو لسقط فهم القرآن وفهم حديث النبي، ولو سقط لسقط الإسلام.

وأما من وسم اسمه باسم العلم والفقه وهو جاهل للنحو واللغة فحرام عليه أن يفتي في دين الله بكلمة، وحرام على المسلمين أن يستفتوه، لأن لا علم له باللسان الذي خاطبنا الله تعالى وإذا لم يعلمه فحرام عليه أن يفتي بما لا يعلم، قال الله تعالى: ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا﴾ (الإسراء:36). وقال تعالى: ﴿قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾ (الأعراف: 33). وقال تعالى: ﴿وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم﴾ (النور:15).

فمن لم يعلم اللسان الذي خاطبنا الله، عز وجل، ولم يعرف اختلاف المعاني فيه لاختلاف الحركات في ألفاظه، ثم أخبر عن الله بأوامره ونواهيه فقد قال على الله ما لا يعلم. وكيف يفتي في الدين من لا يدري خفض اللام أو رفعها من قول الله عز وجل: ﴿إن الله بريء من المشركين ورسوله﴾ (التوبة: 3). ومثل هذا في القرآن والسنة كثير[51].

خصوصا وأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان أفصح العرب لسانا وأوضحهم بيانا وأعذبهم نطقا وأسدهم لفظا، وأبينهم لهجة وأقومهم حجة، وأعرفهم بمواقع الخطاب وأهداهم إلى طرق الصواب، تأييدا إلهيا، ولطفا سماويا، وعناية ربانية ورعاية روحانية، حتى لقد قال له علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وسمعه يخاطب وفد بني نهد، يا رسول الله نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره فقال “أدبني ربي فأحسن تأديبي وربيت في بني سعد”[52].

فكان، صلى الله عليه وسلم، يخاطب العرب على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، وتباين بطونهم وأفخاذهم وفصائلهم، كلا منهم بما يفهمون ويحادثهم بما يعلمون[53].

وقد اشتهرت العرب بتفننها في كلامها، فهي تخاطب بالعام تريد ظاهره وبالعام تريد به الخاص والظاهر تريد به غير الظاهر وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة والأشياء الكثيرة باسم واحد، وتستعمل الاستعارة والكتابة والمجاز والتشبيه وغيرها مما يزيد اللغة العربية بهاء وجمالا ورونقا.

والعرب كثيرا ما تستعمل المجاز وتعده من مفاخر كلامها فإنه دليل الفصاحة، ورأس البلاغة وبه بانت لغتها عن سائر اللغات…

والمجاز في كثير من الكلام أبلغ من الحقيقة، وأحسن موقعا في القلوب والأسماع وما عدا الحقائق من جميع الألفاظ ثم لم يكن محالا محضا فهو مجاز، لاحتماله وجوه التأويل[54] ويمثلون له بأمثلة كثيرة منها: ﴿يأيها الناس علمنا منطق الطير﴾ (النمل: 16).

﴿واسأل القرية﴾ (يوسف: 82) ﴿وأُشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم﴾ (البقرة: 92) ﴿والله خير الماكرين﴾ (آل عمران: 53، والأنفال: 30) وكثير من أحاديث الرسول يجب أن تحمل على المجاز وإلا أسيء فهمها وحرفت عن مقاصدها.

ويشترط العلماء هنا عدم التوسع في التأويلات المجازية وأن يكون التأويل مستساغا من غير تعسف ولا تكلف ولا تمحل أو تحميل للنص ما لا يحتمل.

ز. التفريق بين الغيب والشهادة

وهذه القاعدة خاصة بتحديد إمكانيات العقل البشري ودوره حيال النص الإلهي. فالإسلام يقرر ابتداء وجود عالمين على الفرد أن يؤمن بهما كشرط لقبول إسلامه، هما: عالم الغيب وعالم الشهادة، حيث تقول الآيات الأولى من الكتاب ﴿ألم ذلك الكتاب لا ريب، فيه هدى للمتقين الذين يومنون بالغيب، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون﴾ (البقرة: 1-2).

وعالم الغيب هذا خارج عن نطاق وحدود الزمان والمكان: المقولتين اللتين يعمل من خلالهما العقل واللتين لابد أن يكون موضوع تفكيره واقعا تحتهما، أما عالم الغيب: الله والملائكة والسموات والجن والآخرة فهذه أمور لا يدركها العقل ولا يستطيع أن يعرفها معرفة تفصيلية بنفسه، وإنما دوره حيالها هو التلقي والفهم والتصديق[55].

فالواجب على العالم المسلم هنا أن يسلم بما صح ثبوته حسب قواعد أهل العلم، وسلف الأمة المقتدى بهم، ولا يجوز رده لمجرد مخالفته لما عهدناه، أو استبعاد وقوعه تبعا لما ألفناه، حتى لا نقع في ما وقعت فيه كثير من العقول العربية المسلمة التي أصابها الانبهار من أنباء النهضة العلمية في أوروبا. فقد راحت تلك العقول تتوهم، تحت تأثير ذلك الانبهار، أنه ليس بين المسلمين وبين أن ينهضوا مثل تلك النهضة إلا أن يفهموا الإسلام هنا كما فهمت أوروبا النصرانية هناك. وأن يضعوا حقائق الإسلام الغيبية من وراء اكتشافات العلوم المادية. فلا يؤمنوا بغيب لم يدركه علم ولا يعرجوا على معجزة لم يؤيدها اكتشاف أو اختراع. فإذا فعلوا ذلك نهضوا نهضة أوروبا في علومها ولحقوها في رقيها وفنونها[56].

وهكذا نجد هذه الفئة من الباحثين قد أصابها طائف من المبالغة حيث أسرفت في الخضوع للعقل، كما أسرفت في الحذر من تقبل حقائق الغيب التي قد لا تتمشى مع عقلية العصر وسمة الحضارة المادية فوقعوا نتيجة إيمانهم الشديد بالعقل، واعتباره في مرتبة مساوية مع الوحي في محاولة إخضاع الوحي لمقرراته حتى تبدو حقائقه معقولة ومقبولة، مسايرة منهم لروح الحضارة السائدة في عصرهم دفاعا عن الإسلام وحرصا منهم على نشره (وعن قصد عند آخرين) بيد أن نتائج هذا المنهج كثيرا ما تكون خاطئة وخارجة عن المضمون الحقيقي للحقائق القرآنية ومن ثم يأتي النسق الفكري الإسلامي غير متوافق ولا متوازن أو متساند، ويحمل في طياته كثيرا من الثغرات ووجوه النقد[57].

ج‌. التأكد من مدلولات ألفاظ الحديث

قال د. يوسف القرضاوي: “ومن المهم جدا لفهم السنة فهما صحيحا: التأكد من مدلولات الألفاظ التي جاءت بها السنة، فإن الألفاظ تتغير دلالاتها من عصر لآخر ومن بيئة لأخرى، وهذا أمر معروف لدى الدارسين لتطور اللغات وألفاظها وأثر الزمان والمكان فيها[58] ومن الأمور المهمة هنا معرفة غريب الحديث:

وهو عبارة عما وقع في متون الأحاديث من الألفاظ الغامضة البعيدة من الفهم لقلة استعمالها. وهو فن مهم قال ابن الصلاح: “هذا فن مهم يقبح جهله بأهل الحديث خاصة ثم بأهل العلم عامة والخوض فيه ليس بالهين والخائض فيه حقيق بالتحري جدير بالتوقي… سئل أحمد بن حنبل عن حرف من غريب الحديث فقال سلوا أصحاب الغريب فإني أكره أن أتكلم في قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالظن فأخطئ[59].

3.  حسن تنزيل النص

والتنزيل غير الفهم، “الفهم يهدف إلى تحصيل صورة المراد الإلهي في الأوامر والنواهي”[60].

أما التنزيل فهو يتعلق “بالوصل بين الوحي والواقع على معنى تبيين المسالك والكيفيات التي يأخذ بها الوحي مجراه نحو الوقوع، ويأخذ بها الواقع مجراه نحو التكيف بإلزامات الوحي”[61] وهو ما اصطلح على تسميته في علم الأصول بـ: تحقيق المناط” أي الوصل بين النص والواقع ولابد لذلك من أصلين رئيسيين:

أ. العلم بمقاصد الأحكام

وهي المقاصد التي أراد الله أن تتحقق خلافة الإنسان على أساسها، وجماع هذه المقاصد تحقيق مصلحة الإنسان وخيره في الدنيا والآخرة[62] وقد قسمها العلماء إلى ثلاثة أقسام:

1. ضرورية: لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا.

2. حاجية: يفتقر إليها في التوسعة ورفع الضيق.

3. تحسينية: ويراد بها الأخذ بما يليق من محاسن العادات.

وقسموا الضرورية إلى مقاصد كلية خمسة: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ النسل، حفظ المال، حفظ العقل، ولا يتسع المقام هنا لتفصيل ذلك كله، ويرجع في ذلك إلى:

ـ الموافقات للإمام الشاطبي.

ـ مقاصد الشريعة لابن عاشور.

ـ مقاصد الشريعة لعلال الفاسي.

ـ نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي د. أحمد الريسوني وغيرها من كتب المقاصد.

ب. العلم بالواقع

المقصود بالواقع في هذا المقام الأفعال الإنسانية التي يراد تنزيل الأحكام عليها وتوجيهها بحسبها”[63] فالحكم على الشيء فرع من تصوره” وإنما كان هذا العلم بالواقع أساسا في تنزيل الأحكام لأنه يفضي أخيرا إلى تقدير ما إذا كان الفعل الإنساني المحقق فيه يندرج تحت هذا الحكم المعين لينزل عليه، أو يندرج تحت حكم آخر فينزل عليه ذلك الحكم الآخر، وتقدير ما إذا كان هذا الفعل مستجمعا للشروط التي تجعل تنزيل الحكم عليه مؤديا إلى تحقيق مقصد الشرع فينزل، أو غير محقق فلا ينزل”[64] وقد خصص ابن القيم فصلا نفيسا من كتابه القيم” “أعلام الموقعين عن رب العالمين” لـ: “تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأحوال”[65].

خاتمة

وخير ما نختم به هذا البحث قول العلامة القاضي عياض، رحمه الله، في كتابه القيم الإلماع: وكل هذا إنما يوصل إليه ويعرف بالتطلب والرواية، والبحث والتنقير عنه، والتصحيح له.

ورحم الله سلفنا من الأئمة المرضيين، والأعلام السابقين والقدوة الصالحين من أهل الحديث وفقهائهم قرنا بعد قرن، فلولا اهتبالهم بنقله، وتوفرهم على سماعه وحمله، واحتسابهم في إذاعته ونشره، وبحثهم عن مشهوره وغريبه، وتنخيلهم لصحيحه من سقيمه لضاعت السنن والآثار ولاختلط الأمر والنهي، وبطل الاستنباط والاعتبار، كما اعترى من لم يعتن بها، وأعرض عنها بتزيين الشيطان ذلك له، من الخوارج والمعتزلة وضعفة أهل الرأي حتى انسل أكثرهم عن الدين، وأتت فتاويهم ومذاهبهم مختلة القوانين، وذلك لأنهم اتبعوا السبل وعدلوا عن الطريق، وبنوا أمرهم على غير أصل وثيق ﴿أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم، والله لا يهدي القوم الظالمين﴾ (التوبة-110)[66].

انظر العدد 9 من مجلة الإحياء

نحو منهج متكامل لحسن فهم السنة

الهوامش


1. انظر كتاب: قواعد منهجية للباحث عن الحقيقة في القرآن والسنة د. فاروق أحمد حسن، ص5-6.

2. المرجع نفسه، ص8.

3. تلبيس إبليس لابن الجوزي، ص118.

4. الكفاية في علوم الرواية للخطيب البغدادي، ص52.

5. انظر مقدمة صحيح مسلم.

6. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 137/15.

7. العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم-لابن العربي، ص247-24.

8. أحكام القرآن لابن العربي 1637/4.

9. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس 884/3.

10. السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، ص63.

11. المرجع نفسه، ص68-69.

12. كيف نتعامل مع السنة، ص33.

13. كيف نتعامل مع السنة النبوية للدكتور يوسف القرضاوي ص93.

14. الحديث أخرجه البخاري في ثلاثة مواضع: 1. كتاب الإيمان باب المعاصي من أمر الجاهلية. 2. كتاب الديات باب قول الله تعالى: “ومن أحياها”. 3. كتاب الفتن: باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما.

ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة إذا تواجه المسلمان بسيفهما.

وأبو داود في الفتن باب النهي عن القتال في الفتنة.

والنسائي في المحاربة باب تحريم القتل. وأحمد في مسنده 100/2 و401/4 و403 و418 وغيرها.

15. شرح النووي على مسلم ج: 18، ص11 (خلال شرحه لحديث إذا تواجه المسلمان من كتاب الفتن).

16. انظر كتاب قواعد منهجية، ص14.

17. رواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان باب غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف.

 وأبو داود في اللباس باب ما جاء في إسبال الإزار.

 والترمذي في البيوع باب ما جاء فيمن حلف على سلعة كاذبا.

والنسائي في الزكاة باب المنان بما أعطى.

وفي البيوع باب المنفق سلعته بالحلف الكاذب، وفي الزينة باب إسبال الإزار.

وفي التفسير باب قوله تعالى: “إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا”.

وابن ماجة في التجارات باب ما جاء في كراهية الأيمان في الشراء والبيع.

18. المرجع نفسه.

19. انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، 275/10.

20. أخرجه البخاري كتاب الحرث والمزارعة باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو مجاوزة الحد الذي أمر به.

21. انظر كيف فهم العلماء هذا الحديث في الفتح 7/5.

22. فتح المغيث 81/3.

23. انظر معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم للراغب الأصفهاني مادة: خلف، ص156-158.

24. مشكل القرآن لابن قتيبة، ص40.

25. مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية، ص38.

26. الاعتصام للشاطبي 247/1.

27. الرسالة للإمام الشافعي، ص341.

28. معالم السنن للخطابي، 80/3.

29. أخرجه الترمذي في كتاب الزهد باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون قبل أغنيائهم وابن ماجة في الزهد باب مجالس الفقراء

30. تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، ص157.

31. أخرجه: البخاري في كتاب الوصايا باب نفقة القيم للوقف.

وفي كتاب فرض الخمس باب نفقة نساء النبي، صلى الله عليه وسلم، بعد وفاته.

وفي كتاب الفرائض باب لا نورث ما تركنا صدقة.

ومسلم في كتاب الجهاد والسير باب قول النبي، صلى الله عليه وسلم، لا نورث ما تركنا فهو صدقة

وأبو داود في كتاب الخراج باب في صفايا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الأموال.

والترمذي في الشمائل ما جاء في ميراث رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

32. تأويل مختلف الحديث، ص280-282.

33. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب فضل عيادة المريض.

34. مشكل الحديث وبيانه لابن فورك، ص151.

35. أخرجه: الترمذي في كتاب الجنائز باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء وأبو داود في كتاب الجنائز باب زيارة النساء القبور.

والنسائي في كتاب الجنائز باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور.

وابن ماجة في كتاب باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور.

36. رواه أحمد والحاكم عن أنس.

37. الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي، 1/83.

38. مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية، ص47.

39. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب أول من قال بالقدر.

40. أخرجه الأربعة وصححه ابن خزيمة والحاكم وابن حبان.

 وأبو داود في كتاب الطهارة: باب ما ينجس الماء.

 والترمذي في كتاب الطهارة باب أن الماء لا ينجسه شيء.

 والنسائي في كتاب الطهارة باب التوقيت في الماء.

وابن ماجة في كتاب الطهارة مقدار الماس الذي لا ينجس.

41. أخرجه الترمذي في آخر تفسير سورة الإسراء.

42. محاسن الاصطلاح وتضمين مقدمة ابن الصلاح لسراج الدين البقيني، ص632-633.

43. رواه مسلم في كتاب الفضائل باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره – صلى الله عليه وسلم-من معايش الدنيا على سبيل الرأي.

44. أخرجه أبو داود في العتق باب عتق ولد الزنا وأحمد في مسنده، ج: 2، ص311، والحاكم في مستدركه في كتاب العتق وقال صحيح على شرط مسلم.

45. رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب في الإقامة بأرض الشرك.

والترمذي في السير باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين.

46. كيف نتعامل مع السنة، ص125.

47. المرجع نفسه، ص139.

48. الصاحبي في فقه العربية وسنن العرب في كلامها لابن فارس، ص50.

49. انظر الموافقات، 2/64.

50. اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص162-163.

51. رسائل ابن حزم 3/162-163.

52. أخرجه العسكري في الأمثال وانظر المقاصد الحسنة للسخاوي، ص9.

53. النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير ¼.

54. العمدة لابن رشيق القيرواني 1/265-266.

55. قواعد منهجية للباحث عن الحقيقة في القرآن والسنة، ص19-20.

56. فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، ص8.

57. قواعد منهجية، ص21-22.

58. كيف نتعامل مع السنة، ص179.

59. مقدمة ابن الصلاح النوع الثاني والثلاثون، ص274-275.

60. خلافة الإنسان بين الوحي والعقل بحث في جدلية النص والعقل والواقع، د. عبد المجيد النجار، ص115.

61. المرجع نفسه، ص115.

62. المرجع نفسه، ص118.

63. خلافة الإنسان بين الوحي والعقل بحث في جدلية النص والعقل والواقع د. عبد المجيد النجار، ص120.

64. خلافة الإنسان بين الوحي والعقل بحث في جدلية النص والعقل والواقع، د. عبد المجيد النجار، ص121.

65. انظر إعلام المواقعين، ج: 3، ص52.

66. الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع للقاضي عياض:7.

الوسوم

ذ. محمد مشان

بني ملال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق