مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

موقف الصوفية من الكرامات: محاولة لتأصيل المفهوم

حورية بن قادة: باحثة مساعدة بمركز الإمام الجُنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة.

كثيرا ما يُتّهم الصوفية بالسعي إلى تحصيل الكرامات وابتغائها، في حين أن المقصد الأسنى لسلوك التصوف هو تزكية النفس وتخليصها من صفاتها المذمومة كالرياء والنفاق، وكل ما يحجب عن الله…، وتحليتها بالصفات الحميدة، بحيث لا يبتغي الصوفي إلا وجه الله تعالى ورضاه…

        فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكرم أحبابه وأولياءه بأنواع من خوارق العادات تكريما لهم على إيمانهم وإخلاصهم، وتأييدا لهم في جهادهم ونصرتهم لدين الله، وإظهارا لقدرة الله تعالى ليزداد الذين آمنوا إيمانا، وبيانا للناس أن القوانين الطبيعية والنواميس الكونية، إنما هي من صنع الله وتقديره، وأن الأسباب لا تؤثر بذاتها، بل الله تعالى يخلق النتائج عند الأسباب لا بها، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.

        أما عن موقف الصوفية من الكرامات وخوارق العادات، فإننا نجد موقفا متميزا يقوم في الأساس على الالتزام بموقف الشريعة الإسلامية من الكرامات، فالصوفية يرون أن الكرامة الحقيقية إنما هي في الاستقامة على الشريعة، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول الإمام أبو الحسن الشاذلي: “ما ثم كرامة أعظم من كرامة الإيمان، ومتابعة السنة، فمن أُعطيهما وجعل يشتاق إلى غيرهما فهو عبد مفتر كذاب، أو ذو خطأ في العلم بالصواب، كمن أكرم بشهود الملك فاشتاق إلى سياسة الدّواب”، وكان يقول أيضا: “كل كرامة لا يصحبها الرضا من الله، وعن الله، والمحبة لله، فصاحبها مستدرج مغرور، أو ناقص هالك مثبور”.[1]

        فالكرامة عندهم ليست في خرق عوائد النفس وقطع مألوفها، ولا في خرق عوائد الطبيعة وقطع عقباتها، بل إن الصوفية يعتقدون أن الوقوف مع الكرامات يحجب عن الله، بل هو مدعاة للغرور، كما أن من مواقفهم أن الخوارق قد تتهيأ لمن لم يكمل في مقام التصوف. وفي هذا يقول الشيخ أبو عبد الله القرشي: “من لم يكن كارها لظهور الآيات وخوارق العادات منه، كراهية الخلق لظهور المعاصي، فهو في حقه حجاب، وسترها عليه رحمة، فإن من خرق عوائد نفسه لا يريد ظهور شيء من الآيات وخوارق العادات له، بل تكون نفسه عنده أقل وأحقر من ذلك، فإذا فني عن إرادته جملة فكان له تحقق في رؤية نفسه بعين الحقارة والذلة، حصلت له أهلية ورود الألطاف، والتحقق بمراتب الصديقين”.[2]

        وقال علي الخواص: “الكُمّل يخافون من وقوع الكرامات على أيديهم، ويزدادون بها وجلا وخوفا، لاحتمال أن تكون استدراجا”.[3]

وأشار أبو القاسم القشيري إلى ذلك بقوله: “واعلم أن من أجلِّ الكرامات التي تكون للأولياء: دوام التوفيق للطاعات، والعصمة من المعاصي والمخالفات”.[4]

        ثم إن الكرامة قد تكون طيّا للأرض ومشيا على الماء، واطلاعا على كوائن كانت وكوائن لم تكن بعد من غير طريق العادة، وتكسير الطعام أو الشراب، أو إتيانا بثمرة في غير أوانها، أو إيجاب الدعوة بإتيان مطر في غير وقته، أو صبرا عن الغذاء مدة تخرج عن طور العادة…، فهذه كلها كرامات ظاهرة حسية، وهناك كرامات أخرى أفضل وأجلّ، وهي الكرامات المعنوية كالمعرفة بالله والخشية، ودوام المراقبة، والمسارعة لامتثال أمره ونهيه والرسوخ، ثم اليقين والقوة والتمكين ودوام المتابعة والاستماع من الله، والفهم عنه ودوام الثقة به، وصدق التوكل عليه إلى غير ذلك…[5]

        من جهة أخرى يؤكد الشيخ أبو العباس المرسي على البعد التربوي للكرامة، وأن الكرامة إنما هي في تربية النفس وتخلصها من أوصافها الردية، فيقول- رحمه الله تعالى-: “الطي على قسمين: طي أصغر، وطي أكبر، فالطي الأصغر: لعامة هذه الطائفة أن تطوى لهم الأرض من مشرقها إلى  مغربها في نفس واحد. والطي الأكبر: طي أوصاف النفوس”، ويعقب ابن عطاء الله السكندري على ذلك فيقول: “وصدق والله- رضي الله عنه-، فإن طي الأرض لو عجز عنه أو فقده ما نقص ذلك من رتبتك عنده إذا قمت له بالوفاء في العبودية وطي أوصاف النفوس، لو لم تقدم عليه به لكنت من المغبونين وحشرت في زمرة الغافلين.[6]

        ثم إن السادة الصوفية لا يعتبرون ظهور الكرامات على يد الولي الصالح دليلا على أفضليته على غيره، وفي ذلك قال الإمام اليافعي- رحمه الله تعالى-: “لا يلزم أن يكون كل من له كرامة من الأولياء أفضل من كل من ليس له كرامة منهم، بل قد يكون بعض من ليس له كرامة منهم، أفضل من بعض من له كرامة؛ لأن الكرامة قد تكون لتقوية يقين صاحبها، ودليلا على صدقه وعلى فضله لا على أفضليته، وإنما الأفضلية تكون بقوة اليقين، وكمال المعرفة بالله تعالى”.[7]

وذُكر عند سهل بن عبد الله التستري الكرامات، فقال: “وما الآيات وما الكرامات؟! أشياء تنقضي لوقتها، ولكن أكبر الكرامات أن تبدل خلقا مذموما من أخلاق نفسك بخلق محمود”.[8]

        وعليه، فإن الكرامة الحقيقة إنما هي في حصول الاستقامة والوصول إلى كمالها، من صحة الإيمان بالله عز وجل، واتباع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا، فالواجب على العبد أن لا يحرص إلا عليهما، ولا تكون له همة إلا في الوصول إليهما…، وأما الكرامة بمعنى خرق العادة فلا عبرة بها عند المحققين إذ قد تظهر على من لم تكتمل استقامته، أو كان مستدرجا في الطريق…

        وعلى هذا، فإننا حين نرى أحدا من الناس يأتي بخوارق العادات لا نستطيع أن نحكم عليه بالولاية، ولا يمكن أن نعتبر عمله هذا كرامة حتى نرى سلوكه وتمسكه بشريعة الله. قال أبو يزيد البسطامي في ذلك: “لو أن رجلا بسط مصلاّة على الماء وتربّع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه في الأمر والنهي”.[9]

        وكلام أئمة القوم في هذا الشأن واسع، نكتفي بهذا القدر، لنختم بقول الشيخ أحمد زروق، والذي ضبط بقواعده أسس الطريق، قال- رحمه الله تعالى-: “كل شيخ لم يظهر بالسنة فلا يصح اتباعه لعدم تحقق حاله، وإن صح في نفسه وظهر عليه ألف ألف كرامة من أمره”.[10]

 

الهوامش 

 

[1]– الطبقات الكبرى، الإمام الشعراني (ت973ھ)، تحقيق: عبد الغني محمد علي الفاسي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 2006م، ص: 294.

[2]– حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، المقطم للنشر والتوزيع، ط: 1426ھ-2005م، ص: 297.

[3]– اليواقيت والجواهر، عبد الوهاب الشعراني (898-973ھ)، دار صادر، بيروت، ط1، 1424ھ-2003م، 2/353.

[4]– الرسالة القشيرية، أبو القاسم القشيري (ت465ھ)، تحقيق: معروف مصطفى زريق، المكتبة العصرية، بيروت، ط: 1426ھ-2005م، ص: 356.

[5]– لطائف المنن، ابن عطاء الله السكندري (ت707ﮪ)، تحقيق: خليل منصور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1427ﮪ-2005م، ص: 43.

[6] – لطائف المنن، ص: 44.

[7] – حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، ص: 300.

[8] – اللمع، أبو نصر السراج الطوسي (ت378ھ)، تحقيق: عبد الحليم محمود، وطه عبد الباقي سرور، مكتبة الثقافة الدينية، د.ط، 1423ﮪ-2002م، ص: 400.

[9] – اللمع، ص: 400.

[10] – قواعد التصوف، أحمد زروق (ت899ھ)، تحقيق: عبد المجيد خيالي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط3، 1428ھ-2007م، ص: 135، القاعدة: 224.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق