مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

من مقاصد الصوم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلوات ربي وسلامه على نبي الرحمة، صلى الهّ عليه وعلى آله ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين
ثم أما بعد
ضيف كريم حل برحابنا، وأناخ ركابه بفنائنا، حاملا معه نياشين التتويج بالمكرمات، وميسم الوسم بمرغوب المنى والطلبات، “شَهْرُ رَمضَانَ الذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْءانُ..” لكن قلة هم من يقدرونه قدره، ويعرفون له منزلته ومكانته، متزودين منه ما يلحقهم بركب المتقين، و يصلهم بجموع السابقين المقربين، إذ ذلك مقصده الأكبر ، ومتغياه الأجل الأعظم ، “يأيُّها الذينَ آمنُوا كُتِبَ عَليكُمُ الصِّيامُ كما كُتِبَ عَلى الذينَ مِن قَبْلِكمْ لَعلَّكُمْ تَتَقُّونَ”، [البقرة:183] فحقيقة الصوم المفترض -والذي يتحدث عنه أرباب القلوب- هو المحصل للتقوى، إذ هي علة مشروعيته، كما هو صريح الآية، وحول هذا الصوم تدندن إشارات العارفين، فهو صوم مخصوص بعمل مخصوص للتحقق بمقام مخصوص، لا مجرد التجافي عن المطعوم والمشروب، وبين هذه و تلك مراتب ومقامات، أدناها ما هو مبرئ للذمة، ومسقط لعهدة التكليف، وأعلاها ما يسمو بالعبد إلى النهل من منزلة الإحسان، وارتشاف ضرَب الإيمان، تشوفا لطهر الروح وصفائها، و تحقيقا لصفاء النفس وجمالها، يغدو معه المكلف محمولا لا حاملا، مترقيا بانتشاء في منازل الصفوة من خلص العباد.
و باستحضار هذا المفهوم يكون الصوم فرصة سنية لتحرير القلوب من أسرها، وميدان فساح لتباري النفوس وتنافسها، وظرف ملهم لإعادة تأميمها إلى سديد وجهتها، فما امتناع المكلف عن ما به قوام عيشه طوال مدة الصوم إلا لتحصل له الذكرى بما هو بالمنع أحق وأولى، فيتباعد عن خوارم كمال صيامه، ويتخلص من زوائد طبعه وخلاله، ويتشوف إلى إخراجه على وفق مقصده، مجتهدا ومثابرا للتحقق بالخصال المورثة لهذه المقصد الكُبَّار، و شعيرة الصوم من أرجى الأعمال المحققة لهذا المعنى، قال ابن القيم رحمة الهب عليه: “الصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى.”
وعلى هذا الوزان تفهم النصوص الواردة في تجلية حقيقة الصوم، وبيان مقصد مشروعيته، وما ينبغي أن ينزه الصائم عنه صومه، كقوله صلى الله عليه وسلم: فيما ما رواه أبو هريرة “الصِّيامُ جُنَّةٌ.”
و عنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رُبَّ صائمٍ ليسَ لهُ من صَومِهِ إلَّا الجُوعُ ، ورُبَّ قائمٍ لَيسَ مِن قِيامِهِ إلَّا السَّهرُ. ”
وله أيضا “مَن لَّم يدعْ قَولَ الزُّورِ والعَملَ بهِ فليسَ لله حاجةٌ في أَن يدَعَ طَعامَه وشَرابَه ” رواه البخاري.
ونظرا لتفاوت الناس في توقيع هذه الشعيرة، جعل الإمام الغزالي رحمة الله عليه أحوالهم فيها أزواجا ثلاثة، قال رحمة الله عليه: “الصوم ثلاث درجات، صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص، وأما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة كما سبق تفصيله، وأما صوم الخصوص فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وأما صوم خصوص الخصوص؛ فصوم القلب عن الهضم الدنية والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية، ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر فيما سوى الله عز وجل واليوم الآخر، وبالفكر في الدنيا، إلا دنيا تُراد للدين، فإن ذلك من زاد الآخرة وليس من الدنيا…المقصود من الصوم التخلق بخلق من أخلاق الله عز وجل؛ وهو الصمدية، والاقتداء بالملائكة في الكف عن الشهوات بحسب الإمكان، فإنهم منزهون عن الشهوات، والإنسان رتبته فوق رتبة البهائم لقدرته بنور العقل على كسر شهوته، ودون رتبة الملائكة لاستيلاء الشهوات عليه، وكونه مبتلى بمجاهدتها، فكلما انهمك في الشهوات انحط إلى أسفل السافلين والتحق بغمار البهائم، وكلما قمع الشهوات ارتفع إلى أعلى عليين والتحق بأفق الملائكة، والملائكة مقربون من الله عز وجل، والذي يقتدي بهم ويتشبه بأخلاقهم يقرب من الله عز وجل كقربهم، …ولهذا قال أبو الدرداء يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم، كيف لا يعيبون صوم الحمقى وسهرهم، ولذرة من ذوي يقين وتقوى أفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغترين، ولذلك قال بعض العلماء كم من صائم مفطر، وكم من مفطر صائم، والمفطر الصائم هو الذي يحفظ جوارحه عن الآثام ويأكل ويشرب، والصائم المفطر هو الذي يجوع ويعطش ويطلق جوارحه، ومن فهم معنى الصوم وسره علم أن مَثَل من كفَّ عن الأكل والجماع وأفطر بمخالطة الآثام، كمن مسح على عضو من أعضائه في الوضوء ثلاث مرات فقد وافق في الظاهر العدد إلا أنه ترك المهم وهو الغسل، فصلاته مردودة عليه بجهله، ومثل من أفطر بالأكل وصام بجوارحه عن المكاره كمن غسل أعضاؤه مرة مرة، فصلاته متقبلة إن شاء الله لإحكامه الأصل، وإن ترك الفضل، ومثل من جمع بينهما كمن غسل كل عضو ثلاث مرات، فجمع بين الأصل والفضل وهو الكمال، وقد قال صلى الله عليه وسلم إن الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته.”
ولله دره من كلام صادر عن عالم خريت بطبائع النفوس ونزواتها

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق