مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب (10)

بسم الله الرحمن الرحيم
توجيه المغايرة بين تقديم أو تأخير لفظتي “القرآن و الناس”
عند ثلاث مواضع من الكتاب
إن في تنزل الكتب السماوية لنعمة إلهية عظمى، ومنة ربانية جلى، فهل كانت البشرية دونها تهتدي لمراشدها؟ أم هل كانت تجد إجابات شافية لما يختلج بصدورها؟ أوَ كانت تهتدي بعقولها إلى إدراك سر وجودها؟ إنها حكمة الله العالم بخبايا النفوس وما يصلحها، فما كان له أن يخلق الخلق ويهمله، و لا أن يوجده ويطرحه، ولا يمكنه من أسباب إسعاده وإنجاده، والأخذ بيده إلى نهج السواء على بينة دون عوج والتواء، وذلكم من أخص خصائص ربوبيته سبحانه؛ خلق وتقدير مشفوع بهداية وتدبير، تحننا منه بعباده سبحانه، ” الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى” [الأعلى:2-3] فإذا كان المبتكرون والمخترعون في دنيا الناس يمكنون المستفيد من ابتكاراتهم بدليل كاشف لكيفية الاستعمال، فإن دور الكتب السماوية لا يحيد عن هذه الغاية، -ولله المثل الأعلى- فالله الذي أحكم خلق الإنسان، فسواه في أحسن تقويم، وركبه على أبدع صورة، أتم نعمته عليه فأنزل له كتبا هادية، فرقانا يميز بها الحق من الباطل، ويبصـر بها مواقع الخطر ومظنة الزلل..
وإذا كان كتابه الخاتم ناسخا لما تقدمه من الكتب، فلا شك أنه سيكون مهيمنا عليها، مكتنزا لما تفرق في مجموعها، رافعا للإصر والعنت الذي اكتنف بعض أحكامها، حاملا من التخفيف والتيسير ما يغري بالاستمساك بشـريعته، وتهذيب النفس وتزكيتها على ضوء هداياته، حاثا الثقلين على النهل من معينه، و الكرع من زلال نميره؛ فهو الهدى والنور والضياء، و هو غداء الأرواح و الشفاء من الأدواء.. “يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمِّا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ” [يونس:57]و إن الآيات التي تخطب ود الإنسان، وتروم لفت انتباهه للتأدب من مأدبة القرآن؛ إقبالا عليه تدبرا، وإجالة للفكر فيه تمثلا، لهي من الكثرة بمكان، أقف فقط عند ثلاث مواضع مشتبهة، يكاد تركيبها يتداخل، و سياق ورودها يتشابه، مما يستدعي من الطالب حال استظهارها التركيز الكامل والانتباه الدقيق، -كمن يمر بمنعرج خطير إن غفل عنه لم يأمن الزلل- وذلك حتى لا تتداخل عليه الآيات، ويتمكن من عزو كل آية لموضعها.
الموضع الأول في سورة الإسراء، عند قوله تعالى: “وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا” [الآية: 41]، والثاني قوله تعالى من نفس السورة: “وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا” [الآية: 89]، الموضع الثالث بسورة الكهف، “وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا” [الكهف: 54].
فالأول ذكر فيه لفظ القرآن فقط، والثاني قدم فيه لفظ الناس على لفظ القرآن، وفي الموضع الأخير قدم القرآن وأخر الناس، فترتب عن هذا التغاير في التركيب تشويش على الحافظ، في أي المواضع ذكرا معا؟ وإن تعين موضع ورودهما معا فأي اللفظتين تقدم؟ وما الموضع الذي اطرح منه أحدهما؟ فتيسيرا على صغار الطلبة، وضع المعلمون أمارة يسهل بها تعيين موضع كل واحد منها، فقالوا: ” ادخل في الثاني بالناس، واخرج في الثالث بالناس”، فالثاني هو الموضع الثاني في سورة الإسراء، والثالث هو موضع الكهف، وبقي الأول مهملا وهو موضع الإسراء الأول، فيعلم أنه هو الخلو من ذكر لفظة الناس.
هذا على سبيل التبسيط للحذق بمواطن التشابه، لكن التركيب القرآني الفريد وراءه ما وراءه من الأسرار، التي يفتح الله بها على الخلص من المصطفين الأخيار، فمن التوجيهات اللطيفة المستحسنة لإدراك سر التقدم والتأخر والإغفال في هذه المواضع ما ذكره أحمد بن الزبير الغرناطي قال رحمه الله:
“سورة بني إسرائيل –الإسراء-
الآية الأولى قوله تعالى: “وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا” [الإسراء: 41]، وفيما بعد: “وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا”، [الإسراء: 89]، وفي الكهف: “وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا” [الكهف: 54]، ففي الأولى: “وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ”، وفي الثانية: ” لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ”، وفي الثالثة: بتأخير الناس، يسأل عن ذلك؟
والجواب عنه، والله أعلم: أن الأولى وقع قبلها: “أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا”، [الإسراء: 40]، وهذا خطاب مراد به كفار العرب، فلم يذكر فيه لفظ الناس العام لهم ولغيرهم، إذ الخطاب خاص بهم.
وأما الآية الثانية فقبلها: “قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ” [الإسراء: 88]، ثم قال تعالى: “وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ” [الإسراء: 89]، فخص الفريقين، وعين ممن ذكر الناس اعتناء بهم، أعني بالجنس الإنساني، ليظهر شرفهم على الجن، وقدم الناس لما يعطيه تقديم المجرور، وقد مر هذا، وأيضاً فلثقل التكرر فيما تقارب، ولو قيل: ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل فأبي أكثر الناس إلا كفوراً،لجاء لفظ الناس كأنه قد أعيد متصلاً، والعرب تستثقل مثل هذا، فقدم المجرور ليستحكم الفصل فلا يستثقل.
أما آية الكهف فلم يتكرر فيها لفظ الناس فيقع استثقال، فقدم قوله: “فِي هَذَا الْقُرْآنِ” [الكهف: 54]، لأن تقديمه أهم، إذ هو أبلغ في تنبيههم على الاعتبار… فلم يقع قبلها ذكر الثقلين معاً فيحتاج إلى ذكر تقديم الناس كما احتيج في آية الإسراء، ألا ترى أن فصل آية الكهف: “وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ” [الكهف: 52] الآية، فلم يرد فيها ما في الأخرى، وكان الأهم ذكر القرآن الشافي لمعتبَرِ ما صرِّف فيه من الأمثال، فقيل: “وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ” [الكهف: 54]، ولكون الخطاب عاماً في الإنسان لم يكن بد من ذكر الناس، بخلاف الآية الأولى من سورة الإسراء، إذ خطابها خاص بالقائلين من كفار العرب: إن الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فقد ورد كل من هذه الآيات على ما يناسب ويلائم ما اتصل به.
وأما ختام الأولى بقوله: “وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا” [الإسراء: 41] فالضمير للمذكورين ممن خص بمقصود الخطاب المكنى عنهم بقوله: “لِيَذَّكَّرُوا”، وأما إعقاب الثانية بقوله: “فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا” [الإسراء: 89] فلتعطي إعادة الظاهر من التعنيف والتقريع ما لا يعطيه المضمر، ولأن أول الخطاب وصدر الآية لما قدم فيه ذكر الناس لشرف الجنس الإنساني على الجن، ثم لم يكن ممن لم يؤمن إلا العناد، قيل: “فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ” ليعطي بفحواه إن كان قد قيل: فأبى أكثر الناس على تشريفهم وتفضيلنا إياهم إلا الكفر، فأحرز الظاهر ما لم يكن ليحرزه إضمارهم، فتأمل ذلك.
وأما قوله عقب آية الكهف: “وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا” [الكهف: 54] فمن المعلوم جدال كل كافر ومعاند عن دينه ومذهبه، قال تعالى: “يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ” [الأنفال: 6]، وقال تعالى: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ” [غافر: 69]، وإذا كان الجدال من صفة كل مخالف في مذهب أو معتقد لم يبق السؤال هنا إلا عن وجه تخصيص هذه الآية بوصف الإنسان هنا بالجدل؟ والجواب أنه وُصف هنا بذلك ليكون ختام هذه الآية تمهيداً لما سيأتي بعده من قوله تعالى: “وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ” [الكهف: 56]، فلما بُنِي هذا على الآية، واتصل الكلام والتحم نوسب بينهما، وليس في الآيتين قبل ولا فيما تقدم كل واحدة منهما أو فيما بُني عليهما ما يستدعي ذكر الجدل ولا الوصف به، فلذلك أعقبت كل واحدة منهما بما تقدم، فأعقبت الأولى بقوله تعالى: “وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا” لما بين من استدعاء الآية ذلك، وأعقبت الثانية بقوله: “فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا” لما بين أيضاً عند ذكر ذلك، وأعقبت هذه الأخرى بما يناسب ما ورد عليه بعده، وجاء كل على ما يجب” .
و لا شك أن التدبر على هذا الوزان يسعف الحافظ في إحكام متشابه القرآن، لكن لا يسلم زمامه إلا لمن قام به شرطه، وتحقق به وصفه. والموفق من وفقه الله.

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق