مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، ندب الخلق إلى استثارة الفهوم لاستكناه أسرار التنزيل، ورتب على ذلك الأجر الكبير و علق عليه الثواب الجزيل، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، أكرم من قام بالكتاب المبين، وعلى آله وأزواجه أمهات المؤمنين، و سائر الصحب أجمعين، وكل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

الاستقاء من معين الكتاب -بصفو خاطر وصفاء نفس- يفيض على التالي شلالا من الأنوار الملكوتية، من شأنها أن تنعكس على الروح طمأنينة و سكينة، وعلى القلب تجليا وفتحا، وعلى الجوارح استحثاتا واستنهاضا لمواصلة المسير، ثم قبل ذلك وبعده الشعور بلذة فتح المقفلات، والظفر بامتلاك مفاتح المستعصيات، ولإدراك المعاني الخفيات والتمكن من فك رموز العلم المشكلات نشوة توازي بل تفوق نشوة الاستمتاع بالمحسوسات، وقد قال الزمخشـري وقد ينسبها بعضهم للشافعي :
وتمايلي طربا لحلِّ عويصةٍ * أشهى وأحلى مِن مُدامة ساقي
ومن ملح العلم في هذا الباب تلك الوقفة التأملية الاستبصارية التي وقفها أحمد ابن الزبير الغرناطي عند قوله تعالى: “وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِـرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا”[النساء:128] والآية مفهمة الترخيص للزوجة تقديم بعض التنازلات استبقاء لصرح الزوجية، وضمان بقائها تحت العصمة الزوجية، وبعدها أمر الأزواج بحسن العدل بين النساء في قوله تعالى: “وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا” فأبان وجه ختم الآية الأولى بقوله تعالى “وإن تحسنوا وتتقوا” وختم الثانية بقوله: “وإن تصلحوا “، ثم وقف على مناسبة ختم الآية الأولى بوصف يفيد إحاطة الله وعلمه بأسرار النفوس، “فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا “، و مناسبة ختم الثانية بوصف يفيد التجاوز والمسامحة، وذلك قوله: ” فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا “[النساء:129].
يقول رحمة الله عليه:
“الآية الثانية عشرة” -أي من سورة النساء-
قوله تعالى: ” وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا”[النساء:128]وفى آية أخرى بعد
” وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:129]فيهما سؤالان:
قوله فى الأولى ” وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا “، وفى الثانية ” وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا “، والختامان؛ “خبيراً ” فى الأولى، و”غفوراً ” فى الثانية.
والجواب والله أعلم:
أن الآية الأولى فيما بين المرأة وزوجها، فإذا خافت منه وأرادت تآلفه وبقاءه وكينونَتها فى عصمته، فلا جناح عليهما أن تعطي شيئا من نفسها وتترك بعض حقها، كأن تؤثر ضرتها فى القسمة، أو تترك هي حظها كما فعلت سودة رضى الله عنها، أو تهب له من مالها، لا جناح عليهما فى هذا، ولا على زوجها فى قبول ذلك منها، وإن كان الطبع يأبى من إسقاط حق أو تنقصه؛ لما جبلت عليه النفوس، وإليه الإشارة بقوله تعالى: “وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ” ثم قال تعالى: ” وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا ” فندب كلا منهما إلى الإحسان والتقوى، والزوج أخص بذلك وأولى، وأن يحتمل كل منهما من صاحبه ويصبر، فإن الله مطلع عليه، خبير بما يكنه ويخفيه.
ثم قال: ” وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ” لأن القلوب لا تُملك، ولا بيد الإنسان فسادُها ولا صلاحها، فإن عَدَل فى القسمة والمحادَثة والإنفاقِ والنظرِ وبشاشة الوجه وجميل الملاقاة، – وفرضنا اجتهاده في هذا كله حتى تحصل المساواة- لم يقدر أن يميل بقلبه إلى كلهن على حال سواء: ” فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ “، بل على الإنسان أن يجتهد، وفى الحديث عنه عليه السلام: “اللهم هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك “، ” فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ” لا ممسَكة ولا مطلقة.
ثم قال تعالى: ” وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا ” والمراد ما استطعتم وكان فى إمكانكم، فإن الله يغفر لكم ما سوى ذلك.
والآية الأولى مقصودها يستدعى ما ختمت به من أنه تعالى خبير بأفعال عباده وأعمالهم الظاهرة والباطنة، ومساق هذه الأخرى يستدعي مغفرته تعالى، إذ قد عرَّفت الآية أن العدل لا يستطاع، فإن لم تكن المغفرة هلك المكلف، فورد أعقاب كل آية بما يناسب، وأما ورود ” وَإِنْ تُحْسِنُوا ” في الآية الأولى، و ورود “وإن تصلحوا ” هنا فمفهوم مما تمهد وأنسب شيء والله أعلم” .

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق