مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب

قوله تعالى في سورة يونس:وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ”

و قوله سبحانه في سورة النمل: “” وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ

 

لصرح الدين  منارات، و عروج العبد فيه تتخلله أحوال ومقامات، فليس كل سيره   بنفس الصدع، ولا كل عمله له عين الوقع، وبالأحرى قل: على محل نظر الله من العبد، فلكل مقام وُجْد و حال، ولكل منزل ذوق وطعم وجمال، أصل ذلك حديث جبريل عليه السلام في بيان معنى الإسلام والإيمان والإحسان[1]،  فجاءت أقانيم الدين ثلاثية، للعلماء فيها تفاصيل وتفاريع تنظر في مظانها من الأصول.. نتفيأ هنا فيء دعامتين من هذه الدعائم؛ باعتبار أن نبينا صلى الله عليه وسلم أمر بالاندراج تحت لوائهما هو ومن آمن به من أتباعه، ذلكم هو وصف الإيمان و وصف الإسلام، ونظرنا إليهما هنا باعتبارهما من متشابه الكتاب تلاوة، وذلك قوله تعالى في سورة يونس:   وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ” [يونس:104]، و قوله سبحانه في سورة النمل: “وأمرت أن أكون من المسلمين ” [الآية:91]، ومعلوم من الدلالة اللغوية للمصطلحين؛ أن الإيمان من التصديق، وأن الإسلام من الاستسلام، فالإسلام انقياد للعمل بظاهر الجوارح، والإيمان تصديق القلب حبا  اختياريا  لما تباشره الجوارح، يجد تباريحه بردا يريح القلب من وعثائه، فقد يسلم المرء ويستسلم ولمَّا يشبع قلبه بنور الإيمان؛ لداع من الدواعي الحاملة على ذلك.. وقد جاء القرآن بهذه التفرقة  حينما رد زعم الأعراب دعوى الإيمان، “قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” [الحجرات:14]، وإن كان كل منهما يحيل على صاحبه، فلا إيمان بلا إسلام، ولا يقبل إسلام غير مشفوع بإيمان، قال ابن عجيبة:”…فتحصَّل أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة للقلب فهو إسلام، وما واطأ فيه القلبُ اللسانَ فهو إيمان، وهذا من حيث اللغة، وأما في الشرع فهما متلازمان، فلا إسلام إلا بعد إيمان، ولا إيمان إلا بعد النطق بالشهادة إلا لعذر.[2]”  وبرعي هذا المعنى يفهم قول الأشعري: “إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيمانا[3]“.

و قد تتداخل الدلالتان إذا انفرد كل واحد منهما عن الآخر، فيكون كل من المصطلحين شاملا  لمجموع الدين، محيطا بجميع التفاصيل، تندرج فيه مجموع الجزئيات والتفاريع.. ومثاله آيتا يونس والنمل المتقدمتين، لكن لما اقترنا في سورة الحجرات انصرف كل مصطلح لدلالته الوضعية ..قال ابن جزي: “وهذا على أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والإسلام هو الانقياد بالنطق بالشهادتين والعمل بالجوارح، فالإسلام والإيمان في هذا الموضع متباينان في المعنى، وقد يكونان متفقان، وقد يكون الإسلام أعم من الإيمان فيدخل فيه الإيمان[4]“.

و لضبط هذا التغاير  في الإطلاق قالوا: إذا اجتمعا افترقا، و إذا انفردا اجتمعا.

أما من حيث ضبط المتلو، فقد يشتبه على التالي تحديد المتعين منهما في الموضعين، فيفضي به التأمل أن يميز بينها بضابط أو رمز مدكر..و الأعلى منه منزلة أن يوفق لإدراك المعنى، ثم يستصحبه للتمييز بين الأشباه والنظائر، وذا صنيع الواقفين على الأسرار، كابن الزبير الغرناطي رحمه الله، فقد استأنس بسوابق كل من الموضعين من الآي لتبين المتعين فيهما؛ ومؤدى تدبره: أن آية يونس تقدمها الحديث عن الإيمان، وأن التوفيق إليه منوط بمشيئة الله، وأن المنتفع بالذكرى من انخرط في سمط الإيمان، وأن موعود الله بالنجاة حاصل لمن اتصف به وأتى بشرطه، ثم جاء بعد الإفصاح بأنه وصية الله لنبيه في قوله،” وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ” [النمل:104] فكان ذكر الإيمان فيما سبق قرينة على أنه المتعين في هذا الموضع.

أما آية النمل فقد مهد لها بما سبق من الإخبار عن إذعان كل من في الوجود، بكلية موجبة لا يتخلف عنها فرد من الخليقة، وذلك كله يفيد الاستسلام والانقياد، فكان استحضار هذا المعنى مؤذنا بأنه المتعين في سورة النمل.

وهذا نص  كلامه من الملاك، قال رحمه الله:”الآية العاشرة من سورة يونس قوله تعالى: ” وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ”، وفى سورة النمل: ” وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ” [النمل:91]، للسائل أن يسأل عن الفرق الموجب لافتراق الوصفين فى الآيتين.

والجواب أن الآية الأولى قد ورد قبلها قوله تعالى: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ” [يونس:99-100] وبعد هذا: “وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ” [النمل:101] وبعد هذا كذلك: “حقا  حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ” [النمل:103] وبعد هذا الآية المذكورة من قوله: ” وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ” [النمل:104] وتناسب هذا كله بين.

ثم من المعلوم أن اسم الإيمان إنما يقع لغة على التصديق، وعلى هذا يطلقه الأشعرية، ومنه: “وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ” [يوسف:17] ثم قد يتسع في إطلاقه فيوقع على التصديق والاستسلام ومنه: ” وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ” والأصل فى اسم الإسلام وقوعه على الاستسلام والتزام الأعمال الظاهرة، ثم يتسع فيه فيطلق على مجموع التصديق والاعتقاد والاستسلام، ومنه: ” وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ” [النمل:91] وقد يختص كل من الاسمين بمسماه من غير اتساع ومنه قوله تعالى:

” قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ” [الحجرات:14]، وفى حديث سؤال جبريل عليه السلام: “ما الإسلام؟ قال أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت، فما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله …الحديث، فوقع فيه التفصيل إجراء على أصل التسمية.

فإذا تقرر هذا فاعلم أن ما تقدم قبل آية يونس من تكرار اسم الإيمان لم يكن ليلائمه إطلاق اسم الإسلام؛ لأن رتبة الإيمان فوق رتبة الإسلام، ومقامه أعلى، وهذا على إطلاق كل واحد من الاسمين على مسماه لغة، وعلى رعي التفصيل، فكان يكون عكس الترقي إلى الأعلى أبدا،  فلا يمكن فى آية يونس إلا ما وردت عليه.

أما آية النمل فإن قبلها قوله: ” إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ” [النمل:91]، وقوله: ” وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ” يقتضـى تسليم كل شيء له، والتبري من توهم شريك أو نظير، فناسب هذا قوله: ” وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ” وجاء كل على ما يجب.

 

[1] ونصه:” عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى قَالَ: يَزِيدُ لَا نَرَى عَلَيْهِ أَثَرَ السَّفَرِ،وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ، مَا الْإِسْلَامُ؟ فَقَالَ: الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا،قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ، قَالَ: الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِحْسَانِ، مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: يَزِيدُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ؟ قَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ بِهَا مِنْ السَّائِلِ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا، قَالَ: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبِنَاءِ، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ، قَالَ فَلَبِثَ مَلِيًّا، قَالَ يَزِيدُ: ثَلَاثًا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عُمَرُ، أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ؟ قَالَ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ” رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الإسلام والإيمان والإحسان، ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله، رقم:1، وأبو داود في السنن، كتاب السنة، باب في القدر، رقم:4697، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب الإيمان وشرائعه، باب نعت الإسلام، رقم: 11721، وأحمد في مسند عمر ابن الخطاب، رقم:367.

[2] البحر المديد،5/438

[3] الإبانة في أصول الديانة، ص:20

[4] التسهيل لعلوم التنزيل، 2/299.

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق