مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب

توجيه قوله سبحانه في طه:”أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون…” وقوله تعالى في آية  السجدة: “أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون”

العاقل من اتعظ بغيره، وعاجز الرأي من اتعظ بنفسه، مقولة متداولة بين الناس؛ مفادها التواصي بالاستفادة من تجارب من سلف، فالعمر أقصر من أن يجرب كل ما يعن، أو يزج به لخوض غمار تجربة  كل ما يعرض، والحصيف من أفاد ممن حوله، واستخلص الدروس من غيره، وذي أبرز مقاصد دراسة التاريخ، ولعل  كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر لمؤلفه عبد الرحمن بن خلدون أهم  مؤلف يكشف عن هذا المقصد الأسنى ، و يميط اللثام عن متغياه الأسمى، يطالعك بفحواه من رسم عنوانه، ويوقفك عن مقصده من أول فصوله وأبوابه، وذا أمر دعت إليه الملة، بل إن الكتاب نفسه يقرر هذه الحقيقة، و يندب الناظر فيه إلى تدبر تلكم الأخبار،  ويغريه بإجالة الفكر للوقوف على تلكم الأسرار، صونا للنفس عن المزالق، وسيرا بها إلى أبلج المسالك، ووقاية لها عما وقع فيه من غبر من مهالك، ويكاد هذا الموضوع يكون من آكد رسائل الكتاب التي  دعيت الأمة إلى الوقوف عندها؛ تأملا وفكرا، وتدبرا وفهما، ثم نفوذا منها إلى الإفادة منها جزءا وكلا، استخلاصا للعبر، وإفادة من تجارب الأمم، تعددت له الأساليب البيانية، وتلونت فيه الصيغ البلاغية، فتباين سبك الموضوع الواحد إيجازا و بسطا، وتصـرفا في عرضه تقديما وتأخيرا، وليس القصد هنا تتبع الآي الداعية إلى الإفادة من تجارب من مضى، وإنعام النظر في مناهج عرض أيامهم، وأساليب سرد فصول أحوالهم.. فذا أمر يطول، وإنما قصدت الوقوف على آيتين كريمتين موضوعهما واحد،  كلتاهما تحث على النظر في مصارع الأمم البائدة، وعادة الله فيمن بغى وتجبر واعتدى،  ونأى بجنبه و أعرض و طغى، ليستبين للمتأمل العواقب، ثم ينأى بنفسه عن خوض تلك التجارب.. لكنهما اختلفتا اختلافا يسيرا في السبك والعرض، مما جعلهما من متشابه الكتاب، الذي يحتاج في ضبطه إلى استنباط سر التغاير، فلا تشتبه بعد على الحافظ بما أدرك من فوارق، وذلك قوله تعالى في سورة طه، “أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ” [الآية: 128]، وفي سورة السجدة: “أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ” [الآية: 26] ،  فخصت آية طه بدخول الفاء على “لم” إثر همزة الاستفهام، وفي السجدة نسقت الآية بالواو، وزيدت “من” قبلَ قوله تعالى “قبلهم” في سورة السجدة، وسبكت الآية في سورة طه دون “من” الجارة، فكانتا بذلك من المواضع التي تشتبه على التالي، مظنة لإدخال موضع في موضع إلا على حافظ ضبطهما برمز، أو صاحب المساق لأمن اللبس، وممن غاص بفكره لإدراك الفروق بينهما ابن الزبير الغرناطي رحمة الله عليه، قال رحمه الله:

الآية السابعة من سورة طه قوله تعالى: “أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ” [طه: 128]، وفي سورة السجدة: “أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ” [السجدة: 26]، فلحقت همزة الاستفهام الواردة هنا تقريراً وتوبيخاً حرف العطف متقدمة قبله كما يجب واختلف حرف العطف، فللسائل أن يسأل: لم اختصت الأولى بالفاء من حروف العطف والثانية بالواو؟ وعن زيادة “من” في سورة السجدة؟

والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن قوله في الآية الأولى: “أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ” كلام لم يتقدمه ما يكون هذا معطوفاً عليه، وإنما هو كلام مستأنف مبتدأ، ألا ترى ما تقدم قبله من قوله تعالى إخباراً عمن أعرض عما جاءت به الرسل فقال تعالى: “وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي” – أي بإعراضه عن اتباع الرسل – “فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا” [طه: 124] إلى قوله: “وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى” [طه: 127]، هذا إخبار عن جزاء من أعرض ولم يؤمن، ثم ورد ما بعد مستأنفاً وارداً مورد ما يرد من الكلام التفاتاً، وهذا مراد أبي محمد بن عطية: “ثم ابتدأ توبيخهم وتذكيرهم” فقال تعالى: “أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ”، والضمير المجرور لكفار قريش ومن كان معهم، أي: أفلم يتبين لهم، والفاعل ما يفهم من جملة الكلام وسياقه، أي: أفلم يهد لهم هذا المشاهد لهم الواضح من تقلبهم في بلاد عاد وثمود يمشون في مساكنهم ويعاينون آثار هلاكهم، وكم مفعولة بأهلكنا، واستمر الكلام مع المذكورين إلى آخر السورة، وإذا كان قوله: “أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ” مبتدأ مستأنفاً فالموضع للفاء، وهذا كقوله في سورة الرعد: “أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ ءامَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ الله لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا” [الرعد: 31]، وقوله في سورة القتال: “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا”[محمد: 24]، وما أتى مثل هذا مما الوجه فيه الاستئناف، ولم يقصد عطفه على ما قلبه، وإنما ارتباطه بما تقدمه من جهة المعنى، ولا مدخل فيه للعطف مع أن الالتحام حاصل من وجه آخر كما بينا.

وأما آية السجدة فالواو فيها عاطفة على مقدر لما قال الله تعالى: “وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا” [السجدة: 22]، كأن قد قيل: أفلا يذكروا؟ ولم يعرضوا؟ “أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ” [السجدة: 26]، أي: أولم يبين لهم إهلاك من تقدمهم من القرون؟ قال الزمخشـري الواو في: “أَوَلَمْ يَهْدِ” للعطف على معطوف عليه منوي من جنس المعطوف، والضمير في لهم لأهل مكة، قلت: وهذا هو عين ما قدمنا، وإنما لم تكن الواو هنا لغير العطف لأن الواو لا يستأنف بها، بخلاف الفاء كما قدمنا، فاختلف المقصد في الآيتين ووضح وجه مجيء الفاء في آية طه والواو في آية السجدة.

وأما زيادة “من” في قوله في آية السجدة: “مِنْ قَبْلِهِمْ” فإنها مقصود فيها استغراق عموم لمناسبة ما تقدم هذه الآية من حصـر التقسيم في قوله: “أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ” [السجدة: 18]، و ما أعقبت به مما يُفهِمه قوله: “إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ” [السجدة: 26]، إذ ليس هذا الوصف كالوارد في سورة طه من قوله: “إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى” [طه: 128]، فهذا يشعر بخصوص يناسبه سقوط “من” الاستغراقية، وما في آية السجدة يشعر بعموم واستغراق تناسبه زيادة “من” في قوله: “مِنْ قَبْلِهِمْ”، فجاء كل على ما يناسب ويجب، والله أعلم.”[1]

 

 

[1] ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل، في توجيه متشابه اللفظ من آي التنزيل، 2/687-689.

Science

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق