مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب: وجه تقديم الشفاعة في الموضع الأول من سورة البقرة وتأخيرها في الثاني

ضبط متشابه الكتاب مما يشغل بال الحافظ، ويجعله دائم البحث عن مسالك ضبطه، والانخراط في زمرة المهرة  الحذاق به، ولضبطه مسلكان؛

الأول: جمع متفرق متشابهه في نص موعب، أو رجز جامع، أو رمز مذكر..

الثاني: إجالة الفكر في الآي المتشابهة والغوص بالفكر  لاستخلاص أسرار فروقها، و علل تباين سبك أسلوبها، فيعمل الناظر فيها فكره مستكنها أسباب التباين، متدبرا في مساقاتها؛ سابقها ولاحقها والمقترن بها، ليقف على أسرار تغاير الاشتباه في الموضوع الواحد، فيكون الفهم السديد بذلك رائدا لضبط متشابه الآي، مسعفا التالي إلى التهدي بنوره لإحكام مظان الإرباك.

وإذا كان المسلكان يحققان الطلبة، ويفيان بالبغية، إلا أن بينهما بونا شاسعا، فصاحب المسلك الأول ضابط لمتشابه الكتاب غير فقيه بأسراره، والثاني حائز المجد من أطرافه، فهو ماهر يصدر عن بينة وحجة؛ ضابط لمتشابهه، موجه لمعانيه.

ومن المواطن الملبسة على الحافظ موضعان في سورة البقرة، وقع فيهما تقديم وتأخير بين لفظتي: “شفاعة” و”عدل”، ففي الموضع الأول منها جاء قوله تعالى: “وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ” [البقرة:48]، والموضع الثاني: “وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَـرُونَ” فقدم في الآية الأولى الشفاعة وأخر العدل، وقدم العدل في الثانية وأخرت الشفاعة، ولضبط هذا التغاير تقديما وتأخيرا، وضعوا لذلك مقولة مذكرة، فقالوا: “ادخل بشفاعة واخرج بشفاعة“،أي: قدم في الآية الأولى الشفاعة، وأخرها في الثانية، فيكون العدل مذكورا ثانيا في الآية الأولى، مصدرا به في الآية الثانية، وباستحضار هذا العبارة يسهل على الحافظ ضبط متشابههما دون كلفة.

المتدبر في سر التغاير في الآيتين   تقديما وتأخيرا يقف على حكمة تقديم الشفاعة في الآية الأولى بما تقدمها قبل، ذلك أن الآية الأولى تقدمها التشنيع على يأمر غيره بالبر دون النزول عند مقتضاه، في استفهام إنكاري زجري،  “أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ” [البقرة:44]..، ولربما وافقت  دعوته قلبا واعيا فيكون من المستجيبين، فيحظى بالمثوبة والفوز يوم لقاء رب العالمين، فيتعلق هذا المسرف على نفسه ببصيص الأمل؛ أن يكون ممن تناله شفاعة من استجاب لدعوته، فتكون هذه الأمنية أول ما ينقدح في ذهن من خالف قوله عمله، فقطع الله هذا المتمنى، فناسب تقديم الشفاعة على الافتداء؛ بما لها من محل الصدارة في النفس، وقد اهتدى إلى هذا التوجيه صاحب ملاك التأويل، قال رحمه الله:

“الآية العاشرة:

قوله تعالى: “وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ” [البقرة:48] ووقع بعد: ” وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ “، فأخر ذكر الشفاعة في هذه الآية، وقدم في الأولى، يسأل عن ذلك.

ووجه ذلك والله أعلم أنه لما تقدم في الآية الأولى قوله تعالى: ” أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ” [البقرة:48] والمأمور بالبر قد يأخذ به ويتمسك بموجبه فيسلم من العصيان، وتكون في ذلك نجاته، وإذا أمكن هذا فقد وقع الاهتداء بأمر هؤلاء الذين قيل لهم: “” أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ “، فهو مظنة عندهم لرجائهم أن ينفع عند مشاهدة الجزاء الإحساني المأمور بالبر حين قبلوا وامتثلوا،

-أخذاً بظاهر حال الآمرين- وإن كانوا يبطنون خلاف ما يظهرون، وهذا جار على مألوف طمع اليهود، وقد ورد في ذكر المنافقين تعلقهم في القيامة بقولهم للمؤمنين: ” أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ” [الحديد:14]، فطمع من زاد على كونه مع المتعلق به أنه أمره فاقتدى بأمره، واهتدى المأمور لما بخلوصه، أخذا بظاهر ما صدر عن الآمر، وان كان الآمر يبطن خلاف ما أمر به غيره، إلا أن هذا أمكن من التعلق بالكينونة في الدنيا مع الناجين، وإذا تعلق هؤلاء بمجرد كونهم كانوا مع المؤمنين فتعلق من أمر بالبر زائد إلى كونه من المأمورين، وإن كان أمره ظاهرا أو رئاء أمكن، إلا أن كل ذلك لا ينفع ما لم يكن إيمان مخلص، فلتوهم هؤلاء إمكان شفاعة من أمروه بالبر وطمعهم في ذلك، كان آكد شيء نفي الشفاعة لهم؛ لإمكان توهمها، ولم يتقدم في الآية الأخرى ما يستدعي هذا، فقدم فيها ذكر الفدية التي هي أولى وأحرى فى كمال التخلص، على ما عهد في الدنيا لو أمكنت، والله أعلم بما أراد.”[1]

 

[1] ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل، في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل، 1/51 وما بعدها.

Science

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق