مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه القرآن (1)

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد و على آله وصحبه وسلم تسليما
تباينت ضروب إعجاز القرآن، وإن من جلي مناحي إعجازه تشابه لفظه، وتصـريفه في أساليب شتى؛ تقديما وتأخيرا، وبسطا وإيجازا، ودمجا وفكا… قال تعالى: “اللهُ نزَّلَ أَحْسَنَ الحديثِ كتاباً مُتَشابِهاً مَثانيَ” [الزمر:23]، وذلك لأغراض قد يظهر بعضها للمتأمل بإمعان النظر وإنعامه، يفتح الله بها على من استحضـر بقلبه ما يليق به من تعظيم، وتأدب مع الكتاب وجلس بين يديه بكامل التوقير، وبقدر ما يقف الناظر فيه –سيما الحافظ-على هذا المنحى الإعجازي، فهو يستشعر من نفسه أن من شرط الانتساب إليه ضرورة شحذ الذهن لضبط متشابهه، وإحكام ضروب مساقاته، واستحضار مواطن التشابه حال تلاوته، ولذلك وايم الله لمتعة لا يدركها إلا من باشرها من أهله، ونوع نشوة راقية ناشئة عن التمكن والإحاطة بتصاريف أوجهه، يتملى بها الحفظة في مدارساتهم القرآنية، اختبارا للمكنة، وتعجيزا لصغار الطلبة، غايتها إذكاء الهمم للحاق بجموع المهرة.
وإن مما يستعان به لضبط ذلك-بعد الحفظ المتقن وتكرار مواضع المتشابه- ما يُذَيِّل به معلمو القرآن اللوح من أنصاص وأرجاز مسعفة لضبط نص الكتاب، تكون لهم بمثابة الدليل عند تعاهدهم لمحفوظهم، يسترشدون بها عند قراءة وردهم، دون وقوف عند تعليل، أو تشوف لضبط ذلك بتوجيه، فتلك مرحلة أخرى تأتي بعد إحكام حرف الكتاب، وتحصيل قدر كاف من العلوم الوسلِيَّة المسعفة بنيل هذا المراد.
وقد صنف العلماء في ذلك تصانيف طارت بها الركبان، ومن علماء الغرب الإسلامي الذين أسهموا في إغناء هذا المنحى من مناحي خدمة الكتاب، أحمد بن الزبير الغرناطي (تـ 708)، في كتابه: “ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل”.
وقد كان من أوائل من صنف في ذلك، صرح في مقدمة كتابه أنه مما دعاه إلى التأليف في هذا العلم إغفال الكتابة فيه، و أنه لما شرع في تتبع مواطن التشابه في القرآن بلغه كتاب : “ابن الخطيب الإسكافي” المسمى: ” درة التنزيل وغرة التأويل”، فأفاد منه في رصف مادة الكتاب، مع إضافة جملة وافية مما أغفله الأصل المنظور فيه، يقول رحمه الله: “وإن من مغفلات مصنفي أئمتنا رضي الله عنهم في خدمة علومه، وتدبر منظومه الجليل ومفهومه، توجيه ما تكرر من آياته لفظاً، أو اختلف بتقديم أو تأخير، وبعض زيادة في التعبير، فعسـر إلا على الماهر حفظاً، وظن الغافل عن التدبر والمخلد إلى الراحة عن التفكر أن تخصيص كل آية من تلك الآيات بالوارد فيها مما خالفت فيه نظيرتها ليس لسبب تقتضيه، وداع من المعنى يطلبه ويستدعيه، وأن ليس على جميع الوارد من ذلك محرزات من المعاني عند ذوي الأفهام، ومقتضيات من لوازم جليل التركيب من ذلك المعجز العلي من النظام، فلا يليق بكل من تلك الواضع إلا الوارد فيه، وإن تقرير وقوع آية منها في موضع نظيرتها ينافي مقصود ذلك الموضع وينافيه.
فتعساً لمن تنكب عن واضح آياته، وكأن لم يقرع سمعه قوله تعالى: “كِتابٌ أَنزَلْناهُ مُبَاركٌ لِيَدَّبَرُوا آياته” [ص:29].
وإن مما حرك إلى هذا الغرض وألحقه عند من تحلى ولوعاً باعتباره والتدبر لعجائبه الباهرة وأسراره، بمثل حالي على استحكام جذبي وإمحالي بالواجب المفترض، إنه بابٌ لم يقرعه ممن تقدم وسلف ومن حذا حذوهم ممن أتى بعدهن وخلف أحد فيما علمته على توالي الأعصار والمدد، وترادف أيام الأبد، مع عظيم موقعه وجليل منزعه، ومكانته في الدين، وفَتِّه أعضادَ ذوي الشك والارتياب من الطاعنين والملحدين، إلى أن ورد علي كتاب لبعض المعتنين من جلة المشارقة؛ “ابن الخطيب الإسكافي” -نفعه الله- سماه بكتاب درة التنزيل وغرة التأويل، قرع به مغلق هذا الباب وأتى في هذا المقصد بصفو من التوجيهات لباب، وعرف أنه باب لم يوجفه عنه أحد قبله بخيل ولا ركاب، ولا نطق ناطق قبلُ فيه بحرف مما فيه.
وصدق رحمه الله وأحسن فيما سلك وسَنَّ، وحُق لنا به – لإحسانه – أن نقتديَ به ونستن، فحرك من فكري الساكن وأضربت عن فسحته بالاستدراك بلكن، وأبديت بحول ربي من مكنون خاطري إلى الظهور ما أثبته بعون الله وقوته في هذا المسطور، معتمداً عين ما ذكره من الآيات ومستدركاً ما تذكرته مما أغفله رحمه الله من أمثالها من المتشابهات، وإبداء المعاني الخفيات القاطعة بدرب البطالات، من غير أن أقف في أكثر ذلك على كلامه إلا بعد إبدائي ما يلهمه الله سبحانه وإتمامه، ولا ناقلاً إلا في الشاذ النادر كلام أحد من أرباب المعاني، إذ لم يعترض أحد غير من تقدم ذكره لما من هذا الضرب أعاني، وإنما يلقيه فكري إلى ذكري، فيلقيه ترجمان فهمي على قلمي، وإن آثرت بعض ما عليه لغيري عثرت فنقلت، أفصحت بالنسبة وعقلت، وما أرى ذلك يبلغ فى هذا المجموع غاية أقل الجموع، وإن نَيَّف فبيسير، والتحقيق في ذلك للازم الذهول الإنساني عسير، وما سوى ذلك فأنا ابن نجدته وذو عهدته، “وما بكم من نعمة فمن الله ” .
أسوق شاهدا تمثيلا لما يسفر عن مكين الفهم و رصين التدبر، تقريبا لما يشكل ضبطه على القارئ من الصدر، قال رحمه الله:
“قوله تعالى: “يأيُّها الذين آمنوا كونوا قوَّامينَ بالقِسطِ شُهداءَ للهِ ” [الآية:135] وفى المائدة: “كُونُوا قَوَّامينَ لله شُهَداءَ بالقِسطِ “[الآية:8]، فقدم فى آية النساء قوله: “بالقسط”، وأُخِّر فى المائدة،ُ فيسأل عن وجه ذلك.
والجواب عنه والله أعلم: أن الآيات المتصلة بآية سورة النساء مبنية على الأمر بالعدل والقسط قال تعالى: “من يَّعملْ سوءاً يُجْزَ بهِ …” [الآية:123] ، وقال بعدُ: “ويَسْتَفْتونَك فى النِّساءِ ” [الآية:127]، ثم قال: “وأن تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ ” [الآية:127]، وتوالت الآي بعد على هذا المعنى، فقدم قوله بالقسط ليناسب ما ذكر.
وأما آية المائدة فثبت قبلها الأمر بالطهارة، ثم تذكيره سبحانه بتذكر نعمه والوقوف مع ما عهد به إلى عباده، والأمر بتقواه فناسبه قوله: “كُونُوا قَوَّامينَ لله ” ثم أتبع بما بنى على ذلك من الشهادة بالقسط، فتأمل ما بنى على هذه وما بنى على آية النساء يتضح لك ما قلته. والله أعلم بما أراد.”

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق