مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

من التقعيد الفقهي إلى التقعيد الأخلاقي

تتمة لما سبق

فعندما قُرن تدني الأخلاق بتدني الفقه؛ لا يعني هذا أن كل الأئمة والعلماء عبر هذه الأدوار يمكن أن نطبق عليهم هذا النظر؛ فالناظر في سير أعلام الأئمة يسترعي انتباهه ذلك الطابع الأخلاقي الذي كان صفة ملابسة لسيرهم، وهي حقيقة تؤكد أن اشتغالهم بالفقه لضبط أحكام الجوارح لم يكن لينفصل عن الحكم الأخلاَقي الذي يوجه حركاتهم، بل إنهم كانوا يرون أن كل بناء فقهي لم يؤسس على أساس أخلاقي لا يُجدي صاحبه نفعا، حتى قال أبو حنيفة النعمان: “الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إلي من كثير من الفقه، لأنها من آداب القوم”[1].

إن الشريعة الإسلامية قد اشتملت على أصولٍ وفروعٍ، والقواعد الفقهية الكلية كثيرة العدد عظيمة المدد، مشتملة على أسرار الشرع وحكمه[2]، وإن هذه القواعد الفقهية لم توضع دفعة واحدة كما أنها لا تنسب لشخص معين، وإنما صيغت نصوصها بالتدرج على مر العصور، وعلى يد فقهاء كبار، ومن المؤكد أن صياغة هذه القواعد مرت بمراحل قبل أن تستقر على هذه الصيغ المعروفة، تناولها الفقهاء بالصقل والتحوير تابعا عن تابع.

والقواعد الكبرى المتفق عليها بين المذاهب هي خمس قواعد: الأمور بمقاصدها، والضرر يزال، والمشقة تجلب التيسير، واليقين لا يزول بالشك، والعادة محكمة. وهي قواعد في أغلبها تسعى إلى ضبط سلوك المكلف وتصرفاته الظاهرة، وقد نظمها بعض الشافعية فقال:

خـــمس مقررة قــواعد مذهب      للشافعي فــــــــكن بـــهن خبـــيــرا

ضرر يزال، وعادة قــد حكمت     وكذا المشقة تجـــــلب التيســـيرا

والشك لا تــرفع بــــه متيـــقنا        والقصد أخلص إن أردت أجورا

وسنحاول أن نربط وجه العلاقة بين هذه القواعد الفقهية وبعض القواعد الأخلاقية حتى يتضح كون التقعيد الأخلاقي تتويجا للتقعيد الفقهي، وأنه ليس من الكمالات التي يتساوى الأمر في التركيز عليه من عدمه.

وعليه، فإذا كانت القاعدة الفقهية في أغلبها تسعى إلى ضبط سلوك المكلف وتصرفاته الظاهرة، فهل يعني ذلك إهمالا لسلوكه الباطني؟ إن الجواب عن هذا السؤال يحتاج معرفةَ القواعد الفقهية؛ ليس معرفة عددها أو خصائصها أو أقسامها، بل معرفتها ومكانة الأخلاق فيها.

ويمكن أن نميز في هذا الجانب بين صنفين من القواعد؛

الصنف الأول: يبدو الطابع الأخلاقي فيه واضحا، ويشمل قاعدة: “الأمور بمقاصدها”.

والصنف الثاني:لا يظهر فيه الأثر الأخلاقي إلا في السلوك الخارجي للأفراد، ويشمل باقي القواعد الأربعة.

بالنسبة للصنف الأول، أي: “قاعدة الأمور بمقاصدها“، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)[3]-الحديث-. وقول الله تعالى: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويوتوا الزكاة وذلك دين القيمة﴾[سورة البينةآية:5]؛ فالنية تعتبر أصلا عظيما في مباحث الأخلاق حتى قال بعضهم:إنهم كانوا يتعلمون النية قبل القول والعمل، كما يتعلمون العلم والفقه. فــ” إذا صَحَّ أصل القصد فالعوارض لا تضر، كما قال مالك (ت179هـ) رحمه الله تعالى: في الرجل يحب أن يُرى في طريق المسجد، ولا يحب أن يُرى في طريق السوق. وفي الرجل يأتي المسجد، فيجد الناس قد صلوا، فيرجع معهم حياءً.

ومن ثم قال سفيان الثوري (ت159هــ) رحمه الله تعالى: (إذا جاءك الشيطان في الصلاة فقال: إنك مُراء. فزده طولا).

وقال الفضيل بن عياض (ت187هــ) رحمه الله تعالى: (العمل لأجل الناس شرك، وترك العمل لأجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله منهما)”[4].

أما الصنف الثاني؛ الذي لا يظهر فيه الأثر الأخلاقي إلا في السلوك الخارجي للأفراد، فأولى القواعد فيه؛ قاعدة: “العادة محكمة”، لقوله تعالى – على سبيل المثال لا الحصر-﴿ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف﴾ [البقرة الآية: 228]؛ فإن ضابط مقدار النفقة على الأهل يختلف على حسب العادة. يقول الشيخ زروق في سياق هذه القاعدة الفقهية: “ما جبلت عليه النفوس، فلا يصح انتفاءه عنها، بل يكون ضعفه وقوته فيها ويصح تحويله عن مقصد لغيره:

كالطمع لتعلق القلب بما عند الله تعالى توكلا عليه ورجاء فيه.

والحرص على الدار الآخرة بدلا من الدنيا.

والبخل فيما حُرم ومُنع.

والكبر على مستحقه، ولرفع الهمة عن المخلوقين حتى تتلاشى في همته جميع المقدورات، فضلا عن المخلوقات.

والحسد للغبطة…وما ركب في الطباع مُعين للنفس على ما تريد حسب قُواها. فلذا قيل: إذا عُلِّم الصغير ما تميل إليه نفسه من المباحات، خرج إماما فيها. وإذا انتحل المريد ما ترجحه حقيقته من الأذكار والأوراد، كان معينا على مقصده بدوامه…وما دُخل بانبساط كان أدعى للدوام…”[5]إلى غير ذلك من الأمثلة التي تبين أثر الاعتياد أو العادة في الحكم على الأفعال.

أما قاعدة: “الضرر يزال”، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»[6]،فهي أساس لمنع الفعل الضار، كما أنها سند لمبدإ الاستصلاح في جلب المصالح ودرء المفاسد؛ كمن أتلف مال غيره فلا يجوز أن يقابل ذلك بإتلاف ماله، لأن في ذلك توسعة للضرر بلا منفعة، وذلك بخلاف الجناية على النفس أو البدن مما شرع فيه القصاص، لأن الجنايات لا يقمعها إلا عقوبة من جنسها[7]. وهو الأمر الذي ينسجم والشق الأخلاقي، إلا أن هذا الأخير يزيد عليه في شيء آخر؛ فـــ” قد يباح الممنوع لتوقع ما هو أعظم منه كالكذب في الجهاد لتفريق كلمة الكفار، وفي الإصلاح بين الناس للخير، وفي ستر مال المسلم أو عِرضه ولو نفسه، إذا سئل عن معصية عملها، أو مالٍ أريد غصبه منه أو من غيره، لأن مفسدة الصدق في ذلك أعظم (…) وبالجملة فيسوغ لدفع مفسدة أعظم لا لجلب مصلحة.

وكذا الغيبة تباح في التحذير/التجريح والاستفتاء ونحوه. وليس من ذلك قياس الخمول بالمحرمات لدفع الجاه بشربة خمر لمن غص (…) فمن غص بلقمة لا يجد لها مساغا إلا جرعة خمر لا يصح، إذ تفوته به الحياة التي ينتفع بها وجوده، فيكون قد أعان على قتل نفسه، وتعطيل حياته من واجبات عمره، بخلاف ذلك، فإنما يفوت به الكمال لا غير (…)”، فقاعدة دفع الضرر في جانبها الأخلاقي تطلب مزيةً أرقى منها في الجانب الفقهي، إذ إن “مقصد القوم بذلك، الفرار من نفوسهم، لا التستر من الخلق، لأن التستر منهم تعظيم لهم، فعاد الأمر عودا على بدئه. وليس من شأن الصوفي تعظيم الخلق بوجه ولا بحال، فافهم “[8].

أما قاعدة: “المشقة تجلب التيسير”، لقوله تعالى: ﴿يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفا﴾ [سورة النساء الآية: 28]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تترك عزائمه)[9] كالتيمم عند حصول المشقة في استعمال الماء، إذ” العبادة إقامة ما طُلب شرعا من الأعمال الخارجة عن العبادة أو الداخلة، سواء كان رخصة أو عزيمة، إذ أمر الله فيهما واحد، فليس الوضوء بأولى من التيمم في محله، ولا الصوم بأولى من الإفطار في محله، ولا الإكمال بأولى من القصر في موضعه.

وعليه يتنزل الحديث الشريف لا على الرخصة المختلَف في حكمها، إذ الورع مطلوب في كل مشكوك الحكم، بخلاف المحقَّق، فإنَّ تَرْكَهُ تنطع، وعلى هذا الأخير يتنزل كلام القوم في ذم الرخص والتأويلات[10]، فالأجر على قدر الإتباع لا على قدر المشقة، لفضل الإيمان والمعرفة والذكر والتلاوة على ما هو أشق منها بكثير من الحركات الجسمانية.

وقوله عليه الصلاة والسلام: (أجرك على قدر نصبك)[11]،إخبار خاص في خاص لا يلزم عمومه. سيما وما خُير في أمرين إلا اختار أيسرهما، مع قوله: (إن أعلمكم بالله وأتقاكم لله أنا)[12]وكذا جاء: (خير دينكم أيسره)[13]،إلى غير ذلك[14]، وبهذا الاعتبار، فإن نظر الصوفي للمعاملات أخص من نظر الفقيه؛ إذ الفقيه يعتبر ما يسقط به الحرج، والصوفي ينظر فيما يحصل به الكمال، (…) فهو يزيد بطلب الإشارة. والله سبحانه أعلم”[15].

أما قاعدة: “اليقين لا يزول بالشك” لقوله صلى الله عليه وسلم:(لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا)[16]. فإن من توضأ فإنه باق على وضوئه حتى يتيقن أنه انتقض بناقض من نواقض الوضوء، ولا عبرة بالشك على الراجح، كما “لا عبرة بظن ما عند الناس ليقين ما عند نفسك من عيوب، فمن ترك اليقين بذلك الظن فهو أكثر الناس جهلا، وهذا من الضلال المبين، وقد حكي أن بعض الحكماء مدحه بعض العوام، فبكى، فقال تلميذه: أتبكي وقد مدحك. فقال له: إنه لم يمدحني حتى وافق بعض خلقي خلقه، فلذلك بكيت. فانظر بعين بصيرتك فقد نبهك الحكيم العليم[17].

ومن هنا يمكن القول بأن القاعدة الفقهية تعتبر مدخلا للقاعدة الأخلاقية.

وأن هذه العلاقة تتصف بالتناغم والانسجام، فلا تدافع ولا تنافر بين الخطابين، بل هما وجهان لعملة واحدة، فكل قاعدة فقهية في أغلبها تؤسس لخطاب أخلاقي، مضيقا كان أو موسعا، وكل قاعدة أخلاقية ترتكز على خطاب فقهي.

فإذا كانت القاعدة الفقهية غايتها تنظيم الفروع، واكتساب الفقهاء بها ملكة لتنظيم الأحكام وتنزيلها، فإن القاعدة الأخلاقية غايتها ترسيخ الهوية الأخلاقية للإنسان، وتحديد قيمها في النفس الإنسانية. ومن ثم اهتم واجتهد أهل التصوف في ضبط قواعدهم وتأسيسها على أسس شرعية، ومن هذه القواعد:

• “إن الشريعة عامة بالنسبة إلى عالم الغيب وعالم الشهادة من جهة كل مكلف، فإليها نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن كما نرد إليها كل ما في الظاهر[18].

• كل ما يخرم حكما شرعيا أو قاعدة دينية من الخوارق والكرامات ليس بحق في نفسه، بل هو إما خيال، أو وهم، أو من إلقاء الشيطان”[19]، فــ” لو أن رجلا بسط مصلاه على الماء وتربع في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه في الأمر والنهي”[20].

• وكل حقيقة خالفت الشريعة فهي زندقة، فالشريعة هي الأساس، وهي الباب الوحيد الذي لا مندوحة لطالب الترقي من المرور به، وإلا كان مبتدعا ضالا، ثم تأتي بعدها الطريقة التي تعتبر وسيلة في السير إلى الله تعالى لأجل تحقيق الغاية والثمرة المنشودة ألا وهي الحقيقة، أي حقيقة هذا الوجود، وترك كل ما سوى الله جل وعز، فيصبح الإنسان حينها حاضرا بجسمه وعقله وكامل إدراكه في عالم الشهود، لكنه في اتصال دائم مع الحق تعالى. وهذه أشياء ثلاثة متكاملة، فمن تمسك بالأولى، سلك الثانية، ووصل إلى الثالثة.

وكل ومسلكه المتبع ــ في نطاق الشرع ــ «ولا يلزم من اختلاف المسالك اختلاف المقصد، بل قد يكون متحدا مع اختلاف مسالكه، كالعبادة والزهادة والمعرفة (…) فمن غلب عليه العمل فعابد، أو الترك فزاهد، أو النظر لتصريف الحق فعارف»[21].

إننا من دون أخلاق لا نستطيع ممارسة وتطبيق المفاهيم الفقهية تطبيقا سليما يجمع بين أخلاق الظاهر وأخلاق الباطن، بين أخلاق تتأدب مع الخلق في الظاهر، وتراقب الحق وتعانق الغيب في الباطن، وفي كل لحظة، ومن ثم لا غنى للأولى عن الثانية، وبذلك يتحقق التكامل للشخصية المسلمة.

لكن السؤال الذي يمكن طرحه هو: كيف السبيل لتحصيل هذه الأخلاق الصوفية التي تعتبر إداما لاستثمار الفقه في الحياة بشكل حي وفعال؟ وحتى لا نحصر أنفسنا في هذا التقعيد والتنظير المجردين في ضرورة الأخذ بالفقه والأخلاق، يجب أن نتجاوزهما إلى التطبيق، فكيف السبيل؟

يتبع

[1] كتاب: “سَنَنُ المهتدين في مقامات الدين” للمواق الغرناطي، ص: 40.

[2] “أنوار البروق في أنواء الفروق” القرافي ج1/ص6، دار الكتب العلمية، ط1.

[3] صحيح البخاري، كتاب: بدء الوحي، باب: بدء الوحي.

[4] “قواعد التصوف”،القاعدة: 178، ص:114/ 115.

[5] “قواعدالتصوف”،القاعدة: 184، ص:117 و القاعدة: 98، ص:70.

[6] “الموطأ” الإمام مالك، كتاب الأقضية، القضاء في المرفق. تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان، الإمارات. ط1 /1425هـ

[7] “ضوابط المصلحة في الشريعة الاسلامية” محمد سعيد رمضان البوطي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1990م.

[8] “قواعدالتصوف”،القاعدة:106 و القاعدة: 176، ص: 73/ 74.

[9] السنن الكبرى للبيهقي من رواية ابن عمر، 3/ 140. مكتبة دار الباز مكة المكرمة، تحقيق: محمد عبد القادر عطا. 1994م/1414هـ

[10] القاعدة 92، ص:68.

[11] معناه في صحيح البخاري باب: أجر العمرة على قدر النصب. عن أمنا عائشة. دار: طوق النجاة، الطبعة الأولى: 1422هـ

[12] بمعناه في البخاري كتاب الإيمان، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم:”أنا أعلمكم بالله وأن المعرفة فعل القلب”.

[13] “الأدب المفرد” للبخاري، باب: يحثى في وجوه المداحين.

[14] القاعدة: 94، ص: 68-69.

[15] “قواعدالتصوف”،القاعدة: 56، ص:49

[16] صحيح مسلم، كتاب: الحيض، باب: الدليل على من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك.

[17] “الحكمة العطائية: أجهل الناس من ترك يقين ما عنده، لظن ما عند الناس”، شرح الحكم العطائية للشرنوبي، ص: 98، تحقيق: أحمد فريد المزيدي. كتاب – ناشرون، بيروت.// وشرح الشيخ أحمد زروق، ص:144، تحقيق رمضان محمد، دار الكتب العلمية، ط3 /2008م. // وشرح الشيخ ابن زكري، ص: 557-558، تحقيق: طارق العلمي.

[18] الموافقات في أصول الشريعة، الشاطبي، تحقيق: عبد الله دراز، دار الكتب العلمية –بيروت-، ط. الثانية 2009م،  ص 383.

[19] نفس المصدر، ص 378.

[20] اللمع للطوسي،ص: 400

[21] القاعدة:10، ص: 25.

Science

ذ. محمد المنصوري

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق