وحدة الإحياءمفاهيم

من التعايش إلى العيش المشترك.. نظرات في المحددات المفاهيمية والمرجعية

على سبيل التقديم 

يكتسي موضوع الدين وثقافة التعايش في العالم: الواقع والرهانات”، أهمية خاصة، وراهنية لا غبار عليها لجملة من الاعتبارات:

 أولها؛ أجواء التوتر وغياب الثقة الذي كرسته إيديولوجيا “صراع الحضارات” التي فجرها صامويل هنتينغتون، وإيديولوجيا “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” التي أعاد طرحها فرانسيس فوكوياما. على إثر الاختلال العميق الذي طال بنية النظام الدولي والعلاقات الدولية بفعل تداعيات انهيار المعسكر الشرقي بزعامة الإتحاد السوفياتي، وهي الآثار التي سرعان ما عملت على تغذيتها التناقضات المتولدة عن ظاهرة العولمة التي ارتبطت، في وعي الكثيرين، بالأمركة والهيمنة والتنميط. وقد استفحل الوضع أكثر بفعل انفجار الأزمة المالية والاقتصادية العالمية..

وثانيها؛ صراع التأويلات الذي اشتدت حدته حول حقيقة النص الديني؛ قرآنا وسنة، سعيا إلى امتلاكه؛ ما بين تأويل سلفي يتباين بدوره ما بين تأويل نصي ظاهري، وتأويل علمي منهجي، وتأويل خروجي، من الخوارج، وتأويل تكفيري جهادي. وتأويل توفيقي تعتمده الحركات الإسلامية المشاركة في السلطة أو الساعية إليها، وتأويل عرفاني مع الحركات والطرق الصوفية..بحيث أن كل تأويل من هذه التأويلات بات يشير ويبشر، في الغالب الأعم، بنمط مخصوص للنظام الاجتماعي والاجتماع السياسي ينافي غيره من الأنظمة.

وثالثها: الانشطار الإيديولوجي الإسلامي العلماني العميق على مستوى مرجعيات النخب، واختياراتها الإصلاحية..

الأمر الذي بات يقتضي، أكثر من أي وقت مضى، العمل على اعتماد مقاربة علمية موضوعية للشأن المعرفي، ومقاربة ديمقراطية تشاركية وتوافقية للشأن السياسي وتدبير الشأن العام للجماعة الوطنية بحثا عن شكل من أشكال الكتلة التاريخية أو التيار الأساسي لمواجهة المعضلات والإشكالات التنموية المركبة التي باتت تشكو منها مجتمعاتنا..

كما أن موضوع “العيش المشترك” ينهض على فعل جماعي يراهن من جهة أولى، على تدبير واقع ندرة الموارد المادية والرمزية ومحدوديتها، وهنا تنطرح مشكلة توزيع الموارد وعدالة هذا التوزيع. كما يراهن من جهة ثانية، على تدبير وتكييف واقع التنوع والاختلاف الديني، والثقافي، والطائفي، والمذهبي، والعرقي، والأقاليمي..

ذلك أن سياق العيش المشترك يتراوح ما بين ظروف الرخاء والوفرة والغنى، وهنا يكون العيش المشترك متحصلا بطريقة شبه تلقائية لا تستوجب كبير جهد وتدبير، وبين ظروف الندرة والمسغبة، حيث تستشري الأزمة، ويخيم واقع عدم الاستقرار، وهنا يحتاج العيش المشترك إلى الكثير من الجهد والعنت..

أما أبعاد العيش المشترك فتتحدد أولا من الوجهة المجالية؛ مابين إطار وطني داخلي ضمن مكونات الجماعة الوطنية، وهو البعد الذي يتحدد بنظريات العقد الاجتماعي والسياسي، وبالطبيعة المدنية للإنسان وحاجته إلى غيره. وإطار دولي خارجي ضمن الجماعة الدولية..

كما تتحدد ثانيا من الوجهة المرجعية؛ ما بين مرجعية قرآنية إسلامية تقوم على منظومة قيم؛ التعارف، والاختلاف، والمساواة، والحرية، والعدالة، والكرامة الإنسانية، والتعاون والتدافع. ومرجعية أممية تعبر عن الإرادة الدولية للمجتمع الإنساني، مع ما قد يعتري هذه الإرادة من خضوع لمنطق موازين القوة التاريخية الفعلية، ولمنطق الازدواجية والكيل بأكثر من مكيال واحد..

ومع ذلك فلا يتعين افتراض التعارض الكلي بين المرجعية الأممية الكونية، وهي مرجعية أسهمت فيها كل الحضارات التاريخية، وكل الثقافات القائمة بنصيب. فالحضارة الإنسانية الواحدة والمشتركة لا يمكن تصورها إلا بفضل تعدد الثقافات، وهو تعدد يقتضي التعايش والحوار بدل التنابذ والصراع. على أن يكون هذا الحوار بين جماعات ومجتمعات إنسانية من لحم ودم؛ لها مشاعر مشتركة، وبناء عاطفي وذهني إنساني مشترك.. وليس حوارا بين كيانات حضارية وثقافية مغلقة.

فالعيش المشترك، انسجاما مع ما سلف، يرتكز فضلا عن البنية التعاقدية القانونية الدستورية في صلتها العضوية بالبنية المؤسسية، على منظومة متكاملة للقيم..

وكما أن للعيش المشترك مستلزماته في إطار الجماعة الوطنية، فإن له كذلك، مقتضيات في إطار العلاقات الدولية. ومن أهم الأطر المرجعية الدولية التي تؤسس لمفهوم العيش المشترك تقرير لجنة “إدارة شؤون المجتمع العالمي” التي اتخذت من شعار “جيران في عالم واحد” إطاراً ناظما لعملها، كما اتخذت من ميثاق الأمم المتحدة إطاراً مرجعيا لتصوراتها..

وهو الإطار المرجعي الذي أولى أهمية قصوى لتحقيق مقصدي السلم والأمن الدوليين، وما يتصل بهما من أهداف وغايات فرعية، وفي سبيل هذه الغايات جاء في الميثاق: “استقر عزمنا على أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش في سلام وحسن جوار.”

إزاء الشعور المتزايد بعجز الدول الوطنية على مواجهة ومعالجة الكم الكبير والمعقد من التحديات والقضايا التي تواجهها، وجدت الدول والشعوب التي ترغب وتراهن على السيطرة على مصيرها أنها لا تقوى على ذلك إلا بالعمل معا جنبا إلى جنب مع الآخرين، وأنه يتعين عليها أن تؤمّن مستقبلها من خلال الالتزام بالمسؤولية المشتركة، والجهد المشترك[1].”

ذلك أن الذي استجد هو أن الاعتماد المتبادل بين الأمم قد ازداد اتساعا وعمقا، وكذلك دور الشعوب حيث جرى تحويل بؤرة الاهتمام من الدول إلى عموم الناس من خلال مؤسسات المجتمع المدني، ومن هنا، فإن نمو المجتمع المدني الدولي يمثل مظهرا من مظاهر هذا التغيير..

وفي هذا السياق، انطلقت اللجنة من الوعي بأن الإجراءات والترتيبات التي يتبعها العالم في تدبير وتصريف أموره يتعين أن ترتكز على منظومة من القيم المشتركة، وأن البناء المؤسسي والقانوني مهما كانت عقلانيته الإجرائية فلا يستمد قوته وفاعليته وجدواه إلا من خلال استناده على قيم مشتركة وعلى إحساس عال بالمسؤولية المشتركة.

وقبل هذا التقرير الصادر سنة 1995، تم تقديم وثيقة مرجعية سنة 1991 بعنوان: “المسؤولية المشتركة في التسعينيات: مبادرة ستوكهولم حول الأمن العالمي وإدارة شؤون المجتمع العالمي”.

وسواء تعلق الأمر بلجنة “إدارة شؤون المجتمع العالمي” أو بالوثيقة السالفة، فإن كلتيهما عملتا على التفكير في تجاوز حالة الانقسام والصراع والتوتر التي اتسمت بها مرحلة الحرب الباردة، سعيا لإرساء أسس عالم جديد أكثر اعتمادا وأكثر تعاونا.

كما أن نشوء إدارة لشؤون المجتمع العالمي تمثل بعدا أصيلا من أبعاد تطور الجهود الإنسانية لتنظيم الحياة على هذا الكوكب، وتلك عملية ستظل دوما مستمرة. ولاشك أن ظروف الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة ستعززها بقدر ما سوف تعقدها.

غير أن مفهوم “إدارة شؤون المجتمع العالمي” لا يفيد السعي لإقامة حكومة عالمية، وإنما يسعى إلى تحقيق التوازن بكيفية تغدو معها إدارة شؤون المجتمع محققة لمصالح كل الشعوب في مستقبل مستديم، مسترشد بالقيم الإنسانية الأساسية، وقادرة على تكييف التنظيم العالمي لواقع التنوع الذي يزخر به عالمنا[2].

وانسجاما مع هذا التصور تناول هذا التقرير الكيفية التي تحول بها العالم منذ 1945، محدثا التغييرات الضرورية فيما يتعلق بالترتيبات اللازمة لإنشاء إدارة شؤون المجتمع العالمي.

وقد قدم التقرير في هذا السياق توصيات بالغة الأهمية في حينها: أولا؛ شأن إدارة الاعتماد المتبادل في الميدان الاقتصادي، وثانيا؛ بخصوص إصلاح الأمم المتحدة بشكل يفسح المجال أمام مشاركة أوسعا للشعوب من خلال منظمات المجتمع المدني العالمي.

وقد كان التقرير حريصا على درأ التعارض بين الإرادة الوطنية والإرادة الأممية بهذا الصدد.. مفترضا أن أفضل ما في النزعة الأممية يمكن أن يصدر عن أفضل الزعماء الوطنيين. أكثر من ذلك، فقد اعتبر التقرير أن الإحساس بالأممية أمسى يمثل مكونا ضروريا في السياسات الوطنية السليمة.. بحيث لا يمكن لأية أمة أن تحرز أي تقدم ذي بال وهي تتغافل عن حالة انعدام الأمن والحرمان في أماكن أخرى؛ ” فعلينا (يدعو التقرير) أن نتقاسم جواراً عالميا واحداً، وأن نقوى هذا الجوار، حتى يوفر الأمل في حياة طيبة لكل جيراننا[3].”

ومع أن هذا التقرير لا يخلو من نفس علمي تحليلي نقدي واستشرافي، إلا أنه ينأى بنفسه عن الصفة الأكاديمية ليعتبر نفسه (قبل كل شيء): “دعوة إلى العمل” على جبهات عديدة، سعيا لبلورة أساليب إدارة أفضل لشؤون المجتمع العالمي، إدارة أفضل لبقاء النوع الإنساني، وأساليب أنجع لتدبير الاختلاف والتنوع للعيش معا في جوار عالمي يعد بمثابة الوطن لنوعنا الإنساني[4].

لقد بات العالم في أمس الحاجة إلى رؤية جديدة من شأنها أن تحفز الجماعة البشرية في كل مكان لتحقيق أعلى مستويات التعاون في المجالات ذات الاهتمام المشترك والمصير المشترك، خاصة وأن تجربة حربين عالميتين في مطلع القرن الماضي قد رسخت الوعي بضرورة السعي الدولي إلى التوافق والتعاون بدل الصراع. وعلى إثر ذلك، أمست مفاهيم التعاون الدولي والأمن الجماعي، والقانون الدولي مفاهيم حاضرة لكنها تحتاج إلى تفعيل أكبر.

 ومع انتهاء الحرب الباردة عام 1989 (مع سقوط جدار برلين) أسفرت الثورة في وسط شرقي أوروبا إلى توسيع نطاق الحركة الرامية إلى تحقيق الديمقراطية وضمان الحريات العامة وحقوق الإنسان، والتحول الاقتصادي. الأمر الذي أدى إلى تعزيز آفاق الالتزام بالسعي لتحقيق أهداف مشتركة من خلال التعددية وبدا أن المجتمع العالمي قد أخذ يتفق ويتوحد ويزداد وعيه بضرورة الاضطلاع بمسؤولية جماعية أكبر في نطاق واسع من المجالات:

ـ الأمن بمعناه الواسع (الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والروحي، والعسكري…).

ـ التنمية المستديمة.

ـ تعزيز الديمقراطية.

ـ المساواة وحقوق الإنسان.

ـ العمليات ذات الطابع الإنساني.

لقد استطردنا في الحديث عن العيش المشترك من خلال نموذج “إدارة شؤون المجتمع العالمي” دون أن نحدد بَعْدُ مفهوم “إدارة شؤون المجتمع العالمي”. وهو المفهوم الذي يحيل إلى حصيلة و”جماع الوسائل والإجراءات والتدابير التي يتبعها الأفراد والمؤسسات، بالقطاعين العام والخاص، الرسمي والمدني/الأهلي لإدارة شؤونهم المشتركة وتدبير اختلافهم. وهي عملية مستمرة من شأنها أن تُسعفنا في التوفيق بين المصالح المتعارضة أو المتنوعة، والاضطلاع بالأعمال التعاونية اللازمة..”، فليس هناك نموذجا أو شكلا واحدا لإدارة شؤون المجتمع العالمي، فالأمر يتعلق بـ”عملية واسعة؛ دينامية ومعقدة لصنع القرار بطريقة تشاركية وتفاعلية[5].”

لقد أسفر تنامي اهتمام الشعوب بحقوق الإنسان والمساواة، والديمقراطية، وتلبية الاحتياجات المادية الأساسية، والحماية البيئية، ونزع الطابع العسكري، إلى تبلور العديد من القوى (إلى جانب الدولة) التي تسعى إلى الإسهام في تدبير العيش المشترك من خلال إدارة شؤون المجتمع العالمي (محليا وإقليميا ودوليا)..

ولاشك أن إدارة شؤون المجتمع العالمي تقتضي ابتداع آليات وإجراءات وتقنيات ونظم كفيلة بذلك، كما نقتضي أن تكون هذه الآليات:

ـ أكثر شمولية.

ـ أكثر اعتمادا على المشاركة؛ أي (أكثر ديمقراطية).

ـ أكثر مرونة حتى نتمكن من الاستجابة للمشكلات المستجدة.

كما يتعين أن يكون هناك إطارا عالميا متفق عليه فيما يتصل بالإجراءات والسياسات التي يتوجب تنفيذها على المستويات الملائمة..

الأمر الذي يستلزم اعتماد استراتيجية متعددة الأبعاد من أجل النجاح في إدارة شؤون المجتمع العلمي:

1. إصلاح وتعزيز منظومة المؤسسات الحكومية الدولية القائمة وتحسين أسلوبها في التعاون والتعامل مع المجموعات الخاصة والمستقلة.

2. ترسيخ روح التعاضد القائم على قيم ومبادئ التشاور والشفافية، والخضوع للمساءلة، والحكامة.

3. تعزيز المواطنية العالمية، والحد من الآثار السلبية للأزمة الاقتصادية الراهنة.

4. إشراك القطاعات الأكثر فقرا، والأكثر تهميشا واغترابا في المجتمع الوطني والدولي.

5. السعي لتحقيق السلم والتقدم لكل الشعوب من خلال العمل على استباق الصراعات، وتحسين القدرة على إيجاد حل سلمي للنزاعات.

6. إخضاع القوى الاستبدادية (الاقتصادية، السياسية، والعسكرية) لحكم القانون.

ولذلك، يعبر واضعو هذا التقرير الهام عن وعيهم بأن الإدارة الفعالة لشؤون المجتمع العالمي ليست بالأمر الهين؛ فهي تستدعي إدراكا أفضل وأعمق لمعنى العيش المشترك في عالم أكثر ازدحاما، عالم يتسم بالاعتماد المتبادل مع أن موارده محدودة. إلا أنهم، مع ذلك، يؤمنون أن المشروع الذي يبشرون به ويدعون إليه، يوفر المنطلق اللازم لرؤية جديدة للبشرية.. رؤية تستحثها لإدراك أنه ليس هناك بديل عن العمل الجماعي لخلق عالم أفضل.

غير أن هذه الرؤية، كما سلفت الإشارة، لا يمكن أن تتحقق إلا إذا استندت إلى التزام راسخ بمبادئ المساواة والحرية والعدالة والديمقراطية المترسخة في المجتمع المدني، ذلك أن العيش المشترك في إطار الحوار العالمي يستلزم من المواطنين أن يتعاونوا على جبهات عديدة:

ـ المحافظة على السلم والنظام.

ـ توسيع النشاط الاقتصادي وتعميم الرخاء.

ـ التصدي للتلوث والتحكم في التغيير المناخي.

ـ مكافحة الأمراض الوبائية.

ـ كبح جماح انتشار الأسلحة.

ـ محاربة التصحر وتفادي المجاعات.

ـ الحفاظ على التنوع الوراثي والتنوع الطبيعي.

ـ مواجهة الإرهاب والعنف والانغلاق والتشرد.

ـ تفادي الركود الاقتصادي.

ـ الحد من الاتجار في المخدرات..

غير أن أهم تغيير يمكن أن يقوم به الناس هو تغيير طريقتهم للنظر إلى العالم بما يعزز قيم العيش المشترك. وتفسير ذلك؛ أن العيش المشترك (وطنيا أو دوليا) لن يتحقق إلا من خلال الالتزام المشترك بمجموعة من القيم الأساسية التي من شأنها التوحيد بين الناس رغم اختلاف انتماءاتهم الثقافية والسياسية والدينية والفلسفية. وفي مقدمة هذه القيم؛ القيم الأساسية المتعلقة باحترام الحياة، والحرية، والعدالة، والإنصاف، والاحترام، وأخلاق الرعاية، والأمانة..

 وبفضل هذه القيم يمكن لعيشنا المشترك أن يتأسس على أساس أخلاقي إنساني يستوعب روابط الجوار والمصلحة والهوية والانتماء والعيش الكريم..خاصة إذا علمنا أن “من شأن المعايير الأخلاقية العالمية التي نتوخاها أن تساعد على إضفاء الطابع الإنساني على الأنشطة الموضوعية للنظم البيروقراطية والأسواق، والحد من الغرائز التنافسية، وخدمة المصالح الذاتية الضيقة للأفراد والجماعات، أو بتعبير آخر، ستسعى إلى ضمان أن يكون المجتمع الدولي مشبعا بالروح المدنية[6].”

*******

ترنو هذه الدراسة، كما هو جلي من الدلالة الظاهرة لعنوانها، إلى محاولة الوقوف على أهم المحددات المفاهيمية والمرجعية التي تحكم عملية العيش المشترك، بحسبانها عملية اجتماعية وحضارية لا يتصور تحققها إلا في كنف مجتمع مدني-مديني قائم على التعاقد والوفاق بين مختلف مكوناته، ومحاط بمنظومة من القيم الاجتماعية في التسامح، والغيرية، والتعارف، والاعتراف، والاحترام المتبادل..في إطار من الإيمان الراسخ بشرعية الاختلاف..

وهي المنظومة التي تتعزز كلما وجدت لها سندا مرجعيا في منظومتها العقدية الدينية والتراثية وخبراتها التاريخية والحضارية، وكلما اغتنت بانفتاحها على الكسب الكوني لمختلف الديانات التوحيدية، ومختلف الثقافات، والفلسفات ذات المنزع الإنساني.

كما تنطلق هذه الدراسة من التمييز بين مستوى التعايش؛ باعتباره فعلا اجتماعيا محكوما بمنطق الحاجة والضرورة، بحيث لا يعدو كونه نوعا من التساكن القائم على التحمل والتفضل، والصبر على أذى “الآخر”، واختلافه، وبين مستوى العيش المشترك، المبني على فعل اجتماعي قصدي وواع ، وعلى تعاقد سياسي واجتماعي صريح، وعلى قبول وتمثل واعتراف بوجود الآخر وإقرار بكينوته، وحقه في التميز والاستقلالية والحرية والاختلاف..

ولا ريب أن الحديث عن المحددات المفاهيمية والمرجعية لفعل التعايش والعيش المشترك، بصيغة الجمع، يفضي بنا إلى توسيع دائرة المقاربة لتشمل المنظور الديني والفلسفي، والتاريخي، والسوسيولوجي، والسيكولوجي..

وفي هذا الإطار، تستهدف هذه الدراسة، بشكل أساسي، مقاربة هذا الموضوع انطلاقا من مقترب ومفهوم “التعددية الثقافية” الذي لا يمكن تصور “العيش المشترك” في ظل المجتمعات الحديثة إلا في كنفه.

أولا: في ماهية ومحددات التعددية الثقافية 

تعد التعددية الثقافية تاريخيا مكونا بنيويا أساسيا لمختلف المجتمعات الإنسانية،  فالتعددية الإثنو-ثقافية تحيل إلى معطى يمتد بعيدا في التاريخ الإنساني، وهو المعطى الذي عملت العولمة ومختلف الضغوطات التي تمارسها الديناميات المتصلة بتنامي الهجرة والانفجار الديمغرافي على تكثيفه وتسريع وتيرته[7].

 فهي ليست خاصة بالمجتمعات الحديثة، غير أن الجديد في الأمر أن الدولة المعاصرة أمست مطالبة، أكثر من أي وقت مضى، أن تأخذ بعين الاعتبار التعددية الثقافية التي تميز مجتمعها في إطار سياسة للاعتراف une politique de reconnaissance. والجديد أيضا أن التعددية الثقافية باتت تراهن على إرساء شكل للاندماج السياسي والاجتماعي يختلف عن النموذج الذي أرسيت على أساسه الدول الوطنية Les Etats Nations[8].

وهو ما استوعبه النظام السياسي المغربي؛ حيث اعتمد المغرب مبدأ التعددية السياسية منذ أول دستور اعتمدته المملكة بعد الاستقلال، ونصت عليه سائر الدساتير اللاحقة. ولم يكتف المشرع الدستوري المغربي بإقرار هذا المبدأ بصيغة الإيجاب والتأكيد، وإنما شدد على اعتماده بصيغة النفي حينما أكد على أن نظام الحزب الواحد ممنوع بمقتضى القانون.

وفي الخطاب الملكي التاريخي للتاسع من مارس من سنة 2011، قرر جلالة الملك محمد السادس إجراء تعديل دستوري شامل، يرتكز على سبعة مرتكزات أساسية في مقدمتها؛ “التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة، الغنية بتنوع روافدها، وفي صلبها الأمازيغية، كرصيد لجميع المغاربة”، و”تعزيز الآليات الدستورية لتأطير المواطنين، بتقوية دور اللأحزاب السياسية، في نطاق تعددية حقيقية، وتكريس مكانة المعارضة البرلمانية، والمجتمع المدني”، وكذا “دسترة هيآت الحكامة الجيدة، وحقوق الإنسان، وحماية الحريات”..

وهو ما وجد ترجمته القانونية في دستور 2011، الذي أضفى عمقا دستوريا على تعددية أبعاد الهوية الثقافية المغربية في كنف وحدة الأمة، وذلك بتنصيصه في الديباجة على أن “المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. كما أن الهوية المغربية تتميز بتبويئ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعا..”.

وهي التعددية التي جاءت محكومة بمحددين اثنين؛ الأول يلتزم بـ”حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما؛ مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء. والثاني يؤكد على “حظر ومكافحة كل أشكال التمييز، بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي، أو الجهوي، أو اللغة أو الإعاقة، أو أي وضع شخصي، مهما كان”.

وفي الفصل الخامس ترتقي التعددية الثقافية إلى مستوى المبدأ الدستوري؛ فبعد تذكيره أن اللغة العربية تظل هي اللغة الرسمية للدولة، وأن هذه الأخيرة تلتزم بحمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها، يؤكد أن الأمازيغية تعد أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة، بدون استثناء.يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وذلك لكي تتمكن من القيام مستقبلا بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية.

كما يؤكد أن “الدولة تعمل على صيانة الحسانية، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الهوية الثقافية المغربية الموحدة، وعلى حماية اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة في المغرب، وتسهر على انسجام السياسة اللغوية والثقافية الوطنية، وعلى تعلم وإتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولا في العالم؛ باعتبارها وسائل للتواصل، والانخراط والتفاعل مع مجتمع المعرفة، والانفتاح على مختلف الثقافات، وعلى حضارة العصر.”

ولوضع كل ذلك موضع التنفيد تقرر إحداث “مجلس وطني للغات والثقافة المغربية، مهمته، على وجه الخصوص، حماية وتنمية اللغات العربية والأمازيغية، ومختلف التعبيرات الثقافية المغربية، تراثا أصيلا وإبداعا معاصرا. ويضم كل المؤسسات المعنية بهذه المجالات. ويحدد قانون تنظيمي صلاحياته وتركيبَته وكيفيات سيره.”

إن الإشكال الذي ينطرح هنا هو: إذا كانت الدولة واحدة، والواقع المجتمعي متنوعا ثقافيا؛ فهل من الواجب جعل هذا الواقع انعكاسا لوحدة الدولة أم جعل الدولة انعكاسا للتنوع الثقافي؟ هل يتعين إخضاع التعددية الثقافية للمجتمع إلى منطق أحادية الدولة الصارم، وذلك بغية الحفاظ على استمرارية تماسك الدولة والحؤول دون انقسامها وتصدعها؟ أم أن هذه الاستمرارية وهذا التماسك يتعين أن يتحقق من خلال الاعتراف بواقع التعددية ضمن الوحدة وبما يعززها؟ كيف يمكن المواءمة بين ضرورة الوحدة السياسية والتضامن المجتمعي من جهة، وأهمية التنوع الثقافي من جهة أخرى؟

سوف نرى من خلال هذه المداخلة كيف أن الخيار الأمثل يتمثل في السعي إلى صياغة نظرية معاصرة تنتهج نهجا وسطا للتوفيق بين كلا الاتجاهين، من منطلق أن وحدة الدولة لا تقتضي أُحادية ثقافة المجتمع، وأن التنوع الثقافي لا يفضي بالضرورة إلى تشظية الدولة وانقسامها. وتعرف هذه النظرية بتسمية “التعددية الثقافية” Multiculturalisme. وهي عموما من قبيل نظريات ما بعد الحداثة التي تتميز بتركيزها على أهمية الوعي بالذات الجماعية..

ذلك أن مبدأ التعددية لا يتحقق إلا من خلال الإيمان بوجود العديد من طرق الحياة العقلانية التي تسمح لنا بأن نعيش حياة كريمة. كما يتحقق من خلال القدرة على الاختيار الحر لنمط الحياة الإنسانية الذي يناسبنا. علما أن التعددية والتنوع إنما يكونا في إطار الوحدة الجامعة والروابط المشتركة؛ “فالشرائع المتعددة، على سبيل المثال، لا تتأتى تعدديتها إلا في إطار الدين الواحد، والحضارات المتعددة لا تتأتى تعدديتها إلا في إطار المشترك الإنساني العام. وبذلك، فإن التعددية هي تنوع قائم على تميز وخصوصية، فهي لا يمكن أن توجد إلا بالمقارنة بالوحدة وضمن إطارها، فلا يمكن إطلاق التعددية على التشرذم والقطيعة التي لا جامع لآحادها، ولا على الأحادية التي لا أجزاء لها[9].

تستخدم الأدبيات المعاصرة مصطلح “التعددية الثقافية” كمصطلح شامل يغطي مساحة واسعة من السياسات التي تستهدف توفير مستوى معين من الاعتراف العام، ومساندة مختلف الثقافات الفرعية الأمر الذي يستوجب بلورة أنواع مختلفة من السياسات لأنواع مختلفة من الجماعات الثقافية الفرعية.. وهكذا يتصل مفهوم التعددية الثقافية اتصالا وثيقا بمفهوم “سياسة الاختلاف”، وهو المفهوم الذي بمقتضاه يتعين “معاملة الأشخاص المختلفين بشكل مختلف نسبيا وفقا لثقافتهم المميزة[10].”

وفي هذا السياق، يوظف المفهوم باعتباره مفهوما جامعا يستبطن مجموعة كبيرة من السياسات المعنية بتوفير مستوى معين من الاعتراف الرسمي والدعم للجماعات الفرعية غير المهيمنة، سواء أكانت تلك الجماعات من المهاجرين أو الأقليات القومية أو السكان الأصليين[11].

كما أن التعددية الثقافية الليبرالية ترتكز على افتراض أن سياسات الاعتراف ومساندة التنوع الثقافي من شأنها أن “توسع مجال الحرية البشرية” و”تقوي الحقوق الإنسانية”، وتخفف من الهيراركية العرقية والعنصرية وتعمق الديمقراطية والعيش المشترك.

ومع ذلك، فإن التعددية الثقافية من منظور ليبرالي تعد ظاهرة أكثر تعقيدا مما يعتقد الكثيرون، وهي ليست مبدأ واحدا أو سياسة واحدة، وإنما هي مظلة تستوعب أساليب تختلف بشكل كبير من تجربة إلى أخرى، كما أن كل واحد من هذه الأساليب يتميز بتعدد وتعقد أبعاده[12].

فمع أن التعددية الثقافية تعد، من وجهة نظر البعض، بمثابة أيديولوجيا؛ أي “نسقا من المعتقدات المترابطة والمنظمة”، إلا أنها تظل قابلة، مع ذلك، للتشكيك والدحض. فهي تركز اهتمامها تحديدا على كيفية التعامل مع التنوع الثقافي داخل الدولة، وطبيعة علاقة الدولة بمكوناتها الثقافية، وماهية المرجعية الفكرية التي ينبغي الركون إليها لضمان شرط المعاملة العادلة مع سائر مكوناتها. فهي بإيجاز من قبيل النظريات السياسية لا الأيديولوجيات.

ومن جهة أخرى فإن التعددية الثقافية تعد في عمقها تجربة حياة، وتجربة عيش في كنف مجتمع أقل انعزالية وضيقا في الأفق، وأكثر حيوية وتنوعا ولو كان أقل تجانسا.

فالتعددية الثقافية، بهذا المعنى، تنشأ من تجربة العيش المشترك في مجتمع تعددي ومتسامح فكريا، له تكوين متنوع من الوجهة الثقافية والاجتماعي، وهو التكوين الذي يجعل الموقف من شتى التشكيلات الثقافية الفرعية موقفا متفتحا وإيجابيا، يقوم على تكريم الناس وتقديرهم واحترام حقهم في اختيار طريقة الحياة التي تناسبهم وتعبر عن هويتهم بما لا يخل بوحدة الجماعة وانسجامها..

فالتعددية الثقافية، ضمن هذا التصور، تحيل إلى منظور فكري، وإلى آليات محددة للتعامل مع الواقع المجتمعي المتنوع، بما يسمح بالمشاركة في الشأن العام وصناعة القرار لصالح مختلف المكونات الثقافية الفرعية داخل الجماعة، والاعتراف بإسهاماتها المميزة في المجتمع.

ترتقي التعددية الثقافية في الأدبيات السياسية والسوسيولوجية المعاصرة كشرط محدد للعيش المشترك إلى مستوى المفهوم الإجرائي الذي يسعى إلى التدبير العقلاني والوظيفي لواقع التعدد والتمايز الثقافي في كنف المجتمع الواحد. كما يسعى إلى قبول ورضا كافة تلك المكونات بواقعها المجتمعي المتعدد والاعتراف به رسميا، من خلال النظر إليه كمحصلة ناجمة عن تراكمات تاريخية وثقافية تتميز بقدر كبير من الرسوخ.

وبناء على هذا الاعتراف، يتم إقرار آليات محددة في كيفية التعامل مع هذا التنوع الثقافي. وفي حالة توفر مثل هذا الاعتراف وتلك الآليات، يجري وصف المجتمع بكونه مجتمعا تعدديا يتبنى التعددية نهجا للتسامح والتعايش ما بين مكوناته الثقافية، بينما مفهوم التنوع الثقافي يشير إلى تنوع الواقع المجتمعي وتعدد مكوناته الثقافية ليس إلا.

وفي مستوى ثالث تتحدد التعددية الثقافية بكونها سياسة عامة معنية بتلبية احتياجات الجماعات الثقافية على صعد التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية.

من خلال ما سلف نخلص إلى أن التعددية الثقافية تتحدد بكونها أولا نظرية تفسيرية تسعي إلى عقل الواقع الاجتماعي المتعدد، وثانيا بكونها سياسة في التعامل مع التنوع الثقافي، بحيث تستند إلى فكرة المشاركة الجماعية الديمقراطية من طرف مختلف الجماعات الثقافية على أساس المساواة والعدالة الثقافيتين، والاعتراف رسميا بكون تلك الجماعات متمايزة ثقافيا، ومن ثم تطبيق ذلك عمليا من خلال سياسات محددة تسعى إلى مساعدة تلك الجماعات وتعزيز تمايزها الثقافي في كنف الأمة الجامعة[13].

وهكذا فإن التعددية الثقافية تعبر عن الكيفية التي يتعين بمقتضاها إرساء بنيان التضامن السياسي والاجتماعي في مجتمع متنوع ثقافيا، بما يكفل احترام مكونات هذا التنوع والتكيف معها. وسعيا لبلورة هوية سياسية جامعة، لابد من جذب مختلف الجماعات الفرعية باتجاه الاندماج المؤسساتي، وهو الاندماج الذي يعمل تدريجيا على توليد الشعور بالانسجام أو التطابق النفسي بين مختلف هذه المكونات الثقافية الفرعية والثقافية الجامعة..

 ذلك أن المؤسسات العامة تجمع المنتمين إلى شتى الجماعات الفرعية، فتكون هذه المؤسسات ذات امتدادات متشعبة شاملة المجالين الشخصي والسياسي لأعضائها؛ فعلى الصعيد الشخصي، تعنى هذه المؤسسات بتلاقي الناس من مختلف الانتماءات، فيوطدون، بذلك، علاقاتهم المتبادلة التي ترتبط على نحو وثيق الصلة بحياة هذه الجماعات في بيئاتها وأماكن تواجدها. أما على الصعيد السياسي، فتعنى  تلك المؤسسات بتعليم الناس كيفية التعامل والتعايش والتفاوض مع بعضهم البعض، رغم اختلافاتهم..

وهكذا، سيُفضي بالاندماج المؤسساتي، بفعل عامل الزمن، إلى بلورة مِزاج عام يوحد الجماعات الثقافية التي تعيش على رقعة جغرافية معينة، بحيث يتحول إلى ثقافة مشتركة تتعايش بموجبها الجماعات الثقافية. فيتكون لدى أعضائها حِسُّ الانتماء إلى وطن مشترك ومؤسسات سياسية مشتركة. ومع ازدياد نطاق هذه الهوية المشتركة ورسوخها، ستختفي بمرور الزمن وضعية الأكثرية – الأقلية، لنكون أمام واقع قائم على أساس الهوية المشتركة التي تعبر عن جميع مكوناتها دون فقدان الأخيرة لخصوصياتها الثقافية[14].

ثانيا: التعددية الثقافية: محاذيرها ومفارقاتها

تثير الأدبيات ذات الصلة العديد من المحاذير التي تطرح بصدد الحديث عن التعددية الثقافية من قبيل التحوط من مغبة التقييم المجحف للتعددية الثقافية كمرحلة نمو بدائية يصعب تمييزها عما يتم نعته بـ”الجماعاتية الأكثر رجعية” communautarisme le plus rétrograde، والتخويف من تبني التعددية الثقافية والنظر إليها كمنزلق خطير يفضي إلى تفكيك المجتمع، ويغذي النزاعات الإثنية والدينية فيه، ويهدد التضامن الوطني ويشيع حالة من الفوضى العامة المبررة لتقييد الحريات المدنية والسياسية..[15].

  وفي السياق نفسه، فإن الإعلاء من شأن التعددية الثقافية وتشجيعها يفضي إلى عدم الاعتبار للفردانية الليبرالية L’individualisme libéral، لدرجة أنه في سنوات السبعينيات والثمانينيات، التي مثلت المرحلة الأولى من تطور التعددية الثقافية، كانت هذه الأخيرة تحتمي بكونها محافظة و”جمعاتية”. والواقع أن التعددية الثقافية من خلال مختلف التجارب الدولية أثبتت أنها مثلما يمكن أن تكون رجعية ومحافظة يمكن أن تكون تقدمية[16].

إن ظهور التعددية الثقافية على امتداد الثلاثين أو الأربعين سنة الماضية توافق زمنيا مع ظاهرة العولمة الاقتصادية المكثفة، وما اتصل بها من تخفيض للنفقات في دولة الرفاه، وخصخصة للشركات العامة، وتحرير للأسواق. وتبعا لذلك فقد اتضح كما لو أن الشكل الأيديولوجي المثالي لهذه الرأسمالية العالمية هو التعددية الثقافية[17].

ومن جهة أخرى، فإن تفسير التعددية الثقافية على أنها الحق في المحافظة على التراث الثقافي الأصيل يثير عدة أخطار كامنة: فهو قد يرفع من شأن النقاء الثقافي على حساب التلاقح الثقافي، وقد يعمل على الحد من حرية الأفراد داخل الجماعات بأن يعلي من شأن المنحى المحافظ على حساب المنحى الإصلاحي، كما يمكن استدعاؤها لإنكار وجود حقوق الإنسان العالمية، وقد يهدد مساحة النقاش المدني والتفاوض الديمقراطي حول التدافع الثقافي.

والواقع أن المسار الفعلي الذي تم من خلاله استلهام وتبني التعددية الثقافية أخذ صورة مختلفة؛ حيث أن كل المشاركين في تبني إصلاحات التعددية الثقافية في الغرب، من الناشطين السياسيين ومنظمات المجتمع المدني التي حركت هذه الإصلاحات، إلى القطاع العام الذي يدعمها، إلى المشرعين الذين تبنوا هذه الإصلاحات، إلى الموظفين الذين كتبوا مسودتها وطبقوها، إلى القضاة الذين فسروها، قد استلهموا المثل العليا لحقوق الإنسان وليبرالية الحقوق المدنية، ولقد رأى هؤلاء الممثلون إصلاحات التعددية الثقافية كجزء من مسار أوسع للتحرر السياسي والاجتماعي، وغرست هذه الإصلاحات بشكل قانوني ومؤسساتي داخل إطار عمل للحقوق الليبرالية[18].

يعتقد ويل كيمليكا أن التصور الذي بلورته المنظمات الدولية حول الثقافات المتعددة يعد امتدادا تقدميا من الناحية الأخلاقية لمعايير الحقوق الإنسانية. وتفسير ذلك أن المعايير المشروعة للتعددية الثقافية، التي طورها القانون الدولي والمنظمات الدولية، تعد، من وجهة نظره، بمثابة تطور طبيعي ومنطقي لمعايير حقوق الإنسان العالمية، وهي تعمل ضمن ضوابط تلك المعايير وتعمل على ترسيخ وتدعيم ملحمة حقوق الإنسان في الزمن المعاصر.

ومع ذلك، فلا نعدم من لا يوافق على ذلك، ويمعن في النظر إلى الحركة العامة لنشر التعددية الثقافية وحقوق الجماعات الفرعية على أنها خيانة للمثل العليا الأساسية للمجتمع الدولي. وفي هذا السياق ترى “إيلين فينكلكروت”، على سبيل المثال، أن احتضان الأمم المتحدة فكرة التعددية الثقافية تضمن التخلي عن الفكرة الكلية العامة لعصر التنوير لمصلحة النسبية الثقافية: “لقد تأسست الأمم المتحدة لإشاعة المثل العليا الكلية لعصر التنوير الأوروبي، ولكنها الآن تدافع عن الأحكام العرقية المبتسرة، معتقدة أن للشعوب والأمم والثقافات حقا يجاوز حقوق الإنسان، ترفض جماعة التعددية الثقافية القيم الليبرالية باعتبارها عنصرية، في حين أنها تناصر الشوفينية Chaivinism الضيقة المتزمتة لكل ثقافة للأقلية.

والواقع أن وثائق الأمم المتحدة صريحة فيما يتصل بمعايير التعددية الثقافية، بحيث يتم استخدامها بطريقة لا تجاوز حقوق الإنسان. وفي هذا الإطار يذهب الإعلان العالمي لليونسكو، بشأن التنوع الثقافي، إلى أنه “لا يجوز لأحد أن يلجأ إلى التنوع الثقافي لانتهاك حقوق الإنسان التي يضمنها القانون الدولي أو لكي يحد من مجالها” المادة 4. كما يذهب إعلان الأمم المتحدة حول حقوق الأقليات إلى أن أي حقوق أو واجبات معترف بها في هذا الإعلان “لن تحجب تمتع جميع الأشخاص بحقوق الإنسان والحريات الإنسانية المعترف بها عالميا “المادة 8″2”.

ويذهب اتفاق منظمة العمل الدولية حول حقوق الشعوب الأصلية إلى أنه لابد من احترام حق الشعب الأصلي في تدعيم ممارساته الثقافية “ما دامت لا تتعارض مع الحقوق الأساسية التي حددها النظام القانوني الوطني وحقوق الإنسان المعترف بها عالميا” المادة 8″2″. كما يذهب المجلس الأوروبي الذي وضع إطار اتفاقية حقوق الأقليات القومية إلى أن الاتفاقية لابد من أن تفسر بطريقة تتناسب مع الاتفاقية الأوروبية حول حقوق الإنسان المادة 22، والواقع أن أي اتفاق أو إعلان دولي له صلة بالموضوع يشير إلى الملاحظة نفسها، فحقوق الأقليات والشعوب الأصلية هي جزء لا يتجزأ من الإطار العام للحقوق الإنسانية الأوسع، وهي تعمل ضمن حدودها وتخضع لمعاييرها[19].

لكن بالمقابل يكشف ويل كيمليكا أن الدول الغربية ذاتها منقسمة بعمق بشأن جدارة المعايير الدولية للحقوق المتصلة بالتعددية الثقافية، كما أنها لا تسيطر باستمرار على الطريقة التي تتطور بها هذه المعايير، فعلى سبيل المثال، عندما جاء دور التصويت على مسودة إعلان حقوق السكان الأصليين في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في يوليو 2006، تبنته ودعمته الدول النامية في مقابل اعتراض كثير من البلدان الغربية، بما فيها الولايات المتحدة، وكندا، ونيوزيلندا، واستراليا. وفي عام 1919 عندما اقترحت اليابان إضافة بند حول المساواة العرقية إلى ميثاق عصبة الأمم، سرعان ما رفضت الاقتراح الولايات المتحدة، وكندا، وقوى غربية أخرى.

ومع أنه في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، كانت “العنصرية في أنحاء العالم مقبولة اجتماعيا على نطاق واسع، ومدعومة سياسيا، ومسنودة اقتصاديا، ومبررة ثقافيا، ومتغاضى عنها قانونيا، إلا أن التحرر من الاستعمار ألهم النضال من أجل إلغاء التفرقة العنصرية، مثلما أن إلغاء التفرقة العنصرية ألهم النضال من أجل حقوق الجماعات الفرعية والتعددية الثقافية[20].

وعندما وضع البريطانيون والأمريكيون خططهم لنظام ما بعد الحرب في ميثاق الأطلنطي في العام 1941، لم تكن هناك إشارة خاصة بالمساواة العنصرية، وشعر “تشرشل “بأنه ينبغي أن يعاد حق تقرير المصير للشعوب الأوروبية التي غزاها واستعمرها النازي، لكنه لم يشأ أن يفسر ذلك على أنه مبرر لمنح حق تقرير المصير للشعوب غير الأوروبية التي غزاها واستعمرها البريطانيون. ومن هنا صيغ ميثاق الأطلنطي على هذا النحو: “تعاد حقوق السيادة والحكم الذاتي لأولئك الذين حرموا منها عنوة”، وتبعا لذلك فإن الشعوب الأوروبية التي تمتلك دولا ذات سيادة، مثل التشيك وبولندا، لابد من أن يستردوا حقوق السيادة لتقرير المصير، في حين أن الشعوب غير الأوروبية من سكان المستعمرات الذين لم يعترف بهم القانون الدولي كدول ذات سيادة فسيظلون تحت يد الإمبراطورية البريطانية.

ونظرا إلى أن القبول الشعبي للتعددية الثقافية في الغرب قد اعتمد على إدراك يتسق مع كل من الأمن الجيوسياسي للدولة والأمن الشخصي للمواطنين الأفراد، فإن دعم منظور التعددية الثقافية الليبرالية لاحتواء المهاجرين المسلمين يواجه ممانعة صعبة في أوروبا الغربية. والواقع أننا شاهدنا تراجعا ليس جزئيا كما زُعم وإنما تراجعا واضحا ضد التعددية الثقافية الليبرالية، لاسيما في البلاد التي يشكل فيها المسلمون أغلبية واضحة من السكان المهاجرين، ويمثلون بالتالي محور المناقشات حول التعددية الثقافية. وفي معظم أوروبا الغربية نجد أن أغلب المهاجرين غير الأوروبيين من المسلمين؛ فما يقرب من 80 بالمائة من المهاجرين في دول مثل: فرنسا، وإسبانيا، وإيطاليا، وألمانيا، وهولندا..الخ، بالمقارنة بـ10 بالمائة أو أقل في كندا والولايات المتحدة، ولهذا فإنه كثيرا ما تتم المماهاة في أوروبا بين المهاجر والعربي والمسلم.

إن المساندة الشعبية للتعددية الثقافية قد تراجعت عندما بدا كما لو أن المسلمين هم المستفيدون الأساسيون من هذه السياسة؛ وهو ما جعل جريدة “المشاهد” Spectator تنشر مقالة بعنوان متحيز: “كيف قتل الإسلام التعددية الثقافية؟”[21].

والواقع أن الخوف المرضي أو الفوبيا من الإسلام ليست هي المصدر الوحيد لتراجع الحديث عن التعددية الثقافية للمهاجرين في أوروبا، كل ما هنالك أن المخاوف من المسلمين أمست بمثابة التبرير الأكثر حداثة للقلق العميق الدائم من “الآخر”.

ووجه المفارقة، ها هنا، أن هولندا بينما تمعن في التراجع عن التعددية الثقافية بالنسبة إلى المهاجرين، تدعم حقوق أقلياتها التاريخية الفريزية Frisian، وفي حين تتراجع ألمانيا عن التعددية الثقافية للمهاجرين، نجدها تحتفل بالذكرى الخمسين لأقلياتها الدنماركية، وفي الوقت الذي تراجعت فيه بريطانيا عن التعددية الثقافية للمهاجرين، نجدها لا تتردد في منح القوميات التاريخية في اسكتلندا وويلز حق الحكم الذاتي، ونفس الأمر ينطلق على استراليا؛ فمقابل تراجعها عن التعددية الثقافية للمهاجرين، ألفيناها تدعم نظام المؤسسات وحقوق السكان الأصليين، أما فرنسا فقد تراجعت بدورها عن التعددية الثقافية للمهاجرين، وعملت على تعزيز الاعتراف بلغات الأقليات التاريخية[22].

وفي كل الأحوال، فإن التجربة الغربية في هذا الإطار تفيد، لحد الآن، أن القبول العام بالتعددية الثقافية يعتمد على مشاعر كل من أمن الفرد وأمن الجماعة، وعندما تضعف هذه المشاعر فلا شك أن التعددية الثقافية سوف تواجه هجوما وتراجعا شديدين[23].

ولذلك فإن مسألة التعددية الثقافية لا يمكن فصلها عن مصير الدولة التي أمست تخضع، رغم قوتها الظاهرة، لضغوط مزدوجة من أعلى ومن أسفل تعرضها لتحولات عميقة تهددها حتى بالتجاوز à son dépassement. وهو الوضع الذي أثار ولا زال يثير مخاوف حقيقية حول مدى قدرة الدولة على إدارة مختلف النزاعات المادية والرمزية التي تتفاعل في كنفها بين مختلف القوى الاجتماعية..

ذلك أنها تتعرض بكثافة لتأثيرات متناقضة؛ فهي معرضة من جهة لتكوينات أنثربولوجية ما قبل حديثة تجرف أسسها من القاعدة، كما تتعرض من جهة أخرى لتحديات ومعضلات ذات طبيعة عولمية من الأعلى تستعصي السيطرة عليها سياسيا.ولمواجهة هذا التحدي المزدوج يتعين على الدولة أن تعيد النظر في طريقة ربطها بين الكوني/العام والمحلي/الخاص.. بين الهوية والاختلاف..[24].

ثالثا: الهوية والغيرية والرغبة في نيل الاعتراف

هل من شأن التعددية الثقافية أن تُسهم، من الوجهتين النظرية والعملية، في زيادة الاندماج الداخلي للدولة أم أنها تعمل على بلقنتها وتفتيتها؟ إذا كانت تعمل على تعزيز هذا الاندماج، فهل يصح الاستمرار في تطبيق نموذج الدولة-الأمة، أم أن الأمر يستوجب إعادة بناء الدولة، وإيجاد نموذج دولة بديل ينسجم مع التنوع المتنامي لمجتمعات الدول الغربية؟

في سياق العمل على رسم الملامح الرئيسية للإجابة على هذا الإشكال، تبلورت فرضية للبحث مفادها أن التعددية الثقافية تعد بمثابة نظرية في التعامل مع التنوع الثقافي ومعالجة ظاهرة انبعاث الهويات الثقافية في الدول الغربية، وأن عامل التباينات الثقافية هو العامل الجوهري في إثارة هذه الهويات.

يحيل مفهوم “الهوية الثقافية” إلى شعور أفراد جماعة من الجماعات بالانتماء إلى ثقافة مشتركة. فهو يحيل إلى الجماعة وما تؤمن به من معتقدات وأفكار وتصورات، وتمثلات عن أصولها الاجتماعية وموطنها وموروثها التاريخي وطريقة عيشها، وما يترتب عن ذلك من دور فعال في ربط أعضاء الجماعة ببعضهم البعض، على النحو الذي يجعلهم متماثلين في نمط حياتهم ومعتقداتهم، وكذلك يجعلهم متباينين عن ذوي الثقافات الأخرى وأنماط حياتها.

ومن هذا المنظور، فإن الهوية الثقافية تنهض بوظيفتين جوهريتين؛ فمن جهة أولى تعمل على إكساب أعضائها حس الانتماء المشترك، وذلك من خلال توليد الاعتقاد بتماثلهم في الأصول والمعتقدات والموروث الثقافي عموما، ومن جهة ثانية تنهض الهوية الثقافية بدور المصفاة، وذلك بفرز كل من لا ينتمي إليها وتمييزه عنها، فهي بهذا المعنى بمثابة أداة للتمييز بين المنتمين وغير المنتمين إليها.

هاتان الوظيفتان يطلق عليهما تسمية “التباينات الثقافية”، انطلاقا من أن الهوية الثقافية لا تتولد من تلقاء ذاتها، وإنما تتمخض عن تباين الذات وتمايزها عن “الآخر” بحيث تبرز التباينات في شتى مكونات الثقافة.

كلما كان واقع الجماعة المعيش متطابقا مع بنائها الفكري، كلما تعزز تماسك الهوية واستقرارها بما يؤهلها لأن تكون مستودع إرادة مستقلة وهادفة.

ورغم حديثنا الواثق حول الهوية إلا أن باتريك سافيدون ينبهنا إلى أن المحددات الخاصة للهوية الوطنية تكون من القدم والعراقة بحيث يصعب ملاحظتها في خصوصيتها[25].

وفي هذا السياق يستعين بتحليلات كل من دومينيك شنابر Dominique Schnapper ويورغن هابرماس Jürgen Habermas؛ الأول من خلال خلوصه إلى أن التحديات التي تواجه الدولة-الأمة الديمقراطية تجعلها عاجزة عن الاستمرار في ضمان اللحمة الاجتماعية إلا إذا كيفت نفسها مع التحولات الكونية بشكل جوهري.. والثاني من خلال تأكيده أن لا سبيل لتجاوز الدولة المعاصرة لعجزها عن إيجاد الحلول الملائمة لمختلف المعضلات الاقتصادية والايكولوجية التي تواجهها إلا باعتمادها لتصور ما بعد وطني postnationale يسمح للسياسة بأن ترتفع إلى مستوى الاقتصاد العالمي، ولا تظل حبيسة الحدود الضيقة للأمم..

فهذين المنظورين يعبران، من وجهة نظر باتريك سافيدون، عن فهم مقلوب أو معكوس لنفس الوضعية؛ إما أن تكون نهاية الدولة الأمة مرتبطة بتراجع السياسة وتصاعد الخصوصيات، وإما أن تكون مرتبطة بتوسع للسياسي يترتب عليه انفكاك أو انفصال للمجتمع السياسي عن المكون الوطني الذي يعطيه المعنى والحياة..وفي الحالتين فإن مسألة مشروعية السلطة السياسية تغدو إشكالية Problématique، وفي الحالتين تنطرح مشكلة مواءمة التعددية في كنف الجماعة السياسية..[26].

ذلك أن الاستشكال حول التعددية الثقافية في سياق ديمقراطي يقتضي التساؤل عن نوعية العلاقة المشروعة التي يمكن إقامتها بين السياسية والثقافة؟ وعن الحيز الذي من شأن المكون الوطني أن يحتله ضمنها؟ وعن الوضع الذي يتعين أن نخص به التعددية الثقافية؟ وكيف يمكن، من الناحية السياسية والفكرية، تشجيع ودعم الاختلافات الثقافية دون أن يؤدي ذلك إلى حالة من عدم المساواة والعدالة والاستقرار الاجتماعي؟ وهل نحن بصدد مسار يعمق الديناميكية الديمقراطية كإطار حاضن للعيش المشترك أم بصدد مسار يعيقها؟

هذا الاستشكال المركب ينأى به باتريك سافيدون عن أن يأخذ أية دلالة خطابية شكلية، ويصر على إعطائه كامل دلالته الوظيفية لتعزيز الكرامة الإنسانية وإشاعتها بين الناس، وهو ما من شأنه أن يمثل محركا بالغ القوة لإرساء الحداثة السياسية من الوجهة الفكرية والثقافية. والخطر يكمن، هاهنا، في كبح أو قلب هذه الدينامية..[27].

يدلل باتريك سافيدون على أن التعددية الثقافية أضحت تأخذ تدريجيا بعدا معياريا؛ ومن ثم فإن حماية هذه التعددية من شأنه أن يعزز المسلسل السوسيو-اقتصادي للوحدة الثقافية للأمة[28].  وهو ما سوف يترتب عليه تحول نوعي في النماذج التقليدية للاندماج الوطني؛ ويستدعي ضرورة اعتراف الدول الديمقراطية بواقع التعددية الثقافية، والعمل على إيجاد أنجع السبل القانونية والإجرائية لتدبير هذه التعددية وتوجيهها الوجهة التي تكرس وحدة الجماعة وانسجامها وتعايش مختلف مكوناتها[29].

وفي هذا السياق يبرز باتريك سافيدون كيف أن التآكل التدريجي للهيراركية أو التراتبية الخاصة والمميزة للعالم الأرستقراطي يترافق مع حركة تسوية للشروط، وحركة استقلالية يتمثل الأفراد من خلالها أنفسهم بصفتهم متماثلين ومتشابهين ليس فقط بالنسبة لأعضاء الجماعة التي ينتمون إليها، وإنما، أكثر من ذلك، بالنسبة للبشرية جمعاء..

ومن هذا المنظور تغدو الديمقراطية الحديثة بمثابة اكتشاف جماعي لتمثل المساواة بين الناس؛ بمقتضاها يغدو المجتمع الديمقراطي هو ذلكم المجتمع الذي تتبلور في كنفه تجربة جديدة لـ “الآخر”، وهي التجربة التي تقوم على إعادة تأسيس عميق للفكرة الإنسانية مستوعبة من خلال تجريد الاختلافات par abstraction des différences.

خلافا للمنظور الأرستقراطي؛ الذي بمقتضاه تبدو كل المظاهر المهيكلة للنظام الاجتماعي ولعلاقات السلطة كما لو أنها مستخلصة من جوهر طبيعي ثابت؛ فبالنسبة للأرستقراطي كل فرد تتحدد كينونته تبعا لماهيته الطبيعية، ويتعين عليه، تبعا لذلك، اتباع المسار الذي تحدده له ولادته وأصله والارتهان إليه وعدم التجرؤ على تجاوزه..[30].

ضمن هذا المنظور، ترتكز التراتبية على مبدأ متعال مفاده أن تقاطع الأنظمة الطبيعية والمعيارية يفترض التأسيس الثيولوجي أو ما فوق طبيعي للنظام الطبيعي، وعليه فإن القانون والمنظومة المعيارية تجد أصلها ومبدأ مشروعيتها في قوى ما فوق طبيعية[31]. وهو ما ينتقده باتريك بشدة مشددا على الطبيعة التعاقدية للقانون.

وهو ما يتعارض كليا مع التصور الإسلامي لحقيقة الوجود الإنساني وحقيقة العمران الإسلامي القائم على منظومة قيم الحرية والمساواة والعدالة والغيرية والتسامح والفاعلية التاريخية والاجتهاد والاستخلاف.. وهي المنظومة التي تتحدد بمقتضاها قيمة الإنسان في الدارين مصداقا لقوله تعالى: ﴿وأن ليس للاِنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يرى..﴾ (النجم: 38-39)، وقوله عز من قائل: ﴿إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ (الحجرات: 13).

بعد ذلك انتقل  Patrick savidanإلى الوقوف على أهم التحولات الديمقراطية للهوية؛ مبرزا بشكل أساسي كيف أن نظرة الآخر إلى الذات واعترافه بها يسهم بشكل  حاسم في تحديد هويتها، ومبرزا، كذلك، كيف أن الاعتراف يسهم في تحقيق الهوية؛ وهي الفكرة التي سبق لهيغل أن بلورها، وثم تطويرها وتعميقها بطرق وصياغات مختلفة في حقل العلوم الاجتماعية المعاصرة.. الأمر الذي يؤكد أهمية العلاقة مع الآخر في بناء وتشكيل الهوية الفردية L’identité individuelle[32].

ولتعزيز مقاربته يستحضر الأطروحة التي بلورها كل منSylvie Mesure et Alain Renaut؛ وعبرا عنها بمفارقات الهوية الديمقراطية المعاصرةLes paradoxes de l’identité démocratique contemporaine، مبرزين أن تجربة الغيرية expérience de l’altérité باعتبارها من مقومات العيش المشترك لا تأخذ دوما نفس الشكل ولا نفس المضمون، وبالتالي فمقاربتها لا يتعين أن تنحصر في إطار وصفي، وإنما يتوجب أن تندرج ضمن منظور معياري normative  une perspective يرتسم من خلاله الأفق الذي يحدد وجهتنا.

ضمن التصور الأرستقراطي القديم فإن الآخر لا يمثل شبيها لنا؛ لأنه يختلف عنا اختلافات جوهرية طبيعية عميقة تجعلنا نتوجس منه، نخاف، نتحفظ ونحتاط. أما في المنظور الحديث أو الديمقراطي فإن الآخر يعد، قبل كل شيء، شبيها لنا، ومن نفس طينتنا، ولذلك فهو يحوز ويتمتع بنفس الحقوق التي نتمتع بها ونحوز عليها.. ضمن هذا الإطار الحديث يتم التركيز على ما هو مشترك؛ والوعي بهذا المشترك الإنساني هو الذي يمثل الأساس الذي تنتظم ضمنه الحقوق الانسانية بالنظر إلى كونها حقوقا ذاتية[33].

وضمن هذا المنظور يقع نوع من التقليص أو الاختزال للغيرية مقابل الإعلاء من شأن التشابه والتماثل، الذي بمقتضاه يجري النظر إلى الآخر كمثيل أو شبيه لنا.. وهو ما يفضي إلى مبدأ الحياد الإثنو-ثقافي للدولة الوطنية principe de la neutralité ethnoculturelle de l’Etat-nation. وهو المبدأ الذي أثار نقاشا مع أنصار الإرث الهيغيلي من دعاة الصراع من أجل الاعتراف[34]. وفي هذا السياق جرى التعبير عن مخاوف حقيقية من أن يؤدي هذا الحياد إلى انقسام المجتمع وبلقنته، وإلى إضعاف علاقاته التضامنية ولحمته السوسيولوجية المادية والرمزية، بل وتهديد منظومة حقوقه الفردية..

وهو التخوف الذي تمت ترجمته إلى استشكال محوري وجرى التعبير عنه بالصيغة التالية:هل من شأن مبدأ الحياد أن يعفينا من الالتزام بسياسة الاعتراف Une politique de la reconnaissance، وبذلك نجيب على الانتظارات التي تعبر عنها هذه الأخيرة، فنتلافى بذلك خطر الطائفية؟ هل يمكن للحياد الإثنو-ثقافي للدولة أن يمثل جوابا مقنعا لتطلعات واحتياجات الجماعات الفرعية؟[35].

أغلب المنظرين والممارسين للتعددية الثقافية يجيبون بالنفي على هذا الاستشكال. ومع أن هذا ما يشير إلى عودة النقد الموجه أولا إلى التعددية الثقافية، إلا أن الأمر لا يتعلق بالتمسك بالدفاع عن التعددية الثقافية ضد أو في مواجهة تهمة الجمعاتية أو الطائفية، وإنما يتعلق ببساطة بالتدليل على أن المجتمعات الديمقراطية الليبرالية لا تحترم، من الوجهة المؤسسية، مبادئ الفردية الأخلاقية التي تجاهر بها. L’individualisme moral[36].

في سياق تحديده للإطار الفلسفي لأخلاق الاعتراف تتم الإحالة إلى أطروحة الفيلسوف الكندي شارل تايلور Charles Taylor وبوجه خاص من خلال دراسته “سياسة الاعتراف[37]“، فهوية كل شخص ترتبط بشكل حتمي، من وجهة نظر شارل تايلور، مع شكل الاعتراف بها. وهو ما يجعل منها؛ أي الهوية ليس مجرد حسن آداب ومعاملة في حق الآخر، وإنما هي، أكثر من ذلك، حاجة إنسانية حيوية Un besoin humain vital.

ويبرز تايلور العلاقة بين الاعتراف والهوية من خلال خلوصه إلى أن الأمراض التي يمكن أن تصيب الهوية نوعين: النوع الأول ينتج عن غياب الاعتراف أو عدم الاعتراف الذي ينتج عنه نوع من التجاهل والغياب الاجتماعي لمن تعاني هويته من الإنكار والرفض. والنوع الثاني لا يشير إلى غياب الاعتراف، وإنما صورة تحقيرية للذات؛ ذلك أن عدم الاعتراف أو الاعتراف غير المناسب من شأنه أن يحدث شكلا من الاضطهاد، وذلك بسجن البعض ضمن نمط أو طريقة للعيش خاطئة، مفككة ومختزلة en emprisonnant certains dans une manière d’être fausse, déformée et réduite.

ووجه المفارقة، هاهنا، أنه قد جرى النظر تاريخيا من طرف مختلف الأيديولوجيين؛ الجمهوريين، والليبراليين، والاشتراكيين، إلى مطالب الأمم الصغيرة ونزوعها إلى الاستقلال أو الحفاظ على هويتها الثقافية بمثابة معارك رجعية Combat réactionnaire. في إطار هذا المنظور سرعان ما جرى النظر إلى المطالب الهوياتية revendication identitaires كمظهر من مظاهر الرجعية السياسية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية Le symptôme d’une forme d’arriération politique, culturelle, sociale, voir morale.

أكثر من ذلك، فقد كشف باتريك سافيدون كيف أن عدم أخذ الثقافات الفرعية بعين الاعتبار تمتد جذوره عميقا في التقاليد السياسية الغربية[38].  وفي هذا الإطار يسجل تشابها مربكا بين الموقف السلبي الذي يصل حد العنصرية من  الأقليات والثقافات الفرعية لدى كل من جون ستيوارت ميل الليبرالي، وفريدريك إنجلز الشيوعي؟[39]، فمع أن جون ستيوارت ميل كان شديد الحساسية اتجاه مشكل التهميش الاجتماعي والسياسي للجماعات الفرعية، إلا أنه لا يعتقد أن الهوية الإثنو-ثقافية بإمكانها أن تمثل مطلبا أو تطلعا مشروعا. كما أن النزعة الجمهورية الحديثة وبوجه خاص من خلال النموذج الفرنسي تمعن في النظر إلى الهويات الثقافية كتهديد سياسي.. وفي أحسن الحالات تختزل إلى مجرد اختيارات فردية[40].

 ولذلك ففي القوميات العقائدية والأدبيات المعبرة عنها لا تتحقق الحرية ولا يتحقق التحرر في أبعاده الفردية والجماعية إلا من خلال الاستيعاب وليس الاعتراف.. [41]. ولذلك فلا نستغرب وجود محاولات لتبرير الحد من التعددية الثقافية انطلاقا من اعتبارات وظيفية تشدد على أن الوحدة الثقافية تعزز أعلى درجات الانسجام الاجتماعي والاقتصادي[42].

 فمع أن التعددية باتت تشكل موضوعا للعديد من الدراسات في المجتمعات الغربية، إلا أن الفلسفة السياسية الغربية طالما تغاضت بل وتجاهلت سؤال العلاقة بين الوحدة السياسية؛ مدينة كانت أو دولة، أو إمبراطورية.. وبين التعددية الثقافية التي تشملها. وهو ما يختلف مع التجربة التاريخية العربية الإسلامية حيث نجد تراثا مهما من الأدبيات المحتفية بالتعددية الحضارية بمللها ونحلها، بشعوبها وقبائلها، بعشائرها وطوائفها..[43].

وكما يلح الفيلسوف البراغماتي مياد G.H. Mead فإن محتوى العقل ما هو إلا حصيلة التفاعلات الاجتماعية ونموه؛ أي العقل ما هو، في الأصل، إلا تبني موقف الآخر، وتبعا لذلك تتحدد الذات، من وجهة نظر مياد، من خلال تأثرها بتنظيم الجماعة التي تنتمي إليها، وبانتمائها لهذه الجماعة؛ فهو خلاصة علاقاته بأعضاء الجماعة وتعايشه معها وعيشه المشترك في كنفها[44].

حينما يكون لدينا موقفا إيجابيا من التعددية الثقافية، فإننا نذهب، كقاعدة عامة، إلى التأكيد على أن احترام المبادئ الديمقراطية يدعونا ويحثنا أن نجري في مجتمعاتنا التحولات المفضية إلى اعتراف مؤسساتي بهذه التعددية الثقافية. وهذا الاعتراف المؤسساتيLa reconnaissance institutionnelle من شأنه أن يشكل أداة حاسمة لإجادة الأداء الديمقراطي لمؤسساتنا، مثلما أن إيلاءنا للبعد المؤسساتي للهوية الثقافية أهمية خاصة من شأنه أن يسهم في تعزيز الطابع الديمقراطي لمجتمعاتنا.

تسعى التعددية الثقافية في بعدها الليبرالي للدفاع عن سياسة للاعتراف قائمة على التزام يعزز حرية الاختيار والاستقلالية، وهذا الالتزام يفرض ويقتضي، بوجه خاص، الاعتراف بالانتماء الثقافي[45].

 تحضر أطروحة ويل كيمليكا Will Kymlicka بقوة في هذا السياق، وهي الأطروحة التي تموقع التعددية الثقافية كامتداد لثورة حقوق الإنسان[46]. وتأكيدا لهذا المعنى يذهب باتريك سافيدون إلى أن ويل كيميليكا يعد، بكل تأكيد، المنظر الذي أنجز أكثر الأعمال اكتمالا ونسقية حول مسألة التعددية الثقافية معبرا عن وعي وحذر شديدين بخصوص تعددية السياقات الفعلية لهذه المسألة. ففي سعيه لإيجاد حل لهذه المشكلة تبنى منظورا تفسيريا قائما على تصور للعدالة[47] يرتكز على مبدأين رئيسيين: الحرية الثقافية، والمساواة الثقافية.

وهو التقييم الذي لن يكتمل إلا إذا استحضرنا أكثر وأحدث الأطروحات النقدية لنظرية التعددية الثقافية بوجه عام، ولدى ويل كيمليكا بوجه خاص؛ حيث خصص بريان باري Brian Barry كتابا كاملا لنقد نظرية التعددية الثقافية كما بلورها ويل كيمليكا، ويبرز المنحى النقدي للكتاب انطلاقا من عنوانه: “الثقافة والمساواة: نقد مساواتي للتعددية الثقافية[48]“. وبؤرة هذا النقد تتمثل في استخلاص بريان باري أن السعي إلى تحقيق جدول أعمال التعددية الثقافية يجعل تحقيق سياسات مساواتية ذات قاعدة عريضة أمرا صعبا، وذلك من وجهتين؛ من جهة حرف الجهود السياسية بعيدا عن مقاصدها وأهدافها العامة، ومن جهة تهديدها بتدمير شروط تشكيل ائتلاف يهدف إلى تحقيق تكافؤ الفرص والموارد في كل المجالات[49].

أكثر من ذلك، فقد خلص إلى أن الثقافة، ضمن تصور كيمليكا للتعددية الثقافية، ليست هي المشكلة مثلما أنها ليست هي الحل؛ كل ما هنالك أن السياسات العامة الخاطئة من شأنها أن تجعل من الثقافة مشكلة، مثلما أن السياسات العامة الرشيدة من شأنها أن تجعل من الثقافة عنصرا رئيسيا من الحل[50]. وبصيغة أخرى فإن التعددية الثقافية، بغض النظر عن حجم ونوعية جرعتها، تطرح من المشكلات قدر ما يمكن أن تقدم من حلول. ولذلك لا يمكنها أن تعالج مختلف التفاوتات التي تشوه العديد من المجتمعات على مستوى الفرص والموارد بما في ذلك المجتمعات الأكثر تقدما كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا..[51].

رابعا: العدالة والتعددية الثقافية والعيش المشترك

يمثل العدل صمام أمان للتعددية الثقافية؛  وتفسير ذلك أن من شأن مبادئ العدالة وإجماع الأفراد عليها في المجتمع الجيد التنظيم أن يؤديا إلى استمرارية تماسك هذا المجتمع واستقراره وعيشه المشترك، بالرغم من تنوع معتقدات الأفراد وانتماءاتهم.

يؤسس ويل كيمليكا منظوره الليبرالي عن العدالة بناء على فكرة الجمع بين الاستقلال الذاتي والثقافة؛ من منطلق أن الأخيرة تعد بمثابة القاعدة التي يرتكز عليها الاستقلال الذاتي للفرد. لكن كيف يكون في الإمكان جعل الثقافة أساسا لاستقلالية الفرد وحرياته ضمن إطار نظرية ليبرالية في العدالة؟

لا يتردد كيمليكا في الإجابة عن ذلك بالتأكيد على أن الأمر يقتضي “توضيح أمرين: أولهما: أن الانتماء الثقافي يحظى بمكانة بالغة الأهمية في الفكر الليبرالي. وثانيهما: أن أعضاء الجماعات الثقافية يواجهون أشكالا معينة من الحرمان ذي صلة بفائدة الانتماء الثقافي ذاته، بحيث تتطلب معالجة أشكال الحرمان تلك، وتبرر في آن واحد وجود حقوق لمختلف الجماعات الثقافية الفرعية[52].

فمثلما تنشأ الحقوق الفردية من سعي كل إنسان لتعزيز حريته الشخصية، فإن الحقوق الجماعية تنبع بدورها استجابة لمصلحة كل جماعة في المحافظة على استمراريتها. الأمر الذي يعني أن كيمليكا يستهدف من خلال منظوره للعدالة تحقيق التوازن بين أهمية الفرد وأهمية الجماعة، أي التوازن بين الحرية الفردية والانتماء الثقافي، انطلاقا من حقيقة أن المجتمع مكون أصلا من أفراد وجماعات ثقافية لا من أفراد وحسب. وهو ما ينسجم مع التصور الإسلامي للعلاقة بين الفردي والجماعي، بين الخاص والعام..[53].

يذهب ويل كيمليكا إلى أن الممارسات الحالية للحقوق الجماعية قد نشأت في فراغ نظري دونما فهم واضح لأهدافها البعيدة المدى أو مبادئها الأساسية، حيث تم اعتماد حقوق الجماعات الفرعية عمليا من زاوية كونها تسويات خاصة أو مؤقتة  لمشاكل معينة، وغالبا ما يكون ذلك لدواعي الاستقرار لا العدالة، ودون إيلاء كبير اهتمام لاتساقها أو عدم اتساقها مع أسس الليبرالية، وبالتالي أصبح انتهاج تلك الحقوق من قبيل السياسات التقديرية بدلا من النظر إليها باعتبارها التزامات وحقوق أساسية[54].

يتحدد مفهوم كيمليكا للعدالة من خلال تصورها بمثابة غياب لعلاقات الاضطهاد والإذلال Humiliation ما بين مختلف الجماعات الفرعية، وذلك من خلال إنصاف شتى الجماعات الثقافية عن طريق الاعتراف بحقوقها من جهة، والعمل على حماية الحقوق الفردية ضمن المجتمع السياسي لكل من الأكثرية والجماعات الفرعية من جهة أخرى. وما يقتضيه ذلك من ضرورة التعامل مع الأفراد والجماعات الثقافية على أساس الحرية والمساواة، فيحظى كل فرد بالحقوق والحريات التي يحوزها أقرانه، وفي الوقت نفسه تنال الجماعة حقوقها الجماعية في إطار نموذج للمواطنة متعددة الثقافات الفرعية.

ومن جهته يسعى جون راولز إلى بناء “المجتمع الجيد التنظيم”، الذي ما هو إلا  المجتمع العادل؛ المجتمع الذي يتقبل فيه الفرد مبادئ العدالة انطلاقا من وعيه العميق أن الآخرين يرتضونها سواء بسواء.. بحيث يكون لدى كل شخص في هذا المجتمع رغبة أكيدة للعمل بشكل طبيعي بمقتضى مبادئ العدالة.

وبذلك يختلف المجتمع الجيد التنظيم عن المجتمع الخاص Private Society الذي يتمتع فيه كل فرد ويختص بغاياته ومصالحه الخاصة، ورهاناته الذاتية التي تكون إما متنافسة أو مستقلة عن بعضها البعض، وليست غايات متكاملة ولا منسجمة بأي حال من الأحوال؛ فلا أحد من أفراد المجتمع الخاص يأخذ في حسبانه مصالح الآخرين ورغباتهم واختياراتهم، بل يسعى كل منهم إلى أن يحظى بالنصيب الأوفر من الموارد الاقتصادية..

بينما في المجتمع الجيد التنظيم، الذي طالما دعا إليه راولز، يتواضع الجميع على مبادئ العدالة عينها، ويتعامل الناس مع بعضهم البعض وهم على إدراك تام بكونهم شركاء في المجتمع؛ نجاح بعضهم يعد أمرا ضروريا وشرطا لازما لنجاح غيرهم[55]. وهو ما ينسجم، إلى حد بعيد، مع الأخلاقية الإسلامية الحاكمة للعلاقة بين المصلحتين الخاصة والعامة.

لقد نجح باتريك سافيدون، إلى حد كبير، في اعتماد مقاربة تحليلية مقارنة حول التعددية الثقافية من خلال إقامته لحوار معرفي غني بين اجتهادات معتبرة لباحثين صادرين عن خلفيات معرفية مختلفة ومتكاملة؛ فإلى جانب كيميليكا نجد جون رولز ويورغن هابرماس، وشارل تايلور، وكوكاتا Ch.Kukathas وآخرين..

ومن الأمثلة المقارنة التي يعقدها المؤلف، والتي يستحسن أن نستحضرها في هذا السياق، اعتباره أن كيميليكا خلافا لجون رولز يعتبر أن النظرية الليبرالية لحقوق الجماعات الفرعية تعد نظرية قائمة على الاستقلالية الفردية fondée sur l’autonomie individuelle، وكل الأشكال القانونية الخاصة بمجموعة معينة وتعمل على الحد من الحقوق المدنية لأعضائها تدخل في تناقض مع المبادئ الليبرالية في الحرية والمساواة..[56].

وفي هذا الإطار تمت الدعوة في الفكر العربي والإسلامي المعاصر إلى شرعية الاختلاف “كأساس لتعدّدية لا تعني الشتات والتشتّت، ولا دعوة إلى طائفية أو قبلية، وإنما هي نظام لمجتمع مدنيّ متعدّد العناصر والمصالح، تتعاقد حول مؤسّسات بناء على وفاق عامّ متجدّد بالوسائل الديمقراطية… من منطلق أن الديمقراطية تعد بمثابة “نظام مؤسّسيّ لإدارة تعدّدية المجتمع المدنيّ وتعايشه.

لقد أقر الإسلام كما أقر المجتمع العربي الإسلاميّ تاريخيا بشرعية الوجود للأديان التوحيدية. ومع أنه لم يعترف بشرعية الأديان والعقائد غير السماوية من الوجهة الشرعية المعيارية انسجاما مع مقتضيات النص المرجعي المؤسس لوجود الأمة، إلا أنّ الكثير من هذه العقائد ازدهرت داخل “دار الإسلام” ذاتها، بل كان لأتباعها، في بعض الفترات، نشاط ونفوذ داخل جهاز الدولة نفسه. وقد قام بين مفكّريها وبين مفكّري الإسلام جدل تولّدت عنه مناظرات عقائدية بالغة الأهمية.

الهوامش


[1] . “جيران في عالم واحد”، نص تقرير لجنة: “إدارة شؤون المجتمع العالمي”، مراجعة: عبد السلام رضوان، كتاب عالم المعرفة، عدد: 201/1995، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص14.

[2] . المرجع نفسه، ص16.

[3] . المرجع نفسه، ص17.

[4] . المرجع نفسه، ص19.

[5] . المرجع نفسه، ص24.

[6] . المرجع نفسه، ص76.

[7].Patrick svidan, Le multiculturalisme, Paris, puf, 2009, p.9.

[8].Ibid, p.3.

[9]. د. حسام الدين علي مجيد، “إشكالية التعددية الثقافية في الفكر السياسي المعاصر: جدلية الاندماج والتنوع”، سلسلة أطروحات الدكتوراه 85 مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2010، ص39-41.

[10]. بران باري، الثقافة والمساواة: نقد مساواتي للتعددية الثقافية”، ترجمة كمال المصري، عالم المعرفة، الكويت، الجزء2، العدد:383، 2011 ط1، ص231. وأصل عنوان الكتاب باللغة الإنجليزية هو:

-Brian Barry,Culture and Equality: An Egalitarian Critique of Multiculturalism, Cambridge: Polity Press, 2008.

[11]. حسام الدين علي مجيد، “إشكالية التعددية الثقافية في الفكر السياسي المعاصر: جدلية الاندماج والتنوع”، م، س، ص25.

[12]. ويل كيمليكا، “أوديسا التعددية الثقافية: سبر السياسات الدولية الجديدة في التنوع”، ترجمة: د. إمام عبد الفتاح إمام، الكويت: عالم المعرفة، ج.1، عدد 377، 2011، ص109.

[13]. حسام الدين علي مجيد، “إشكالية التعددية الثقافية في الفكر السياسي المعاصر: جدلية الاندماج والتنوع”، م، س، ص45-46.

[14]. المرجع نفسه، ص26.

[15]. Ibid, p.74.

[16]. Ibid, p.76.

[17]. ويل كيمليكا، “أوديسا التعددية الثقافية: سبر السياسات الدولية الجديدة في التنوع”، م، س، ص160.

[18]. المرجع نفسه، ص130-131.

[19]. المرجع نفسه، ص21-22.

[20]. المرجع نفسه، ص116.

[21]. المرجع نفسه، ص142.

[22]. المرجع نفسه، ص154.

[23]. المرجع نفسه، ص157-159.

[24]. Ibid, p.8.

[25]. Ibid, p.82. Les déterminants particuliers de l’identité nationale sont parfois si anciens qu’ils ne sont en général plus vraiment perçus dans leur particularité.

[26].  Ibid, p.7-8.

[27] .Ibid, p.44.

[28] .Ibid, p.16.

[29] .Ibid, p.25.

[30] .Ibid, p.9.

[31] .Ibid, p.2.

[32]. Ibid, p.30.

[33]. Ibid, p.32.Dans cette perspective, s’opère une sorte de réduction de l’altérité et une promotion de la ressemblance.

[34]. في هذا الإطار يستحضر المؤلف بوجه خاص Axel Honneth من خلال كتاب له بنفس العنوان أنظر:

-A. Honneth, LA lute pour la reconnaissance, trad. Par P. Rusch, Le Cerf, 2002 1992.

[35]. Patrick svidan, Le multiculturalisme, op.cit, p.80.

[36]. Ibid, p.81.

[37]. وهي الدراسة التي أعاد نشرها في كتابه:

– Charles Taylor, Multiculturalisme: Différence et démocratie, Paris, Flammarion, 1994.

[38]. Patrick svidan, Le multiculturalisme, op.cit, p.45.

[39]. Ibid, p.46-47.

[40]. Ibid, p.46-51.

[41]. Ibid, p.56.

[42]. Ibid, p.59

[43]. انظر: محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، “الملل والنحل”، بيروت: دار المعرفة، ط3،(1414ﻫ/1993م).

[44]. Ibid, p.37.

[45]. Ibid, p.90.

[46]. Ibid, p.43.

[47]. Ibid, p.105-111.

[48]. أصل عنوان الكتاب باللغة الإنجليزية هو:

-Brian Barry,Culture and Equality: An Egalitarian Critique of Multiculturalism, Cambridge: Polity Press, 2008.

[49]. بران باري، الثقافة والمساواة: نقد مساواتي للتعددية الثقافية”، م، س، ص280.

[50]. المرجع نفسه، ص268.

[51]. المرجع نفسه، ص286.

[52]. حسام الدين علي مجيد، “إشكالية التعددية الثقافية في الفكر السياسي المعاصر: جدلية الاندماج والتنوع”، م، س، ص23.

[53]. المرجع نفسه، ص: 21.

[54]. المرجع نفسه، ص23-25.

[55]. المرجع نفسه، ص224-225.

[56]. Ibid, p.108-109.

Science

د. عبد السلام طويل

  • رئيس وحدة بحثية بالرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، ورئيس تحرير مجلتها الإحياء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق