مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينشذور

من أقوال الصحابة رضي الله عنهم عند الموت (3)

قال عمرو بن العاص لما حضره الموت:

(اللهم إنّك أمرتنا فرَكِبْنا، ونهيتَنا فأضَعْنا، فلا بريءٌ فأعتذر، ولا عزيزٌ فأنتصر، ولكن لا إله إلاّ الله).

يُعتبر الصحابة من أفضل الناس بعد الأنبياء والرسل عليهم السلام، فلم يعرف التاريخ البشري تاريخا أعظم من تاريخهم، ولا رجالًا – بعد الأنبياء – أفضل منهم. فهم الذين استرخصوا في سبيل نصـر الدِّين أنفسهم وأموالهم، وفارقوا أهلهم وأوطانهم، حين ضنَّ غيرهم بالنفس والمال، واستثقلوا مُفارقة الأهل والولدان، فقد اختارهم الله سبحانه وتعالى لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ونصـرته، وإقامة دينه، وإظهار حقِّه، ونشـر دينه، فأخرجوا من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن ضيق الدُّنيا إلى سعتها، ومن جور أهل الطغيان إلى عدل الإسلام، وعلى أيديهم سقطت عروش الكفر، وتحطَّمت شعائر الإلحاد، وذلَّت رقاب الجبابرة والطغاة، ودانت لهم الممالك. فرضيهم له صحابةً، وجعلهم لنا أعلامًا وقدوةً.

شهدوا – رضي الله عنهم – الوحي والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، فحفظوا عنه صلى الله عليه وسلم ما بلَّغهم عن الله عز وجل، وما سنَّ وما شرع، وحكم وقضـى وندب، وأمر ونهى وأدَّب، ووعوه وأتقنوه، ففقهوا في الدِّين، وعلموا أمر الله ونهيه ومراده بمعاينة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ونفى عنهم الشكَّ والكذب والغلط والريبة والغمز، وسمَّاهم عدول الأمَّة، فقال في محكم كتابه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}([1]).

جعلهم الله خير أمةٍ أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويطيعون الله ورسوله، فجعلهم مثلًا للكتابين؛ لأهل التوراة والإنجيل، خير الأمم أمَّته، وخير القرون قرنه، يرفع الله من أقدارهم؛ إذ أُمِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم  بمشاورتهم؛ لما علم من صدقهم، وصحة إيمانهم، وخالص مودَّتهم، ووفور عقلهم، ونبالة رأيهم، وكمال نصيحتهم، وتبيُّن أمانتهم، رضي الله عنهم.

وقد تولَّى الله شرح صدورهم فأنزل السكينة على قلوبهم، وبشّـرهم برضوانه ورحمته فقال: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ}([2]).

وتجدر الإشارة إلى أنّ تعظيم مكانة الصحابة ومحبّتهم من تعظيم ومحبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الفضائل التي تُخصّ الصحابة بمكانةٍ رفيعةٍ خيريتهم؛ حيث إنّهم خير القرون، وممّا يدل على ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خيرُ هذه الأمّةِ القرنُ الذين بعثتُ فيهم، ثمّ الذين يلونهم»([3])، كما أنّهم نقلوا الشريعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمّة من بعده، ونشروا بينهم العديد من الفضائل والأخلاق الكريمة من الصدق والنصح وغيرها، وقدّموا البطولات العظيمة في الفتوحات الإسلامية.

فمن الأصول المقرَّرة في الشـرع المطهَّر، ومن سمات أهل السُّنَّة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم للصحابة الأخيار، وحملة الشريعة الأتقياء الأبرار، والذبّ عن حرماتهم وأعراضهم.

فلولاهم ما وصلنا الدِّين كاملًا – وأصله القرآن – غضًّا طريًّا كأنَّما أنزل اليوم.

إنهم خير الناس للناس، وأفضل تابعٍ لخير متبوعٍ صلى الله عليه وسلم، هم الذين فتحوا البلاد بالسِّنان، والقلوب بالإيمان.

قال ابن حجر في الإصابة([4]): (واتفق أهل السنَّة على أن الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة).

كما ذكر ابن الأثير شيئًا عن صفاتهم بقوله: (ولا خفاء على من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أن من تبوأ الدار والإيمان من المهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإسلام والتابعين لهم بإحسان الذين شهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم وسمعوا كلامه وشاهدوا أحواله ونقلوا ذلك إلى من بعدهم من الرجال والنساء من الأحرار والعبيد والإماء أولى بالضبط والحفظ، وهم الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون بتزكية الله سبحانه وتعالى لهم وثنائه عليهم؛ ولأن السنن التي عليها مدار تفصيل الأحكام ومعرفة الحلال والحرام إلى غير ذلك من أمور الدين، إنما ثبتت بعد معرفة رجال أسانيدها ورواتها، وأولهم والمقدم عليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا جهلهم الإنسان كان بغيرهم أشد جهلًا، وأعظم إنكارًا، فينبغي أن يعرفوا بأنسابهم وأحوالهم هم وغيرهم من الرواة، حتى يصح العمل بما رواه الثقات منهم، وتقوم به الحجة، فإن المجهول لا تصح روايته، ولا ينبغي العمل بما رواه، والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلا في الجرح؛ لأن الله عز وجل ورسوله زكّاهم وعدّلاهم…)([5]).

ومن بين هؤلاء الصحابة الأعلام نذكر أحدَ الدُّهاة في أمور الدّنيا المقدمين في الرأي والمشورة، وفَذّا من أفذاذ قريش، يُضْـرَب به المَثَل في الفِطْنَة والدَّهاء والحزم، ومن الصحابة الذين قدّموا البطولات العظيمة في الفتوحات الإسلامية؛ وهو عمرو بن العاص بن وائل السهمي تأخَّر إسلامه إلى الثامنة من الهجرة؛ حيث هاجر فيها ومَثَلَ بين يَدَي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم معلنًا إسلامه.

كان رضي الله عنه من فرسان قريش، وأبطالهم في الجاهليّة مذكورًا بذلك فيهم، وكان شاعراً حسَنَ الشّعر، حفظ عنه الكثير في مشاهد شتى، ومن شعره في أبياتٍ له يخاطب عمارة بن الوليد بن المغيرة عند النْجاشيّ:([6]) [الطويل]

إِذَا المْرءُ لَمْ يَتْرُكْ طَعَامًا يُحِبُّهُ**وَلَمْ يَنْهَ قَلْبًا غَاوِيًا حَيْثُ يَمَّمَا

قَضَى وطَرًا مِنْهُ وَغَادَرَ سُبَّـةً**إِذَا ذُكِرَتْ أَمْثَالُهَا تَمْلأُ الفَمَا

ولما أسلم كان النبي صَلَّى الله عليه وسلم يقرِّبُه ويُدْنيه لمعرفته وشجاعته، وولّاه غزوة ذات السلاسل، وأَمدَّهُ بأبي بكر وعُمر وأبي عبيدة بن الجراح، ثم استعمله على عمان؛ ثم كان من أُمراء الأجناد في الجهاد بالشام في زمَنِ عمر؛ وهو الذي افتتح قنسـرين، وصالحَ أهْلَ حلب ومنْبِج وأنطاكية، وولَّاه عُمر فلسطين.

سُئِلَ عن سبب تأخُّر إسلامه وهو صاحب العقل الراجح، فقال رضيَ الله عنه: (إنَّا كنَّا مع قومٍ لهم علينا تقدُّمٌ وسنٌّ، توازي حلومُهم الجبال، ما سلكوا فجًّا فتبعناهم إلا وجدناه سهلاً، فلما أنكروا على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنكرنا معهم، ولم نفكِّر في أمرنا، وقلَّدناهم، فلَّما ذهبوا وصار الأمر إلينا؛ نظرنا في أمر النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فإذا الأمر بيِّنٌ؛ فوقع في قلبي الإسلام)([7]).

وكان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إذا استضعف رجلًا في رأيه وعقله قال: (أشهد أن خالقك وخالق عمرو واحد)، يريد خالق الأضداد([8]).

من مناقبه رضيَ الله عنه: أنه هدم صنم سُوَاعٍ بعد فتح مكة، وفي عهد أبي بكر حارب قُضَاعَة لما ارْتدُّوا عنِ الإسلام، وكان في معركة اليرموك على ميمنة الجيش الإسلامي، وثَبَتَ في مكانه حين أصاب الرُّومُ أعينَ سبعمائةٍ منَ المسلمين، ومعه أصحاب الرايات، وقاتل الروم بقوَّةٍ حتى كتب الله تعالى النَّصر للمسلمين، وله مشاركات فاعلة في فتح الشام، وهو الذي فتح مصر.

ولم يدفعه دهاؤه وحِنْكَتُهُ إلى الغرور والتكبُّر؛ بل كان حسن الخُلُق، يقول قَبِيصَةُ بن جابر: (صَحِبْتُ عمرو بن العاص، فما رأيتُ رجلاً أَبْيَنَ قرآنًا، ولا أكرم خُلُقًا، ولا أشْبَهَ سريرةً بعلانيةٍ منه)([9]).

وكان الشعبي يقول: (دُهاة العرب في الإسلام أربعة؛ فعدَّ منهم عَمْرو بن العاص، وقال: فأما عمرو فللمُعْضِلاَتِ)([10]).

أخرج ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ طريق الليث، قال: نظر عُمر إلى عَمْرٍو يمشي، فقال: (ما ينبغي لأبي عبد الله أَن يمشي على الأرض إلا أميرًا)([11]).

وقال مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامِ الْجمحِيُّ: كان عُمر إذا رأى الرجلَ يتلَجْلَجُ في كلامه يقول: (أشهد أنَّ خالقَ هذا وخالقَ عَمْرو بن العاص واحد)([12]).

قال طلحة بن عبيد اللّه: سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: «عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ صَالِحِي قُرَيْشٍ»([13]).

وقال أيضا: «نِعْمَ أَهْلُ الْبَيْتِ: عَبْدُ اللَّهِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَأُمُّ عَبْدِ اللَّهِ»([14]).

وأخرج أَحْمَدُ([15]) عن عمرو بن العاص، قال: بعث إليَّ النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم فقال: «خُذْ عَلَيْكَ ثِيابَكَ وَسِلاحَك، ثم ائتني». فأتيته، فقال: «ِإنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيشٍ فَيُسَلِّمكَ اللهُ وَيُغْنِمكَ، وَأَرْغَبُ لَكَ مِنَ المَالِ رَغْبَةً صَالِحَةً». فقلت: يا رسول الله، ما أسلمت مِنْ أجل المال، بل أسلمت رغبةً في الإسلام. قال: «يَا عَمْرُو، نِعْمًا بِالْمَالِ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ».

وأخرج أَحْمَدُ، والنَّسَائِيُّ([16])، عن عمرو بن العاص، قال: كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَيْتُ عَلَى سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَهُوَ مُحْتَبٍ بِحَمَائِلِ سَيْفِهِ، فَأَخَذْتُ سَيْفًا فَاحْتَبَيْتُ بِحَمَائِلِهِ، فَقَالَ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: « يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا كَانَ مَفْزَعُكُمْ إِلَى اللهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ؟» ثم قال: «أَلَا فعلْتُم كَما فَعَلَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ المؤْمِنَانَ».

وعن عُقْبَة بن عامر، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «أَسْلَمَ الناسُ وآمن عَمْرُو بن العاص»([17]).

وفيما يلي درر مختارة من أقواله رضي الله عنه لمّا حضره الموت:

كان عمرو بن العاص يقول: (عَجَبًا لمَن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه، فلمّا نزل به قال له ابنه عبد الله بن عمرو: يا أبَتِ إنّك كنتَ تقول عجبًا لمَن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه فصِفْ لنا الموت وعقلك معك، فقال: يا بُنَيّ، الموت أَجَلُّ مِنْ أن يُوصَف ولكنّي سأصف لك منه شيئًا، أجدني كأنّ على عنقي جبالَ رَضْوَى، وأجدني كأنّ في جوفي شوك السُّلاَّء، وأجدني كأنّ نفَسي يخرج من ثَقْبِ إبْرَةٍ).

جزع عمرو بن العاص عند الموت جزعا شديدا، فقال ابنه عبد الله: ما هذا الجزع، وقد كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يدنيك ويستعملك! قال: أي بني! قد كان ذلك، وسأخبرك، إي والله ما أدري أحبا كان أم تألفا، ولكن أشهد على رجلين أنه فارق الدنيا وهو يحبهما؛ ابن سمية، وابن أم عبد. فلما جد به، وضع يده موضع الأغلال من ذقنه، وقال: (اللهم أمرتنا فتركنا، ونهيتنا فركبنا، ولا يسعنا إلا مغفرتك. فكانت تلك هجيراه حتى مات).

وعن الحسن، قال: بلغني أنّ عمرو بن العاص لما كان عند الموت دعا حرَسَه فقال: أيّ صاحب كنتُ لكم؟ قالوا: كنتَ لنا صاحب صِدْقٍ تُكْرمُنا وتُعْطينا وتفعل وتفعل، قال: فإنّي إنّما كنتُ أفعل ذلك لتمنعوني من الموت، وإنّ الموتَ ها هو ذا قد نزل بي فأغْنوه عنّي، فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقالوا: والله ما كنّا نَحْسِبُك تَكَلّمُ بالعَوْراءِ يا أبا عبد الله، قد علمتَ أنّا لا نُغْني عنك من الموت شيئًا، فقال: أما والله لقد قلتُها وإني لأعْلَمُ أنّكم لا تُغْنُون عنّي من الموت شيئًا ولكن والله لأنْ أكون لم أتّخِذْ منكم رجلًا قطّ يمنعني من الموت أحبّ إليّ من كذا وكذا، فيا وَيْحَ ابن أبي طالب إذ يقول: حَرَسَ امرءًا أَجَلُه. ثمّ قال عمرو: (اللهمّ لا بَرِيءٌ فأعتذر، ولا عزيز فأنتصـر، وإلاّ تُدْركْني برحمةٍ أكن من الهالكين).

عن عبد الله بن عمرو، أن أباه أوصاه: (إذا مت، فاغسلني غسلة بالماء، ثم جففني في ثوب، ثم اغسلني الثانية بماء قراح، ثم جففني، ثم اغسلني الثالثة بماء فيه كافور، ثم جففني وألبسني الثياب، وزر علي، فإني مخاصم. ثم إذا أنت حملتني على السـرير، فامش بي مشيا بين المشيتين، وكن خلف الجنازة، فإن مقدمها للملائكة، وخلفها لبني آدم، فإذا أنت وضعتني في القبر، فسُنَّ عليّ التراب سَنًّا. ثم قال: اللهم إنك أمرتنا فأضعنا، ونهيتنا فركبنا، فلا بريء فأعتذر، ولا عزيز فأنتصر، ولكن لا إله إلا أنت)، وما زال يقولها حتى مات.

وعَنْ أَبِي فِرَاسٍ، مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، لَمَّا حَضَـرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو: (إِذَا أَنَا مُتُّ فَاغْسِلْنِي، ثُمَّ كَفِّنِّي وَشُدَّ عَلَيَّ إِزَارِي فَإِنِّي مُخَاصِمٌ، فَإِذَا أَنْتَ حَمَلْتَنِي فَأَسْرِعْ بِي الْمَشْيَ، فَإِذَا أَنْتَ وَضَعْتَنِي فِي الْمُصَلَّى، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ إِمَّا فِطْرٍ، وَإِمَّا أَضْحًى، فَانْظُرُوا إِلَى أَفْوَاهِ الطُّرُقِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَابْدَأْ فَصَلِّ عَلَيَّ ثُمَّ صَلِّ الْعِيدَ فَإِذَا وَضَعْتَنِي فِي لَحْدِي فَهِيلُوا عَلَيَّ التُّرَابَ، فَإِنَّ شِقِّيَ الْأَيْمَنَ لَيْسَ بِأَحَقَّ بِالتُّرَابِ مِنْ شِقِّي الْأَيْسَرِ، فَإِذَا سَوَّيْتُمْ عَلَيَّ فَاجْلِسُوا عِنْدَ قَبْرِي قَدْرَ نَحْرِ جَزُورٍ وَتَقْطِيعِهَا أَسْتَأْنِسُ بِكُمْ).

و لما حضرَت عمرو بن العاص الوفاة بكى، فقال له ابنه عبد الله‏: لم تبكي، أجزَعًا من الموت؟ قال: لا والله؛ ولكن لما بعده. فقال له‏: قد كنْتَ على خير، فجعل يذكِّرُه صُحْبَةَ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وفتوحه الشّام، فقال له عمرو: تركْتَ أفضل من ذلك شهادة أنْ لا إله إلا الله، إني كنت على ثلاثة أطباق ليس منها طبق إِلّا عرفت نفسي فيه، وكنت أول شيء كافرًا، فكنت أشدّ الناس على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فلو متّ يومئذ وَجَبَتْ لي النّار. فلما بايْعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كنت أشدَّ النّاس حياء منه، فما ملئت عيني من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حياءً منه، فلو متُّ يومئذ قال النّاس: هنيئًا لعمرو. أسلم وكان على خيرٍ، ومات على خيرِ أحواله، فترجى له الجنّة، ثم تلبست بعد ذلك بالسّلطان وأشياء، فلا أدري أعليّ أم لي؟ فإذا متّ فلا تبكين عليَّ باكية، ولا يتبعني مادح ولا نار، وشدُّوا عليّ إِزاري، فإِني مخاصم، وشنُّوا علي التّراب شنّا؛ فإنّ جنبي الأيمن ليس بأحق بالتّراب من جنبي الأيسـر، ولا تجعلن في قبري خَشَبة ولا حَجَرًا، وإذا واريتُموني فاقعدوا عندي قَدْر نَحْر جزور وتقطيعها بينكم أستانس بكم.

وفي صحيح مسلم([18]) مِنْ رواية عبد الرحمن بن شِماسة، قال: حضـرنا عمرو بن العاص وهو في سِياقة الموت فحوّل وجهه إلى الحائط يبكي طويلًا وابنه يقول له: ما يُبكيك؟ أما بشّـرك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، بكذا؟ أما بشّرك بكذا؟ قال: وهو في ذلك يبكي ووجهه إلى الحائط، قال ثمّ أقبل بوجهه إلينا فقال: إنّ أفضلَ ممّا تَعُدّ عليّ شهادةُ أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمدًا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ولكني قد كنتُ على أطباقٍ ثلاثٍ، قد رأيتُني ما من الناس من أحدٍ أبغض إليّ من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ولا أحبّ إليّ من أن أسْتَمْكِنَ منه فأقتله، فلو متّ على تلك الطبقة لكنتُ من أهل النار، ثمّ جعل الله الإسلام في قلبي فأتيتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، لأبايعه فقلتُ: ابسط يمينك أبايِعْك يا رسول الله، قال: فبسط يده ثمّ إني قبضتُ يدي فقال: «ما لك يا عمرو؟» قال فقلتُ: أردتُ أن أشترط، فقال: «تشترط ماذا؟» فقلتُ: أشترط أن يُغْفَرَ لي، فقال: «أما علمتَ يا عمرو أنّ الإسلامَ يَهْدِمُ ما كان قبله وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها وأنّ الحجّ يهدم ما كان قبله؟» فقد رأيتُني ما من الناس أحد أحبّ إليّ من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ولا أجلّ في عيني منه، ولو سُئِلتُ أن أنْعَتَه ما أطَقْتُ لأني لم أكن أطيق أن أملأ عيني إجلالًا له، فلو متُّ على تلك الطبقةِ رجوتُ أن أكون من أهل الجنّة. ثمّ ولينا أشياءَ بعدُ فلستُ أدري ما أنا فيها أو ما حالي فيها، فإذا أنا متّ فلا تَصْحَبْني نائحةٌ ولا نار، فإذا دفنتموني فسُنّوا عليّ الترابَ سَنًّا، فإذا فرغتم من قبري فامكثوا عند قبري قدر ما يُنْحَرُ جَزورٌ ويُقْسَمُ لحمها فإني أستأنس بكم حتى أعلم ماذا أراجع به رُسُلَ ربّي.

و دخل ابن عباس على عمرو بن العاص في مرضه فسلم عليه، وقال: كيف أصبحت يا أبا عبدالله؟ قال: أصلحت من دنياي قليلا، وأفسدت من ديني كثيرا، فلو كان الذي أصلحت هو الذي أفسدت، والذي أفسدت هو الذي أصلحت لفزت، ولو كان ينفعني أن أطلب، طلبت، ولو كان ينجيني أن أهرب هربت، فصـرت كالمنجنيق بين السماء والأرض. لا أرقى بيدين، ولا أهبط برجلين، فعظني بعظة أنتفع بها يا بن أخي. فقال له ابن عباس: هيهات يا أبا عبد الله! صار ابن أخيك أخاك، ولا نشاء أن أبكي  إلا بكيت، كيف يؤمن برحيل من هو مقيم؟ فقال عمرو: على حينها من حين ابن بضع وثمانين سنة، تقنطني من رحمة ربي، اللهم إن ابن عباس يقنطني من رحمتك، فخذ مني حتى ترضـى. قال ابن عباس: هيهات يا أبا عبد الله! أخذت جديدا، وتعطى خَلِقًا. فقال عمرو: ما لي ولك يا بن عباس! ما أُرسل كلمةً إلا أَرْسلتَ نقيضها.

ولما حضـرته الوفاة قَالَ: اللَّهمّ إنك أمرتني فلم آتمر، وزجرتني فلم أنزجر- ووضع يده عَلَى موضع الغل وقَالَ: (اللَّهمّ لا قوي فأنتصـر، ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا إله إلا أنت) فلم يزل يرددها حتَّى مات.

ولما ثقل، قال لصاحب شرطته: (أدخل وجوه أصحابك، فلما دخلوا، نظر إليهم وقال: ها قد بلغت هذه الحال، ردوها عني، فقالوا: مثلك أيها الأمير يقول هذا ؟ هذا أمر الله الذي لا مرد له. قال: قد عرفت، ولكن أحببت أن تتعظوا، لا إله إلا الله، فلم يزل يقولها حتى مات).

قال معاوية بن حُدَيْج: عُدْتُ عمرو بن العاص وقد ثقل فقلتُ: كيف تجدك؟ قال: (أذوب ولا أثوب وأجد نَجْوِي أكثر من رُزْئي، فما بقاء الكبير على هذا؟).

عن عبد الله بن عمرو؛ أن أباه قال حين احتضـر: (اللهم إنك أمرت بأمور، ونهيت عن أمور، تركنا كثيرا مما أمرت، ورتعنا في كثير مما نهيت اللهم لا إله إلا أنت). ثم أخذ بإبهامه، فلم يزل يهلّل حتى فاض – رضي الله عنه.

ونقل الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء([19]) عن وفاته: لما احتضـر عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: (كيلوا مالي فكالوه فوجدوه اثنين وخمسين مُدًّا، فقال من يأخذه بما فيه يا ليته كان بعرا).

توفي رضي الله عنه في مصر، وله من العمر ثمانية وثمانون سنة ودفن قرب المقطم([20]).

——————————————————-

([1]) سورة البقرة آية 142.

([2]) سورة التوبة آية 21.

([3]) أخرجه مسلم في «الصحيح»-كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم- باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم -4/1965، رقم: 2535.

([4]) 1/23.

([5])«أسد الغابة»: 1/9-10.

([6]) ذكره ابن اسحاق في «السيرة»: 1/169-170.

([7]) ذكره الزبير بن بكار في «نسب قريش»: 1/410 وابن عساكر في «تاريخ دمشق»: 46/128، وابن حجر في «الإصابة»: 7/ 410، إلا أنه تصحف فيها إلى (وكانوا ممن يوارى حلومهم الخبال…).

([8]) ذكره ابن عبدالبر في «الاستيعاب»: 3/1188.

([9]) أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق»: 46/179.

([10]) كما في «الإصابة»: 7/412.

([11]) أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق»: 46/155.

([12]) نفسه: 46/179.

([13]) في «المسند»: 3/7، والترمذي في «السنن»-أبواب المناقب-باب مناقب عمرو بن العاص-6/170، رقم: 3845، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني: 2/100، والطبراني في «المعجم الكبير»: 1/115، وصححه الألباني في «الصحيحة»: 2/263.

([14]) أخرجه أحمد في «المسند»: 3/7، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني»: 2/100، والبزار في «مسنده»: 3/172، وأبو يعلى الموصلي في «المسند»: 2/18، وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد»: 9/589، وقال: (رجاله ثقات).

([15]) أخرجه أحمد في «المسند»: 28/298-299، وقال المحقق شعيب الأرناؤوط: (إسناده صحيح).

([16]) أخرجه أحمد في «المسند»: 29/344، والنسائي في «السنن الكبرى»: 7/369، وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد»: 9/494، وقال: (رجاله رجال الصحيح).

([17])  أخرجه أحمد في «فضائل الصحابة»: 2/912، والترمذي في «السنن»-أبواب المناقب-باب مناقب عمرو بن العاص-6/170، رقم: 3844، والروياني في «مسنده»: 1/171، وصححه الألباني في «الصحيحة»: 1/288.

([18]) في «الصحيح»-كتاب الإيمان-باب الإسلام يهدم ما قبله والحج والهجرة-1/22، رقم: 62.

([19]) 3/54-75.

 ([20]) *الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبدالبر- المحقق: علي محمد البجاوي- الناشر: دار الجيل،                                            بيروت- الناشر: دار الجيل، بيروت- الطبعة: الأولى، 1412هـ – 1992م.

          *تاريخ دمشق لابن عساكر- المحقق: عمرو بن غرامة العمروي- الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع- عام النشر: 1415هـ – 1995م.

         *سير أعلام النبلاء: 3/365. الناشر: مؤسسة الرسالة- الطبعة الثالثة: 1405هـ-1985م.

         *الطبقات الكبرى لابن سعد- المحقق: إحسان عباس- الناشر: دار صادر – بيروت- الطبعة: الأولى، 1968م.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق