مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

من أسباب تعدد الروايات في الحديث: تفاوت درجة الحفظ بين الرواة

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،

    يعتبر تعدد الروايات في الحديث النبوي الشريف مسألة حديثية  ضمن فروع علم الحديث، وكثيرا ما تصادف القارئ عبارة “وفي رواية كذا”، وهذه المسألة لها أسباب كثيرة  أشار إليها العلماء في كتبهم خاصة عند شرحهم للأحاديث والتوفيق بينها([1])؛ وهناك من المعاصرين من أفرد هذا الموضوع بالتصنيف([2])، ومن هذه الأسباب: “تفاوت الحفظ بين الرواة”، ولست بصدد الخوض في مسألة تفاوت الحفظ الخاص بالرواة الضعفاء؛ فهؤلاء لهم شأن آخر؛ وإنما قصدت في هذا المقال: التفاوت في الحفظ بين الثقات الأثبات للحديث، الذي لا تناقض فيه، والذي لا يؤثر في قبول الروايات كلها، وقد ارتأيت تقسيم هذا المقال إلى قسمين وهما: 

القسم الأول: أعرف بالألفاظ الواردة في العنوان وهي : تعدد روايات الحديث، و تفاوت الحفظ لغة واصطلاحا.

والقسم الثاني:  أذكر فيه بعض نماذج تعدد الروايات في الحديث بسبب تفاوت الحفظ بين الثقات، والذي لا يؤثر في قبول الروايات كلها.

وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق:

أولا: التعريف بالألفاظ الواردة في العنوان:

  • التعريف بـ: تعدد روايات الحديث:

تعدد روايات الحديث: مركب إضافي، وقد جرت عادة أهل العلم في التعريف بالمركبات الإضافية، أن يعرفوا بجزئها الأول ، ثم الثاني، أو الثالث ، ثم يعرفوها بعد ذلك مركبة.

وعليه فإن تعريف الجزء الأول من هذه الألفاظ كالآتي:

من معاني التعدد في اللغة: الإحصاء والكثرة، قال ابن فارس: هو أصل صحيح واحد، لا يخلو من العد؛ الذي هو الإحصاء، ومن الإعداد الذي هو تهيئة الشيء، وإلى هذين المعنيين ترجع فروع الباب كلها”([3]) ، وقال الفيومي: التعدد: الكثرة([4]).

وأما في الاصطلاح: هو الكثرة فلا يكون الواحد عددا لأنه غير متعدد([5]).

وأما الجزء الثاني من هذه الألفاظ وهي: الروايات؛ ومفردها رواية، وهي في اللغة تعني:  التحمل، والاستظهار ،والنقل، جاء في لسان العرب: “روى الحديث والشعر، يرويه رواية، وترواه ورويته الشعر تروية، أي: حملته على روايته”([6])، وقال الفيومي: “رويت الحديث إذا حملته ونقلته”([7]).

وفي الاصطلاح: هي: نقل الحديث وإسناده إلى من عزى؛ أي: نسب إليه بصيغة من صيغ الأداء؛ كحدثنا، وأخبرنا، وسمعت، وعن، ونحوها([8])..

وأما الجزء الثالث من هذه الألفاظ؛ وهو: الحديث.

والحديث في اللغة ضد القديم ؛ قال  ابن منظور: ” الحديث: نقيض القديم والحدوث([9])،ويستعمل في اللغة أيضا حقيقة في الخبر قال الفيروز آبادي في القاموس: «والحديث: الجديد، والخبر، جمعه: أحاديث» ([10])

وفي الاصطلاح: هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسم من قول، أو فعل، أو تقرير ،أو صفة خلقية، أو خلقية، أو ما أضيف إلى الصحابي أو التابعي وهو التعريف المختار([11])

  • التعريف بـ: تفاوت الحفظ:

التفاوت لغة: بمعنى الاختلاف والتباين([12])،جاء في المعجم الوسيط: “تفاوت الشيئان: اختلفا في التقدير، ويقال: تفاوت الرجلان: تباينا في الفضل والخلق: اختلف ولم يكن سويا”([13])..

ولم يختلف هذا المعنى عن معناه الاصطلاحي؛ قال العيني في تفسير قوله تعالى: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) : الاختلاف، والتفاوت، والتفوت، واحد([14]).

وأما الحفظ في اللغة:  فمن معانيه: الصيانة له من الضياع، والاستظهار والتيقظ والضبط؛ جاء في المعجم الوسيط:  “حفظ الشيء حفظا: صانه وحرسه، ويقال: حفظ المال، وحفظ العهد: لم يخنه، والعلم والكلام: ضبطه ووعاه، فهو حافظ وحفيظ”([15]).

وفي الاصطلاح:  ملكة يقتدر بها على تأدية المحفوظ([16]).

ثانيا: تفاوت الحفظ بين الرواة وبعض نماذجه.

    تعد مسألة “التفاوت في الحفظ” مسألة طبيعية في البشر، فمن البديهي أن يكون في الرواة -ومنهم الصحابة رضي الله عنهم- الحافظ، وغير الحافظ، كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم مقاما، فأخبرنا عن بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه”([17])،  وعن حذيفة – رضي الله عنه – قال: “قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما فما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابه هـؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته، فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه”([18])، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:” صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً صلاة العصر بنهار، ثم قام خطيبا، فلم يدع شيئاً إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه”([19]) ، فقد يسمع الرواة الحديث وقد يكون طويلا، فيحفظه بعضهم كاملا، ويحفظ بعضهم جزءا منه؛ فيروي كل منهم ما حفظ، فتتعدد رواية الحديث الواحد زيادة ونقصانا([20]) .

 ومن نماذج ذلك أذكر : حديث  سؤال جبريل الشهير  ؛ وهو الحديث الذي تضمن تعريفا لأركان الدين: “الإسلام ، والإيمان،  والإحسان ،وعلامات الساعة”، رواه الصحابيان الجليلان: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأبو هريرة رضي الله عنه، قال العيني: ” قال القاضي عياض: وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة، من عقود الإيمان وأعمال الجوارح وإخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلَّها راجعة إليه ومتشعبة منه”([21]).

ومن روايات  هذا الحديث أورد منه ثلاث روايات من صحيح مسلم وهي :

1-عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: “…. الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، إن استطعت إليه سبيلا” قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه ،قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: “أن تؤمن بالله ، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر ،وتؤمن بالقدر، خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك” قال: فأخبرني عن الساعة، قال: “ما المسئول عنها بأعلم من السائل” قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: “أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة ، العالة، رعاء الشاء، يتطاولون في البنيان”، قال: “ثم انطلق فلبثت مليا، ثم قال لي: “يا عمر أتدري من السائل؟” قلت: الله ورسوله أعلم، قال: “فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم”([22]).

2-عن أبي هريرة رضي الله عنه : ” … الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة ،وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان ،قال: يا رسول الله ما الإحسان؟ قال: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إن لا تراه فإنه يراك، قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: “ما المسئول عنها بأعلم من السائل..”” ([23]).

3-وعنه أيضا  رضي الله عنه، قال: …..يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: “أن لا تشرك بالله شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، قال: صدقت، قال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتابه، ولقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث، وتؤمن بالقدر كله… ” ([24])..

وتجدر الإشارة إلى أن هناك روايات أخرى لهذا الحديث، زيادة ونقصانا، وإنما اكتفيت بثلاثة نماذج للتمثيل فقط.

قال النووي رحمه الله:  “واعلم أنه لم يأت ذكر الحج  في حديث جبريل من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وكذا غير هذا من هذه الأحاديث لم يذكر في بعضها الصوم، ولم يذكر في بعضها الزكاة، وذكر في بعضها صلة الرحم، وفي بعضها أداء الخمس، ولم يقع في بعضها ذكر الإيمان، فتفاوت هذه الأحاديث في عدد خصال الإيمان زيادة ونقصا، وإثباتاً وحذفاً، وقد أجاب القاضي عياض وغيره –رحمهم الله-عنها بجواب لخصه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح-رحمه الله تعالى- وهذبه فقال:  وليس هذا باختلاف صادر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ؛ بل هو من تفاوت الرواة في الحفظ والضبط، فمنهم من قصر فاقتصر على ما حفظه فأداه ، ولم يتعرض لما زاده غيره بنفي ولا إثبات، وان كان اقتصاره على ذلك يشعر بأنه الكل، فقد بان بما أتى به غيره من الثقات أن ذلك ليس بالكل، وأن اقتصاره عليه كان لقصور حفظه عن  تمامه “([25]).

الخاتمة:

وفي ختام هذا المقال يمكن أن أخلص إلى الآتي:

1-إن تعدد روايات الحديث يعد مسألة حديثية لها أسبابها.

2-إن من أسباب تعدد روايات الحديث تفاوت الحفظ بين الرواة.

3-يعتبر تفاوت الحفظ بين الرواة مسألة طبيعية في البشر.

4-قد يسمع الرواة الحديث وقد يكون طويلا، فيحفظه بعضهم كاملا، ويحفظ بعضهم جزءا منه فيروي كل واحد منهم ما حفظه زيادة ونقصانا.

5-تقبل الروايات التي لا تناقض فيها وإن كان في كل رواية زيادة أو نقصانا على الأخرى؛ وقد مثلنا في المقال لنماذج من حديث سؤال جبريل عليه السلام الشهير.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

**************************

هوامش المقال:

([1]) ينظر على سبيل التمثيل لا الحصر : صحيح مسلم بشرح النووي (1/ 210) فقد قال في مسألة تقديم الحج وتأخيره في حديث: “بني الإسلام على خمس” في كون السبب: أنه يحتمل أن ابن عمر سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مرتين على الوجهين معا، وهناك أسباب أخرى لا يتسع المقام لذكرها.

([2]) مثل : كتاب أسباب تعدد الروايات في متون الحديث النبوي للدكتور شرف القضاة، والدكتور أمين القضاة طبع دار الفرقان عام 1419هـ- 1999مـ .

([3]) معجم مقاييس اللغة (4/ 29) مادة: “عدد”.

([4]) المصباح المنير (ص: 395) مادة: “عدد”.

([5]) التوقيف على مهمات التعاريف (ص: 237) .

([6]) لسان العرب (14 /345 و 348) مادة: “روى”.

([7]) المصباح المنير (ص: 246) مادة: “روى”.

([8]) الوسيط في علوم ومصطلح الحديث (ص: 39).

([9])  لسان العرب (2/ 131) مادة “حدث”.

([10])  انظر: القاموس المحيط (ص: 167) مادة: «حدث».

([11])  انظر: منهج النقد في علوم الحديث (ص: 21).

([12])  لسان العرب (2/ 69) ، مادة: “فوت”.

([13])  المعجم الوسيط (ص: 705 ) ، مادة: “فوت”.

([14])  عمدة القاري (19 /365) ، مادة: “فوت”.

([15])  المعجم الوسيط (ص: 185).

([16])  الدليل إلى المتون العلمين (ص: 50).

([17])  أخرجه البخاري في صحيحه (2 /418)، كتاب: بدء الخلق، باب:  ما جاء في قول الله تعالى:  (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده)، برقم: (3192).

([18])  أخرجه البخاري في صحيحه (4/ 210)، كتاب: القدر، باب:  وكان أمر الله قدرا مقدورا ،برقم: (6604)، ومسلم في صحيحه (2/ 1322)، كتاب:  الفتن وأشراط الساعة، باب: إخبار النبي فيما يكون إلى قيام الساعة، برقم:  (23)(2891).

([19])  أخرجه الترمذي في سننه (4 /58)، كتاب: الفنم، باب ما جاء ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن  برقم: (2191)،

([20])  أسباب تعدد الروايات في متون الحديث النبوي (ص: 48).

([21])  عمدة القارئ (1/ 452).

([22])  أخرجه مسلم في صحيحه (1 /23)، كتاب: الإيمان، باب: معرفة الإيمان والإسلام والقدر وعلامة الساعة، برقم: (8)

([23])  أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 24)، كتاب: الإيمان، باب: معرفة الإيمان والإسلام والقدر وعلامة الساعة، برقم: (9)

([24])  أخرجه مسلم في صحيحه (1 /25)، كتاب: الإيمان، باب: الإسلام ما هو، وبيان خصاله، برقم: (10)

([25])  صحيح مسلم بشرح النووي (1 /200).

***********************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

التوقيف على مهمات التعاريف. لعبد الرؤوف المناوي. تحقيق: عبد الحميد صالح حمدان. عالم الكتب القاهرة. ط1/ 1410هـ- 1990مـ .

الجامع الصحيح. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه، وقام بإخراجه، وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400هـ..

الجامع الكبير. لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي. حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: د بشار عواد معروف. دار الغرب الإسلامي. ط1/ 1996مــ.

الدليل إلى المتون العلمية.. لعبد العزيز إبراهيم بن قاسم. دار الصميعي الرياض. ط1/ 1420 هـ- 2000

صحيح مسلم بشرح النووي (ج1). حققه وخرجه وفهرسه: عصام الصبابطي – حازم محمد- عماد عامر. دار الحديث القاهرة. ط4 /1422هـ- 2001مـ.

عمدة القاري شرح صحيح البخاري. لبدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني. ضبطه وصححه: عبد الله محمود محمد عمر. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. 2018مـ

لسان العرب . لابن منظور. دار صادر بيروت.، (ج 2 ) ط: 6/ 1417هـ- 1997مـ (ج14)ط3/ 1414هـ- 1994مـ،

المصباح المنير في غريب الشرح الكبير. لأحمد بن محمد بن علي الفيومي. تحقيق: عبد العظيم الشناوي. دار المعارف القاهرة. ط2/ (د.ت).

المعجم الوسيط. لمجموعة من الباحثين. مجمع اللغة العربية- مكتبة الشروق الدولية. ط4/2004مـ

منهج النقد في علوم الحديث. لنور الدين عتر. دار الفكر دمشق. ط3 1401هـ- 1981مـ.

الوسيط في علوم ومصطلح الحديث. لأبي محمد بن حمد أبي شهبة. عالم المعرفة 2006مـ.

*راجع المقال الباحث: يوسف أزهار

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق