مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

من أحكام الأضحية

قال الإمام ابن بطال، رحمه الله، في باب سنة الأضحية من شرحه على صحيح البخاري:

قال عليه الصلاة والسلام:« إن أول ما نبدأ به فى يومنا هذا أن نصلى، ثم نرجع فننحر، من فعله فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك، فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك فى شىء»، فقام أبو بردة بن نيار، وقد ذبح، فقال: إن عندى جذعة، فقال:«اذبحها، ولن تجزى عن أحد بعدك».

وقال البراء مرة، عن النبى عليه السلام:«من ذبح بعد الصلاة تم نسكه، أصاب سنة المسلمين» .
وروى أنس عن النبى -عليه السلام- مثله.

اختلف العلماء فى وجوب الأضحية، فقال أبو حنيفة ومحمد: إنها واجبة.

وروى عن النخعى أنه قال: الأضحى واجب على أهل الأمصار ما خلا الحاج.

وذكر ابن حبيب عن مالك أنه قال: الأضحية سنة لا رخصة لأحد فى تركها.

وفى المدونة: من اشترى أضحية فحبسها حية حتى ذهبت أيام الذبح أنه آثم؛ إذ لم يضح بها.

وروى عنه أنه إن تركها بئس ما صنع.

وهذا إنما يطلق فى ترك الواجب. وهو قول ربيعة والليث.

قال مالك: وإن وجد الفقير من يسلفه ثمنها فليستلف.

وروي عن سعيد ابن المسيب، وعلقمة، والأسود، أنه كانوا لا يوجبونها، وهو قول أبى يوسف.

وقال الشافعى: الأضحية سنة وتطوع، وليست بواجبة، وهو قول أحمد وأبى ثور.

وقال الثورى: لا بأس بتركها، وقد روى عن الصحابة ما يدل أنها ليست بواجبة ولا بأس بتركها.

ذكر عبد الرزاق، عن الثورى، عن إسماعيل، عن الشعبى، عن أبى سريحة قال: رأيت أبا بكر وعمر وما يضحيان.

وعن ابن عمر: من شاء ضحى ومن شاء لم يضح..

وروى الثورى، عن أبى معشر، عن مولى لابن عباس قال: أرسلنى ابن عباس أشترى له لحمًا بدرهم، وقال: قل: هذه أضحية ابن عباس.

وقال النخعى: قال علقمة: لأن لا أضحى أحب إلى من أن أراه حتمًا على. وهو قول أبى مسعود البدرى، وسعد، وبلال.

واحتج الكوفيون على وجوبها بقوله عليه السلام لأبى بردة:«إنها تجزئ عنك، ولن تجزئ عن أحد بعدك».
قال الطحاوى: فإن قيل: كان أوجبها فأتلفها، فلذلك أوجب عليه إعادتها. قيل له: أراد هذا ليعرفه قيمة المتلفة ليأمره بمثلها، فلما لم يتعرف ذلك دل أنه لم يقصد إلى ما ذكرت.

واحتج من لم يوجبها بقوله عليه السلام:«أول ما نبدأ به فى يومنا هذا أن نصلى، ثم ننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا»، وما كان سنة فليس بواجب، وبقوله عليه السلام:«إذا دخل عشر ذى الحجة فأراد أحدكم أن يضحى..».

قال ابن المنذر: فلو كانت واجبة لم يجعلها إلى إرادة المضحى.
واختلفوا فى تفصيل الصدقة على الأضحية: فقال ربيعة، وأبو الزناد، والكوفيون: الضحية أفضل. وروى عن طاوس مثله.

وروى عن بلال أنه قال: ما أبالى أن لا أضحى إلا بديك، ولأن أضعه في في يتيم قد ترب أحب إلى من أن أضحى به.

وقال الشعبى: الصدقة أفضل. وهو قول مالك وأبى ثور، ذكره ابن المنذر، والمعروف من مذهب مالك عند أصحابه أن الضحية أفضل من الصدقة.

وروى ابن وهب عن مالك: أن الصدقة بثمنها أحب إلى الحاج من أن يضحى؛ فهذا يدل أن الضحية عنده لغير الحاج أفضل من الصدقة.

قال ابن حبيب: هى أفضل من العتق ومن عظيم الصدقة؛ لأن إحياء السنة أفضل من التطوع.

وقال ربيعة: هى أفضل من صدقة سبعين دينارًا.

قال غيره: ولم يحفظ عن النبى عليه السلام أنه ترك الأضحى طول عمره وندب أمته إليها، فلا ينبغى لموسر تركها، وإنما قال: إن الصدقة بثمنها أفضل للحاج بمنى من أجل أنه لا يرى للحاجة أضحية.

بَاب قِسْمَةِ الإمَامِ الأضَاحِىَّ بَيْنَ النَّاسِ

فيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِر، قَسَمَ النَّبِىُّ عليه السَّلام بَيْنَ أَصْحَابِهِ ضَحَايَا، فَصَارَتْ لِعُقْبَةَ جَذَعَةٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَارَتْ لِى جَذَعَةٌ، قَالَ:« ضَحِّ بِهَا ».

وأما قسمة الرسول الضحايا بين أصحابه، فإن كان قسمها بين الأغنياء لكانت من الفىء أو ما يجرى مجراه مما يجوز أخذها للأغنياء، وإن كان إنما قسمها بين فقرائهم خاصة فكانت من الصدقة.
وإنما أراد البخارى بهذا الباب والله أعلم ليريك أن إعطاء النبى عليه السلام الضحايا لأصحابه دليل على تأكيدها وندبهم إليها.

فإن قيل: لو كان كما زعمت لم يخف ذلك عن الصحابة الذين قصدوا تركها وهم موسرون.
قيل: ليس كما توهمت ولم يتركها من تركها منهم؛ لأنها غير وكيدة ولا مرغب فيها، وإنما تركها لما روى عن معمر والثورى عن أبى وائل قال: قال أبو مسعود الأنصارى: إنى لأدع الأضحى وأنا موسر؛ مخافة أن يرى جيرانى أنه حتم على.

وروى الثورى، عن إبراهيم، عن مهاجر، عن النخعى، عن علقمة قال: لأن لا أضحى أحب إلى من أراه حتما على.

وهكذا ينبغى للعالم الذى يقتدى به إذا خشى من العامة أن يلتزموا السنن التزام الفرائض أن يترك فعلها ليتأسى به فيها ولئلا يخلط على الناس أمر دينهم فلا يفرقوا بين فرضه ونفله.

وفى حديث عقبة من الفقه: أنه تجوز الضحايا بما تهدى إليك وبما لم تشتره، بخلاف ما يعتقده عامة الناس.

بَاب الأضْحِيَّةِ لِلْمُسَافِرِ وَالنِّسَاءِ

فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا وَحَاضَتْ بِسَرِفَ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ مَكَّةَ وَهِىَ تَبْكِى، فَقَالَ:« مَا لَكِ، أَنَفِسْتِ » ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ:« إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِى مَا يَقْضِى الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ »، فَلَمَّا كُنَّا بِمِنًى أُتِيتُ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ بِالْبَقَرِ.

اختلف العلماء فى المسافر هل تجب عليه أضحية؟

فقال الشافعى: الضحية سنة على جميع الناس، وعلى الحاج بمنى. وبه قال أبو ثور.

وقال مالك: الأضحية على المسافر، ولا يؤمر بتركها إلا الحاج بمنى.

وذكر ابن المواز عن مالك: أن من لم يحج من أهل مكة ومنى فليضح.

ومذهب ابن عمر أن الضحية تلزم المسافر وهو قول الأوزاعى والليث.

وقال أبو حنيفة: لا تجب الضحية على المسافر.

وروى عن النخعى أنه قال: رخص للحاج و المسافر فى أن لا يضحى.
وحجة الشافعى ظاهر هذا الحديث وهو قوله:«ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه»، وكانوا فى الحج وفى حال سفر.

قال الأبهرى: والحجة لمالك فى وجوبها على المسافرين: أن المسلمين كلهم مندوبون إليها وإلى غيرها من السنن فعليهم فعلها، ولا فرق فى ذلك بين حضرى ولا بدوى؛ كما لا فرق بينهم فى الفرائض، وحجته أنها لا تلزم الحاج بمنى أن منى إنما تذبح فيها الهدايا لا الضحايا، وهى مخصوصة بالهدايا، والهدى هو ما سيق من الحل إلى الحرام، وليس كذلك الأضحية.

وذكر ابن وهب، عن أفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد قال: كنا نحج مع عائشة فلم يكن يضحى منا أحد. وعن عمر بن الخطاب أنه كان يحج ولا يضحى. وعن ابن عمر مثله.

قال: وأخبرنى رجل من أهل العلم أن عبد الله بن عباس وسالم بن عبد الله وجماعة كانون يحجون ولا يضحون.
وعن النخعى أن أبا بكر وعمر كانا يحجان ولا يضحيان.

وحجة أبى حنيفة فى سقوطها عن المسافرين أنه لما سقطت الجمعة والعيدان عنهم سقطت الضحية، ورواه عن على بن أبى طالب أنه قال: لا جمعة ولا تشريق إلا فى مصر جامع.

وأما النساء فإن من أوجب الضحايا أوجبها عليهن، ومن لم يوجبها استحبها لهن كالرجال، والله أعلم.

بَاب مَا يُشْتَهَى مِنَ اللَّحْمِ يَوْمَ النَّحْرِ

فيه: أَنَسِ، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السلام، يَوْمَ النَّحْرِ:« مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ فَلْيُعِدْ »، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ، فَذَكَرَ من جِيرَانَهُ، وَعِنْدِى جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَىْ لَحْمٍ، فَرَخَّصَ لَهُ فِى ذَلِكَ، فَلا أَدْرِى بَلَغَتِ الرُّخْصَةُ مَنْ سِوَاهُ أَمْ لا؟ ثُمَّ انْكَفَأَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى كَبْشَيْنِ، فَذَبَحَهُمَا، وَقَامَ النَّاسُ إِلَى غُنَيْمَةٍ فَتَوَزَّعُوهَا، أَوْ قَالَ: فَتَجَزَّعُوهَا.

قال المهلب: من استعجل شيئا قبل وقته فعقوبته أن يمنع ذلك الشىء، وهذا أبو بردة استعجل الذبح قبل وقته؛ فحرم أن تجزئ عنه مرة أخرى، ولولا أنه ذكر من جيرانه جوعة ومشقة أراد إطعامهم وسد جوعتهم وخلتهم لما عذره النبى عليه السلام وجوز له الضحية بجذعة من المعز، ويدل على ذلك قوله عليه السلام فى غير هذه الرواية:«ولن تجزئ أحدا بعدك»، فلم يكن فى الحديث شىء يمكن أن يتناول منه معنى اختصاص النبى عليه السلام إياه بإجازة الجذعة إلا ما ذكر من حاجة جيرانه وجوعهم.

قال المؤلف: وفيه أن من اشتهى اللحم يوم النحر أنه لا حرج عليه، ولا يتوجه إليه ما قال عمر بن الخطاب حين لقى جابر بن عبد الله ومعه حمال لحم بدرهم، فقال له: ما هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قرمنا إلى اللحم. فقال له: أين تذهب هذه الآية:(أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا واستمتعتم بها)؛ لأن يوم النحر مخصوص بأكل اللحم والالتذاذ بالحلال، لقوله تعالى:(ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام).

وأما فى غير وقت النحر فأكل اللحم مباح، إلا أن السلف كانوا لا يواظبون على أكله دائمًا، وستأتى سيرتهم فى أكلهم وأخذهم من الدنيا فى كتاب الأطعمة، وكتاب الرقائق إن شاء الله.

وفيه: ما كان عليه سلف هذه الأمة من مواساتهم لجيرانهم مما رزقهم الله، وترك الاستئثار عليهم، ألا ترى حرص أبى بردة تعجيل الذبح من أجل خلة جيرانه، ولم يتعرف إن كان ذلك يجزئ أم لا.

قوله:« فتجزعوها» هو مثل توزعوها وتقسموها، قال صاحب العين الجزع: القطع.

وقول أنس:« لا أدرى أبلغت الرخصة من سواه أم لا » فقد بين أن الرخصة لم تكن لأحد غيره؛ قوله عليه السلام فى حديث البراء:«ولن تجزئ أحدًا بعدك».

بَاب مَنْ قَالَ الأضْحَى يَوْمُ النَّحْرِ

فيه: أَبُو بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ:« الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِى بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، أَىُّ شَهْرٍ هَذَا » ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ:« أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ » ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ:« أَىُّ بَلَدٍ هَذَا » ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ:« أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ » ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ:« فَأَىُّ يَوْمٍ هَذَا » ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ:« أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ»؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ:« فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ….. ».

اختلف العلماء فى أيام الأضحى، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والثورى وأحمد ابن حنبل: الأضحى يوم النحر ويومان بعده. روى ذلك عن عمر، وعلى، وابن عمر، وابن عباس، وأبى هريرة، وأنس، ذكره ابن القصار، وذكره ابن وهب عن ابن مسعود.

وقال عطاء والحسن البصرى والأوزاعى والشافعى و أبو ثور: الأضحى يوم النحر وثلاثة أيام بعده. وروى ذلك عن على وابن عباس قالا: أيام النحر الأيام المعلومات.

وهو اختلاف من قولهما، وليس عن الصحابة غير هذين القولين، و بهما قال أئمة الفتوى، وللتابعين فيها شذوذ.

قال ابن سيرين: الأضحى يوم واحد. يعنى يوم النحر، وبذلك ترجم البخارى.

وقال سعيد بن جبير، وجابر بن زيد: النحر فى الأمصار يوم واحد، وفى منى ثلاثة أيام.

وروى عن الحسن البصرى: النحر إلى آخر يوم من ذى الحجة.

وقال قتادة: يوم النحر وستة أيام بعده.

وهذه الأقوال لا أصل لها فى السنة، ولا فى أقوال الصحابة، وليس استدلال من استدل من قوله عليه السلام:« أليس يوم النحر » أنه لا يكون نحر ولا ذبح فى غيره بشىء؛ لأن النحر فى أيام منى قد نقله الخلف عن السلف، وجرى عليه العمل فى جميع الأمصار، فلا حجة بقوله تعالى:(ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) قال فذكر الأيام دون الليالى.

وقال أبو حنيفة والشافعى: لا بأس بالذبح ليلا فى أيام النحر؛ لأن الله – تعالى – إذا ذكر الأيام فالليالى تبع لها، وإذا ذكر الليالى فالأيام تبع لها، وبه قال أشهب وإسحاق وأبو ثور.

وأجمعوا أنه لا يجوز أن يضحى قبل طلوع الفجر من يوم النحر، وقد تقدم فى كتاب صلاة العيدين اختلاف العلماء فى الأيام المعلومات والمعدودات، والحمد لله.

وقال أبو عبيد: قوله عليه السلام:« إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض » يقال: إن بدء ذلك كان والله أعلم أن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة، وكان هذا مما تمسكت به من ملة إبراهيم، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم؛ فيكرهون أن يستحلوه و يكرهون تأخير حربهم، فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، فيحرمونه ويستحلون المحرم، وهذا هو النسىء الذى قال الله تعالى:(إنما النسىء زيادة فى الكفر) الآية، وكان ذلك فى كتابه.

والنسىء هو التأخير، ومنه قيل: بعت الشىء بنسيئة. فكانوا يحرمون صفر يريدون به المحرم، ويقولون: هو أحد الصفرين.

قال أبو عبيد: وقد تأول بعض الناس فى قوله عليه السلام:«ولا صفر» على هذا، ثم يحتاجون أيضًا إلى تأخير صفر إلى الشهر الذى بعده كحاجتهم إلى تأخير المحرم، فيؤخرون تحريمه إلى ربيع، ثم يمكثون بذلك ما شاء الله، ثم يحتاجون إلى مثله، ثم كذلك، فكذلك يتدافع شهرًا بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذى وصفه الله به، وذلك بعد دهر طويل.

وزعم بعض الناس أنهم كانوا يستحلون المحرم عاما، فإذا كان قابل ردوه إلى تحريمه، والتفسير الأول أحب إلى لقوله عليه السلام:«إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض»، وليس فى التفسير الأخير استدارة، وعلى هذا الذى فسرناه يكون قوله تعالى:(يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا) مصدقا له؛ لأنهم إذا حرموا فى العام المحرم وفى قابل صفر، ثم احتاجوا بعد ذلك إلى تحليل صفر أيضا أحلوه، وحرموا الذى بعده، فهذا تأويل قوله تعالى: (يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا).

قال أبو عبيد: وفى هذا تفسير آخر، يقال: إنه فى الحج، حدثناه سفيان بن عيينة، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد فى قوله تعالى:(ولا جدال فى الحج) قال: قد استقر الحج فى ذى الحجة لا جدال فيه.

وفى غير حديث سفيان يروى عن معمر، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد قال: كانت العرب فى الجاهلية يحجون عامين فى ذى القعدة، وعامين فى ذى الحجة، فلما كانت السنة التى حج فيها أبو بكر قبل حجة النبى عليه السلام كان الحج فى السنة الثانية من ذى القعدة، فلما كانت السنة التى حج فيها النبى عليه السلام فى العام المقبل عاد الحج إلى ذى الحجة.

وقال ثابت بن حزم: روى سفيان بن حسين قال: حدثنى أبو بشر، عن مجاهد قال: حج أبو بكر فى ذى الحجة.
وذكر ثابت فى غريب الحديث حديث أبى بكرة وقال فيه:« أليس البلدة؟ » بفتح اللام، قال: ومنى أيضًا يسمونها البلدة، وقد ذكر الله مكة فى كتابه فقال:(إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة) بإسكان اللام، فلا أعرف ما قال ثابت إلا أن تكون لغة للعرب أيضا بفتح اللام.

بَاب الأضْحَى وَالْمَنْحَرِ بِالْمُصَلَّى

فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَنْحَرُ فِى الْمَنْحَرِ، يَعْنِى مَنْحَرَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام.

وقال ابْن عُمَرَ: إن النَّبِىّ، عليه السَّلام، كَانَ يَنْحَرُ وَيَذْبَحُ بِالْمُصَلَّى.

إنما هذا سنة الإمام خاصة أن يذبح أضحيته أو ينحر بالمصلى، وعلى ذلك جرى العمل فى أمصار المسلمين، وكان ابن عمر يذبح بالمصلى، ولم ير ذلك مالك لغير الإمام.

وقال المهلب: وإنما يذبح الإمام بالمصلى ليراه الناس فيذبحون على يقين بعد ذبحه، ويشاهدون صفة ذبحه؛ لأنه مما يحتاج فيه إلى العيان، وليتأخر الذبح بعد الصلاة كما قال فى الخطبة:« أول ما نبدأ به أن نصلى ثم ننصرف فننحر » .

قال مالك: إنما يذبح الإمام فى المصلى لئلا يذبح أحد قبله. من رواية ابن وهب.

بَاب فِى أُضْحِيَّةِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، وَيُذْكَرُ سَمِينَيْنِ

وَقَالَ سَهْل بْن حنيف: كُنَّا نُسَمِّنُ الأضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ.

فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يُضَحِّى بِكَبْشَيْنِ، وَأَنَا أُضَحِّى بِكَبْشَيْنِ.

وَقَالَ أَنَس: انْكَفَأَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، إِلَى كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ.

وفيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى أَصَحَابِهِ ضَحَايَا، فَبَقِىَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ:« ضَحِّ أَنْتَ بِهِ ».

قال المؤلف: روى عن النبى عليه السلام أنه ضحى بكبشين، أحدهما عنه وعن أهل بيته، والثانى عن أمته، وروى عنه من طرق متواترة أنه ضحى بكبشين.

وروى ابن وهب عن حيوة، عن أبى صخر، عن ابن نشيط، عن عروة، عن عائشة« أن النبى عليه السلام أمر بكبش أقرن يطأ فى سواد، وينظر فى سواد، ويبرك فى سواد، ثم ذبحه، وقال: بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمته، ثم ضحى به »، ذكره ابن المنذر.

وذكر ابن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم ويعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو مولى المطلب، عن المطلب بن عبد الله، عن جابر بن عبد الله:« أن النبى عليه السلام دعا بكبشه فذبحه، وقال: بسم الله والله أكبر، اللهم عنى وعن من لم يضح من أمتى » .

وذكر الطحاوى حديث عائشة وحديث جابر وذكر مثله من حديث أبى سعيد الخدرى، وهذه الآثار مبينة لمعنى حديث أنس، ومفسرة له واختلافها يدل على أن الأمر فى ذلك واسع، فمن أراد أن يضحى عن نفسه باثنين وثلاثة، فهو أزيد فى أجره إذا أراد بذلك وجه الله وإطعام المساكين، وذهب مالك والليث والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور إلى أنه يجوز للرجل أن يضحى بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، وروى مثله عن أبى هريرة وابن عمر، واحتج أحمد بن حنبل بذبح النبى عن أمته، قال ابن المنذر: وكره ذلك الثورى وأبو حنيفة وأصحابه.

وقال الطحاوى: لا يجوز أن يضحى بشاة واحدة عن اثنين، وقالوا: إن ما روى عن النبى أنه ذبح عنه وعن أمته منسوخ أو مخصوص، ومما يدل على ذلك أنه لو كان الكبش يجزئ عن غير واحد، ولا وقت ولا عدد فى ذلك لكانت البدنة والبقرة أحرى أن تكونا كذلك، ولما رأينا النبى عليه السلام وقت فى البدن والبقر، فنحر فى الحديبية كل واحدة عن سبعة، دل أنه لا تجزئ فى البدنة والبقرة عن أكثر ممن ذبحت عنه يومئذ؛ وذلك سبعة، والشاة أحرى بذلك.

قال ابن المنذر: والقول الأول أولى؛ للثابت عن النبى عليه السلام.

قال المؤلف: والنسخ لا يكون بالدعوى إلا بالنقل الثابت، واستعمال السنن أولى من إسقاط بعضها، ولا سلف للكوفيين فى قولهم بالنسخ فى ذلك، وقد تقدم حديث عقبة فى باب قسمة الإمام الأضاحى بين أصحابه.
والعَتُود: الجذع من المعز، وهو ابن خمسة أشهر، ولا يجوز الجذع من المعز فى الضحايا، وإنما يجوز فيها الثنى، وهو بعد دخوله فى السنة الثانية، والحديث خاص لعقبة لا يجوز لغيره إلا لأبى بردة بن نيار، والذى رخص له النبى فى مثله، ولا يجوز لغيرهما.
وقوله:« أملحين » يعنى أنهما بلون الملح، عن الطبرى.

وقال صاحب العين: الملحة والملح: بياض يشوبه شىء من سواد، وكبش أملح وعنب ملاحى: ضرب منه فى حبه طول.

وقال أبو عبيد عن الكسائى وأبى زيد: الأملح الذى فيه بياض وسواد، ويكون البياض أكثر.
وقول سهل:« كنا نسمن الأضحية بالمدينة » فقد قال ابن عباس فى قوله تعالى: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) قال: فى الاستسمان والاستعظام والاستحسان.

بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم لأبِى بُرْدَةَ:« ضَحِّ بِالْجَذَعِ مِنَ الْمَعَزِ وَلَنْ تَجْزِىَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ »

فيه: الْبَرَاء، قَالَ: ضَحَّى خَالٌ لِى يُقَالُ لَهُ: أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:« شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ »، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عِنْدِى دَاجِنًا جَذَعَةً مِنَ الْمَعَزِ، قَالَ:« اذْبَحْهَا وَلَنْ تَصْلُحَ لِغَيْرِكَ….» الحديث.

وقال مرة: عَنَاقُ لَبَنٍ، وعَنَاقٌ جَذَعَة، قَالَ:« اجْعَلْهَا مَكَانَهَا، وَلَنْ تَجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ » .
العلماء مجمعون على القول بظاهر هذا الحديث، وقد تقدم الكلام فيه فى باب ما يشتهى من اللحم يوم النحر، والعناق من المعز ابن خمسة أشهر أو نحوها، وهو جذعة، ولا يجوز فى الضحايا بإجماع، وإنما يجوز من المعز الثنى فما فوقه، وهو ثنى إذا تم له سنة ودخل فى الثانية، وإنما يجوز الجذع من الضأن فقط، وهو ابن سبعة أشهر، قيل: إذا دخل فيها. وقيل إذا أكملها. وعلامته أن يرقد صوف ظهره بعد قيامه، وإذا كان كذلك قالت العرب: إنه قد أجذع. ولا يجوز من سائر الأزواج الثمانية من الأنعام إلا الثنى فما فوقه، فثنى البقر إذا كمل له سنتان ودخل فى الثالثة، وثنى الإبل إذا كمل له خمس سنين ودخل فى السادسة.

بَاب مَنْ ذَبَحَ الأضَاحِىَّ بِيَدِهِ

فيه: أَنَس، ضَحَّى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا يُسَمِّى وَيُكَبِّرُ، فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ.

ذبح الرجل أضحيته بيده هى السنة، والعلماء يستحبون ذلك، قال أبو إسحاق السبيعى: كان أصحاب محمد يذبحون ضحاياهم بأيديهم.

قال مالك: وذلك من التواضع لله تعالى وأن رسول الله كان يفعله، فإن أمر بذلك مسلمًا أجزأته وبئس ما صنع. وكذلك الهدى، وقد كان أبو موسى الأشعرى يأمر بناته أن يذبحن نسكهن بأيديهن.

وروى الزهرى عن النبى عليه السلام أنه قال لعائشة أو لفاطمة:« اشهدى نسيكتك، فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها »، وترجم له باب وضع القدم على صفحة الذبيحة.

ومعنى ذلك والله أعلم ليقوى على الإجهاز عليها، ويكون أسرع لموتها، لقوله عليه السلام:« إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته » وليس ذلك من تعذيبها المنهى عنه، إذ لا يقدر على ذبحها إلا بتفاقها.

وقال ابن القاسم: الصواب أن يضجعها على شقها الأيسر، وعلى ذلك مضى عمل المسلمين، فإن جهل فأضجعها على الشق الآخر لم يحرم عليه أكلها. وترجم له باب التكبير عند الذبح.

قال المهلب: التكبير عند الذبح مما أمر الله به لقوله: (ولتكبروا الله على ما هداكم) وهذا على الندب والاستنان، ومعناه إحضار النية لله تعالى لا لشىء من المعبودات التى كانت الجاهلية تذبح لها، وكان الحسن البصرى يقول عند ذبح أضحيته: بسم الله والله أكبر، هذا منك ولك اللهم تقبل من فلان.

وكره أبو حنيفة أن يذكر مع اسم الله غيره، أن يقول: اللهم تقبل من فلان عند الذبح، ولا بأس بذلك قبل التسمية وقبل الذبح.

وقال ابن القاسم: ليقل الذابح: بسم الله والله أكبر، وليس بموضع صلاة على النبى، ولا يذكر هناك إلا الله وحده. وهو قول الليث، وكان ابن عمر يقول: بسم الله والله أكبر.

قال ابن القاسم: وإن سمى الله أجزأه، وإن شاء قال: اللهم تقبل منى.
وأنكر مالك قولهم: اللهم منك وإليك.

وقال الشافعى: التسمية على الذبيحة بسم الله، فإن زاد بعد ذلك شيئًا من ذكر الله أو صلى على محمد لم أكرهه، وإن قال: اللهم تقبل منى، فلا بأس.

وقال محمد بن الحسن: إن ذبح شاة فقال: الحمد لله، أو قال: سبحان الله والله أكبر، يريد بذلك التسمية، فلا بأس، وهذا كله تسمية، قال وإن قال: الحمد لله، يريد أن يحمده، ولا يريد به التسمية، فلا يجزئ شىء عن التسمية، ولا يؤكل وبه قال أبو ثور.

بَاب مَنْ ذَبَحَ ضَحِيَّةَ غَيْرِهِ وَأَعَانَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ فِى بَدَنَتِهِ،وَأَمَرَ أَبُو مُوسَى بَنَاتِهِ أَنْ يُضَحِّينَ بِأَيْدِيهِنَّ

فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَرِفَ وَأَنَا أَبْكِى، فَقَالَ:« مَا لَكِ، أَنَفِسْتِ» ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:« هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِى مَا يَقْضِى الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ »، وَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ.

قال المهلب: فى هذا الحديث حجة لرواية ابن عبد الحكم عن مالك أنه إن ذبح لرجل أضحيته بغير أمره من يقوم بخدمته من الولد أو بعض عياله، وذبحها على وجه الكفاية، أنها تجزئ عنه، كما ذبح الرسول عن أزواجه البقر.

وقال الأبهرى: إذا ذبحها من يقوم بأمره كالأخ والوكيل فيجوز، لأنه ناب عنه وذبح عنه.
واختلفوا إن أمر بذبحها غير مسلم، فكره ذلك على بن أبى طالب، وابن عباس، وجابر، ومن التابعين: ابن سيرين، والشعبى، والحسن، وربيعة، وقاله الليث.

وقال مالك: أرى أن يبدلها بأخرى حتى يذبحها هو بنفسه صاغرًا، فإن ذلك من التواضع، وكان رسول الله يذبح بنفسه. وكره ذلك الثورى والكوفيون والشافعى وأشهب صاحب مالك، فإن وقع أجزأ ذلك عندهم، وأجاز ذلك عطاء.

وجه هذه المقالة أن الله أباح لنا ذبائحهم، وإذا كان لنا أن نولى ذبائحنا من تحل لنا ذبيحته من المسلمين، كان جميع من حلت لنا ذبيحته من المسلمين، فى معناه فى أنه يقوم مقامه ولا فرق بين ذلك.
قال ابن المنذر: ومن كرهه، فإنما هو على وجه الاستحباب لا على وجه التحريم.

قال مالك: فإن ذبحها أجنبى مسلم بغير أمره، لم تجز عنه، وهو ضامن لها، وأجاز ذلك أبو حنيفة والشافعى.
وحجة من أجازها أن من أصولهم أن الضحية تجب عندهم بالشراء قياسا على ما اتفقوا عليه من الهدى إذا بلغ محله فذبحه ذابح بغير أمره أنه يجزئ عنه، لأنه شىء خرج من ماله لله فكأن الذابح ذبحه للمساكين المستحقين له.

وأما مالك فالهدي عنده مخالف للضحايا، فتجب الضحايا عنده بالذبح لا بالشراء، لأنه يجيز للمضحى أن يبدل أضحيته بأفضل منها وأسمن، فهى مفتقرة إلى نية، فلذلك لم يجز أن يذبحها أحد عنه بغير أمره، وقول مالك أولى بالحديث والله أعلم وليس لأحد عنده أن يبدل هديه.

بَاب الذَّبْحِ بَعْدَ الصَّلاةِ

فيه: الْبَرَاء، سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَخْطُبُ، فَقَالَ:« إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّىَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ هَذَا، فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا وَمَنْ نَحَرَ، فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ يُقَدِّمُهُ لأهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِى شَىْءٍ»، فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أُصَلِّىَ وَعِنْدِى جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ؟ قَالَ:« اجْعَلْهَا مَكَانَهَا وَلَنْ تَجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ».

وترجم له: باب: من ذبح قبل الصلاة أعاد.

وزاد فيه: حديث جُنْدَبَ ابْنَ سُفْيَانَ الْبَجَلِىَّ، قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ:« مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّىَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ ».

قال المؤلف: سنة الذبح بعد الصلاة، وأجمع العلماء أن من ذبح قبل الصلاة فعليه الإعادة، لأنه ذبح قبل وقته، واختلفوا فيمن ذبح بعد الصلاة وقبل ذبح الإمام:

فذهب أبو حنيفة والثورى والليث إلى أنه يجوز ذلك، واحتجوا بحديث البراء أن النبى عليه السلام قال:« أول ما نبدأ به فى يومنا هذا أن نصلى، ثم نرجع فننحر » وبقوله فى حديث جندب ابن سفيان:« من ذبح قبل أن يصلى فليعد» قالوا: فإذا حل للإمام الذبح بتمام الصلاة، حل لغيرة، ولا معنى لانتظاره.

وقال مالك والأوزاعى والشافعى: لا يجوز لأحد أن يذبح قبل الإمام، واحتجوا بحديث ابن جريج، عن أبى الزبير، عن جابر:« أن النبى عليه السلام صلى يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبى قد نحر، فأمرهم أن يعيدوا».

وقال الحسن فى قوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله) قال: نزلت فى قوم نحروا قبل أن ينحر النبى عليه السلام.

ودفع الطحاوى حديث ابن جريج عن أبى الزبير، عن جابر، وقال: رواه حماد بن سلمة، عن أبى الزبير، عن جابر:«أن رجلا ذبح قبل أن يصلى النبى عليه السلام فنهى رسول الله أن يذبح أحد قبل الصلاة» قال: ففى هذا الحديث أن النهى من النبى عليه السلام إنما قصد به إلى النهى قبل الصلاة لا قبل ذبحه هو، ولا يجوز أن ينهاهم عن الذبح قبل أن يصلى إلا وهو يريد بذلك إعلامهم إباحة الذبح لهم بعدما يصلى، وإلا لم يكن لذكر الصلاة معنى.

قالوا: ويشهد لهذا قوله عليه السلام فى حديث البراء:« إن أول نسكنا فى يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة، ثم نرجع فنحر» فأخبر أن النسك يوم النحر إنما هو الصلاة، ثم الذبح بعدها، فدل ذلك على أن ما يحل به الذبح هو الصلاة لا نحر الإمام الذى يكون بعدها، وأن حكم النحر قبل الصلاة خلاف حكمه بعدها، وأما من طريق النظر فإنا رأينا الإمام لو لم ينحر أصلا لم يكن ذلك بمسقط عن الناس النحر، ولا مانع لهم منه، ولو أن إماما تشاغل يوم النحر بقتال عدو أو غيره فلم ينحر؛ أن لغيره ممن أراد الضحية أن يضحى، فإن قال: ليس له أن يضحى. خرج من قول جميع الأئمة، وإن قال: لهم أن يضحوا بعد زوال الشمس لذهاب وقت الصلاة. فدل أن ما حل به النحر ما كان وقت صلاة العيد، إنما هو الصلاة لا نحر الإمام، ألا ترى أن الإمام لو نحر قبل أن يصلى لم يجزئه ذلك؟ وكذلك سائر الناس، فكان حكم الإمام والناس فى الذبح قبل الصلاة سواء فى أن لا يجزئهم، فالنظر على ذلك أن يكون الإمام وسائر الناس سواء فى الذبح بعد الصلاة، أنه يجزئهم كلهم.

قال المهلب: إنما كره الذبح قبل الإمام والله أعلم لئلا يشتغل الناس عن الصلاة ويحرمها المساكين مع المشتغلين بالذبح، ألا ترى أن النبى قد أمر بإخراج العوائق وغيرهن ليشهدوا بركة دعوة المسلمين؟
واختلفوا فى وقت ذبح أهل البادية، فقال مالك: يذبح أهل البوادى إذا نحر أقرب أئمة القرى إليهم فإن أخطئوا وذبحوا قبله أجزأهم.

وقال عطاء: يذبح أهل القرى بعد طلوع الشمس.

وقال الشافعى: وقت الذبح وقت صلاة النبى من حيث حلت الصلاة، وقت خطبتين، وأما صلاة من بعده فليس فيها وقت. وبه قال أحمد.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: من ذبح من أهل السواد بعد طلوع الفجر أجزأه؛ لأنه ليس عليهم صلاة العيد. وهو قول الثورى وإسحاق.

كتاب الأضاحى، باب سنة الأضحية، “قال ابن عمر: هى سنة ومعروف”، شرح صحيح البخاري لابن بطال، لأبي الحسن علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال البكري القرطبي (ت 449هـ)، مكتبة الرشد السعودية/ الرياض: 1423هـ/2003م، الطبعة : الثانية، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم. [ ج6/ ص 5-28].

إنتقاء: د. طارق طاطمي

Science

الدكتور طارق طاطمي

باحث مؤهل متعاون مع مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط

منسق تحرير مجلة لسان المحدث التابعة للرابطة المحمدية للعلماء

منسق تحرير موقع مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث

أستاذ السيرة النبوية بمؤسسة دار الحديث الحسنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق