مركز الدراسات القرآنيةشذور

منهج القرآن الكريم في تربية النشء

يرسم القرآن الكريم نظام المسلم في شتى مجالات الحياة، في نسيج بين الأخلاق والارتقاء الروحي، وتربية النشء على العلاقة بكتاب ربهم، هو البناء الرصين لصلاح المجتمع خُلقاً وروحاً.

والقرآن الكريم له منهج خاص متميز في تربية الناشئة، فهو منهج رباني؛ ولذلك كان من أثره بعث امة كانت شاردة تائهة، غارقة في الحروب القبلية الجاهلية من وسط الصحاري، حيث البساطة والبداوة، لتصبح أمة قوية متماسكة، لا مثيل لها فوق هذه البسيطة.

فالمنهج القرآني في التربية هو معالجة الكائن البشري كله، فهو منهج يشمل التربية العقدية، والخُلقية، والجسمية، والعقلية، والنفسية، والاجتماعية، والجنسية، هذا المنهج القرآني يجعل من الفطرة السليمة منطلقا لتربية الإنسان الصالح، ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم الآية: 29]، باعتماد معالجة شاملة، تشمل عقله وروحه وجسده، وحياته المادية والمعنوية، وكل نشاطه على الأرض.

فالإسلام دين الفطرة، فما من منهج ولا نظام يعالج الفطرة كما يعالجها القرآن، وهو يهذب فطرة الإنسان ويضبطها، ويضبط عقل الإنسان ويهذب روحه، ويرتقي بالنفس البشرية لتصل إلى القيم النبيلة، والأخلاق الحميدة؛ لتكون للإنسان طاقة جسمية، وعقلية، وروحية عاملة في الأرض تؤهله لإعمارها.

إن المنهج القرآني في التربية، يكتسي سمتين أساسيتين:

أولا: طابع الموعظة والهدي والإرشاد، والتوجيه والنصح.

ثانيا: طابع التدرّج في الأحكام، وكيفية أخذ الناس بها؛ فالقرآن لم يفرض أحكامه على العباد دفعة واحدة، لكنه أوجبها على مراحل رتّب بعضها على بعض ومهّدت السابقة منها للّاحقة؛ وذلك من دعوته الناس إلى العقيدة الصحيحة أولا، ثم إلى الإصلاح النفسي والاجتماعي ثانيا، وتدرجه في تحويل الناس عن عوائدهم وفواحشهم التي تعودوا عليها.

 فالأسلوب القرآني في التربية، هو السير بالناس، في كل ما يلزم من الأحكام، نحو السهولة واليسر، وإقناعهم بأن كل ما قد يتصورونه قيودا، ليس إلا أسسا لا بدّ منها لسعادتهم ولصلاح معاشهم ومعادهم، ففي قوله تعالى: ﴿ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ، وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة، الآية: 6]، ويقول: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة، الآية: 184]، ويلفت نظرهم إلى أن الشريعة الإسلامية إنما تحمل إليهم في طيّبها سرّ الحياة السعيدة للفرد والجماعة، فيقول: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال، الآية 24]، ويقول: ﴿مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل، الآية: 97].

والقرآن إنما جاء ليتدبره الناس، فيصبحوا عبيدا لله بالطوع والاختيار، كما خلقهم عبيدا له بالفطرة والإجبار؛ ومن أجل هذا، نهج بالناس نهجا تربويا في كل ما يأتيهم به من أخبار وآيات وعظات وأحكام، ولهذا كان هذا الكتاب أعظم مصدر للتربية.

وحين نتأمل في القرآن الكريم، نجده يقدم نماذج وصور ومناهج في أسلوب التربية، وهو أسلوب يراعي الجوانب النفسية للبشر، ويراعي ظروفهم ومكانهم ومحيطهم وتركيبتهم الدينية والإيمانية، فالأسلوب التربوي الذي استعمله نبي الله يعقوب مع أبنائه غير الأسلوب الذي استعمله مع ولده يوسف، وهو أيضا يختلف عن الأسلوب الذي استعمله لقمان مع ابنه، وهو غير الأسلوب الذي استعمله إبراهيم عليه السلام مع ولده اسماعيل، كما يختلف مع الأسلوب الذي استخدمه نبي الله نوح عليه السلام مع ابنه.

فنجد مثلا يعقوب عليه السلام ، يحذر ابنه يوسف من أن يخبر إخوته عن الرؤيا التي رآها، ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [يوسف،الآية: 5]، فأساس هذا الأسلوب التربوي الواقعية والصراحة، فيلاحظ أن نبي الله يعقوب عليه السلام، استخدم مع ابنه وسيلة التحذير والتنبية من الوقوع في خطأ إخبار إخوته بما رآه؛ لأنهم سيكيدون له كيدا، استعمل لفظ الكيد لأن فيه جوانب المكر والخداع، وكان بإمكانه أن يستعمل أسلوبا غير هذا، ويقدم له مبررا مختلفا حتى لا تكون له نظرة سلبية على باقي إخوته، لكن القرآن الكريم يحرص على أن يكون الصدق أساس منهج التربية ، فحين يكون الأب صادقا وصريحا وواضحا مع أبنائه، سيتعلم منه النشء ويأخذون منه الصدق والصراحة.

 وهناك طرق ووسائل مختلفة لقول الصدق، ل تراعي الجوانب العاطفية والنفسية للطفل، فحين يقول الوالد لابنه، ﴿فيكيدوا لك كيدا﴾ يعطيه بعد ذلك مبررا منطقيا وعقلانيا لقبول تلك الحقيقة المرة، ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾، فيعقوب عليه السلام حاول ألا يرسم صورة سلبية قاتمة في ذهن ولده الصغير، بل يصور له الحقائق أنها تأتي من فعل الشيطان، كأنه يقول له: إن إبليس يجعل من بعض الناس يكرهوننا لمزايانا وليس لعيوبنا، فقد كرهوك؛ لأنك جميل وطيّب ولا تشبههم، والناس لا يريدون من يذكرهم بنقصهم، ولذلك ينبغي ألا تقصص رؤياك على الجميع، ولا تخبرهم بكل خير وهبه الله إياك، ولا حتى على أقرب مقربيك؛ لأن البعض عيونهم ضيقة، وقلوبهم أضيق، ينظرون إلى ما في أيدي الآخرين أكثر مما ينظرون إلى ما في أيديهم.

يقول الإمام الطاهر بن عاشور في تفسيره لقوله تعالى ﴿قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾: ((وقول يعقوب ـ عليه‌ السلام ـ هذا لابنه تحذير له مع ثقته بأنّ التحذير لا يثير في نفسه كراهة لإخوته؛ لأنّه وثق منه بكمال العقل، وصفاء السريرة، ومكارم الخلق. ومن كان حاله هكذا كان سمحا، عاذرا، معرضا عن الزلّات، عالما بأثر الصبر في رفعة الشأن، ولذلك قال لإخوته: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف، الآية:90]، وقال: ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف، الآية 92]، وقد قال أحد ابني آدم ـ عليه‌ السلام ـ لأخيه الذي قال له لأقتلنّك حسدا ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ﴾ [المائدة، الآية: 30].

 فلا يشكل كيف حذّر يعقوب يوسف ـ عليهما‌ السلام ـ من كيد إخوته، ولذلك عقب كلامه بقوله : ﴿إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾  ليعلم أنه ما حذّره إلّا من نزغ الشيطان في نفوس إخوته.

وهذا كاعتذار النبي صلى الله عليه وسلم  للرّجلين من الأنصار اللذين لقياه ليلا وهو يشيّع زوجه أمّ المؤمنين إلى بيتها، فلمّا رأياه ولّيا، فقال: «على رسلكما إنها صفية، فقالا: سبحان الله يا رسول الله وأكبرا ذلك، فقال لهما: إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في نفوسكما». فهذه آية عبرة بتوسّم يعقوب ـ عليه ‌السلام ـ أحوال أبنائه وارتيائه أن يكفّ كيد بعضهم لبعض)) [1].

وبالعودة إلى الشواهد القرآنية على المنهج التربوي في القرآن الكريم، نستعرض نموذجا من نماذج الأسلوب التربوي في القرآن الكريم، وهو قوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء، الآية: 24].

يقول الإمام الطاهر بن عاشور في تفسيره لهذه الآية: ((والمقصود منه تمثيل حالة خاصة فيها الإشارة إلى تربية مكيفة برحمة كاملة، فإن الأبوة تقتضي رحمة الولد، وصغر الولد يقتضي الرحمة به ولو لم يكن ولدا، فصار قوله: ﴿كَما رَبَّيانِي صَغِيراً﴾ قائما مقام قوله: كما ربياني ورحماني بتربيتهما،  فالتربية تكملة للوجود، وهي وحدها تقتضي الشكر عليها. والرحمة حفظ للوجود من اجتناب انتهاكه وهو مقتضى الشكر، فجمع الشكر على ذلك كله بالدعاء لهما بالرحمة.

والأمر يقتضي الوجوب. وأما مواقع الدعاء لهما فلا تنضبط وهو بحسب حال كل امرئ في أوقات ابتهاله،  وعن سفيان بن عيينة إذا دعا لهما في كل تشهد فقد امتثل.

ومقصد الإسلام من الأمر ببر الوالدين وبصلة الرحم ينحل إلى مقصدين :

أحدهما : نفساني؛ وهو تربية نفوس الأمة على الاعتراف بالجميل لصانعه، وهو الشكر، تخلقا بأخلاق الباري تعالى في اسمه الشكور، فكما أمر بشكر الله على نعمة الخلق والرزق أمر بشكر الوالدين على نعمة الإيجاد الصوري ونعمة التربية والرحمة، وفي الأمر بشكر الفضائل تنويه بها وتنبيه على المنافسة في إسدائها.

والمقصد الثاني عمراني، وهو أن تكون أواصر العائلة قوية العرى، مشدودة الوثوق، فأمر بما يحقق ذلك الوثوق بين أفراد العائلة، وهو حسن المعاشرة ليربي في نفوسهم من التحاب والتواد ما يقوم مقام عاطفة الأمومة الغريزية في الأم ، ثم عاطفة الأبوة المنبعثة عن إحساس بعضه غريزي ضعيف، وبعضه عقلي قوي حتى أن أثر ذلك الإحساس ليساوي بمجموعه أثر عاطفة الأم الغريزية أو يفوقها في حالة كبر الابن. ثم وزع الإسلام ما دعا إليه من ذلك بين بقية مراتب القرابة على حسب الدنو في القرب النسبي بما شرعه من صلة الرحم ، وقد عزز الله قابلية الانسياق إلى تلك الشرعة في النفوس)) [2].

الهوامش:

[1] محمد الطاهر، ابن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر ، ط. 1984  ج ، 12 ، ص 214

[2] محمد ، الطاهر، بن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، ط 1984 ج 15 ص 73

Science

ذة. مريم الدويك

باحثة بمركز الدراسات القرآنية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق