وحدة الإحياءشذور

منهج الترجيح بالمآل عند القاضي ابن العربي (توفي 543ﻫ) من خلال القبس

التعريف بإشكال البحث[1] وتأسيس القضية

يرجع الإشكال المؤطر لقضايا البحث عموما إلى الكلية الحاكمة التي أسسها الإمام الشاطبي في كتابه “الموافقات”، وخلاصتها المجزئة أن “الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك ولا يصلح فيها غير ذلك[2].”

فأما الجزء الأول من التركيب، فليس مقصودا أصالة وإن صار خادما للبحث تبعا، وأما الجزء الآخر المتعلق بذوبان الخلاف في الأصول، فإليه يرجع النظر احتجاجا وتقريرا واستدلالا. ونعبر عنه بقولنا: “وحدة المنهج في الاستنباط الفقهي.” وهي دعوى رمنا جعلها مطلوبا بعد تقديم الأدلة العلمية الحجاجية المثبتة لصحتها وإن كان يغلب عليها طابع الخصوص؛ إذ قبس ابن العربي هو بؤرة البحث دون سواه.

وقد كان اختيار فكر القاضي الأصولي، نموذجا، راجعا إلى ما وقر في القلب وصدقته تواليف التراث الإسلامي من كون المذهب المالكي، من بين مذاهب الفقه، كان هو السباق إلى التأصيل لبعض هذه الإشراقات التي تخدم هذه “الوحدة” تنظيرا وتنزيلا، بداية من عالم المدينة مالك من خلال موطئه خاصة، ومرورا بطائفة من علماء المذهب حذوا وراءه حذو القذة بالقذة كابن عبد البر والمازري وابن رشد الحفيد والشاطبي وغيرهم.

تحديد المفاهيم المركزية

1. المنهج

النهج هو الطريق الواضح كالمنهج والمنهاج. قال ابن قتيبة: “المنهاج: الطريق الواضح، يقال: نهجت لي الطريق: أي أوضحته[3].” ومثله في “لسان العرب” قال: “والمنهاج الطريق الواضح. واستنهج الطريق: صار نهجا، ونهجت الطريق: سلكته. وفلان يستنهج سبيل فلان: يسلكه. والنهج الطريق المستقيم[4].” فالمنهج، إذن، في اللغة لا يعدو أن يكون الطريق الواضح المستقيم.

وأما فيما يخص سياق البحث؛ فإنما المقصود به: “تلك الخطوات الإجرائية التي سلكها أبو بكر في الفهم والاستنباط والتعليل والتركيب أو قل باختصار: طريقته في التحليل. ولست أزعم هاهنا الإحاطة بالطريقة في جميع جزئياتها، وبمختلف مواردها الأصولية، فتكون (قضية غير محصلة) كما يقول المناطقة! ولكن المقصود بيان كيفية توظيف القاضي لعملية (التحليل) تلك المناطة بأصل (المآل) على الخصوص. فتكون الدراسة هاهنا (منهجية)؛ أي مركزة على جرد القواعد الأصولية المآلية وتصنيفها وتحليلها وفق الإطار العام للموضوع؛ إذ المنهج في النهاية ليس سوى “تركيب نسقي أعلى لمجموعة من القواعد[5].” فلعل أهم الأسباب الدافعة، إذن، إلى اختيار هذا النوع من الدراسة المركز على (بنية) المحتوى؛  أي المنهج، وليس على المحتوى نفسه، ترجع إلى ما يلي:                                

 أولا: أن أبواب علم أصول الفقه نفسه ليست إلا ضربا من ضروب (العلوم المنهجية) كما انتهت إلى ذلك الدراسات المعاصرة؛ حيث قالوا: “ليس يخفى أن علم أصول الفقه، الذي يعد بحق علما أنشأته الحضارة الإسلامية إنشاء، يكاد يكون مزيجا من أبواب نظرية ومنهجية (…) وهو باب من أبواب علم المناهج (أو الميثودولوجيا) الذي ينظر في الأدلة الشرعية تعريفا وترتيبا (…) كما يدرس قواعد الاستنباط، وقوانين الأحكام، وباب الاستدلال الحجاجي (…) ويعنى بقوانين الجدل والمناظرة وباب فقه العلم (أو الإبستيمولوجيا) الذي يبحث في فلسفة التشريع[6].” قلت: ومهمته الأصلية هي كونه (منهجا) ينظر في الأدلة الشرعية لاستنباط الحكم وتنزيله بعد تحقيق مناطه. وأما باقي المباحث العلمية؛ فتأتي بالتبع، وإن كانت لا تخلو، هي كذلك، من نظر (منهجي) سواء تعلق الأمر بقواعد الاستنباط وقوانين الاستدلال الحجاجي، أم بباب فقه العلم ومقاصده الشرعية..

السبب الثاني: وهو لازم عن الأول، أن كون علم الأصول (منهجا) أهله لرصد كثير من الإشكالات العلمية المتضمنة في موضوعاته بما فيها الإشكال المحوري المرتبط بالخلاف الفقهي، وعلى هذا تتنزل قولة ابن عاشور، رحمه الله، حين صرخ قائلا: “وإنما أردت أن تكون ثلة من القواعد القطعية ملجأ نلجأ إليه عند الاختلاف والمكابرة[7].” فالقول بقطعية (هذه القواعد) ليس إضافة معرفية في أصول الفقه والخلاف العالي، وإنما هو نظر جديد في مناهج الاستنباط وقواعد الاستدلال وإعادة نهجها وفق السبيل المفضي إلى تحصيل القطع فيها.

فهي، إذن، (إضافة) في المنهج؛ كما بينه قوله في سياق آخر: “فنحن إذا أردنا أن ندون أصولا قطعية للتفقه في الدين حق علينا أن نعمد إلى أصول الفقه، فتنفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت بها ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه علم مقاصد الشريعة[8].”

إن (إعادة صوغ) علم الأصول كما قال، هو ضرب في أعماق (المنهج) الذي يتم بواسطته استخلاص (أهم وأشرف معادن الفكر والنظر) لتركيب (علم مقاصد الشريعة)؛ فعلم المقاصد، بتعبير آخر، للدكتور عبد المجيد الصغير “علم ذو طموح جديد يسعى إلى تحقيق الوفاق والتوفيق على مستوى الرؤية المنهجية والبحث عن القضايا القطعية أكثر مما يهتم بمعالجة المشاكل الجزئية التفصيلية والمسائل الظنية[9].” وإذن؛ فقد غدا علم الأصول عموما، لطبيعته المنهجية، قوي السياج النظري الذي ينظم قواعده، بخلاف، مثلا، بعض العلوم الأخرى كالتفسير والبيان والتصوف، وحسبك، زيادة في الدليل، أن الأول منها لم يستطع ضبط العملية التفسيرية لضعف السياج المنهجي النظري الذي يؤطر قواعده؛ إذ لا تزال مشتتة بين باقي العلوم الأخرى (من علوم القرآن والكلام والفقه والأصول…). فعبثت به الباطنية قديما، ولا تزال اليوم تعبث به ما يسمى بالقراءات الجديدة!

والشيء نفسه يقال عن البيان؛ وقد قال ابن السبكي قديما ناقلا عن أحد شيوخه: “إن العلوم ثلاثة: علم نضج واحترق، وعلم نضج وما احترق، وعلم ما نضج وما احترق[10].” ومثل للأخير بعلمي التفسير والبيان[11]. والسبب في إلحاق البيان له هو سيطرة الذوق عليه تماما كالتصوف؛ الذي أصبح مرتعا للخطأ والخطل، وغدت الخرافة هي المشيمة المغذية لمعانيه في جل أطواره التاريخية التي مر بها. ولعمري كيف يفرق بين حال وحال أو ذوق وذوق؟! وما السبيل الضابط في التفريق بين هذا المقام عن ذاك؟! فلهذا تفطن الشيخ زروق، رحمه الله، إلى هذه النكتة وألف كتابا، بل جل كتبه![12] سماه قواعد التصوف”؛ ربط فيه هذا الأخير بقواعد الفقه حتى يصير أقرب إلى (المنهجية) وأبعد عن الخبال والخيال. وخلاصته المجزئة في هذا السياق أن “ضبط العلم بقواعده مهم؛ لأنها تضبط مسائله وتُفهم معانيه وتدرك مبانيه وينفى الغلط من دعواه[13].” ومن ثم “صح إنكار الفقيه على الصوفي، ولم يصح إنكار الصوفي على الفقيه![14].”

 من أجل هذه المكانة في (علوم المناهج) التي احتلها علم الأصول، وعلم الفقه بالتبع، ولما كانت الدراسة المنهجية هي الكفيلة بحل الإشكالات العلمية لا (التكديس) المعرفي، كانت هذه الدراسة المتواضعة منصبة بالأساس على (المنهج الأصولي) عند القاضي في القبس.

2. الترجيح

 ترجع مادة (ر ج ح) إلى معاني الرزانة والزيادة والثقل. ومعناها اللغوي العام الذي يجمع بينها هو: الميل إلى جهة لفضل فيها زائد. قال ابن فارس: “الراء والجيم الحاء: أصل واحد؛ يدل على رزانة وزيادة. يقال رجح الشيء وهو راجح إذا رزن وهو من الرجحان (…) وتقول: ناوأنا قوما فرجحناهم؛ أي كنا أرزن منهم[15].” وفي  الأساس: “رجحت إحدى الكفتين على الأخرى ورجحت الشيء: وزنته بيدي ونظرت ما ثقله. ومن المجاز: رجح إحدى قوليه على الآخر[16].”

ولذلك كان الترجيح في المعنى الاصطلاحي محافظا في دلالته على هذا المعنى اللغوي المشترك، قال الجرجاني: “الترجيح إثبات مرتبة في أحد الدليلين على الآخر[17]“، فكأنه إثبات ثقل أحدهما على الآخر على سبيل المجاز  كما مر.

غير أن النكتة الإضافية المتعلقة بالمفهوم في مقامنا هذا، مما يتعلق بالإطار العام للبحث، هو كونه؛ (أي الترجيح) يدل على التكثير في التوظيف والاستعمال أثناء التنزيل للقاعدة الأصولية؛ فنقول مثلا: إن مالكا رجح العمل بالمصلحة أو بالعرف في هذه المسألة الفقهية، أو رجح العمل بالمآل، كما قال ابن العربي نفسه: “ومالك إنما ينظر إلى المآل فيركب عليه حكم الحال، وأباه سائر الفقهاء والحجة فيه لمالك[18]“، فهذا إنما يتنزل على كثرة الاستعمال، وإلا فإن القاعدة “متفق بين العلماء فيها فافهموها وادخروها وهي النظر إلى المآل[19]” كما قال في موضع آخر. وهذا قريب جدا مما عناه ابن دقيق العيد، رحمه الله، في سياق الحديث عن المصلحة المرسلة؛ إذ قال: “الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحا على غيره من الفقهاء في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل. ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيح في الاستعمال لها على غيرهما[20].”

نضج مفهوم المآل وقوته الاستيعابية

أ. نضج المفهوم

ومعناه توظيف مفهوم المآل وبعض مشتقاته الراجعة إليه في سياقات متعددة، لكن بحسب المعنى الاصطلاحي الذي سطر له[21]. كشفنا عن درجة الاستواء العلمي الذي يضفي عليه طابع الصلاحية للترجيح به من حيث هو مصطلح قبل أن يكون ساريا في فروعه الجزئية، وهي قواعده[22]. قال في سياق التأصيل والتقعيد: “ومالك إنما ينظر في المآل فيركب عليه حكم الحال[23].” وقال في سياق التوجيه: “اختلف العلماء بزعمهم في المآل وهم متفقون عليها فافهموها وادخروها”[24] وكذا قوله مفسرا قوله تعالى: ﴿يوم ياتي تاويله﴾ (الاَعراف: 52). قال ابن القاسم سمعت مالكا يقول: تاويله: ثوابه، قال القاضي: فيه أقوال كثيرة حقيقتها ترجع إلى المآل[25]؛ أي إلى الوحدة المقابلة للأقوال الكثيرة. وقال في سياق عرض الخلاف والحجاج: “قال مالك: لا يعقل الجرح حتى يبرأ المجروح ويصح فيدرى ما آل إليه أمره فيقضي بحسبه، وكذلك يجب ألا يقتص من جرح حتى يعلم ما يؤول إليه حاله وقد اختلف في ذلك العلماء وقد بيناه في مسائل الخلاف والعمد بالانتظار أحق بالخطأ[26].” وقال مبينا وظيفة المصطلح التربوية والأخلاقية “أفاد هذا الحديث (حديث عرض الأعمال )[27]” فائدة عظيمة، وهي أن المعاصي توقف المغفرة لا تبطلها، وأفاد أيضا عظم المجاهرة في المعاصي حتى لا تقع الأعمال الصالحة في الحال حتى تقع المقابلة في المآل[28]“؛ أي في الآخرة، ويرجع هنا الاستعمال إلى قاعدة المصالح والمفاسد في العاجل والآجل أو السبب والنتيجة.

 المقصود أن للمآل، من حيث هو مصطلح، وظائف متعددة ضمن المنظومة الأصولية لدى القاضي تأصيلا وتقعيدا حجاجا وتفسيرا… مما يفيد نضجه المفهومي في فكره الفقهي من خلال القبس.

ب. قوة أصل المآل الاستيعابية

وإن للمآل لقواعد يستوعبها من خلال سعة مجاله، وهي فروع جزئية بالنسبة إليه  تنطلق منه وتعود إليه في النفي والإثبات، وأهمها قاعدتا الاستحسان والمعروف المؤطرتان من قبل مبدأ رفع الحرج، وكذا قاعدتا سد الذريعة وجواز الممنوع بشرط التحفظ المؤطرتان من قبل مبدأ الاحتياط. وهي وإن كانت مخصوصات من أصل القياس إلا أنها ليست من “المخصوص الذي لا يقاس عليه[29]“؛ لأنها وهو الأولى فيها، عمومات معنوية وكليات مقاصدية مسترسلة، مثلها في ذلك كمثل الكليات اللفظية من مثل قوله تعالى: ﴿اِن الله  لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (النساء: 47). قال القاضي فهذه أم الوعد والوعيد[30]“، وكذا قوله تعالى: ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى (الاِسراء: 15)، وقوله سبحانه: ﴿وأن ليس للاِنسان إلا ما سعى (النجم: 38)، قال: “فهاتان آيتان محكمتان غير مخصوصتين ركن في الدين وأصل في العالمين وأم من أمهات الكتاب المبين، إليها ترد البنات وبها يستنار في المشكلات[31]“؛ فكلا النوعين قطعي يلزم تقديمه، عند التعارض، على الظنون والآحاد بناءً على أن “الحديث إذا خالف قواطع الأدلة تؤول أو رد إن لم يكن تأويله[32].” ومن هنا تؤول حديث: “أرأيت لو كان على أمك دين أكنت تقضيه..[33]” لمخالفته، ظاهرا، الكليات اللفظية السابقة. ورد حديث: صيام الست من شوال” لمعارضته سد الذريعة بما هي كلية من الكليات المعنوية. وقدمت قاعدتا الاستحسان والمصلحة على حديث الربا بتخصيصه “واستهول هذا القول جماعة، والجواب فيه سمح، فإن الربا وإن كان منصوصا عليه في ذاته وهي الزيادة فإنه عام في الأحوال والمحال والعموم يخصص بالعموم فكيف بالقواعد المؤسسة العامة؟[34]“، فكونها (قواعد مؤسسة عامة) منح لها وظيفتين إحداهما: التخصيص من العموم، والثانية: عدم جزئيتها، بما هي مخصصات، بل هي عامة متعدية “والعموم يخصص بالعموم[35]“؛ فكانت قواعد كلية (قياسية) يقاس عليها في استفادة الأحكام بجامع وجود المصلحة (المآلية) التي تضفي على القياس طابعه الكلي المقاصدي بخلاف القياس الجزئي المعياري المتداول في الفكر الأصولي إجمالا.

إن هذه القواعد لتعبر عن نضج التفكير المنهجي الاستنباطي، للإمام، الذي يعتمد على استقراء أحكام الجزئيات الفقهية ونظمها في سلك قوانين عامة، مشكلة بمجموعها نظرية متجانسة صارت بمثابة مسبار علمي اختباري يحاجج به الآراء الأصولية ويختبر به الفهوم الفقهية، وحسبك، دليلا على هذا، أنه صدر، رحمه الله، كتاب البيوع بقواعد عشرة، تنتمي إليها قواعد المآل محط الدراسة، جعلها بمثابة مساطر يحتكم إليها أثناء النظر في مسائل البيوع في الفقه الإسلامي عامة، والفقه المالكي منه على الخصوص احتجاجا وتقريرا واستدلالا.

وكأني بأبي بكر قد استشعر خطورة ما تعانيه باب المعاملات الفقهية عامة، بما فيها البيوع، من تشتت وتناثر لكثرة الفروع التي من اعتمد عليها “في تخريج المناسبات الجزئية دون القواعد الكلية، تناقضت عليه الفروع واختلفت وتزلزلت خواطره فيها واضطربت وضاقت نفسه لذلك وقنطت[36]” كما قالوا. ثم لكأني بابن عاشور، شيخ الزيتونة، لم يطلع على ما أسسه الإمام المعافري هاهنا، حينما صرخ صرخته المشهورة بخصوص إعادة النظر في باب المعاملات قائلا: “فتركوه؛ (أي الأصوليون) محتاجا إلى أصول وكليات تجعل للعارف به معرفة بأحوال الزمان وتودعه شعورا نبيلا في إدراك قيمة الدعاوى واحترام الحقوق وكراهية الظلم[37].”

نماذج تطبيقية

ـ قاعدة الذريعة

الذريعة في اصطلاح أبي بكر، كما قرره في القبس، هي كل فعل يمكن أن يتذرع به؛ أي يتوصل إلى ما لا يجوز[38].” ولها فروع تطبيقية في منهجية التقعيد الفقهي لدى القاضي تدور، خادمة، حول قضية البحث العامة، من مثل قوله في سياق تقبيل الصائم “شدد فيه ابن القاسم عن مالك في كل صوم؛ لأنها لا تدعو إلى خير (…)، فلا ينبغي لأحد أن يتعرضها إلا أن يكون شيخا منكسر الشهوة (…)؛ لأن في تعاطيها تغريرا بالعبادة وتعريضا لها لأسباب الفساد، وذلك مكروه باتفاق من الأمة حيث يتوقع وهذا مَثله[39].”

وقال في سياق بيان نهي عمر، رضي الله عنه، عن الإكثار من اللحم إذا كان ضراوة للمرء، وهذا الذي ندب إليه عمر، رضي الله عنه، من آداب الشريعة، فإن من حسن معاش المرء ألا يسترسل على الشهوة دائما، فإنه إذا اعتادها ففقدها لم يستطع الصبر عنها فإما أن يتكلف ما لا يجوز وإما أن يبقى معذب النفس[40].” إلى غير ذلك من الأمثلة.

فأنت ترى أن مسألة (القبلة) لا خلاف فيها من حيث استشراف الحكم المستقبلي المؤدية إليه وقد عبر عنه بقوله: “وذلك مكروه باتفاق من الأمة”، لكن “حيث يتوقع[41]” وهي العلة المقاصدية المساوقة للنظر في مستقبل حال الواقعة هنا، وهو نفسه المآل، ولا خلاف بين الأمة في العمل به. ومن هنا كان السد كذلك في مقام آخر أدبا من “آداب الشريعة[42]“، على حد تعبيره؛ أي محاسنها الأخلاقية الراجعة إلى الوفاق بين الأمة، ويبقى الخلاف في تحقيق مناط الحكم وفقه إلحاق النازلة الجزئية: هل هي راجعة إلى “الأصل” بناء على براءة النية وفراغ الساحة؟ أم إلى العارض القوي الذي يوجب الاحتياط والسد؟ وكلاهما أصل قطعي متفق عليه، وإنما الخلاف في منطقة الفراغ بين النفي، والإثبات، وذلك كله راجع إلى ذوق المجتهد و ما أداه إليه اجتهاده. فمن هنا، إذن، نفهم كلام الشاطبي: “قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة وإنما الخلاف في أمر آخر[43]“؛  قلت: فلهذا عبر عنها القاضي أبو بكر بـ(الأصل)، كما قال في المسألة الثامنة: “وأما المعنى: فقد زاد مالك في الأصول مراعاة الشبهة[44]“؛ وشأن الأصل أن يكون (متداولا) في المنهج الفقهي الاستنباطي العام، تماما كما سنرى في باقي  الأصول والقواعد الأخرى بحول الله.

 ـ قاعدة الاستحسان

والجدل حول ماهية هذه القاعدة في تاريخ الفكر الأصولي ثابت لا ينكر، لكنه إجرائي اعتباري، وهو ما انتهى إليه الشوكاني في سياق الترجيح قائلا: وقال جماعة من المحققين الحق أنه لا يتحقق استحسان مختلف فيه؛ لأنهم ذكروا في تفسيره أمورا لا تصلح للخلاف[45]“، وقد رام القاضي تحقيق المعنى نفسه في سياق عرض القواعد الناظمة لأشتات البيوع فقال: “اعتبار الحاجة في تجويز الممنوع كاعتبار الضرورة في تحليل المحرم[46]“، وركب على ذلك فروعا مختلفا فيها لكنها راجعة إلى أصل الاستحسان، بيد أن سبكه في شكل هذه القاعدة، بما هي أصل قطعي لا خلاف فيه بين المذاهب، وإيثار تعريفه ببيان وظيفته المقاصدية دون أدنى تعريج على مادته التي طال حول ماهيتها الجدل، فيه قصد واضح إلى الخروج من الأزمة التقعيدية التي يتخبط فيها المصطلح ورفع الخلاف فيه وحسم مادته. فلهذا أسنده إلى المصلحة المقطوع بها في كثير من الأمثلة المشخصة لمعناه، كقوله: “وأما السلم في اللبن والرطب فهي مسألة اجتمع عليها وهي مبنية على قاعدة المصلحة (…) قياسا على العرايا وغيرها من أصول الحاجات[47]“، وقوله: “فأما بيع الرطب (..) فاختلف فيه عبد الملك والأصحاب وكذلك العجين بالعجين (..) لكن علماء سامحوا في العجين بالعجين ليسارته وخفة أمره وأنه مستثنى من القاعدة للحاجة إليه، وبقي التحريم في الكثير الذي يقصد منه المغابنة والمكايسة[48]“، والاستثناء من القاعدة هو نفسه الاستحسان. وقال في سياق عرض الخلاف حول جواز استثناء بعض النخلات من جنسها في بيع الجزاف، “… وهي وإن كانت غررا؛ لأن هذا الذي يختار لعله يجعل يده في الأطيب، ولكن هذا الغرر يسير، ولا خلاف بين العلماء في أن يسير الغرر معفو عنه، وهذا يستمد من بحر المقاصد حسب ما تقدم بيانه في القواعد[49]“، والمقصود أنه لا خلاف في القاعدة باعتبار وظيفتها المقاصدية ومستندها العلمي القطعي المبني على اعتبار المصلحة والحاجة والعفو، وإنما الجميع يحوم حول المصلحة، وإنما الخلاف في التنزيل والإجراء ولا ضير فيه؛ لأنه عملية عقلية ذهنية لا تنقطع حتى ينقطع أصل الحياة.

إن أبا بكر إنما اتخذ المصلحة ضابطا للعمل بمقتضى الاستحسان للوصول إلى وجوب “اعتبار الحاجة في تجويز الممنوع[50]“، بتعبيره؛ أقصد الانتهاء إلى القاعدة المصلحية الكبرى التي تجمع الأنظار في مختلف الأقطار وهي قولهم “الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أم خاصة[51]” تماما كما عبر هو عنها، ويكون الاستحسان قد نزع (هويته) منها، ولا مشاحة في الاصطلاح بعد ذلك في التعبير عن ذلك.

ـ قاعدة الضرورات تبيح المحظورات 

هذه القاعدة مستفيض العمل بها بين مختلف المذاهب الفقهية، وقد سارت، مع أربع قواعد أخرى، مسير الأركان للفقه الإسلامي عامة والفقه. الشافعي منه على الخصوص؛ على حد تعبير السيوطي[52]؛ ومعناها، إجمالا، يدور حول كون الممنوع شرعا يباح عند الضرورة والاضطرار كـ”شدة الجوع الداعية إلى التناول من الميتة، ويكون بقدر سد الرمق؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها[53]“، غير أن الذي يهمنا هنا هو تعريفها بحسب خدمتها للمقصود؛ فتكون “قاعدة مآلية يستفاد منها الحكم الشرعي ويستدل بها عليه”؛ أي أن وظيفتها لا تنحصر في الوظيفة العامة التي تجري عليها مختلف القواعد الفقهية؛ من كونها جامعة للفروع والأحكام المتشابهة التي يجمعها وحدة المناط فقط، ولكنها تزيد عليها، مع باقي القواعد الأمهات، بكونها دليلا من أدلة الفقه الإجمالية؛ تماما كما هو الحال بالنسبة للقواعد الأصولية التي تفيد الأحكام الشرعية وتصلح  للمناظرة والحجاج؛ لأنها ببساطة مستندة إلى الدليل الشرعي الذي يضفي عليها طابع الاستنباط[54]. ولهذه النكتة بالذات جعلها الإمام أبو الحسن المزداوي الحنبلي في كتاب الاستدلال الذي يختم به الأصوليون مبحث الأدلة من مباحث أصول الفقه، قال: “من أدلة الفقه: لا يرفع يقينا شك، والضرر يزال ولا يزال به. ويبيح المحظور، والمشقة تجلب التيسير[55].” ثم قال وهو يحس بنوع من الغرابة في إدراج هذه القواعد في كتاب الاستدلال: “هذه الأدلة والقواعد للفقه ذكرناها هنا (…)، فإن هذا الباب موضوع للاستدلال (…) فهذه قواعد تشبه الأدلة وليست بأدلة، لكن ثبت مضمونها بالدليل وصارت يقضى بها في جزئياتها كأنها دليل[56].”

فلهذا قلت في التعريف: “يستفاد بها الحكم ويستدل بها عليه”. وأما كونها (مآلية) فمقيد بإعادة النظر في قيد “شرط التحفظ”؛ لأن القاعدة، من حيث ماهيتها الابتدائية، جاءت للتعبير عن مبدأ رفع الحرج لكن بشرط وجود الضرورة، كما يرى الفقهاء، حتى لا تعود على أصلها بالإبطال، نعم فيها نوع من مراعاة المآل لكن المفهوم من كل حكم شرعي عموما ولا يصل إلى درجة المعنى الخاص للمآل الذي سطر في التعريف، كما سنرى، بحول الله، مع الطرف الآخر المناهض لوجود ذلك القيد، وهو ما سيظهر من خلال تحليل مسائل أبي بكر الآتية:

  المسألة الأولى: قال في كتاب الوضوء: قوله في الحديث: “إنها؛ (أي الهرة) من الطوافين عليكم ومن الطوافات[57]“. فأشار إلى أن الحاجة إليها أسقطت اعتبار حالها في نجاسة سؤرها، رفعا للحرج وتنبيها على أصل من أصول الفقه؛ وهو أن كل ما دعت الضرورة إليه من المحظور، فإنه ساقط الاعتبار على حسب الحاجة وبقدر الضرورة (…) وهذا ما لم تر في فمها أذى أو تمشي على عينك من النجاسة إلى الماء؛ فإن ذلك لا يجوز عنك وتعود إلى أصلها الذي حكم لها به النبي، صلى الله عليه وسلم[58].

المسألة الثانية: قال في باب: (القول في المستثنى من الدواب المكروهة): “حرم الله الميتة ثم استثنى حال الضرورة فقال: ﴿إلا ما اضطررتمُ إليه﴾ (الاَنعام: 120)، ثم استثنى من المستثنى فقال: ﴿فمن اضطر غير باغ ولا عاد﴾ (البقرة: 172). سمعت الفهري يقول بالمسجد الأقصى وقد قيل له: إذا خرج باغيا أو متعديا فوجد الميتة أيأكل أم يموت؟ يأكل ولا يموت. قال القاضي عبد الوهاب: إذا أراد أن يأكل فليتب، فإذا تاب ارتفعت عنه سمة البغي والعدوان، ودخل تحت قوله: ﴿إلا ما اضطررتمُ إليه﴾ (الاَنعام: 120)[59].”

المسألة الثالثة: قال في الباب نفسه: “اختلف العلماء في مسألتين: إحداهما: هل يأكل من الميتة حتى يشبع أم لا يأخذ إلا بقدر سد الرمق؟ وعن مالك في ذلك روايتان؛ فأما الذي في الموطأ فالأكل والشبع والزاد، وهو كتابه وصفوة مذهبه ولبابه، وكذلك ينبغي أن يكون؛ لأن الضرورة قد رفعت التحريم فأثبتت الإباحة وصيَّرت الميتة في حقه كالمذكاة. وأما المسألة الثانية: فهو مال الغير هل يقدمه على الميتة في حالة الضرورة أو تقدم الميتة عليه؟ ولا خلاف بين الأمة أنه إذا أمِن من العقوبة: أنه يأكل من مال الغير؛ لأن الغير يقبل الإباحة بالإذن، والميتة لا تقبل الإباحة بحال[60].”

المسألة الرابعة: قال في باب الشهادات: “ولا يجوز قبول شهادة الفرع مع وجود الأصل (…) وأما قبولها في الجراح خاصة، فلأنه الذي يقع بينهم في الغالب ولا يحضره غيرهم، فدارت الحال بين أحد أمرين: إما أن يضيع هذا الحق وذلك لا يجوز أو تقبل فيه شهادة الصبيان، وذلك أحسن ولقوله مع صغره مدخل في التحليل والتحريم، ولكنه جاز ذلك للحاجة إليه؛ لأنه لا غناء عنه وكذلك في مسألتنا. وركب عليه علماؤنا شهادة النساء في الموضع الذي لا يكون فيها غيرهن كالأعراس والمآتم والحمامات. وأما قولنا: بينهم، فلأنها شهادة ضرورة فتقدر بقدر الضرورة[61].”

المسألة الخامسة: قال: “وأما شرط الإثنية؛ (أي في النساء)، فلأنها أصل للشهادة (…) ولا تجوز شهادة واحدة عند أحد من العلماء، ولا يثبت بها حق من الحقوق إجماعا إلا في مسألة واحدة، اختلف فيها علماء الإسلام وهي شهادة القابلة وحدها على الولادة. ومن روايات مالك أنها تجوز، والأصل في ذلك الضرورة الداعية إلى ذلك؛ لأنه لا يحضر المرأة غيرها، فلو لم تقبل شهادتها لضاعت الولادة ولبطل ما يتركب عليها من نسب وحرمة وميراث وسائر الحقوق[62].”

هذه أهم الأمثلة التي اعتمدها القاضي في سياق الترجيح بهذه القاعدة، بما هي منهج للاستنباط تماما كما رأينا مع الإمام المزداوي، فلهذا عرض لها بنوع من (التسليم) الأصولي، كما يفيده منطوق قوله في المسألة الأولى المتعلقة بطهارة سؤر الهرة: “فأشار؛ (أي الحديث) إلى أن الحاجة إليها أسقطت اعتبار حالها في نجاسة سؤرها، رفعا للحرج وتبينا لأصل من أصول الفقه[63]“، ثم ذكر القاعدة. فهي، إذن، أصل من أصول الفقه، بتعبير القاضي، تلتقي فيه المذاهب وتتوحد فيه الأنظار، كباقي الأصول العامة والأدلة الإجمالية.

وأما قوله: “بقدر الضرورة”، فهو معنى مشترك بين جميع المسائل منطوقا أو مفهوما، عدا المثال الأول من المسألة الثالثة المتعلق بمشكلة الاسترسال في أكل الميتة، وهو النكتة المحورية في هذا المطلب؛ لأنه يخالف ما أصله الفقهاء وصار “شبه إجماع” بينهم؛ من كون الضرورات تبيح المحظورات لكن تقدر بقدرها؛ لأنها رخصة، والرخصة إذا عادت على العزيمة، وهي هنا منع الجواز، بالإبطال صارت باطلة! حفاظا على قصد الشارع من الإهدار ومراعاة لما تؤول إليه الإباحة من مفسدة، عموما، وهذا مردود عند طائفة من المقاصديين، ومنهم مالك في آخر روايتيه، فلهذا استشكل أبو بكر المسألة ابتداء وقال: “اختلف العلماء (…) هل يأكل من الميتة حتى يشبع أم لا يأخذ إلا بقدر سد الرمق؟ وعن مالك في ذلك روايتان[64]“، ثم حسم المسألة مباشرة بذكره رواية الموطأ دون أدنى تعريج على الرواية الأخرى قائلا: “فأما الذي في الموطأ فالشبع والزاد وهو كتابه وصفوة مذهبه ولبابه وكذلك ينبغي أن يكون؛ لأن الضرورة قد رفعت التحريم فأثبتت الإباحة وصيرت الميتة في حقه كالمذكاة[65].” وهو نص قاطع في المعارضة لا يعتريه الشك ولا يحوم حوله الريب. وسنقوم بتحليله وفق الخطوتين المنهجيتين الآتيتين:

 أ. أقوال العلماء في المسألة تبعا لصاحب القبس: وذلك أن قوله: “فأما الذي في الموطأ فالشبع والزاد (…) وكذلك ينبغي أن يكون[66]” صريح في جواز الاسترسال في أكل الميتة دون الاكتفاء بسد الرمق أو الخضوع إلى (تقدير الضرورة). وهذا حكم وإن كان مالك، رحمه الله، قد تفطن له إجمالا بجودة قريحته وقوة عارضته إلا أن ابن العربي كان مسبوقا إليه، تفصيلا، من لدن بعض العلماء على رأسهم إمام الحرمين الجويني، الذي خصص فصلا كاملا من كتابه غياث الأمم” للحديث عن هذا الإشكال المتعلق بهذه القاعدة، معارضا للفقهاء في تأصيلهم بكل ما أوتي من قوة رأي ورباطة جأش! غير أن أبا المعالي طرح المسألة على سبيل افتراض تعميم الضرورة للخلق. فلهذا قال: “لو فسدت المكاسب كلها وطبق طبق الأرض الحرام[67].” ثم عرج على المثال المشهور عند الفقهاء في تجويز الممنوع قائلا: “وأقرب مسلك يمتد إليه بصيرة الفطن في ذلك تلقي الأمر بإباحة الميتات عند المخمصة والضرورات. وقد قال الفقهاء: لا تَحل الميتة إلا لمضطر يخاف على مهجته وحشاشته لو لم يَسُد جوعه[68]“، ثم قال مبينا مذاهبهم: “فذهب ذاهبون إلى أنه يقتصر على سد رمقه ولا يتعداه، وصار آخرون إلى أنه يسد جوعته من الميتة، ولو خضت في تحقيق ذلك لطال الباب بما لا يتعلق بمقصود الكتاب[69].”

وإدراج كلام الفقهاء هنا مقصود للتعريض بما أصلوه بناء على أنه افتراض جزئي راعى مصلحة لم تصل إلى حد “الأمور الكلية والقضايا التكليفية[70].” فلهذا نبه ابتداء إلى أن مناط نظره في المسألة مختلف تماما عما تداولته المصنفات الفقهية والأصولية بخصوصها. قال: “ومقدار غرضنا من ذلك: أنه قد يظن ظان أن حكم الأنام إذا عمهم الحرام حكم المضطر في تعاطي الميتة وليس الأمر كذلك (…) فلهم أن يأخذوا منه قدر الحاجة، ولا يشترط الضرورة التي نرعاها في إحلال الميتة في حقوق آحاد الناس[71].”

وقد يقال: إن افتراض الجويني يتجه إلى عموم المكلفين حفاظا على وجودهم العام وتحفظا من “خرم الأمور الكلية الدينية والدنيوية المترتب على هلاكهم[72]“، ومسألة الفقهاء بخلاف هذا؛ إذ له طابع الندرة والفردية وقد قال فيها: “بل لو هلك واحد لم يؤد هلاكه إلى خرم الأمور الكلية (…) وإن شرطنا في حق آحاد من الناس في وقائع نادرة أن ينتهوا إلى الضرورة، فليس في اشتراط ذلك ما يوجد فسادا في الأمور الكلية[73]” ولا قياس مع وجود الفارق! فالجواب: أن أبا المعالي إنما طرق المسألة من جهة (العموم)؛ لأنه شرط كتابه[74]؛ ولأنه عند التأمل، يتقاطع مع كلام مالك في وجوب العمل بمبدأ رفع الحرج والحفاظ على مصالح المكلفين ضرورية كانت أم حاجية. وكيف يخدم المكلف مصالحه بالاقتصار على سد الرمق عند الضرورة؟! ثم أوليس ما قاله سلطان العلماء في خصوص هذا السياق تابعا فيه لأبي المعالي: “ولو دعت ضرورة واحد إلى غصب أموال الناس لجاز له ذلك، بل يجب عليه إذا خاف الهلاك (…) وإذا وجب هذا في إحياء نفس فما الظن بإحياء نفوس؟ (…) وقد جوز الشرع أكل اللقطة بعد التعريف ولم يشترط الضرورة[75]“؛ قاطعا في عدم اشتراط الضرورة؟ إذ كما جاز للفرد أن يستفيد من اللقطة دون اشتراطها، فكذلك (لو عم الحرام) لعموم الأفراد بجامع الخدمة للضروريات والحاجيات، وهو قياس جلي واضح. والكثرة وعدمها لغو لا عبرة به.

آخر ينجلي به الإبهام يلخصه الإمام الشاطبي بقوله: “ما أصله الإباحة للحاجة أو الضرورة إلا أنه يتجاذبه العوارض المضادة لأصل الإباحة وقوعا أو توقعا هل يكر على الأصل بالإبطال؟[76]“، ثم قال: “فالظاهر يقتضي الكف عن كل ما يؤديه إلى هذا، ولكن الحق يقتضي أن لابد له من اقتضاء حاجاته كانت مطلوبة بالجزء أم بالكل[77]” ثم مثل للمسألة بأمثلة منها قوله: “كما اغتفرت مفاسد أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وأشباه ذلك (…) لإحياء النفس المضطرة[78].” فقوله: (ما أصله الإباحة للحاجة أو للضرورة) يوازي كلام صاحب القبس؛ “لأن الضرورة رفعت التحريم فأثبتت الإباحة وصيرت الميتة في حقه كالمذكاة[79]“، فـ(الأكل والشبع والزاد)، إذن، ما دامت الميتة في حقه كـ(المذكاة)، ولا عبرة بالضرورة، بل لابد من مراعاة (الحاجة) كذلك. وأما قوله: “كانت مطلوبة بالجزء أم بالكل[80]“؛ أي مصالح (فردية) كما هو نص القبس أو (جماعية) كما هو نص الغياثي. وقد جمع الشاطبي بينهما، بل لا نستبعد تأثره بما جاء به إمام الحرمين في سياق التقعيد لتلك القاعدة المآلية، كما يشير إليه قوله: “(…) إذا كثر الفساد في الأرض واشتهرت المناكر[81].” وقد ذهب إلى ذلك بعض المعاصرين[82].

ب. دليل المسألة

وقول القاضي: “لأن الضرورة رفعت التحريم فأثبتت الإباحة وصيرت الميتة في حقه كالمذكاة[83]“؛ صريح في التدليل والتعليل؛ وذلك أن الإباحة هاهنا ترجع إلى الإذن في الفعل والاسترسال فيه (ما دامت الميتة كالمذكاة)، فلم تبق الضرورة شرطا له حتى يوجد بوجودها وينعدم بانعدامها على حد تعبير الأصوليين في الطرد والعكس، بل المسبار الاختباري هو الحاجة الراجعة بالخدمة إلى كليات المصالح الحاجية، فضلا عن الضرورية، فله أن (يشبع ويتزود) ولا يقتصر على سد رمقه الذي “يتوقع منه فساد البنية أو ضعف يصد عن التصرف والتغلب في أمور المعاش[84]؛ لأن المكلف يأخذ ما لو تركه “لتضرر في الحال أو في المآل[85].”

 الاسترسال في تناول الممنوع في حالة الحاجة تماما كالاسترسال في تناول الجائز لو حف به ما لا يرضى شرعا، إذا لم نقل هو عينه بناء على ما سبق وعلى ما سيأتي، رفعا للحرج عن الخلق، وذلك مضمون إحدى قواعد المآل التي سطرها العلماء في قولهم، وقد سبقت الإشارة إليها، “إن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفها من خارج أمور لا ترضى شرعا فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج[86]“، فلابد والحالة هذه من التعرض لهذه المصالح وإن كان “كثيرا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز ولكنه غير مانع لما يؤول إليه من المفسدة المربية على مفسدة التعرض[87]“. ثم مثل الشاطبي للقاعدة، في موضع آخر، بأمثلة واستدل لها بأدلة نقتبس منها دليلا قاطعا لكل نظر وحاسما لكل وهم، قال فيه: “إن محل الاضطرار مغتفرة في الشرع؛ أعني أن إقامة الضرورة معتبرة وما يطرأ عليها من عارضات المفاسد مغتفر في جنب مصالح أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وأشباه ذلك في جنب الضرورة لإحياء النفس المضطرة (…) فما نحن فيه؛ (أي من التقعيد لهذه القاعدة التي تعتبر خامس قواعد المآل) من ذلك النوع؛ (أي من نوع التعاطي للميتة أثناء حصول الضرورة)، فلابد فيه من عدم اعتبار العارض[88].” وإلى هذا أيضا يومئ نص القاضي في قوله: “وصيرت؛ (أي الإباحة) الميتة في حقه كالمذكاة[89].”

فقد ظهر، بحمد الله، أن للقاعدة أصلا في جميع المذاهب الفقهية. وإنما الخلاف في تحقيق مناط هذا الأصل على الفروع والنوازل التي تأخذ منه بشبه، ولا ضير؛ لأنه متعلق بالتنزيل الذي تختلف فيه الأنظار ويعطي الفرصة للقواعد العقلية كي تتفاعل مع النصوص الشرعية، فلذلك قالوا فيه: “لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف وذلك عند قيام الساعة[90].” وعلى هذا الوزان تجري باقي الخلافات المذكورة في المسألة كقول: “الفهري: يموت ولا يأكل. وقول القاضي عبد الوهاب: إذا أراد أن يأكل فليتب[91].” وكذلك مسألة أكل لحم الآدمي عند الضرورة “إذا وجدوه ميتا، فقالوا: لا يؤكل (…) ومنهم من قال يؤكل[92].” وكذلك شهادة الصبيان وإن كان الشرع “لم يعتبر صدقهم ولا قضى بكذبهم، بل أهملهم رحمة بالعباد وبالمدعى عليه[93]“، وهو الأصل فيهم، إلا أنها “جازت للحاجة ولأنه لا غناء عنه[94]“، كما قال ابن العربي، وكذا شهادة النساء “في الموضع الذي لا يكون فيه غيرهن كالأعراس والمآتم والحمامات (…) لكنها شهادة ضرورية فتقدر بقدر الضرورة[95]“، ولا تناقض. والله أعلم.

الهوامش


[1]. أصله بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة كلية الآداب جامعة سيدي محمد بن عبد الله ظهر المهزاز – فاس. شعبة الدراسات الإسلامية وحدة الفقه المقارن، (2007م/1428ﻫ).

[2]. الإمام الشاطبي، الموافقات  في أصول الشريعة، شرح و تعليق: الشيخ ع الله دراز، ط1، 2001م، ج4، ص86.

[3]. تفسير غريب القرآن، ص144.

[4]. ابن منظور، لسان العرب، مادة (نهج).

[5]. فريد الأنصاري، المصطلح الأصولي عند الشاطبي، ص51.

[6]. طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ص93.

[7]. مقاصد الشريعة، الطاهر بن عاشور، ص105.

8. المرجع نفسه.

[9]. عبد المجيد الصغير، الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، ص475.

[10]. السيوطي، الأشباه والنظائر في النحو، 1/06.

[11]. المرجع نفسه.

[12]. كـ”عدة المريد الصادق” و”شرح الحكم العطائية”.

[13]. قواعد التصوف، ص37.

[14]. المرجع نفسه.

[15]. المقاييس، مادة (رجح).

[16]. الأساس، مادة (رجح).

[17]. التعريفات، ص56.

[18]. القبس، 3/252.

[19]. المرجع نفسه، 3/108.

[20]. الشوكاني، إرشاد الفحول. ص402.

[21]. تم الاستئناس ببعض مؤلفات أبي بكر الأخرى لسبك التعريف وقد قلنا فيه: “المآل: أصل كلي يوجب النظر فيه اقتضاء الحكم و تنزيله على الفعل مناسبة لعاقبته المتوقعة”.

[22]. وفيه نوع من التجوز والتوسع؛ لأن الترجيح بالكلي غير ممكن؛ لأنه ذهني لا يتشخص إلا في جزئياته المتضمنة له وهي قواعده، لكن ذكره والتصريح به اصطلاحيا في منطوقات القاضي دال على نضج مفهومه، وهذا المقصود عندنا.

[23]. القبس، 3/252.

[24]. المرجع نفسه، 3/108.

[25]. المرجع نفسه، 4/203.

[26]. المرجع نفسه، 4/95.

[27]. مالك في الموطأ، 2/209. مسلم في كتاب “البر والصلة”، 2556 باب النهي عن الشحناء.

[28]. القبس، 4/261.

[29]. المرجع نفسه، 4/196.

[30]. المرجع نفسه، 3/406.

[31]. المرجع نفسه، 2/161.

[32]. المرجع نفسه، 2/163.

[33]. البخاري: كتاب الصوم 1952. مسلم: كتاب الصيام 1147.

[34]. القبس، 3/250.

[35]. المرجع نفسه، 1/187.

[36]. القرافي، الفروق، 1/06.

[37]. الطاهر بن عاشور، أليس الصبح بقريب. دار السلام للنشر والتوزيع. ط1، 2006م،  ص301.

[38]. المرجع نفسه، 3/193.

[39]. المرجع نفسه، 2/134.

[40]. المرجع نفسه، 4/303.

[41]. المرجع نفسه، 2/134.

[42]. المرجع نفسه، 4/303.

[43]. الموافقات 4/145

[44]. القبس: 3/193.

[45]. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول.محمد بن علي الشوكاني ت:أبو مصعب البدري.مؤسسة الكتب الثقافية ط6، 1995م، ص401.

[46]. القبس، 3/197.

[47]. القبس، 3/270.

[48]. المرجع نفسه، 3/237-235 .

[49]. المرجع نفسه، 3/332-333.

[50]. المرجع نفسه، 3/197.

[51]. “قواعد عزام”، ص164.

[52]. قال في كتابه “الأشباه والنظائر”: الباب الأول: “في شرح القواعد الخمس التي ذكرها الأصحاب وجعلوا فقه الشافعية راجعا إليها”، 1/35.

[53]. محمد عزام، القواعد الفقهية، ص147.

[54]. وهو قوله تعالى: ﴿وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه﴾ (الاَنعام: 120)، وكذا قوله عز وجل: ﴿فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم﴾ (المائدة: 4). فضلا عن كونها متفرعة عن الأصل الأعلى: الضرر يزال.

[55]. أبو الحسن المزداوي، التحبير شرح التحرير، 5/3835.

[56]. المرجع نفسه، 5/3835.

[57]. مالك، 1/22. أبو داود: كتاب الطهارة، باب: سؤر الهرة، رقم: 75.

[58]. القبس، 1/117.

[59]. المرجع نفسه، 2/356.

[60]. المرجع نفسه، 2/356.

[61]. المرجع نفسه، 3/388.

[62]. المرجع نفسه، 3/388.

[63]. المرجع نفسه، 1/117.

[64]. المرجع نفسه، 2/356.

[65]. المرجع نفسه، 2/356.

[66]. المرجع نفسه، 2/356.

[67]. الغياتي، ص220.

[68]. المرجع نفسه، ص220–221.

[69]. المرجع نفسه، ص221.

[70]. هو عنوان الفصل الذي ضمنه الحديث عن المسألة. ص220.

[71]. المرجع نفسه، ص221.

[72]. المرجع نفسه، ص222.

[73]. المرجع نفسه، ص221-222.

[74]. كما يدل عليه ترجمة الفصل. وهذا أمر مقطوع به في المسألة كما قال الغزالي: “وقول القائل هو مصلحة مرسلة هوس فإن ذلك إنما تخيله في أمور مظنونة وهذا مقطوع به، فإنا لا نشك في أن مصلحة الدين والدنيا مراد الشارع وهو معلوم بالضرورة ليس بمظنون (…) فما لا شك فيه لا يحتاج إلى أصل يشهد له، وإنما يستشهد على الخيالات المظنونة المتعلقة بآحاد الأشخاص”، “إحياء علوم الدين”، 1/537.

[75]. قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 2/316.

[76]. الموافقات، 1/130-131.

[77]. المرجع نفسه، 3/173.

[78]. المرجع نفسه، 3/131.

[79]. القبس، 2/356.

[80]. الموافقات، 3/173.

[81]. المرجع نفسه، 3/173.

[82]. وهو الدكتور إسماعيل الحسني في كتابه القيم “فقه العلم في مقاصد الشريعة”. قال: “(…) فعلى سبيل المثال إن الأمور المشروعة بالأصل إذا أدى الاحتراز عن عوارضها بسبب تغير الأحوال إلى وقوع الناس في الحرج والمشقة، فلا يمكن للفقيه كَفَّهم عن الظفر بضروراتهم فيها ولا حق له في منعهم من اقتضاء حاجاتهم فيها”، ص249. ثم أحال على أبي إسحاق في “الموافقات”، والجويني في “الغياثي”، والغزالي في “شفاء الغليل”، وجمع بينهم.

[83]. القبس، 2/356.

[84]. الغياثي، ص222.

[85]. المرجع نفسه.

[86]. الموافقات، 4/152.

[87]. المرجع نفسه، 4/152.

[88]. المرجع نفسه، 1/131.

[89]. القبس، 2/256.

[90]. الموافقات، 4/64.

[91]. القبس، 2/356.

[92]. المرجع نفسه، 2/256.

[93]. الفروق، 4/105.

[94]. القبس، 3/388.

[95]. المرجع نفسه.

د. إدريس التركاوي

باحث في أصول الفقه ومقاصد الشريعة-الصويرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق