وحدة الإحياءمفاهيم

مناهج الاستمداد من الوحي

يعتبر اكتشاف مفهوم المنهج، من أنفس ما اهتدى إليه العقل البشري، وقد أدى التعاطي مع هذا المفهوم إلى بلورته وإلى تفتّق مفهوم آخر أدق وهو مفهوم المنهجية Methodology، وإذا كان المنهج عبارة عن آليات متضافرة للكشف عن الحقائق المعرفية المختلفة في مجالاتها المتعددة والمتنوعة، وكان ينصبغ بصبغة المجال الذي يُعمَل فيه، فإن المنهجية عبارة عن الإطارات المرجعية التي تتوحد ضمنها أفكار ينتظمها ناظم رُؤيَويّ واحد.
ولم يهتد العقل البشري إلى المنهجية في المجال الكوني إلا بعد أن اكتشف أن الظواهر الكونية موحدة عضويا، انطلاقا من إدراك بنائية الكون ووحدته البنائية والوقوف عليها.

وفي مقابل بنائية الكون التي أطلق الكشف عنها إمكان البحث المنهاجي الذي فجّر كل هذه العطاءات المعرفية والمادية الماثلة أمامنا اليوم، نجد الوحدة العضوية في القرءان المجيد وكذا في السنة النبوية المطهرة ثم في التكامل البياني بينهما؛ إذ السنة تلاوة واتباع لآيات القرءان الكريم، وهما وحدة وتكامل يفتحان المجال أمام القراءة المنهجية للآيات وللأحاديث صعدا نحو مآلات معرفية لا حصر لها. وهو ما عبر عنه الإمام الشاطبي رحمه الله بقوله: “والقول في ذلك والله المستعان، أن المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل، وهذا معلوم في علم المعاني والبيان، فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهّم، الالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها، لا ينظر في أولها دون آخرها، ولا في آخرها دون أولها. فإن القضية -وإن اشتملت على جمل- فبعضها متعلق بالبعض؛ لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد، فلا محيص للمتفهم عن ردّ آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصد الشارع في فهم المكلف، فإن فرق النظر في أجزائه، فلا يتوصل به إلى مراده” .

وقد وجدنا أن هذا الإدراك عبر تاريخ تعامل هذه الأمة “أمة النص” مع الوحي، قد حقق لها وحدة معرفية تُلملم شتات الإنسان المعرفي، وتُوحد بين زوايا إدراكه؛ وتكسبه جهاز تنسيق معرفي يُمكّن من انتظام الأصول المنهجية وطرق الاقتراب والتناول وفق نواظم توحيدية، ممّا أوجد نسقا إسلاميا متميزا في المعرفة، قوامه الوحدة والاتساق، وتيسير سبل التعاضد المنهاجي بين ما كان ظاهره التباين والتنافر. وقد أسهم ذلك في إطلاق قدرات الإنسان التفسيرية لبصائر الوحي، والتسخيرية لمفردات الكون. إن عدم إدراك بنائية الوحي ووحدته العضوية، ومواءمته للإنسان في تكامل مع الكون وتفسيره له على المستوى القصدي، قد كان، عبر تاريخ المسلمين، وراء الوقوع في أضرب من التعضية والتمزيع، تسببت في خلط منهاجي كانت له آثار غير إيجابية على مختلف المعارف المرتبطة بالوحي وعلى واقع الأمة.

وقد حدا اليقين الناجم عن قوله تعالى:”اِن هذا القرءان يهدي للتي هي أقوم” (الإسراء: 9) بأجيال علماء الأمة إلى الاجتهاد للوقوف على أسباب الارتباك المنهاجي الذي أدى إلى تشخصات وتطبيقات عبر تاريخنا، كانت بعيدة عن الحالة الأقوم التي يهدي إليها القرآن المجيد وتهدي إليها السنة النبوية المطهرة، وقد توخت اجتهادات علمائنا في عمومها ردم المسافة التي تفصل بين الإنسان والوحي؛ كما توخت صد أشكال الاختراق التأويلي والمنهاجي التي تحول دون الناس والإفادة من بصائر الوحي وهادياته مجسدين بذلك قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين” .

وقد أسفرت هذه الاجتهادات المباركة تاريخيا عن مجموعة من المجالات المنهاجية يمكن رصدها كما يأتي:

المجال 1:

العمل لتبين معالم المنهج الذي كان عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام في مجال الاستمداد من الوحي “ما أنا عليه وأصحابي”. فقد انتبه العلماء المسلمون إلى سريان منهج كامن في القرآن المجيد يُبَيِّن وَفْقَه بعضه بعضا.. وهو ما أسموه تفسير القرآن بالقرآن، والذي شهد عبر العصور جهودا تبيّنيّة وبيانية أسفرت عن مجموعة من المناهج كمقاربات التفسير الموضوعي المختلفة والتي لا تزال محتاجة إلى صقل وتكملة.

كما انتبهوا إلى كون السنة النبوية منبثقة من مشكاة القرآن الكريم ومبينة له وإلى أن فيها منهجا كامنا ساريا يتم بمقتضاه بيان مراد الله من عباده في كتابه الخاتم، استنباطا للأحكام وبثا للحكمة الموجِّهة: “واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا” (الأحزاب : 34)؛ “وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم” (النحل: 44). وقد برزت في هذا الاتجاه مجموعة جهود تحت مسمى التفسير النبوي للقرآن، والتفسير بالمأثور مما يحتاج إلى نظر متجدد مصنّف ومدقّق.

المجال 2:

حركات التدوين لمعارف الوحي وضبط مناهجها، إذ هي مصادر المفردات التي منها يمكن أن تصاغ المنهاجية. وقد بذل علماء المسلمين في هذا المجال جهودا قيمة مشكورة في مجال العناية بالقرآن المجيد والسنة النبوية حتى ظهرت إثر هذه العناية علوم فاقت الثمانين علما من علوم القرآن، وأربت على واحد وتسعين علما من علوم السنة. وهي علوم تحتاج اليوم إلى استيعاب وتصنيف وترتيب وتكميل..

المجال 3:

العمل الدؤوب لضبط مناهج الاستنباط من الكتاب والسنة، ومناهج فقههما والعمل بهما، أو تفسيرهما وتأويلهما، أو قراءتهما وتلاوتهما، وضبط كليات ومقاصد وأصول وآليات ذلك.

وقد أسفرت هذه الجهود عن مجموعة من المعارف والعلوم في مجالات التفسير وعلم الفقه وأصوله وقواعده ومقاصده ورجالاته وطبقاتهم ومذاهبهم، غير أنه يلاحظ في العصور المتأخرة على وجه الخصوص، ابتعاد هذه المعارف عن النص المؤسس كتابا وسنة مما يحتاج إلى استدراك وضبط وتجديد.

المجال 4:

الاجتهاد لضبط مصطلحات الكتاب والسنة وعلومهما.. وقد نتج عن ذلك مجموعة من العلوم والمعارف كعلم الكليات وعلم المفردات وعلم المصطلح وعلم المفاهيم، غير أنها علوم ومعارف تحتاج إلى ضبط وتتميم وتوسعة وتفعيل.

المجال 5:

وهو المجال المنهاجي الذي لم يأخذ حظه الكافي من الجهود البحثية والاهتمام، ونقصد تحديدا، ضبط معالم الرؤية والتمثل الموجودين في الوحي للإنسان وللكون، وللحياة والأحياء، والحاضر والمستقبل، والفرد والجماعة، والذات والآخر، والأمن والخوف، واليسر والعسر، والأعراض والجواهر، والروح والمادة… وكذا ضبط معالم القيم والأخلاق ومراتبها كما يبسطها الوحي.

وهو مجال، وكما سلف، لا يزال يحتاج إلى عناية وتكملة في جوانب منه وإلى تتميم التأسيس في جوانب أخرى.

المجال 6:

المجال اللغوي اللسني، حيث بذل علماؤنا جهودا كبيرة في مضمار استبانة معالم خصائص عربية القرآن وبلاغته وإعجازه وإعرابه ومعانيه اللغوية وتناسبات جمله وفواصله.. وهي كلها مضامير تحتاج إلى مزيد من التصنيف والتدقيق والتوجيه..

الهوامش

 1 . أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: عبد الله دراز-محمد عبد الله دراز، دار الكتب العلمية، ط1، (1425ﻫ/2004م)، 3/413-414.
2 . رواه الإمام أحمد وصححه ورواه البيهقي.

الوسوم

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق