مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

مقتطف من كتاب قواعد الأحكام في إصلاح الأنام للعز بن عبد السلام

     والقسم الثاني: من غلب عليه الرجاء فهذا يؤثر فيه السماع عند ذكر المطمعات والمرجيات؛ فإن كان رجاؤه للأنس والقرب كان سماعه أفضل سماع الراجين، وإن كان رجاؤه للثواب فهذا في الرتبة الثانية، وتأثير السماع في الأول أشد من تأثيره في الثاني.

     القسم الثالث: من غلب عليه الحب وهو قسمان: أحدهما من أحب الله لإنعامه عليه وإحسانه إليه فهذا يؤثر فيه سماع الإنعام والإفضال والإحسان والإكرام. والقسم الثاني: من غلب عليه حب الله لشرف ذاته وكمال صفاته فهذا يؤثر فيه ذكر شرف الذات وكمال الصفات، ويشتد تأثيره فيه عند ذكر الإقصاء والإبعاد، وهو أفضل من الذي قبله، لأن سبب حبه أفضل الأسباب.

     القسم الرابع: من غلب عليه التعظيم والإجلال فهذا أفضل من الأقسام الثلاثة إذ لا حظ له في سماعه لنفسه، فإن النفس تتضاءل وتتصاغر للتعظيم والإجلال، فلا حظ لنفسه في هذا السماع بخلاف من تقدم ذكره من الأقسام فإنهم واقفون مع ربهم من وجه، ومع أنفسهم من وجه أو وجوه وشتان بين ما خلص لله، وبين ما شاركته فيه النفوس، فإن المحب ملتذ بجمال محبوبه وهو حظ نفسه، والهائب ليس كذلك. وتختلف أحوال هؤلاء في المسموع منه، فالسماع من الأولياء، أشد تأثيرا من السماع من الجهلة الأغبياء، والسماع من الأنبياء أشد تأثيرا من السماع من الأولياء والسماع من رب الأرض والسماء أشد تأثيرا من السماع من الأنبياء لأن كلام المهيب أشد تأثيرا في الهائب من كلام غيره، كما أن كلام الحبيب أشد تأثيرا في المحب من كلام غيره. ولهذا لم يشتغل الأنبياء والصديقون وأصحابهم بسماع الملاهي والغناء واقتصروا على كلام ربهم لشدة تأثيره في أحوالهم، ولقد غلط كثير من الناس في سماع النشيد وطيب نغمات الغناء من جهة أن أصوات الملاهي وطيب النشيد وطيب نغمات الغناء فيها حظ للنفوس، وإذا سمع أحدهم شيئا مما يحرك التذت نفسه بأصوات الملاهي ونغمات الغناء وذكره النشيد والغناء بما يقتضيه حاله: من الحب والخوف والرجاء فتثور فيه تلك الأحوال فتلتذ النفوس من وجه مؤثره، ويؤثر السماع ما يشتمل عليه الغناء من الحب والخوف والرجاء فيحصل الأمران: لذة نفسه، والتعلق بأوصاف ربه فيظن أن الكل متعلق بالله وهو غالط.

     القسم الخامس: من يغلب عليه هوى مباح، كمن يعشق زوجته وأسريته فهذا يهيجه السماع ويؤثر فيه آثار الشوق وخوف الفراق ورجاء التلاق فيطرب لذلك، فسماع هذا لا بأس به.

     القسم السادس: من يغلب عليه هوى محرم، كهوى المرد ومن لا تحل له من النساء، فهذا يهيجه السماع إلى السعي في الحرام وما أدى إلى الحرام فهو حرام.

     القسم السابع: من قال لأحد: في نفسي شيء مما ذكرتموه في الأقسام الستة فما حكم السماع في حقي؟ قلنا هو مكروه، من وجه أن الغالب على العامة إنما هو الأهواء الفاسدة، فربما هاجه السماع على صورة محرمة فيتعلق بها ويميل إليها ولا يحرم عليه ذلك لأنا لا نتحقق السبب المحرم، وقد يحضر السماع قوم من الفجرة فيبكون وينزعجون لأسباب خبيثة انطووا عليها ويراءون الحاضرين بأن سماعهم للأسباب المذكورة في الأقسام الستة وهذا جمع بين المعصية وبين إيهام كونه من الأولياء، وقد يحضر السماع قوم قد فقدوا أهاليهم ومن يعز عليهم ويذكر المنشد فراق الأحبة وعدم الأنس بهم فيبكي أحدهم ويوهم الحاضرين أن بكاءه لأجل رب العالمين، وهذا مراء بأمر غير محرم.

     واعلم أنه ليس من أدب السماع أن يشبه غلب المحبة بالسكر من الخمر فإنه سوء أدب، لأن الخمر أم الخبائث فلا يشبه ما أحبه الله بما أبغضه وقضى بخبثه ونجاسته، لأن تشبيه النفيس بالخسيس سوء أدب لا شك فيه، وكذلك التشبيه بالخصر والردف ونحو ذلك من التشبيهات المستقبحات. ولقد كره بعضهم: أنتم روحي ومعكم راحتي، وبعضهم: فأنت السمع والبصر، لأنه شبه ما لا شبيه له بروحه الخسيسة وسمعه وبصره اللذين لا قدر لهما. ولهم ألفاظ يطلقونها يستعظمها سامعها منها: التجلي وهو عبارة عن العلم والعرفان، وكذلك المشاهدة، ومنها الذوق وهو عبارة عن وجدان لذة الأحوال ووقع التعظيم والإجلال، ومنها: الحجاب وهو عبارة عن الجهل والغفلة والنسيان، ومنها: قولهم قال لي ربي، وإنما ذلك عبارة عن القول بلسان الحال دون لسان المقال. كما قالت العرب: امتلأ الحوض، وقال قطني، كذلك قوله: إذا قالت الإشباع للبطن ألحق. ومنها قولهم القلب بيت الرب، ومعناه القلب بيت معرفة الرب، شبهوا حلول المعارف بالقلوب بحلول الأشخاص في البيوت، ومنها: البيتوتة عند الرب سبحانه في قوله عليه السلام: “إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني” تجوز بالمبيت عن التقرب، وبالإطعام والسقي عن التقوية بما يقوم مقام الطعام والشراب من السرور والتقريب، ومنها القرب وهو عبارة عن الأسباب الموجبة لتقريب الإله، ومنها البعد وهو عبارة عن الأسباب الموجبة للإبعاد، ومنها المجالسة وهو عبارة عن لذة يخلقها الرب سبحانه وتعالى مجانسة للذة الأنس بمجالسة الأكابر.

     وأما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشبهة لرعونة الإناث لا يفعلها إلا راعن أو متصنع كذاب وكيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبه وذهب قلبه، وقد قال عليه السلام: “خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”، ولم يكن أحد من هؤلاء الذين يقتدى بهم يفعل شيئا من ذلك. وإنما استحوذ الشيطان على قوم يظنون أن طربهم عند السماع إنما هو متعلق بالله عز وجل ولقد مانوا فيما قالوا وكذبوا فيما ادعوا من جهة أنهم عند سماع المطربات وجدوا لذتين اثنتين: إحداهما لذة المعارف والأحوال المتعلقة بذي الجلال. والثانية: لذة الأصوات والنغمات والكلمات الموزونات الموجبات للذات النفس التي ليست من الدين ولا متعلقة بأمور الدين، فلما عظمت عندهم اللذتان غلطوا فظنوا أن مجموع اللذة إنما حصل بالمعارف والأحوال، وليس كذلك بل الأغلب عليهم حصول لذات النفوس التي ليست من الدين بشيء. وقد حرم بعض العلماء التصفيق لقوله عليه السلام: “إنما التصفيق للنساء” ولعن عليه السلام المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء، ومن هاب الإله وأدرك شيئا من تعظيمه لم يتصور منه رقص ولا تصفيق، ولا يصدر التصفيق والرقص إلا من غبي جاهل، ولا يصدران من عاقل فاضل، ويدل على جهالة فاعلهما أن الشريعة لم ترد بهما في كتاب ولا سنة، ولم يفعل ذلك أحد الأنبياء ولا معتبر من أتباع الأنبياء، وإنما يفعل ذلك الجهلة السفهاء الذين التبست عليهم الحقائق بالأهواء، وقد قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وقد مضى السلف وأفاضل الخلف ولم يلابسوا شيئا من ذلك، ومن فعل ذلك أو اعتقد أنه غرض من أغراض نفسه وليس بقربة إلى ربه، فإن كان ممن يقتدى به ويعتقد أنه ما فعل ذلك إلا لكونه قربة فبئس ما صنع لإيهامه أن هذا من الطاعات، وإنما هو من أقبح الرعونات.

     وأما الصياح والتغاشي والتباكي تصنعا ورياء فإن كان حال لا تقتضيه فقد أثم من وجهين: أحدهما: إيهامه الحال التامة الموجبة لذلك. والثاني: تصنعه به ورياؤه، وإن كان عن حال تقتضيه أثم إثم ريائه لا غير، وكذلك نتف الشعور وضرب الصدور، وتمزيق الثياب محرم لما فيه من إضاعة المال، وأي ثمرة لضرب الصدور ونتف الشعور وشق الجيوب إلا رعونات صادرة عن النفوس.

  • القواعد الكبرى الموسوم بقواعد الأحكام في اصلاح الأنام: عز الدين بن عبد السلام، دار ابن حزم، ط. الأولى 1424م/2004م، ص 492-495.
الصفحة السابقة 1 2
Science

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق