وحدة الإحياءمفاهيم

مفهوم القضاء في الإسلام

 إذا كانت المحاكمة بمثابة الأخت الشقيقة للحرية فإن العدل هو أساس الملك، لذلك قال النبي، عليه الصلاة والسلام، بأن عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة، وهناك عدة آيات قرآنية أمر فيها الله سبحانه وتعالى أنبياءه ورسله بالقضاء في أمور العباد، من ذلك قوله تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ (ص: 26)، ومنه أيضا: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: 65)، ونظرا لارتباط مهنة القضاء بحقوق الغير ولما يحوم حول ذلك من مخاطر وشبهات فإننا نلاحظ أن هناك الكثير من الأحاديث النبوية التي تنفر من تولي مهنة القضاء، الأمر الذي يفهم منه أن من تولى القضاء يكون أقرب للنار منه للجنة، لذلك فإن تقليد مهمة القضاء كانت تتم بالتعيين من طرف الأمراء والخلفاء لعدم وجود الطلب عليها وعند عدم وجود المرشح المناسب لها فإن الخلفاء كانوا يضطرون إلى إجبار من تتوفر فيه شروط ولاية القضاء على تقليد هذه المهنة، لذلك أفرزت التجربة الإسلامية مثلا عليا في القضاء لا زالت الألسن تتداولها لكونهم استرخصوا النفس الأمارة بالسوء في سبيل إحقاق الحق ومحاربة الباطل بالرغم من الصعوبات التي واجهتهم في تحقيق هذه النتيجة ونظرا لأهمية موضوع القضاء في الإسلام، لذلك فإننا ارتأينا تناوله في فصلين على الشكل التالي:

الفصل الأول: ولاية القضاء في الإسلام

يمكن القول وبدون مبالغة بأن القضاء في الإسلام كان أقرب إلى التكليف منه إلى التشريف بدليل أن جل القضاة الذين برزوا وبرعوا في هذا الميدان كانوا قد تولوا القضاء كرها أو ترغيبا من الولاة والخلفاء الذين كانوا يتحرون كثيرا في اختيار من هو أهل لتولي هذا المنصب الحساس في حياة الدولة الإسلامية، ونظرا لكثرة المخاطر التي تطوق حياة القاضي ودفعا لكل الشبهات، فإن القضاة القابلين بتولي هذا المنصب كانوا يحددون لهذا القبول شروطا يتضمنها العهد المبرم بينهم وبين الأمراء المكلفين بهذا التنصيب، إلا أنه بالرغم من أن الغاية من إبرام هذه العهود هي إقرار مبدأ حياد القاضي واستقلال القضاء، إلا أن ذلك لم يمنع أسرة القضاء من تبادل الرأي والمشورة بين القضاة والأمراء في المواضيع التي لها ارتباط بهذه المهنة بهدف إحقاق الحق ورفع الظلم عن المظلومين، وهذا ما سنراه بشيء من التفصيل على الشكل التالي:

المبحث الأول: طرق ولاية القضاء في الإسلام

نظرا لكثرة الأدلة الشرعية التي تنفر من ولاية القضاء وعدم الترغيب فيه فإن جل القضاة المسلمين الذين كانوا على جانب من التقوى والورع قد رفضوا ولاية القضاء، الأمر الذي تسبب لبعضهم في الكثير من المعاناة وصلت إلى حد الضرب أحيانا والحبس أحيانا أخرى، ونادرا ما كان الأمراء يستجيبون لطلبات تولي القضاء الاختيارية لما يحوم حول هذه الطلبات من شبهات، ولأن الخلفاء كانوا يعتقدون بأن ولاية القضاء هي امتداد لولاية الخلافة، لذلك يتعين اختيار من هو أهل لتحمل هذه المسؤولية، فهذا أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين كان يهتم شخصيا باختيار عماله وقضاته حيث نراه يقول: ” ما أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم، قيل له: ومن هم يا أمير المؤمنين؟ قال: هم أركان الملك ولا يصلح الملك إلا بهم: أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لائمة، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستعصي ولا يظلم الرعية فإني عن ظلمها غني، والرابع صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحة”[1].

المطلب الأول: رفض تولي القضاء

خلافا لما هو عليه الأمر في وقتنا الحالي حيث كثر التهافت على طلب مهنة القضاء باجتياز المباريات والتوسط في قبول الترشيحات المؤدية لتولي هذه المهنة فإن الوضع كان على خلاف ذلك في إطار الدولة الإسلامية، فهناك الكثير من الحالات التي تعذر فيها على الأمراء والخلفاء تنصيب من هو أهل لهذه المهمة بسبب رفضه لها، الأمر الذي حمل هؤلاء الأمراء على إجبارهم قسرا على تحمل هذه المسؤولية الجسيمة، ويعتبر الإمام أبو حنيفة النعمان من أبرز الفقهاء الذين رفضوا ولاية القضاء عندما عرضت عليه، ويذكر خلف ابن حبان المعروف بوكيع[2] بأنه عندما مات سوار قاضي البصرة دعا أبو جعفر المنصور أبا حنيفة فقال له إن سوارا قد مات وإنه لابد لهذا المصر من قاض فاقبل القضاء على البصرة فقال أبو حنيفة والله الذي لا إله إلا هو إني لا أصلح للقضاء، ووالله يا أمير المؤمنين لئن كنت صادقا فما يسعك أن تستقضي رجلا لا يصلح للقضاء وإن كنت كاذبا فما يسعك أن تستقضي رجلا كاذبا، وإنه لا يصلح لهذا الأمر إلا رجل من العرب، وقد أصبحت مخالفا لك، فقال أبو جعفر أما قولك بأنه لا يصلح لهذا الأمر إلا رجل من العرب فإنا نأخذ بما في كتاب الله إن أكرمكن عند الله أتقاكم، وأما قولك بأني قد أصبحت مخالفا لك في الرأي فإن الرأي يخالف الرأي فاقبل هذا الأمر، وعند رفضه أمر واليه على العراق أبا هبيرة بضربه نحوا من مائة سوط مفرقة، فحلف أبو هبيرة ألا يتركه حتى يلي القضاء فكلمه رجال أهل الكوفة فلم يزالوا به حتى قال أبو حنيفة أنا ألي له عدد ما يدخل الكوفة من أحمال التين والعنب، ففعل وخلى عنه.

أما فقهاء المذهب المالكي فقد كانوا يعتبرون القضاء محنة ومن دخل فيه فقد ابتلي بحمل عظيم، فلما طلب أبو قلابة للقضاء اضطر إلى الالتحاق بالشام فأقام زمانا ثم قدم فقيل له: لو وليت قضاء المسلمين فعدلت بينهم كان لك بذلك أجر قال أبو قلابة: السابح في البحر كم عساه أن يسبح حتى يغرق[3]، وعندما جيء بخالد بن أبي عمران إلى جعفر المنصور ليوليه القضاء فامتنع عن ذلك فتهدده وقال له أنت عاص فقال له خالد: إن الله يقول: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾ (الأحزاب: 72)، فلم يسمهن عصاة حيث أبين حمل الأمانة وقال سبحانه: ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ فقال: أخرج لا ترى مني خيرا”[4].

وهذا الوضع هو الذي دفع ببعض الفقهاء إلى طرح سؤال على الإمام مالك فيما إذا كان يجوز للخليفة إجبار أحد ما على ولاية القضاء؟ فقال: لا، إلا أن لا يوجد منه عوض فيجبر عليه، وعندما قيل له: أيجبر على ذلك بالضرب والحبس قال: نعم[5].

أما عن سبب رفض الرعيل الأول من الفقهاء المسلمين لولاية القضاء فيرجع لاعتبارين أساسيين: أولهما انتشار الورع والتقوى في أوساط من هم مؤهلون لتولي هذا المنصب وثانيهما ورود عدة أحاديث شريفة عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، كلها ترهيب وتحذير لمن يتبوأ هذه المهمة، فقد جاء في الأثر بأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: “القضاة ثلاثة، قاضيان في النار وقاض في الجنة، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، وأما اللذان في النار فرجل عرف الحق فجار في الحكم ورجل قضى على جهل فهما في النار[6].

ومن تطبيقات هذا الحديث أن عثمان بن عفان قال لابن عمر اذهب فاقض بين الناس فقد وليتك القضاء قال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين قال: عزمت عليك فقال ابن عمر أما سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: من استعاذ بالله فأعيذوه وأنا أعوذ بالله أن أكون على القضاء فقال له عثمان: ما يمنعك أن تكون على القضاء وقد كان أبوك قاضيا؟ قال إني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: من كان قاضيا فقضى بالجور فهو في النار، ومن قضى فأخطأ فهو في النار، ومن قضى فأصاب الحق فبالحري أن ينجو فما راحتي إلى ذلك؟

وبالإضافة لما سبق فإن هناك عدة أحاديث نبوية وأقوال مأثورة تنفر من ولاية القضاء لا تشجع على السعي إلى طلبه، من ذلك أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال بأن: “من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين”[7] وفي هذا السياق قال الفضيل بن عياض: “إذا ولي الرجل القضاء فليجعل للقضاء يوما وللبكاء يوما”[8]، وقال ابن مكحول: “لو خيرت بين القضاء وبين ضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي”[9].

وفي مقابل هذا التشدد في ضرورة الابتعاد عن ولاية القضاء فإن هناك رأيا آخر رغب في تولي هذا المنصب محتجا بصنع الأنبياء والمرسلين وعمل الخلفاء الراشدين الذين كانوا قدوة لغيرهم في ولاية القضاء، حيث اعتبر هذا الاتجاه بأن عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة كما ورد في الحديث النبوي الشريف ويقول ابن فرحون[10]: “بأن أكثر المؤلفين من أصحابنا وغيرهم بالغوا في الترهيب والتحذير من الدخول في ولاية القضاء وشددوا في كراهية السعي إليه ورغبوا في الإعراض عنه والنفور منه حتى تقرر في أذهان الكثير من الفقهاء والصلحاء بأن من ولي القضاء فقد سهل عليه دينه وألقى بيده إلى التهلكة، وهذا غلط فاحش يجب الرجوع عنه والتوبة منه والواجب تعظيم هذا المنصب الشريف ومعرفة مكانته من الدين، فيه بعثت الرسل وبالقيام به قامت السماوات والأرض، وجعله النبي من النعم التي يباح الحسد عليها لقوله، صلى الله عليه وسلم: “لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعمل بها” ومن حديث لعائشة رضي الله عنها أنه، صلى الله عليه وسلم، قال: هل تدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة، قالوا الله ورسوله أعلم، قال: الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سألوه بذلوه وإذا حكموا للمسلمين حكموا كحكمهم لأنفسهم، وفي الحديث الصحيح سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله أولهم إمام عادل لذلك كان العدل بين الناس من أفضل أعمال البر على الإطلاق وإعمالا لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (المائدة: 42).

لكل ذلك يبقى علم القضاء كما يقول محيي الدين الجنان[11] في شرحه لتحفة الحكام لابن عاصم الأندلسي: “من أجل العلوم، قدرا وأعزها مكانا، ففيه بما تعصم الدماء وتسفح، والأموال يثبت ملكها ويسلب، وفي المعاملات يعلم ما يجوز منها ويحرم ويكره ويندب، وكانت طرق العلم به خفية المسارب مخوفة العواقب، وعلم القضاء يفتقر إلى معرفة أحكام تجري مجرى المقدمات بين يدي العالم بأحكام الوقائع والجزئيات، وغالب تلك المقدمات لم يجر لها في دواوين الفقه ذكرى ولا أحاط بها الفقيه خبرا، وعليها مدار الأحكام فإن الجاهل بها يخبط خبط عشواء”.

المطلب الثاني: رجال تولوا القضاء كرها

وفي مقابل من رفض القضاء وتمسك بموقفه فإن هناك من فرض عليه القضاء فقبله على مضض أو استحياء ممن عرضه عليه، ويعتبر معاذ بن جبل من أولئك الأوائل: الذين اقترح عليهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولاية القضاء على اليمن فلبى الطلب استحياء ممن عرضه عليه وعندما قال له بم تقض يا معاذ إن عرض لك قضاء؟ قال بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال فبسنة رسول الله، قال فإن لم تجد؟ قال اجتهد رأيي ولا آلو، فقال له الرسول الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي الله ورسوله”[12].

وقد سار الخلفاء والأمراء على هذا المنوال حيث كانوا يتحرون كثيرا في اختيار من هو أهل لولاية القضاء ولو تطلب الأمر إجباره على تحمل هذه المسؤولية اقتناعا منهم على أن الواجب يفرض عليهم حسن هذا الاختيار انطلاقا من قوله عليه الصلاة والسلام: “من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله”[13].

وهناك الكثير من الحالات التي فرض فيها القضاء قسرا على أصحابها بالرغم من أن أعلم الناس بالقضاء أشدهم كراهة له وهكذا تقلد ابن شبرمة[14] القضاء وهو كاره له ويرجع سبب قبوله إلى خوفه من أن يلي القضاء من هو غير أهل له، وفي هذا السياق يحكى أن هارون الرشيد كان يرغب في تعيين عبد الله بن إدريس، وحفص ابن غياث، ووكيع بن الجراح قضاة له، وعندما دخلوا عليه قال ابن إدريس السلام عليكم وطرح نفسه كأنه مفلوج فقال هارون: خذوا بيد الشيخ لا فضل في هذا، وأما وكيع فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أبصرت بهما منذ سنة فأعفاه هارون، وأما حفص فقال: لولا غلبة الدين والعيال ما وليت القضاء[15].

أما ابن عاصم الأندلسي فقد عبر عن بلواه أثناء ولاية القضاء في سن متأخرة من عمره[16] في تحفته على الشكل التالي:

وذاكَ لمَّا أنْ بُليتُ بِالقَضَا            بعد شبابٍ مرَّ عنِّي وانْقَضَى

وإنَّني أسألُ منْ رَبٍّ قَضَى        بِهِ عَلَيَّ الرِّفْقَ منه في القَضَا

ولم يمنع هذا الإكراه على ولاية القضاء بعض الذين عرض عليهم من إملاء شروطهم على الأمراء دفعا لكل الشبهات ودرءا لكل ما من شأنه الحؤول دون قيامهم بمهامهم على أحسن وجه.

فقد ذكر محمود الباجي في مؤلفه مثل عليا من قضاء الإسلام قصة القاضي عيسى بن مسكين بمناسبة عزمه على الاستعفاء من مهام القضاء فقال ابن البناء لصاحبيه ابن اللباد وابن زرياب بعد فراغهم من الصلاة: إن أمر هذا الرجل غريب فهو لم يأخذ درهما من بيت المال ولا من خزينة الأمير منذ أن تقلد القضاء ولا يعيش إلا من دقيق الشعير الذي يأتيه من منزله بالساحل ومن بقل وخضر تأتيه من البادية وربما بقي اليومين والثلاث بلا طعام في انتظار دقيقه وبقوله، وتساءل ابن زرياب عن سبب استعفائه وهو لا يخشى مضايقة ولا يشكو حرجا، فقال ابن اللباد: إن عيسى يريد أن يتفرغ للعبادة والعلم وقد كبر سنه وحن للصلاة وتلاوة القرآن وقراءة الحديث كما كان شأنه قبل أن يكرهه الأمير على قبول القضاء ويستقدمه إلى القيروان وقال ابن زرياب: “كأني أنظر إليه يوم أن استقدمه الأمير إلى القيروان، وجلس إلى جانب حمديس الأشعري وسأله الأمير قائلا: “ما رأي الشيخ في رجل جمع خلال الخير وأراد الأمير أن يوليه القضاء فامتنع من القبول؟ وقال عيسى: يلزمه أن يلبي وقال الأمير: فإن أن أصر على الامتناع فأجاب عيسى: يجبر على ذلك وإذا اشتد في الامتناع يجلد حتى يقبل وقال الأمير ضاحكا: قم يا عيسى فأنت هو الرجل المعني، وكأني أنظر إلى الأمير وقد قرب سيفه من نحر عيسى لحمله على القبول وابتعد حمديس الأشعري لكي لا يصيبه دم الشيخ عيسى”.

وفي هذا السياق أيضا أن رجلا شهد عند سوار القاضي فقال له ما صنعتك؟ قال معلم، قال سوار فإننا لا نجيز شهادتك، قال ولم؟ قال سوار: لأنك تأخذ على التعليم أجرا، قال: وأنت تأخذ على القضاء أجرا، قال سوار: أكرهت عليه فقال المعلم: هبك أكرهت على القضاء فمن أكرهك على أخذ الأجر والرزق على الله، فقال له سوار: هلم شهادتك فأجازها[17].

المطلب الثالث: ما جاء في طلب القضاء والتماسه

وعلى العكس من أولئك الذين أجبروا على ولاية القضاء فإن هناك من كان يسعى إليه ويتلهف وراءه، وفي ذلك يقول صاحب التبصرة[18] بأن “طلب القضاء والحرص عليه حسرة وندامة يوم القيامة فمن طلب القضاء وأراده وحرص عليه وكل إليه خيف عليه الهلاك ومن لم يسأله وامتحن به وهو كاره له خائف على نفسه أعانه الله عليه، وأما تحصيل القضاء بالرشوة فهو أشد كراهة، وقد قال فيه أبو العباس: من تقبل القضاء بقبالة وأعطى عليه رشوة فولايته باطلة وقضاؤه مردود وإن كان قد حكم بحق.

وفي هذا السياق يقول الإمام الكاساني[19]: “وأما ترك الطلب فليس بشرط لجواز التقليد بالإجماع، فيجوز تقليد الطالب بلا خلاف لأنه يقدر على القضاء بالحق، لكن لا ينبغي أن يقلد لأن الطالب يكون متهما، وروي عن النبي، عليه الصلاة والسلام، أنه قال: “إنا لا نولي أمرنا هذا من كان له طالبا”، وقال عليه الصلاة والسلام: “من سأل القضاء وكل إلى نفسه، ومن أجبر عليه نزل عليه ملك يسدده” وفي ذلك إشارة إلى أن من طلب القضاء لا يوفق لإصابة الحق، ويذكر أن عمر بن الخطاب نظر إلى شاب في وفد قدم إليه فأعجبه حاله فإذا هو يسأل القضاء، فقال له عمر رضي الله عنه: “إن الأمر لا يقوى عليه من يحبه” وقال ابن شاس ولا ينبغي أن يقدم على ولاية القضاء إلا من وثق بنفسه وتعين لذلك أو أجبره الإمام العدل على ذلك، فللإمام أن يجبره إن كان صالحا وله أن يهرب ويمتنع إلا أن يعلم أنه تعين عليه فيجب عليه القبول، وذلك إذا ثبت أنه ليس في تلك الناحية من يصلح للقضاء سواه”.

وقد عبر الإمام الماوردي[20] في كتابه الأحكام السلطانية عن هذه الأفكار بقوله: ” وأما طلب القضاء وخطبه الولاة عليه فإن كان من غير أهل الاجتهاد فيه كان تعرضه لطلبه محظورا وصار الطلب مجروحا، وإن كان من أهله على الصفة التي يجوز معها نظره فله في طلبه ثلاثة أحوال: أحدها أن يكون القضاء في غير مستحقه إما لنقص علمه وإما لظهور جوره فيخطب القضاء دفعا لمن لا يستحقه ليكون فيمن هو بالقضاء أحق، فهذا سائغ لما تضمنه من دفع منكر، والحالة الثانية أن يكون في مستحقه ومن هو أهله ويريد أن يعزله عنه إما لعداوة بينهما وإما ليجر بالقضاء لنفسه نفعا، فهذا الطلب محظور وهو بهذا الطلب مجروح والحال الثالثة أن لا يكون في القضاء ناظر وهو خال من وآل عليه، فيراعى حاله في طلبه، فإن كان لحاجته إلى رزق القضاء المستحق في بيت المال كان طلبه مستحييا، وإن قصد بطلبه المباهاة والمنزلة فقد اختلف في كراهية ذلك مع الاتفاق على جوازه، فكراهية طائفة لكون المباهاة والمنزلة في الدنيا مكروه، وذهبت طائفة أخرى إلى أن طلبه لذلك غير مكروه، لأن طلب المنزلة مما أبيح، وقد رغب نبي الله يوسف، عليه السلام، إلى فرعون في الولاية والخلافة فقال: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: 55)، أما بذل المال على طلب القضاء فمن المحظورات لأنها رشوة محرمة يصير الباذل لها والقابل لها مجرمين لقوله صلى الله عليه وسلم: “لعن الله الراشي والمرتشي والرائش”.

وعادة ما يرتبط موضوع طلب القضاء برغبة صاحب الطلب في الحصول على الرشاوي والهدايا من وراء مهنة القضاء، ويروى في هذا السياق أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، استعمل رجلا من الأزد على جمع الصدقات، فجاء بالمال فدفعه إلى نبي الله، عليه الصلاة والسلام، فقال: هذا مالكم وهذه هدية أهديت إلي، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم، أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فتنتظر أيهدى إليك أم لا؟ ثم قام النبي، عليه السلام، خطيبا فقال: ما بال أقوام نستعملهم على الصدقة فيقولون هذا لكم وهذه هدية إلي أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدي إليه أم لا؟[21] وقال، صلى الله عليه وسلم، في حديث آخر: “هدايا العمال غلول[22].

المبحث الثاني: أسس التعامل بين أسرة القضاء في الإسلام

بعد أن كانت مهمة القضاء في بداية الدولة الإسلامية تقتصر على القاضي الفرد الذي كانت له الولاية العامة للفصل في جميع القضايا في بيته أو في المسجد[23]، إلا أنه نتيجة لاتساع أرجاء هذه الدولة بسبب الفتوحات الإسلامية فإن أعباء القاضي أصبحت في تزايد مستمر، الأمر الذي دفع الخلفاء إلى بعض المناصب الجديدة بهدف تقوية هذه المؤسسة القضائية، وهكذا أصبحت أسرة القضاء تتشكل من قاض للقضاة فنائبه وذلك بالإضافة إلى من يساعد القاضي من أمين وكاتب وخادم ومزكين للشهود، ويعتبر لقب قاضي القضاة من المناصب التي استحدثها خلفاء الدولة العباسية نقلا عن الأعراف القضائية الفارسية الذي كان يعرف عندهم باسم (موبذان موبت)؛ أي قاضي القضاة الساساني، وقد عرف هذا المنصب بعد ذلك لدى أهل الأندلس باسم قاضي الجماعة[24].

والخليفة هو الذي كان يعين قاضي القضاة، ويعتبر القاضي أبو يوسف يعقوب ابن حبيب الأنصاري الكوفي أول من تولى هذا المنصب زمن الخليفة هارون الرشيد وبعده عين المعتصم أبو عبد الله بن أبي دؤاد الأيادي قاضيا لقضاته وكان يرافقه في المواكب ويحضر معه الجلسات الرسمية[25].

ويعتبر أبو جعفر بن إسحاق بن البهلول التنوخي من الذين تقلدوا هذا المنصب لأكبر فترة زمنية حيث شغله لمدة عشرين سنة من (296ﮪ إلى 316ﮪ)، ونظرا لأهمية المنصب فإن الخلفاء كانوا يتحرون كثيرا في اختيار من هو أهل لتولي هذه المهمة، بحيث لم يثبت أن عين قاض للقضاة قبل بلوغه الأربعين من عمره، فقد تولاه إبان عاصم الغرناطي وهو في سن الستين، أما أبو جعفر بن إسحاق التنوخي فقد تقلد منصب قاضي القضاة وله من العمر 65سنة، وأبو يوسف الأزدي أصبح قاض لقضاة بغداد وله من العمر 74عاما، وعلى العكس من منصب قاضي القضاة فإن منصب القاضي تقلده من كان في سن مبكرة، فالخليفة المقتدر بالله قلد أبا الحسين الأحمادي الأزدي القضاء وهو في العشرين من عمره سنة 310ﮪ، أما القاضي أبو علي التنوخي فتولى مهمة القضاء سنة 319ﮪ، وهو ابن الثانية والعشرين من عمره.

وبالإضافة لقاضي القضاة فإنه كان هناك منصب آخر قريب منه وهو (أقضى القضاة) إلا أنه أقل إشعاعا وسموا من المنصب الأول، وكان الإمام الماوردي[26] أول من لقب به سنة 429ﮪ.

أما نواب القضاة فإنهم يفصلون في القضايا التي تسند إليهم من القضاة الأصول، وفي ذلك يقول القرافي[27]: “هم مساوون للقضاة الأصول من غير زيادة ولا نقصان ولا فرق إلا كثرة العمل بالنسبة إلى كثرة الأقطار وقلتها، وأن القاضي الأصل له أن يعزل القاضي الفرع دون العكس، وهذه الفكرة تكرس مفهوم التراتبية في السلم القضائي الذي يخضع فيه المرؤوس لأوامر رئيسه.

ولتسهيل عمل القاضي فإنه لابد لهذا الأخير من كاتب يكتب له ما يروج في مجلسه بين الخصوم، ويلزم فيه أن يكون أهلا لتولي هذه المهمة عالما بأصول الكتابة، كما أن للقاضي أن ينصب من يزكي عنده الشهود، وينبغي أن يعين لذلك رجلين يسألان له عن الشهود ويكون كشفهم في السر، ونظرا لأن الخصومات القضائية لا تقتصر على المسلمين فقط، لذلك يحق للقاضي اتخاذ المترجم الأمين الذي يسهل عليه مأمورية التواصل مع غير المسلمين ممن لا يفهمون اللغة العربية، ولابد للقاضي من أعوان يساعدونه في زجر من يحق زجره من المتخاصمين والشهود، ويجب أن يكون العون ثقة مأمونا لأنه قد يطلع من الخصوم على ما لا ينبغي أن يطلع عليه أحد الخصمين وقد يرشى على الإذن والمنع وقد يخاف منه على النسوان[28].

المطلب الأول: رسائل الأمراء والولاة للقضاة

بني القضاء في الإسلام على الثقة المتبادلة بين الحكام والقضاة، لذلك لم يتردد الأمراء والولاة في توجيه القضاة نحو السبيل الأمثل للمحافظة على حقوق الأفراد والجماعات وحمايتهم من الظلم والعدوان الذي قد يتعرضون له نتيجة لقضاء جائر، كما أن الحكام بدورهم لم يترددوا في قبول نصائح القضاة المبنية على حسن النية، وتعتبر الرسالة العمرية من أهم الروائع التي رفعت من سمو وقيمة القضاء الإسلامي التي خاطب فيها سيدنا عمر بن الخطاب قاضيه على الكوفة أبو موسى الأشعري حيث قال[29]: “أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، وأنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع من تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في مجلسك ووجهك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على المدعي واليمين على من أنكر، الفهم فيما يتلجلج في صدرك ويشكل علك ما لم ينزل في الكتاب ولم تجر به سنة، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، ومن ادعى حقا غائبا أو بينة فاضرب له أمدا ينتهي إليه، فإن بينه أعطيته بحقه، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية فإن ذلك هو أبلغ للعذر وأجلي للعمى، ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودا حدا، أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء قرابة، واعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور بعضها ببعض فانظر أقربها إلى الله وأشبهها بالحق فاتبعه، إن الله تعالى تولى منكم السرائر ودرأ عنكم الشبهات، وإياك والغلق والضجر، والتأذي بالناس، والتنكر للخصم في مجالس القضاء التي يوجب الله فيها الأجر، ويحسن فيها الذخر، من حسنت نيته وخلصت فيما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بما يعلم الله منه غير ذلك شانه الله، فما ظنك بثواب غير الله في عاجل دنيا وآجل آخرة والسلام عليك ورحمة الله”، وفي رسالة أخرى كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية وهو أمير بالشام: “أما بعد فإني كتبت إليه في القضاء بكتاب لم آلك فيه ونفسي خيرا، فألزم خصالا يسلم دينك وتأخذ بأفضل حظك عليك، إذا حضر الخصمان فالبينة العدول والأيمان القاطعة، أذن الضعيف حتى يجترئ قلبه وينبسط لسانه، وتعاهد الغريب، فإنه إن طال حبسه ترك حقه وانطلق إلى أهله، وإنما أبطل حقه من لم يرفع به رأسا، واحرص على الصلح بين الناس ما لم يستبن لك القضاء”[30].

ومنه أيضا رسالة للإمام علي بن أبي طالب إلى الأشتر النخعي حين ولاه قاضيا على مصر حيث يقول له: “ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الغيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرق نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى الفهم دون أقصاه، وأوقفهم من الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدريه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل، ثم أكثر تعاهد قضائه، وأفسح له في البذل، بما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظرا بليغا”[31].

وهذا التقليد الذي سار عليه الخلفاء والأمراء في مخاطبة قضاتهم عند التعيين ما هو إلا مسايرة للنهج الذي سلكه المصطفى، عليه الصلاة والسلام، عند تعيينه لقضاته على الأمصار الإسلامية، فعندما بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب إلى اليمن لتولي مهمة القضاء بادره الإمام علي بقوله يا رسول الله: إنك تبعثني وأنا حديث السن لا علم لي بالقضاء، قال: انطلق فإن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك قال فما شكيت في قضاء بين اثنين” وفي رواية أخرى قال: انطلق فإن الله تعالى يثبت لسانك ويهدي قلبك، إن الناس يتقاضون إليك، فإذا أتاك الخصمان فلا تقض لواحد حتى تسمع كلام الآخر، فإنه أجدر أن تعلم لمن الحق[32].

المطلب الثاني: نصائح القضاة للأمراء والولاة

نظرا للمكانة البارزة التي احتلها القضاة في إطار الدولة الإسلامية فإنهم كانوا لا يترددون في توجيه نصائحهم للأمراء والولاة كلما دعت الضرورة إلى ذلك، ولم يكن الهدف من ذلك هو التشنيع بأخطاء الحكام وإنما هو من باب إثارة انتباههم إلى ضرورة إصلاح بعض الثغرات التي يشكو منها النظام القضائي أو الجبائي مثلا، وفي هذا السياق وجه القاضي أبو يوسف على هارون الرشيد[33] نصيحة هامة تتلخص فيما يلي:

“إن العدل وإنصاف المظلوم وتجنب الظلم مع ما في ذلك من الأجر يزيد به الخراج وتكثر به عمارة البلاد، والبركة مع العدل تكون، وهي تفقد مع الجور، والخراج المأخوذ مع الجور تنقص البلاد به وتخرب، فهذا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان يحمي السواد مع عدله في أهل الخراج وإنصافه لهم ورفعه الظلم عنهم، فلو تقربت إلى الله عز وجل يا أمير المؤمنين بالجلوس لمظالم رعيتك في الشهر أو الشهرين مجلسا واحدا تسمع فيه من المظلوم وتنكر على الظالم، ولعلك لا تجلس إلا مجلسا أو مجلسين حتى يسير ذلك في الأمصار والمدن فيخاف الظالم وقوفك على ظلمه فلا يتجرأ على الظلم، ويأمل الضعيف المقهور جلوسك ونظرك في أمره فيقوى قلبه ويكثر دعاؤه، فإن لم يمكنك الاستمتاع في المجلس الذي تجلسه من كل من حضر من المتظلمين نظرت في أمر طائفة منهم في أول مجلس وفي أمر طائفة أخرى في المجلس الثاني وكذلك في المجلس الثالث ولا تقدم في ذلك إنسانا على إنسان، من خرجت قصته أولا دعي أولا وكذلك من بعده مع أنه متى علم العمال والولاة أنك تجلس للنظر في أمور الناس يوما في الشهر تناهوا بإذن الله عن الظلم وأنصفوا من أنفسهم، وإني لأرجو لك بذلك أعظم الثواب”.

وإعمالا لهذه النصائح فإنه يحكى أن المأمون كان يجلس للمظالم في يوم الأحد فنهض ذات يوم من مجلس نظره فلقيته امرأة في ثياب رثة فقالت له:

يا خيرَ مُنتَصِفٍ يُهدى له الرَّشَدُ                ويا إماماً به قد أشرَقَ البَلدُ

تشكو إليكَ عميدَ القوم أرمَلَة                  عُدِّي عليها فلم يُترك لها سَبَدُ

وابتُزَّ منِّي ضياعي بَعدَ مَنعَتِها                 ظُلماً وفُرِّقَ منِّي الأهلُ والولدُ

فاطرق المأمون يسيرا ثم رفع رأسه وقال لها:

مِنْ دُونِ مَا قُلْتِ عِيلَ الصَّبْرُ وَالْجَلَدُ         وَأَقْرَحَ الْقَلْبَ هَذَا الْحُزْنُ وَالْكَمَدُ

هَذَا أَوَانُ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَانْصَرِفِي        وَأَحْضِرِي الْخَصْمَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَعِدُ

 الْمَجْلِسُ السَّبْتُ إنْ يُقْضَ الْجُلُوسُ لَنَا       أُنْصِفْكِ مِنْهُ وَإِلَّا الْمَجْلِسُ الْأَحَدُ

فانصرفت وحضرت يوم الأحد في أول الناس، فقال لها المأمون من خصمك؟ فقال: القائم على رأسك العباس بن أمير المؤمنين، فقال المأمون لقاضيه يحيى بن أكثم أجلسها معه ونظر بينهما بحضرة المأمون وجعل كلامهما يعلو، فزجرها بعض حجابه، فقال المأمون: دعها فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه، وأمر برد ضياعها عليها[34]. وفي هذا السياق أيضا يروى أن امرأة أتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين: إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل وأنا اكره أن أشكوه وهو يعمل بطاعة الله، فقال لها: نعم الزوج زوجك فجعلت تكرر عليه القول، وهو يكرر الجواب فقال له كعب بن سوار الأسدي يا أمير المؤمنين هذه امرأة تشكو إليك زوجها في مباعدته إياها في فراشه فقال له عمر، رضي الله عنه، كما فهمت كلامها فاقض بينهما فقال كعب علي بزوجها فأتي به فقال له: إن امرأتك تشكوك فقال: أفي طعام أو شراب؟ قال: ولا في واحد منهما فقالت المرأة من الرجز:

 يا أيها القاضي الحكيم رشَدُه      ألهى خليلي عن فراشي مسجدُهْ

 زهَّدَهً في مضجعي تعبُّدُهْ       فاقض القضا كعبُ ولا ترددُهْ

 نهاره وليله ما يرقدهْ             فلست في أمر النساء أحمدُهْ

فقال الزوج:

زهدني في فراشها وفي الحجل          أني امرء أذهلني ما قد نزل

في سورة النمل وفي السبع الطول         وفي كتاب الله تخويف جلل

فقال القاضي كعب:

إن لها عليك يا رجل           نصيبها في أربع لمن عقل

فأعطها ذاك ودع عنك العلل

ثم قال له: إن الله قد أحل لك من النساء مثنى وثلاث ورباع فلك ثلاثة أيام ولياليهن تعبد فيهن ربك ولها يوم وليلة فقال عمر لكعب، رضي الله عنه: والله ما أدري من أي أمريك أعجب، أمن فهمك أمرها؟ أم من حكمك بينهما؟ اذهب فقد وليتك القضاء بالبصرة، وهذا القضاء من كعب والإمضاء من عمر رضي الله عنه، وما استجابة عمر لنصيحة كعب إلا دليل على تقبل النصيحة والمشورة، وأن الحق يعلو ولا يعلى عليه وبذلك ازدهر القضاء الإسلامي وتطور، وهذا ما تشهد به المثل العليا من القضاة المسلمين الذين سنتناول بعضا منهم في الفصل الثاني من هذه الدراسة بحول الله وقوته.

انظر العدد 19 من مجلة الإحياء

مفهوم القضاء في الإسلام

الهوامش

  1. قال المستنصر بالله وهو أحد ملوك الأندلس بأن: “أكبر مصيبة تحدث في المملكة هي أقل خطرا من مصابها بموت القاضي العادل، لأن وفاة أحد القواد أو الوزراء لا تتأثر لها الحياة العمومية تأثرها بوفاة القاضي العادل”.
  2. هو خلف بن حبان المعروف بوكيع المتوفى سنة 306ﮪ، وقد ذكر هذه القصة في مؤلفه “أخبار القضاة”، ج،1 ص26.
  3. صنف الإمام أبو حنيفة القضاة إلى ثلاثة أنواع: الأول رجل يحسن العوم فأخذ البحر طولا فما عساه أن يعوم حتى يوشك أن يكل فيغرق، ورجل لا بأس بعومه عام يسيرا فغرق، ورجل لا يحسن العوم أصلا فألقى بنفسه على الماء فغرق من ساعته.
  4. أخبار القضاة لوكيع، ج،1 ص: 27، الذي ذكر بأن خالدا عندما تاه في الصحراء إذا هو برجل حسن الوجه والثوب، طيب الريح فقال لخالد: لقد ساءك ما خاطبك به هذا؟ قال: نعم، قال: أما علمت أن العبد إذا لم يكن لله فيه حاجة نبذه إليهم.
  5. انظر تبصرة الحكام لابن فرحون، ج 1، ص8.
  6. الحديث رواه شريك عن العباس عن الحسن بن بشر عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ذكره وكيع بأكثر من رواية في مؤلفه السابق، ص: 13 وما بعدها.
  7. انظر تفاصيل رواية هذا الحديث عند وكيع في أخبار القضاة، ص: 7 وما بعدها.
  8. قولة الفضيل بن عياض مذكورة عند وكيع في المرجع أعلاه، ص24.
  9. قولة ابن مكحول مذكورة في المرجع أعلاه في نفس الصفحة.
  10. ابن فرحون في تبصرة الحكام، ج 1، ص9.
  11. محيي الدين الجنان في شرحه وتعليقه على تحفة الحكام لابن عاصم الأندلسي، دار الكتب العلمية، بيروت، طبعة 1994، ص3.
  12. هناك في تاريخ الفكر الإسلامي عدة نماذج لعرض الولاية على من لم يكن راغبا فيها سواء في مجال الإمارة أو القضاء، ويعتبر أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، أول من ابتلى بهذا العرض لذلك نجده يقول: “أيها الناس لقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن صدفت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم”.
  13. ابن تيمية “السياسة الشرعية”، طبعة 1970، ص18.
  14. ابن عبد ربه، العقد الفريد، ج 2، ص182.
  15. وكيع، المرجع السابق، ج 1، ص27.
  16. تولى ابن عاصم القضاء وهو في سن الستين من عمره.
  17. البيهقي في المحاسن والمساوئ، ج 2، ص: 408. أيضا: سوار القاضي، المجلة العربية للفقه والقضاء، العدد 10، ص: 462، هامش 6.
  18. تبصرة الحكام لابن فرحون، ج 1، ص: 10 وما بعدها.
  19. بدائع الصنائع للكاساني، ج 7، ص4.
  20. الأحكام السلطانية، للماوردي، ص78.
  21. الحديث مذكور عند وكيع، المرجع السابق، ص57.
  22. أخرجه البيهقي وأحمد، قال الحافظ بن حجر وإسناده ضعيف، ووجه الضعف فيه أنه من رواية إسماعيل بن عياش من أهل الحجاز، ويروي الجهشياري أن عبد الملك بن مروان بلغه أن بعض كتابه قبل هدية فأحضره وقال له: “والله إن كنت قبلت هدية لا تنوي مكافأة المهدي لها إنك لئيم دنيء، وإن كنت قبلتها تستكفي رجلا لم تكن تستكفيه لولاها إنك لخائن، وإن كنت نويت تعويض المهدي عن هديته وأن لا تخون له أمانة ولا تثلم له دينا فلقد قبلت ما بسط عليك لسان معامليك وأطمع فيك سائر مجاوريك وسلبك هيبة سلطانك ثم صرفه عن عمله”، عن كتاب الوزراء والكتاب للجهشياري الذي حققه مصطفى السقا، طبعة 1938، ص: 43، ولعل عبد الملك بن مروان قد استقى هذه الحكمة من معاوية الذي أوصى أحد عماله بما يلي: “لا تبيعن كثيرا بقليل، وخذ لنفسك من نفسك، واكتف فيما بينك وبين عدوك بالوفاء تخف عليك المؤونة، وعلينا منك، وافتح بابك للناس”، ديوان المظالم، للدكتور حمدي عبد المنعم، ط 1983، ص9.
  23. بعد أن كان المسجد هو المكان المعتبر بمثابة محكمة للمسلمين، فإن القضاء أصبحوا يفضلون في الخصومات القضائية محكمة للمسلمين لاعتراض جل الفقهاء على جعل المسجد محكمة قضائية، فقد قال الإمام الشافعي بعدم القضاء في المسجد لاعتراض جل الفقهاء على جعل المسجد محكمة قضائية، فقد قال الإمام الشافعي بعدم القضاء في المسجد وإنما في بيت القاضي لكون أن القاضي قد يأتيه المشرك والحائض والنفساء والجنب ويجري بين الخصمين كلام اللغو والرفث والكذب، لذلك كان تنزيه المسجد عن كل هذا واجب.
  24. انظر مؤلف عصام محمد شبارو، المشار إليه سابقا حول القضاء والقضاة في الإسلام، العصر العباسي، ص: 33، وما بعدها.
  25. نظرا لقرب منزلة قاضي القضاة من الخليفة لذلك كان يسمي في الكثير من الأحيان بقاضي الخليفة لأنه يستعين به في أموره الخاصة فيخرج معه في الأسفار ويصطحبه في المواكب ويستعين به في محاكمة الوزراء والخارجين عن الحكم.
  26. هو أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الذي عرف بالماوردي نسبة إلى صنع ماء الورد وبيعه، ولد بالبصرة سنة 364ﮪ، وتوفي سنة 450ﮪ، وأثناء فترات إقامته ببغداد علت منزلة الماوردي حتى لقب سنة 429ﮪ بلقب أقضى القضاة. ياقوت الحموي، معجم الأدباء، ج 5، ص: 407ﮪ.
  27. هو العلامة شهاب الدين أبي العباس الصنهاجي المشهور بالقرافي، وهو من فقهاء المالكية، ويعتبر كتابه الفروق من أهم آثاره الفقهية التي لها قيمة علمية كبيرة.
  28. صاحب تبصرة الحكام، المرجع السابق، ص: 25، من ج1.
  29. تعتبر الرسالة العمرية لأبي موسى الأشعري من أهم الرسائل القضائية المؤرخة في هذا الباب، إلا أن تعدد الروايات التي عرضت لمضمون هذه الرسالة بين مسقط لكلمة أو مضيف لها، الأمر الذي يصعب معه الخروج بصيغة موحدة بخصوص مضمون هذه الرسالة، وهذا ما يلمسه المطلع على نص الرسالة الذي ذكرته العديد من المؤلفات الفقهية والأدبية والقضائية، أنظر مثلا العقد الفريد لابن عبد ربه، أخبار القضاة لوكيع، صبح الأعشى، مقدمة ابن خلدون، البيان والتبيين للجاحظ، أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية، ج 1، ص: 85. وقد تناول ابن قيم الجوزية هذا الخطاب بكثير من التفصيل والتوضيح.
  30. أخبار القضاة لوكيع، المرجع السابق، ص74.
  31. نهج البلاغة، ج 2، ص97.
  32. أخبار القضاة لوكيع، ج 1، ص: 84، هامش 1.
  33. النصيحة مذكورة في كتاب الخراج لأبي يوسف، ص: 111 وما يليها.
  34. الأحكام السلطانية للماوردي، المرجع السابق، ص88.
Science
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق