مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةمفاهيم

“مفهوم العقل عند الأشاعرة”

   العقل في اللغة: [1] 

   وردت مادة “عقل” في اللغة على معاني عديدة منها: الحبس ؛ قال ابن فارس «(عقل) العين والقاف واللام أصل واحد منقاس مطرد، يدل عظمه على حبسة في الشيء أو ما يقارب الحبسة. من ذلك العقل، وهو الحابس عن ذميم القول والفعل.»
 ووردت نقيضا للجهل؛ قال الخليل: «العقل: نقيض الجهل. يقال عقل يعقل عقلا، إذا عرف ما كان يجهله قبل، أو انزجر عما كان يفعله. وجمعه عقول. ورجل عاقل وقوم عقلاء. وعاقلون. ورجل عقول، إذا كان حسن الفهم وافر العقل.»
وجاء بمعنى الحجر والنهي؛ “العقل الحجر والنهى ضد الحمق والجمع عقول،. ” “العقل: الحجر والنهى. ورجل عاقل وعقول. وقد عقل يعقل عقلا ومعقولا أيضا وهو مصدر، وقال سيبويه: هو صفة”
وبمعنى التثبت في الأمور؛  قال: العقل القلب والقلب العقل، ومن المعاني سمي العقل عقلا لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك أي يحبسه،
ومنها: العقل هو التمييز الذي به يتميز الإنسان من سائر الحيوان،
ومنها العقل الفهم وعقول أي فهوم.»
وقد وردت «مادة عقل في القرآن الكريم 49 ( تسعا وأربعين مرة)، كلها -إلا واحدة- جاءت بصيغة الفعل المضارع وخصوصا ما اتصل به واو الجماعة: “تعقلون”، و “يعقلون” .
ففعل ” تعقلون” تكرر 24مرة، وفعل ” يعقلون” تكرر 22مرة، وفعل “عقل” و” نعقل” و”يعقل” جاء كل واحدٍ منها مرة واحدة، …ومن أبرز ما جاء هنا: صيغة الاستفهام الإنكاري الدالة على التحريض والإلهاب، تلك الصيغة المنكرة الملهبة المحرضة { أفلا تعقلون} وقد ذكرت في القرآن ثلاث عشرة مرة.»[2]

تحديد علماء الأشاعرة لماهية العقل:

   مذهب أبي الحسن الأشعري في العقل أنه ـكما حكاه ابن فورك في “فصل في بيان مذهبه في دلائل العقول وفي معنى العقل”ـ: «العلم، ويستشهد على ذلك بكلام أهل اللغة في قولهم”عقلت كذا ولم أعقل كذا” ويشيرون في ذلك إلى معنى العلم، وكذلك قال الخليل في كتاب العين: إن العقل نقيض الجهل، والمراد بالنقيض، هو الضد المنافي، والذي ينافي الجهل، هو العلم.
وقال: إنه لم يجز أن يقال لكل عالم بشيء إنه عاقل مطلقا لأمرين؛
أحدهما: لإبهام الخطأ على استعمال ذلك في العادة.
والثاني: لأجل منع الإجماع منه؛ فأما ما تمنع منه العادة من إطلاق ذلك فهو أنه لا يقال: لكل من علم شيئا أو أشياء من طريق الحس والضرورة إنه عاقل مطلقا، كما لا يقال إنه عالم مطلقا، لأن الاستعمال في العادة، أنه إنما يقال”عالم” مطلقا لمن علم معلومات مخصوصة، وهو أن يعلم علم الدين، ولا يطلق ذلك على من يعلم كثيرا من المعلومات مما لا يجري مجرى العلم بالدين.
فكذلك سبيل القول في إطلاق وصف العاقل وتقييده أن يقال”عاقل” بالإطلاق لمن يعلم معلومات مخصوصة سبيل العلم بها النظر والاستدلال.»[3]
أمَّا القاضي أبو بكر الباقلاني؛ فحدَّه عند الحديث في الإخبار عن ماهية العقل وكماله وحقيقته؛ بقوله: «اختلف الناس فيه، فقال قائلون: هو قوة يفصل بها بين حقائق المعلومات.
وقال آخرون: مادة وطبيعة.
وقال قوم: جوهر بسيط.
 وقال الجمهور من المتكلمين: هو العلوم الضرورية.
والذي نختار أنه: بعض العلوم الضرورية…..»[4]
وقال الإمام الجويني في البرهان في باب القول في العلوم ومداركها وأدلتها، بعد حكاية مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني في العقل: «…والذي ذكره رحمه الله فيه نظر فإنه بنى كلامه على أن العقل من العلوم الضرورية لأنه لا يتصف بالعقل عارٍ من العلوم كلها وهذا يرد عليه أنه لا يمتنع كون العقل مشروطا بعلوم وإن لم يكن منها وهذا سبيل كل شرط ومشروط؛
 فإن قيل: ما الذي يبطل ما ذكره القاضي رحمه الله في معنى العقل؟ قلنا: نرى العاقل يذهل عن الفكر في الجواز والاستحالة وهو عاقل.
فإن قيل: فما العقل عندكم؟ قلنا: ليس الكلام فيه بالهيِّن وما حوم عليه أحد من علمائنا غير الحارث بن أسد المحاسبى رحمه الله فإنه قال: “العقل غريزة يتأتى بها درك العلوم وليست منها”. فالقدر الذي يحتمل هذا المجموع ذكره أنه: “صفة إذا ثبتت تأتى بها التوصل إلى العلوم النظرية ومقدماتها من الضروريات التي هي مستند النظريات.” ولا ينبغي أن يعتقد الناظر في هذا الكتاب أن هذا مبلغ علمنا في حقيقة العقل، ولكن هذا الموضع لا يحتمل أكثر من هذا.»[5]
وقال في الإرشاد:  «العقل علوم ضرورية، والدليل على أنه من العلوم الضرورية، استحالة الاتصاف به مع تقدير الخلو عن جميع العلوم.
…وليس  العقل من العلوم النظرية، إذ شرط ابتداء النظر تقدم العقل؛ وليس العقل جملة العلوم الضرورية، فإن الضرير ومن لا يدرك يتصف بالعقل مع انتفاء علوم ضرورية عنه فاستبان بذلك أن العقل بعض العلوم الضرورية، وليس كلها.»[6]
قال أبو بكر بن ميمون في شرحه على الإرشاد: «هذا الذي قاله فيه نظر … والعاقل كما ذكرنا لا يصح أن يكون متعريا عن جميع العلوم، بل لا بد لنا إذا فرضناه عاقلا، أن يكون عالما بمعلومات ما، فدل هذا على أن العقل علم، ولو كان شرطا في حصول العلم، لأمكن أن يوجد العقل ولا يوجد علم من العلوم، إذ لا يلزم بوجود علم معلوم، علم بمعلوم آخر، ومما يدل من السمع على أن العقل علم قوله تعالى: {وما يعقلها إلا العالمون}[العنكبوت:43].»[7]
وتحدث الإمام الغزالي في المستصفى عن صعوبة تحديده، ثم حكى الأقوال فيه قائلا: «…وكذلك إذا قيل ما حد العقل فلا تطمع في أن تحده بحد واحد، فإنه هوس، لأن اسم العقل مشترك يطلق على عدة معان، إذ يطلق على بعض العلوم الضرورية، ويطلق على الغريزة التي يتهيأ بها الإنسان لدرك العلوم النظرية، ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة، حتى إن من لم تحنكه التجارب بهذا الاعتبار لا يسمى عاقل، ويطلق على من له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه وكلامه، وهو عبارة عن الهدو، فيقال فلان عاقل أي في هدو، وقد يطلق على من جمع العمل إلى العلم، حتى إن المفسد وإن كان في غاية من الكياسة يمنع عن تسميته عاقلا، فلا يقال للحجاج عاقل بل داه، ولا يقال للكافر عاقل وإن كان محيطا بجملة العلوم الطبية والهندسية، بل إما فاضل وإما داه وإما كيس، فإذا اختلفت الاصطلاحات فيجب بالضرورة أن تختلف الحدود، فيقال في حد العقل باعتبار أحد مسمياته إنه بعض العلوم الضرورية كجواز الجائزات واستحالة المتسحيلات، كما قاله القاضي أبو بكر الباقلاني رحمه الله، وبالاعتبار الثاني أنه غريزة يتهيأ بها النظر في المعقولات، وهكذا بقية الاعتبارات.»[8]وقال الامام الرازي في المحصل؛ في مسألة بيان العقل الذي هو مناط التكليف: « المشهور أن العقل الذي هو مناط التكليف، هو العلم بوجوب الواجبات، واستحالة المستحيلات، لأن العقل لو لم يكن من قبيل العلوم يصح انفكاك أحدهما عن الآخر، لكان محال، لاستحالة أن يوجد عاقل لا يعلم شيئا البتة، أو عالم بجميع الأشياء ولا يكون عاقلا، وليس هو علما بالمحسوسات، لحصوله في البهائم والمجانينن، فهو إذا علم بالأمور الكلية، وليس من العلوم النظرية، لأنها مشروطة بالعقل، فلو أن العقل عبارة عنها لزم اشتراط الشيء بنفسه، وهو محال، فهو إذا عبارة عن “علوم كلية بديهية وهو المطلوب”.»[9]  
وذكر في ماهية العقل؛ -وذلك عند بحثه في الألفاظ التي يظن بها أنها مرادفة للعلم-  ما نصه:  «وعاشرها: العقل: وهو العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها فإنك متى علمت ما فيها من المضار والمنافع صار علمك بما في الشيء من النفع داعيا لك إلى الفعل وعلمك بما فيه من الضرر داعيا لك إلى الترك فصار ذلك العلم مانعا من الفعل مرة ومن الترك أخرى فيجري ذلك العلم مجرى عقال الناقة . ولهذا لما سئل بعض الصالحين عن العقل، قال: هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين، ولما سئل عن العاقل، قال: العاقل من عقل عن الله أمره ونهيه.»[10]
وقال الآمدي في أبكار الأفكار: «اعلم أنّ اسم العقل: قد يطلق باعتبارات متعددة في الاصطلاحات:
فأما في اصطلاح الفلاسفة: فقد يطلق بإزاء الماهية المجرّدة عن المادة وعلائقها، ولم يتحاشوا من إطلاق اسم العقل بهذا الاعتبار على البارى تعالى وعلى المعلول الصادر عنه، والمبادئ المجرّدة عن المواد، وعلائقها الصّادرة عنه، وبتوسطه. على ما يأتى شرحه وإبطاله.
وقد يطلق على القوة التى بها التّوصل من المعلومات الكلّيـة إلى المجهـولات لهـا و يسـمى:
العقل النظرى.
وعلى القوة التى يتصرف بها بالفكرة  والرّوية فيما يجب أن يفعل من الأمور الجزئية ويسمـى: العقل العملى.
وعلى القوة التى بها استعداد الطّفل لإدراك الكتابة: فإن لم يكن قد حصل له العلم بمفردات الكتابة قيل لها العقل الهيولانى. وإن حصل له العلم بذلك: فإن كان يفتقر عند التركيب إلى الفكرة والرّوية قيل لها العقل بالملكة. وإن لم يفتقر إلى الفكرة والرّوية، قيل: العقل بالفعل.
وعلى القوة التى بها إدراك المعلوم من غير تعلّم. ويقال لها العقل القدسى .
 وأما في اصطلاح أهل العرف[أي المتكلمين]: فقد يطلق العقل على صحة الفطرة، وعلى كثرة التجربة، وعلى الهيئة المستحسنة للإنسان في حركاته وسكناته لكن المقصود هاهنا: إنما هو تعريف العقل الّذي هو مناط التكليف.
وقد اختلفت عبارات المتكلمين فيه:
فقال بعض المعتزلة: العقل ما يعرف به قبح القبيح، وحسن الحسن…
ومنهم من قال …: العقل هو ما يميز بين خير الخيرين، وشر الشرين.
وقالت الخوارج: العقل ما عقل به عن الله أمره، ونهيه.
وأما أصحابنا[ أي الأشاعرة]: فمنهم من قال: العقل هو العلم…وهو اختيار أبى إسحاق الأسفرايينى…
ومنهم من قال: إنّه غريزة يتوصل بها إلى المعرفة.
والّذي اختاره القاضى: أنّ العقل بعض العلوم الضّرورية…»
ثم حد العقل بأنه عبارة عن: «العلوم الضّرورية التى لا خلوّ لنفس الإنسان عنها بعد كمال آلة الإدراك، ولا يشاركه فيها شيء من الحيوانات.»[11]                       
وقال في شرح المقاصد في علم الكلام: «والأقرب أن العقل قوة حاصلة عند العلم بالضروريات بحيث يتمكن بها من اكتساب النظريات.»[12]
وقال في المبحث السابع في أن العقل مناط التكليف إجماعا: «لا خلاف في أن مناط التكاليف الشرعية هو العقل، حتى لا يتوجه على فاقديه من الصبيان والمجانين والبهائم، … فذهب الشيخ إلى أن المراد به ههنا العلم ببعض الضروريات؛ أي الكليات البديهية؛ بحيث يتمكن من اكتساب النظريات إذ لو كان غير العلم لصح انفكاكهما بأن يوجد عالم لا يعقل وعاقل لا يعلم وهو باطل؛ ولو كان العلم بالنظريات وهو مشروط بالعقل لزم تأخر الشيء عن نفسه؛ ولو كان العلم بجميع الضروريات لما صدق على من يفقد بعضها لفقد شرطها من التفات؛ أو تجربة؛ أو تواتر؛ أو نحو ذلك مع أنه عاقل اتفاقا.»[13]

أقسام العقل:

قال الإمام الغزالي:  «اعلم أن الناس اختلفوا في حد العقل وحقيقته، وذهل الأكثرون عن كون هذا الاسم مطلقا على معان مختلفة، فصار ذلك سبب اختلافهم، والحق الكاشف للغطاء فيه، أن العقل اسم يطلق بالاشتراك على أربعة معان، كما يطلق اسم العين مثلا على معان عدة، وما يجري هذا المجرى، فلا ينبغي أن يطلب لجميع أقسامه حد واحد، بل يفرد كل قسم بالكشف عنه؛
 فالأول: الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم، وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية، وهو الذي أراده الحارث بن أسد المحاسبي حيث قال في حد العقل: “إنه غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم النظرية…”
 الثاني: هي العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد، وهو الذي عناه بعض المتكلمين حيث قال في حد العقل: “إنه بعض العلوم الضرورية كالعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات …”
 الثالث: علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال، فإن من حنكته التجارب، وهذبته المذاهب، يقال إنه عاقل في العادة، ومن لا يتصف بهذه الصفة، فيقال إنه غبي غمر جاهل، فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلا.
 الرابع: أن تنتهي قوة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور، ويقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة ويقهرها، فإذا حصلت هذه القوة سمى صاحبها عاقلا، من حيث إن إقدامه وإحجامه بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب، لا بحكم الشهوة العاجلة، وهذه أيضا من خواص الإنسان التي بها يتميز عن سائر الحيوان .
فالأول: هو الأس والسنخ والمنبع، والثاني: هو الفرع الأقرب إليه  والثالث: فرع الأول والثاني، إذ بقوة الغريزة والعلوم الضرورية تستفاد علوم التجارب، والرابع: هو الثمرة الأخيرة، وهو الغاية القصوى، فالأولان بالطبع والأخيران بالاكتساب.
 ولذلك قال علي كرم الله وجهه:
 رأيت العقل عقلين ***  فمطبوع ومسمـوع
 ولا ينفع مسمــوع ***  إذا لم يك مطبـــوع
 كما لا تنفع الشمس ***  وضوء العين ممنـوع
فهذه أقسام ما ينطلق اسم العقل عليها.»[14]

  العقل وتفاوته[15]:

 قال القاضي أبو بكر الباقلاني: «…ولايصح على التحقيق أن يكون عقل أكمل من عقل، وأوفر، وأرجح من عقل، لما بيناه من ماهية العقل، وإنما يقال: إن أحد العاقلين أكمل عقلا، وأوفر، وأرجح من الآخر، على معنى أنه أكثر استعمالا لعقله، وأشد تيقظا وبحثا واستنباطا وتجربة.»[16]
وقال الغزالي في الإحياء في بيان تفاوت النفوس في العقل: «قد اختلف الناس في تفاوت العقل ولا معنى للاشتغال بنقل كلام من قل تحصيله، بل الأولى والأهم المبادرة إلى التصريح بالحق، والحق الصريح فيه أن يقال إن التفاوت يتطرق إلى الأقسام الأربعة سوى القسم الثاني وهو العلم الضروري بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات.
 …وأما الأقسام الثلاثة فالتفاوت يتطرق إليها، أما القسم الرابع: وهو استيلاء القوة على قمع الشهوات، فلا يخفى تفاوت الناس فيه، بل لا يخفى تفاوت أحوال الشخص الواحد فيه، وهذا التفاوت يكون تارة لتفاوت الشهوة إذ قد يقدر العاقل ترك بعض الشهوات دون بعض، ولكن غير مقصور عليه، فإن الشاب قد يعجز عن ترك الزنا وإذا كبر وتم عقله قدر عليه، وشهوة الرياء والرياسة تزداد قوة بالكبر لا ضعفا، وقد يكون سببه التفاوت في العلم المعرف لغائلة تلك الشهوة، ولهذا يقدر الطبيب على الاحتماء عن بعض الأطعمة المضرة وقدم من يساويه في العقل على ذلك إذا لم يكن طبيبا وإن كان يعتقد على الجملة فيه مضرة لكن إذا كان علم الطبيب أتم كان خوفه أشد فيكون الخوف جندا للعقل وعدة له في قمع الشهوات وكسرها…
 وأما القسم الثالث: وهو علوم التجارب، فتفاوت الناس فيها لا ينكر، فإنهم يتفاوتون بكثرة الإصابة وسرعة الإدراك، ويكون سببه إما تفاوتا في الغريزة، وإما تفاوتا في الممارسة، فأما الأول: وهو الأصل؛ أعني الغريزة فالتفاوت فيه لا سبيل إلى جحده، فإنه مثل نور يشرق على النفس ويطلع صبحه ومبادىء إشراقه عند سن التمييز ثم لا يزال ينمو ويزداد نموا خفي التدريج إلى أن يتكامل بقرب الأربعين سنة، وانقسام الناس إلى من يتنبه من نفسه ويفهم، وإلى من لا يفهم إلا بتنبيه وتعليم، وإلى من لا ينفعه التعليم أيضا ولا التنبيه، كانقسام الأرض إلى ما يجتمع فيه الماء فيقوى فيتفجر بنفسه عيونا، وإلى ما يحتاج إلى الحفر ليخرج إلى القنوات، وإلى ما لا ينفع فيه الحفر وهو اليابس، وذلك لاختلاف جواهر الأرض في صفاتها، فكذلك اختلاف النفوس في غريزة العقل.» [17]وقال الآمدي: «…أنه إذا كان العقل عبارة عن العلوم الضّرورية التى لا خلو للنفس عنها فيلزم منه أن لا يقع التفاوت بين العقلاء في مراتب العقل. وأن لا يفرق بين العامى الأبله، ومن هو في غاية الجودة من الذكاء، وشدة القريحة لعدم اختلاف الناس فيما ذكرتموه من الضّروريات ولا يخفى ما فيه من المكابرة، والعناد.
ويمكن أن يجاب عنه: بأن القضاء بالتفاوت في العقل بين النّاس ليس باعتبار العقل الّذي هو مناط التكليف: وهو ما نحن بصدد تعريفه. وإنّما ذلك باعتبارات، وهى ما  قدمنا ذكرها  من صحّة الفطرة، أو التجربة، أو حسن الحالة، أو العلم.»[18]

 محل العقل:

 قال الفخر الرازي عند قوله تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور }، ما نصه: « هل تدل الآية على أن العقل هو العلم وعلى أن محل العلم هو القلب؟
الجواب: نعم لأن المقصود من قوله: {قلوب يعقلون بها} العلم وقوله: {يعقلون بها} كالدلالة على أن القلب آلة لهذا التعقل، فوجب جعل القلب محلا للتعقل ويسمى الجهل بالعمى لأن الجاهل لكونه متحيرا بشبه الأعمى.»[19]
وذكر في تفسير قوله تعالى: {نزله على قلبك}[البقرة:96]قولان، قال في الثاني منهما أن: «أن القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز والاختبار، وأما سائر الأعضاء فمسخرة له.»[20] ويقول أيضا ذاكر حجج كون العقل محله القلب: «أما المقدمة الأولى: ففيها النزاع فإن طائفة من القدماء ذهبوا إلى أن معدن العقل هو الدماغ، والذي يدل على قولنا وجوه: الأول: قوله تعالى: {أولم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها}[الحج: 44] وقوله: {لهم قلوب لا يفقهون بها}[الأعراف: 179] وقوله: {إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب}[ق: 37] أي عقل، أطلق عليه اسم القلب لما أنه معدنه.
 الثاني: أنه تعالى أضاف أضداد العلم إلى القلب، وقال: {فى قلوبهم مرض}[البقرة: 9]، {ختم الله على قلوبهم}[البقرة: 6] وقولهم: {قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم }[النساء: 154]، {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم} [التوبة: 64]، {يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم}[الفتح: 11]، {كلا بل ران على قلوبهم} [المطففين: 14]، {أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالها} [محمد: 25]،{فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور} [الحج: 44] فدلت هذه الآيات على أن موضع الجهل والغفلة هو القلب، فوجب أن يكون موضع العقل والفهم أيضا هو القلب.
 الثالث: وهو أنا إذا جربنا أنفسنا وجدنا علومنا حاصلة في ناحية القلب، ولذلك فإن الواحد منا إذا أمعن في الفكر وأكثر منه أحس من قلبه ضيقا وضجرا حتى كأنه يتألم بذلك، وكل ذلك يدل على أن موضع العقل هو القلب، وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المكلف هو القلب لأن التكليف مشروط بالعقل والفهم.
 الرابع: وهو أن القلب أول الأعضاء تكونا، وآخرها موتا، وقد ثبت ذلك بالتشريح ولأنه متمكن في الصدر الذي هو أوسط الجسد، ومن شأن الملوك المحتاجين إلى الخدم أن يكونوا في وسط المملكة لتكتنفهم الحواشي من الجوانب فيكونوا أبعد من الآفات.»[21]

 اتباع حجة العقل:

 قال القاضي الباقلاني: «قال عز وجل في الأمر باتباع حجة العقل: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}[الذاريات:21]، وقال: {أفرأيتم ما تمنون أآنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} [الواقعة:61]، وقال: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب }[البقرة:163]، وقال: {وضرب لنا مثلاً ونسى خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم }[يس:77-78] وقال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه}[الروم:26]، فأمرنا بالاعتبار والاستبصار ورد الشيء إلى مثله أو الحكم له بحسب نظيره، وهذا هو الحكم المعقول، والتقاضي إلى أدلة العقول.»[22]

 بيان شرف العقل:

قال الغزالي في الإحياء: «اعلم أن هذا مما لا يحتاج إلى تكلف في إظهاره، لا سيما وقد ظهر شرف العلم من قبل العقل، والعقل منبع العلم ومطلعه وأساسه، والعلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة، والنور من الشمس، والرؤية من العين، فكيف لا يشرف ما هو وسيلة السعادة في الدنيا والآخرة، أو كيف يستراب فيه، والبهيمة مع قصور تمييزها تحتشم العقل، حتى إن أعظم البهائم بدنا، وأشدها ضراوة، وأقواها سطوة، إذا رأى صورة الإنسان احتشمه وهابه، لشعوره باستيلائه عليه لما خص به من إدراك الحيل…»[23]

 

الهوامش:

 

[1] انظر مادة عقل من لسان العرب لابن منظور، دار صادر بيروت، الطبعة الأولى، ج:11 ص:458.] ومعجم مقاييس اللغة، لابن فارس، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر طبعة: 1399هـ – 1979م، (ج:4، ص:69).] والصحاح تاج العربية للجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين بيروت، الطبعة الرابعة، 1407هـ- 1987م، (ج:5، ص:1769).
[2] انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم بحاشية المصحف الشريف، وضعه محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث القاهرة، 1428هـ/2007م، (ص: 575) والعقل والعلم في القرآن الكريم، يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة الطبعة الأولى، 1416هـ/1996م، (ص:13).
[3] مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري إمام أهل السنة، لمحمد بن الحسن بن فورك، تحقيق وضبط: أ / د: أحمد عبد الرحيم السايح/مكتبة الثقافة الدينية الطبعة الثانية، 1427هـ/2006م، (ص:29).
[4] التقريب و الإرشاد ( الصغير)، لأبي بكر الباقلاني، قدم له وحققه وعلق عليه الدكتور: عبد الحميد بن علي أبو زنيد، مؤسسة الرسالة، ط:2 1418هـ/1998م، (ج:1، ص: 195).
[5] البرهان في أصول الفقه – أبو المعالي الجويني تحقيق: الدكتور عبد العظيم محمود الديب، دارالوفاء – المنصورة – مصر الطبعة الرابعة، 1418هـ، (ج: 1، ص: 95-96).
[6] كتاب الارشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الإعتقاد حققه وعلق عليه وقدم له وفهرسه الدكتور محمد يوسف موسسى وعلي عبد المنعم عبد الحميد مكتبة الخانجي مصر، 1329هـ/ 1950م (ص: 15-16).
[7] شرح الإرشاد لأبي بكر بن ميمون تحقيق الدكتور أحمد حجازي أحمد السقا، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولى، 1407هـ/1987م، (ص:49).
[8] المستصفى في علم الأصول، للإمام أبي حامد الغزالي، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى، 1413 (ص: 20).
[9] محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين، لفخر الدين الرازي، وبذيله تلخيص المحصل لنصير الدين الطوسي، راجعه وقدم له طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية مصر، سلسلة من تراث الرازي: 4، (ص:104).
[10] تفسير الفخرالرازي (مفاتيح الغيب من القرآن الكريم)، دار النشر/دار إحياء التراث العربى، (1/ 486).
[11] أبكار الأفكار في أصول الدين، للإمام سيف الدين الآمدي، تحقيق: أحمد محمد المهدي دار الكتب والآثار القومية بالقاهرة، ط2،1424 هـ – 2004 م (ج:1، ص:66-72).
[12] شرح المقاصد فى علم الكلام، لسعد الدين التفتازاني، تحقيق عبد الرحمن عميرة، عالم الكتب، (ج:2، ص:333)  
[13] شرح المواقف لعضد الدين الإيجي تأليف الشريف الجرجاني ومعه حاشية السسيالكوتي والجلبي على شرح المواقف ضبطه وصححه محمود عمر الدمياطي، دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الأولى،  (مج:3، ج:6، ص:49).
[14] إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، تحقيق سيد عمران دار الحديث القاهرة، 1425هـ/2004م،(ج:1، ص:115).
[15] ذهب جمهور الحنابلة  أنه يكون عقل أكما من عقل ويعرف ذلك بكمال أفعال ا لشخص ونقصها وهو مشاهد، وكذلك أجمع العقلاء على صحة قول القائل: فلان أعقل من فلان أو أكمل عقلا، واستدلوا بحديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه والذي فيه: ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن) أما القول بعدم التفاوت فقد نقله ابن النجار (1/86 )، عن الأشاعرة والمعتزلة وابن عقيل من الحنابلة وحجتهم أن العقل حجة عامة يرجع إليها الناس عند اختلافهم، ولو تفاوتت العقول لم تكن كذلك وذهب الماوردي على ما في شرح الكوكب المنير وكذلك الطوفي للجمع بين القولين فقالا العقل الغريزي الطبيعي الذي هو بعض العلوم الضرورية لا يتفاوت، وهو الذي عليه مدار التكليف.
              أما التجريبي المستفاد من التجارب حيث يكتسبه الإنسان بالتجارب فهو الذي يتفاوت وبالتالي جعلا الخلاف ليس متواردا على محل واحد.[ من تعليق الدكتور: عبد الحميد بن علي أبو زنيد على كتاب التقريب و الإرشاد ( الصغير)، لأبي بكر الباقلاني، (ج:1، ص: 197).][16] التقريب و الإرشاد ( الصغير)، لأبي بكر الباقلاني، (ج:1، ص: 198).
[17] إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، تحقيق سيد عمران، دار الحديث القاهرة، 1425هـ/2004م (ج:1، ص:118).
[18] أبكار الأفكار في أصول الدين، للإمام سيف الدين الآمدي، (ج:1، ص:72).
[19]: تفسير الفخر الرازى، (ج:11، ص: 130).
[20] نفسه، (ج:12، ص: 1).
[21] نفسه، (ج:12، ص: 3).
[22] الإنصاف للباقلاني/المكتبة الأزهرية للتراث، ط2000م، (ص: 4).
[23] إحياء علوم الدين (1/ 83)

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق