مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

مفهوم التزام الورد عند الصوفية: الحجية والضوابط والآثار

حورية بن قادة: باحثة مساعدة بمركز الإمام الجُنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة.

يعتبر التزام الوفاء بالأذكار والأوراد، وأعمال البر المأخوذة من الشارع، سنة عمِل بها الصحابة- رضوان الله عليهم-، وقد رغّب الشرع الإسلامي في ملازمة الذكر بصيغ مضبوطة والمواظبة عليها، وذلك فيما رواه البخاري في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ”.[1] ومعنى ذلك: أن يجعل الإنسان لنفسه نصيبا يوميا من الذكر يقرؤه ويتعاهد نفسه عليه، وفي ذلك تثبيت وتمكين له في سلك الذاكرين الله كثيرا والذاكرات، وقد علّق الإمام النووي على هذا الحديث قائلا: “أحب الأعمال إلى الله أدومها: أي أكثرها ثوابا، أكثرها تتابعا ومواظبة…[2] وقال ابن حجر العسقلاني أيضا في شرحه لهذا الحديث: “المداومة على عمل من أعمال البر ولو كان مفضولا أحب إلى الله من عمل يكون أعظم أجرا لكن ليس فيه مداومة”.[3]  وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي أن الحديث فيه إشارة إلى أن أحب الأعمال إلى الله عز وجل: “ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلا، وهكذا كان عَمَلُ النبي صلى الله عليه وسلم، وعَمَلُ آله وأزواجه من بعده، وكان ينهى عن قطع العمل”.[4]

وقد سار الصوفية على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فداوموا على أذكار معينة بدون انقطاع، وهو ما يسمى عندهم ب: “الورد” أو “الذكر الفردي”…، ولابد أولا من تحديد معنى هذه الكلمة “وِرْد” عند علماء اللغة لكي يتضح المعنى أكثر:

جاء في “لسان العرب” لابن منظور: “الوِرْد بالكسر، هو الجزء، يُقال: قرأت وردي، والوِرد: النصيب من القرآن؛ قال أبو عبيد: تأويل الأوراد: أنهم كانوا أحدثوا أن جعلوا القرآن أجزاء، كل جزء منها فيه سورة مختلفة من القرآن على غير التأليف، جعلوا السورة الطويلة مع أخرى دونها في الطول ثم يزيدون كذلك، حتى يعدلوا بين الأجزاء ويتموا الجزء، ولا يكون فيه سورة منقطعة ولكن تكون كلها سورا تامة، وكانوا يسمونها الأوراد، ويقال: لفلان كل ليلة ورد من القرآن يقرؤه؛ أي: مقدار معلوم إما سُبع أو نصف السُبع أو ما أشبه ذلك، يقال: قرأ ورده وحزبه بمعنى واحد.[5] والورد يطلَق عند الصوفية على أذكار يلقنها الشيخ للمريد، منها الصباحية، ومنها المسائية…[6] فيكون وقت المريد مملوءا بذكر الله سبحانه وتعالى، فيجد ثواب ذلك وثمرته في الدار الآخرة، مصداقا لقوله عز وجل: ﴿وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا﴾.[7] وقد جاء في الحديث: “لا تأتي على العبد ساعة لا يذكر الله فيها إلا كانت عليه حسرة يوم القيامة. وفي رواية: ما من قوم جلسوا مجلسا لم يذكروا الله فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة”.[8]

ثم إن الوِرد ينقسم  إلى ثلاثة أقسام: وِرد العُبّاد والزهّاد من المجتهدين، ووِرد أهل السلوك من السائرين، ووِرد أهل الوصول من العارفين، فأما وِرد المجتهدين، فهو استغراق الأوقات في أنواع العبادات، وعبادتهم بين ذكر ودعاء وصلاة وصيام، وقد ذُكرت في “الإحياء”[9] و”القوت”[10] أوراد النهار وأوراد الليل، وعُيّن لكل وقت ورد معلوم. وأما وِرد السائرين، فهو الخروج من الشواغل والشواغب، وترك العلائق والعوائق، وتطهير القلوب من المساوي والعيوب وتحليتها بالفضائل بعد تخليتها من الرذائل، وعبادتهم ذكر واحد، وأما وِرد الواصلين، فهو إسقاط الهوى ومحبة المولى، وعبادتهم فكرة أو نظرة، مع العكوف في الحضرة، فكل من أقامه مولاه في ورد فليلتزمه ولا يتعدى طوره ولا يستحقر غيره، إذ العارف لا يستحقر شيئا بل يصبر مع كل واحد في مقامه ويقرر كل شيء في محله، فلا يستحقر الورد ويطلب الوارد إلا جهول أو معاند، وكيف يستحقر الورد وبه يكون الورود على الملك المعبود…”.[11]

ومما تجدر الإشارة إليه، أن لكل ورد أو ذكر منافع وآثار خاصة به، تؤثر في قابلية المريد الذي قد تناسبه بعض الأوراد دون بعض، كما أن بعض الأوراد أو الأذكار تكون علاجا من داء بعينه من أدواء النفوس والقلوب، فلا تصلح لمن خلا منها.

والورد يضم ثلاث مستويات دعا إليها كتاب الله تعالى، وبيّنت السنة الشريفة فضلها ومثوبتها، وهي كالآتي:

1- ذكر التطهير: ويشمل الاستعاذة بالله، والاستغفار، ومحاسبة النفس على الزلاّت، لتعود صفحة الأعمال نقية بيضاء، وقد أمرنا الله تعالى بذلك بقوله: ﴿وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم﴾.[12] وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار تعليما لأمته وتوجيها لها، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة”.[13] وعن عبد الله بن بُسر- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا”.[14]

2-  ذكر التنوير: ويشمل الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، مصداقا لقوله عليه الصلاة والسلام: “من صلى عليّ واحدة صلّى الله عليه بها عشرا”.[15] وقوله تعالى: ﴿هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور﴾.[16] وقد أمر الله عز وجل بالصلاة والسلام عليه، فقال سبحانه وتعالى: ﴿إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما﴾.[17] ورُوي عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحُطّت عنه عشر سيئات، ورُفعت له عشر درجات”.[18] وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: “أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة”.[19]

3-  ذكر التعمير: والمراد به تعمير القلب بالإيمان، ويركز على كلمة التوحيد بصيغة [لا إله إلا الله] وقد دعا إليها الحق سبحانه وتعالى فقال: ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله﴾.[20] وكذلك رغّبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإكثار من هذه الكلمة العظيمة، وبيّن أفضليتها ومثوبتها فقال: “أفضل الذكر لا إله إلا الله”.[21] وقال عليه الصلاة والسلام: “الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق”.[22] وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “جدّدوا إيمانكم، قيل: يا رسول الله، وكيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله”.[23] وقال عليه الصلاة والسلام أيضا: “من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكُتبت له مائة حسنة، ومُحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه”.[24]

وما أكثر النصوص القرآنية التي تنص على ذكر الله تعالى في كل الأوقات، في الغداة وفي العشي، في الصباح وفي المساء، من ذلك قوله الله تعالى في محكم التنزيل: ﴿إنّ لكَ في النهار سبحا طويلا واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا﴾.[25] وقال الله تعالى: ﴿واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا﴾.[26] وقال تعالى أيضا: ﴿وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وإدبار السجود﴾.[27] وقال سبحانه عز وجل: ﴿وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم﴾.[28] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى…

خلاصة الأمر، فالتزام الورد وراثة اختص بها أهل الفضل والولاية والصلاح من الصوفية الكرام، وبان في ذلك فضلهم، وتمّت كرامتهم، وتجلّت بركاتهم، فهم الذين تنطق أحوالهم وأعمالهم بما تمتلئ به قلوبهم من أنوار النبوة، وتكنه صدورهم من أنوار المعرفة…



[1]– صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، رقم الحديث: 6461.

[2]– فيض القدير، النووي، تحقيق: أحمد عبد السلام، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط3، 1427ھ-2006م، 1/214.

[3]– فتح الباري، دار الحديث، القاهرة، ط: 2004م، 11/336.

[4]– “مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي”، المحجة في سير الدلجة”، 4/409.

[5]– لسان العرب، ابن منظور (ت811ھ)، تحقيق: عامر أحمد حيدر، وعبد المنعم إبراهيم خليل، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان،  ط2، 2009م، .3/561. مادة: ورد.

[6]– حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، دار المقطم للنشر والتوزيع، ط: 1426ھ-2005م، ص: 153.

[7]– سورة المزمل، الآية: 20.

[8]– مسند أحمد بن حنبل، من مسند عبد الله بن عمرو بن العاص، رقم الحديث: 7093.

[9]– إحياء علوم الدين، الإمام الغزالي، 1/433.

[10]– قوت القلوب، أبو طالب مكي، 1/31-38.

[11]– إيقاظ الهمم في شرح الحكم، أحمد بن عجيبة، ص: 217.

[12]– سورة المزمل، الآية: 20.

[13]– صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة، رقم الحديث: 6307.

[14]– سنن ابن ماجة، كتاب الأدب، باب الاستغفار، رقم الحديث: 3818.

[15]– سنن الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث: 485.

[16]– سورة الأحزاب، الآية: 43.

[17]– سورة الأحزاب، الآية: 156.

[18]– سنن النسائي، كتاب السهو، باب الفضل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث: 1296.

[19]– سنن الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث: 484.

[20]– سورة محمد، الآية: 14.

[21]– سنن الترمذي، كتاب الدعوات، باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، رقم الحديث: 3383.

[22]– سنن ابن ماجة، كتاب المقدمة، باب في الإيمان، رقم الحديث: 57.

[23]– مسند أحمد بن حنبل، من مسند أبي هريرة رضي الله عنه، رقم الحديث: 8695.

[24]– صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل التهليل، رقم الحديث: 6403.

[25]– سورة المزمل، الآية: 7.

[26]– سورة الإنسان، الآية: 25-26.

[27]– سورة “ق”، الآية: 39-40.

[28]– سورة الطور، الآية: 48-49.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق