مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمفاهيم

مفهوم الاستدلال

مفهوم الحجاج [19]:

الحجاج فعالية استدلالية متميزة عن البرهان، ويتصف بالخصائص التالية:

– أنه آلية استدلالية طبيعية إذ تبنى الانتقالات فيه لا بالاستناد إلى معطيات اللغة الصورية المجردة كما هو الحال في الاستدلال البرهاني، وإنما يتم ذلك في إطار اللغة الطبيعية التي تتصف أساسا بالانفتاح الدلالي الناتج عن ظاهرة الاشتراك والخفاء والغموض والطي المميزة لكل خطاب طبيعي، ومن ثم كان الحجاج أنسب استدلال لكل من يتوسل باللغة الطبيعية في التبليغ والتوجيه والتدليل، لأنه يحفظ عليها خصائصها الجوهرية.

– أنه يتأسس على صور استدلالية أغنى وأوسع من البنيات الاستدلالية البرهانية، إذ يشتمل على صور القضايا ( المؤلفة للاستدلال) مجتمعة إلى مضامينها ( مادة القضايا)، وهذا أمر طبيعي مادام من شأن أي خطاب طبيعي أن تتوالد فيه المضامين توالدا، وتتفاعل فيما بينها تفاعلا يؤدي إلى اغتناء الخطاب وتماسكه.

– أنه يهدف إلى تحصيل الاقتناع العملي السلوكي، ولا يقتصر فقط على تحصيل اليقين النظري كما هو الحال في البرهان، فإذا كان معيار اليقينية في هذا الأخير يتأسس على اعتبارات نظرية صرف لا صلة لها بالاعتقاد والسلوك فإن الأول يمتاز عن الثاني بنشدانه تغيير وتوجيه اعتقادات المخاطبين وحثهم على الانتهاض إلى العمل، ولاشك أن استدلالا بهذا الوصف العملي أقوى على التوجيه وأقدر على التغيير.

– أنه يأبى الخضوع للحساب الآلي لكونه موصولا بالمجال التداولي أوثق صلة، فلا يمكن فصل الأنساق الاستدلالية عن مقاصد المستدل وأغراضه وتوجهاته، وإذا علمنا أن المقاصد والأغراض والتوجهات تتغاير فيما بينها من ذات مستدلة إلى أخرى، أدركنا أن تكون نتائج هذا الصنف من الاستدلال غير ملزمة في كل مقام، وهذه الخاصية لا يمكن اعتبارها -بأي حال- منقصة أو مدخلا إلى الطعن فيه، والتشكيك في قدرته الإقناعية والتحصيلية، وإنما هي مزية تجعله أقدر على استيعاب التجربة الإنسانية المتميزة أساسا بالتشعب والاختلاف.

ويستند الحجاج إلى جملة من الأصول نجملها فيما يلي:

أ – أصل الفطرة أو الطبع:

ومقتضاه أن المسالك والموازين الحجاجية هي مسالك وموازين فطرية طبع البشر على التفاعل بها، فهي ليست أمرا مصطنعا أو متكلفا يحتاج إلى الترتيب والتصنيع، بل هي أمر منغرس في طبع الإنسان وسجيته.

ب – أصل اللغة:

ومقتضاه أنه لا غنى للمحاج عن استعمال اللغة التي يتواصل بواسطتها مع نفسه أو مع غيره، فمسالك التبليغ أو التواصل اللغوي تظل لازمة لمسالك الحجاج لزوم القرين للقرين بحيث تنطبع هذه الأخيرة بطبائع الأولى وتتصف بأوصافها، فإذا كان من خصائص اللغة الطبيعية الاشتراك والطي والمجاز… وغيرها مما يكون سببا للالتباس والاحتمال، فإن الحجاج يظل الاستدلال الأنسب لهذه اللغة، بحيث يحفظ عليها خصائصها الجوهرية، ويصون طبيعتها حتى تبقى دائما فاعلة في مجال التواصل ومحصلة لأغراضها التخاطبية.

ج – أصل القيم والمقاصد:

ومعناه أن كل متحاج له جملة من الأحكام والمعتقدات والقيم والمقاصد تخصه وتخص الطرف الذي يحاجه، وذلك لأن البعد القيمي أو المقصدي ينفذ إلى الممارسة الحجاجية من كل جانب ويعمل على توجيهها وإغنائها حتى يبلغ الحجاج غايته ونهايته. وبما أن القيم والمقاصد قد تكون جماعية وقد تكون فردية، وأن الفردية منها تخص كل طرف من أطراف الحجاج على حدة، فإن إمكان الاعتراض والاختلاف يظل قائما، فيتعين الحوار وسيلة مثلى للتقريب بين المتحاجين.

د – أصل الحوار:

إن الحجاج يتقوم أساسا بكون استدلالا حواريا تعطى فيه الفرصة لكل طرف من أطراف الممارسة الحجاجية، قصد تبرير دعاويه وإثبات قضاياه الحجاجية، فالذات المستدلة في الحجاج لا تنفك عن استحضار الغير، كذات فاعلة وموجهة للعملية الاستدلالية ( بل إن ذات المستدل قد تنشطر إلى ذاتين ذات حقيقية ناظرة وذات اعتبارية مناظرة)، وهذا الاستحضار ليس أمرا متكلفا أو كماليا، وإنما هو أمر ضروري لازم للحجاج لزوم اللغة له، وعليه فإن المناظرة تظل المنهج الأسلم والأنجع لحفظ الحجاج وتقويمه، وذلك لأنه لما كان الحجاج يتيح إمكانية المبادرة والإقدام، فلا شيء أضبط لهما من سن قواعد التحاور والتناظر، فإن ذلك أدعى للتوافق وأجلب للتقارب بين القبيلين المتحاجين.

وجماع القول في هذا المقام أن مكامن الاختلاف بين البنية الاستدلالية البرهانية والبنية الاستدلالية الحجاجية تنحصر فيما يلي:

أ – كون نتيجة الأولى تلزم عن مقدماتها لزوما ضروريا لا يقبل النقاش أو التردد، بينما يكون اللزوم في الثانية غير ضروري أي على غالب الظن [20]، وذلك لاعتبارات لغوية ومقامية.

ب – كـون القيـمـة الصدقيـة لقضـايـا الأولى محصورة الأبعاد (مثلا: صدق/كذب) بينما نأخذ في الثانية بمعيار التفاضل والتراتب[21] أي أن القضايا تتفاوت صدقا وكذبا بحيث تكون هذه القضية أصدق من تلك أو أكذب.

ج – كون البرهان يجنح إلى التوحيد والتفريد أي إلزام جميع المخاطبين بنتائجه مما يسبغ عليه الطابع الاستبدادي، بينما ينشد الحجاج الوفاء قدر الإمكان بالحاجات الإنسانية المختلفة، والإقرار بمبادرة الغير في البت والحل والعقد، وذلك بإشراكه في إنشاء أو تحصيل المطالب النظرية والعملية، مما يسبغ عليه الطابع الاستشاري [22].

إلا أن ما يجب التنبيه عليه في هذا الصدد أن ما ذكرناه من أوجه التباين والاختلاف بين الاستدلال البرهاني و الحجاجي، ينبغي أن لا يفهم منه أن بين الصنفين تناقضا أو تعاندا، بل هما طريقان استدلاليان متكاملان للإحاطة قدر الإمكان بالتجربة الإنسانية في كليتها وشموليتها.

(أصل هذه الدراسة مقال منشور بمجلة الغنية العدد المزدوج 8/7)

الهوامش:


[1] – مجرد مقالات الأشعري، ص 317 ، دار الشرق، بيروت، 1987.

[2] – الكاشف عن أصول الدلائل وفصول العلل، ص 19، ط 1، 1992، دار الجيل، بيروت.

[3]–  المنهاج في ترتيب الحجاج، الباجي، ص 11-12.

[4]–  ضوابط المعرفة  وأصول الاستدلال والمناظرة، عبد الرحمان حسن حبنكة الميداني، ص 149، ط3، 1988، دار العلم، دمشق.

[5] –  أصول الفقه الإسلامي، محمد مصطفى شلبي،، ص 50، ط 2، 1978، دار النهضة العربية، بيروت.

[6]–  منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل،  ابن الحاجب، ص 202-203.

[7] –  مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول، ص  734 ، ط1، 1998، المكتبة المكية، مكة المكرمة، مؤسسة الريان، بيروت.

انظر كذلك التعريفات للجرجاني، ص 17، ط 1، 1983، دار الكتب العلمية، بيروت.

[8] –  في أصول الحوار  وتجديد علم الكلام، طه عبد الرحمان، ص 28،  المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع، البيضاء، 1987.

[9]–   في أصول الحوار  وتجديد علم الكلام ، ص 28-29.

[10] –  إحياء علوم الدين، الغزالي، 1/44 ، مطبعة لجنة نشر الثقافة الإسلامية، 1356 هـ.

[11] –  لقد ارتأينا من الأفيد أن نسلك مسلك المقابلة في التعريف والتحديد، فنحدد مفهوم الحجاج بمقابله وهو البرهان. ومعلوم أن مسلك المقابلة ذو فائدة إجرائية عظيمة وأثر بليغ في الإحاطة بمعاني الألفاظ ومدلولاتها وضبط حدودها، بل إن المقابلة آلية استدلالية تستدعيها مقتضيات التبليغ والتواصل في اللسان الطبيعي ، كما تعتبر أسلوبا أبلغ وآكد في الوصول إلى الأغراض المتوخاة والمقاصد المطلوبة.

[12] –  التقابل بين البرهان والحجاج عرفه المتقدمون كما أخذ به المتأخرون ، غير أن هناك اختلافا جوهريا بين الموقفين بينه الدكتور طه عبد الرحمان بقوله:

“أ – أن للتصور القديم انشغالا بمضمون الدليل بينما للتصور الحديث انشغال بصورة الدليل، فاليقين والظن قيمتان تتعلقان بمحتويات قضاياه، في حين أن وجود القواعد المحددة لهما  وجهان  يتعلقان بصيغ هذه القضايا.

ب – أن البرهان والحجاج في التصور القديم يتفقان صورة ويختلفان مضمونا، إذ الدليل الحجاجي كالدليل البرهاني يتوسل بالأشكال القياسية المعلومة، بينما في التصور الحديث، على العكس من ذلك يتفقان مضمونا ويختلفان صورة، إذ لا فارق في مقدماتهما، إذ كلها عبارة عن قضايا تقريرية بنائية، فليست الضروريات والبديهيات أقل احتياجا إلى إرادة المستدل ولا إلى نظره من المسلمات والنظريات.

ج – أن التصور القديم يعد البرهان استدلالا صحيحا صحة مطلقة في حين يعده التصور الحديث صحيحا صحة مقيدة، فلا صحة إلا ضمن نسق مخصوص ولو أن جل المبرهنات المعلومة مشتركة بين مختلف الأنساق المشهورة، إذ يبقى دائما في الإمكان إيجاد قضية واحدة على الأقل تصح في هذا النسق ولا تصح في ذاك، وفي هذا كفاية لإقرار التعدد في الخاصية البرهانية د. – أن التصور القديم يعد الحجاج= استدلالياصحيحا صحة البرهان على مخالفته له في قيمة  المقدمات، أما التصور الحديث فيعده استدلالا فاسدا بخلاف البرهان على موافقته له في قيمة المقدمات”. اللسان والميزان،  ص 62، ط 1، 1998، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء.

[13] –  نقصد بالاعتبارات التداولية جملة العناصر المؤثرة في إنشاء الخطاب وفهمه كالسياق والقصد والظروف الملابسة للخطاب.

[14] –  اللغة والمنطق، د حسان الباهي، ص 49 وما يليها، ط 1، 2000 ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء.

[15] –  فقه الفلسفة، 1، الفلسفة والترجمة، د طه عبد الرحمان، ص 189، ط1، 1995، المركز الثقافي العربي، البيضاء.

[16]–   المنهجية الأصولية، حمو النقاري، ص 158.

[17] –  مسألة الدليل، طه عبد الرحمان، ص 98/99 ، مجلة المناظرة، عدد3.

[18] –  في أصول الحوار، طه عبد الرحمان، ص 57.

[19] –  الحجاج والمحاجة مصدران لفعل حاجج، جاء في اللسان:

“حاججته أحاجه حجاجا ومحاجة حتى حججته أي غلبته بالحجج التي أدليت بها (…) والمحجة الطريق، وقيل جادة الطريق، وقيل محجة الطريق سننه (…) والحجة البرهان، وقيل الحجة ما دوفع به الخصم، وقال الأزهري الحجة الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة، وهو رجل محجاج أي جدل. والتحاج: التخاصم، وجمع الحجة حجج وحجاج، وحاجه محاجة وحجاجا نازعه الحجة (…) واحتج بالشيء اتخذه حجة. قال الأزهري: إنما سميت حجة لأنها تحج أي تقصد، لأن القصد لها وإليها، وكذلك محجة الطريق هي المقصد والمسلك (…)، والحجة الدليل والبرهان”. لسان العرب، ج 2 / 779 . مادة حجج

[20] –  المنهجية الأصولية، ص 159 .

[21] –  نفس المرجع والصفحة.

[22]–   في أصول الحوار، ص 63.

الصفحة السابقة 1 2 3

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق