مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمفاهيم

مفهوم الاستدلال

الاستدلال بين البرهان والحجاج:

البرهان والحجاج بنيتان استدلاليتان متقابلتان[11] توصل التنظير الحديث في مجال المنطق و فسلفة اللغة وفقه العلم (Epistemologie) إلى التمييز بينهما[12].

ولقد كانت ثنائية اللغة الصناعية الصورية واللغة الطبيعية الإطار الإشكالي الذي انبثقت منه المناقشات ووجه البحوث في هذا الشأن: فقد ميز النظار المعاصرون بين اللغة الصورية واللغة الطبيعية، وفيصل التفرقة بينهما يكمن فيما يلي:

أ – أن اللغة الصورية أو الصناعية تنحو منحى الاستقلال والتجرد كلية عن الاعتبارات التداولية [13] كالذات والمقام، في حين تظل اللغة الطبيعية وثيقة الصلة باقتضاءات التداول وجارية على قانونه وسننه، فلا تنفك عن ذات المتكلم ومقام التكلم وزمان ومكان التلفظ.

ب – أن الأولى تعتمد على ما هو صريح وواضح لا احتمال فيه، بينما تنطوي الثانية على بنيات متعددة تجعلها تؤدي مجموعة من الوظائف التي تتفرد بها وتستلزم آليات معقدة على مستوى الفهم والتأويل.

ج – أن اللغة الصورية تعتمد على آلية استدلالية صناعية اصطلح عليها بالبرهان، بينما تستند اللغة الطبيعية إلى آلية استدلالية طبيعية غير صناعية اختصت باسم الحجاج[14].

مفهوم البرهان:

لقد استعمل لفظ البرهان للدلالة به على معاني ثلاثة أساسية تختلف باختلاف اليقين المحصل منه[15] :

أ – فقد يعني الاستدلال الذي تكون مقدماته يقينية، واليقين في هذا المستوى لا يكون إلا يقينا تحكميا لا يقينا معللا.

ب- وقد يراد به الاستدلال الذي يتبع قواعد ضرورية، واليقين هنا معلق لا مطلق.

ج- وقد يقصد به الاستدلال الذي يتبع قواعد موضوعة، فلا يتحصل في هذا الموطن إلا يقين اعتباري لا حقيقي.

والقول الجامع في تحقيق معنى البرهان أنه ترتب قول مجهول على قول أو أقوال معلومة على مقتضى صور هذه الأقوال وحدها، أو هو نص استدلالي حسابي إلزامي أحادي الدلالة ( تواطئي: Univoque ) يتأسس على قوانين منطقية صورية صحيحة، و”تكون الصورة المنطقية صحيحة، إذا كانت مسلمة في نسق منطقي أو كانت مبرهنة فيه، ويتم البرهان عليها بخطوات معدودة ومحسوبة بالاعتماد على مسلمة من مسلمات النسق أو على مبرهنة سبق إثباتها داخل النسق وعلى قاعدة (أو قواعد) النسق البرهانية” [16].

من خلال هذه التحديدات يتحصل لدينا أن الاستدلال البرهاني يتصف بالخصائص التالية [17]:

أ – التواطؤ: ومقتضاه أن الاستدلال البرهاني يتوسل بألفاظ تدل على معانيها بوجه واحد وخال من اللبس والاحتمال، كما يتوسل بقواعد ذات إفادة إجرائية واحدة.

ب – الصورية: ومقتضاها أن العناصر المكونة للبرهان هي عبارة عن صيغ وأشكال لا علاقة لها بالمضامين أو هي عبارة عن صور فارغة من الحمولات الدلالية.

ج – القطعية: بمعنى أن النتائج الحاصلة منه تبقى ملزمة للجميع ولا تستدعي التردد والاحتمال، لأن مبناها على التواطؤ والصورية القاطعي لأسباب الاختلاف والظن.

د – الحسابية: بمعنى أن “في الإمكان إقصاء المستدل الإنساني إقصاء كليا واستبدال آلة مجردة به تقوم بحساب المتوالية الاستدلالية البرهانية، أي من صفة البرهان إمكان التحويل إلى توابع رياضية صرفة” [18]، وهكذا يتضح أن البرهان بنية استدلالية مستقلة تقطع الصلة بالمجال التداولي وإن كانت منبثقة عنه.

أما شواهد الاستدلال البرهاني النصية فتتجلى بشكل متكامل وواضح في المنطق الصوري والخطاب الرياضي.

الصفحة السابقة 1 2 3الصفحة التالية

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق