مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمفاهيم

مفهوم الاستدلال

لاشك أن الخطاب الكلامي يعد من الأنماط المعرفية التي حازت النصيب الأوفر في مجال استثمار الصناعة المنطقية بامتياز…كما لا يخفى أن موضوع الدليل والاستدلال يشكل جوهر اشتغال علم المنطق وأس اشتغاله، ومن هذه الحيثية كان اختيار مصطلح الاستدلال تقريبا لمفهومه ونحن في هذا العدد بين يدي البحث العقدي وسؤال التقريب.

والمراد بالاستدلال لغة طلب الدليل قصد الوقوف على مطلب من المطالب حسيا كان أو معنويا.

أما في الاصطلاح فقد جرى رسم العلماء على إطلاق لفظ الاستدلال للدلالة به على معاني متقاربة إن لم تكن متطابقة، وهذه عباراتهم نسوقها قصد الاستئناس.

– فقد عرفه أبو الحسن الأشعري بقوله: “إن الاستدلال هو النظر والفكرة من المفكر والمتأمل، وهو الاستشهاد وطلب الشهادة على الغوائب” .[1]

– أما الرازي فحده بكونه “ذكر الدلالة بالقول وترتيبها بالفعل، فكأن ذاكر الدلالة والمتكلم فيها يتكلفها ويطلب التوصل إليها من أصول الشرع” .[2]

– ويرى الباجي في كتابه المنهاج أن لفظ الاستدلال إذا أطلق يراد به “تفكر الناظر في حال المنظور فيه طلبا للعلم بما هو ناظر فيه، أو لغلبة الظن إن كان مما طريقه غلبة الظن. والدليل ما صح أن يرشد إلى المطلوب وهو الحجة والبرهان والسلطان، والدلالة هو الدليل، والدال هو الناصب للدليل، والمستدل هو الطالب للدليل وقد يكون المحتج بالدليل، والمستدل عليه هو الحكم، وقد يكون المحتج عليه والمستدل له يقع على الحكم لأن الدليل يطلب له وقد يقع على السائل” .[3]

– ونجد تعريفا آخر عند الأستاذ عبد الرحمان حبنكة الميداني في كتابه ضوابط المعرفة جاء فيه: “الاستدلال هو استنتاج قضية مجهولة من قضية أو من عدة قضايا معلومة، أو هو التوصل إلى حكم تصديقي مجهول بملاحظة حكم تصديقي معلوم أو بملاحظة حكمين فأكثر من الأحكام التصديقية المعلومة” .[4]

وللأصوليين مفهوم للاستدلال أخص مما ذكر إذ يطلق عندهم على: ” طلب الدليل الشرعي للتوصل بالنظر الصحيح فيه إلى الحكم الشرعي”[5]. إلا أن الدليل المطلوب قد يكون عاما شاملا للأدلة النصية من الكتاب والسنة وغير الأدلة النصية كالإجماع والقياس، وقد يراد به دليلا مخصوصا وهو “ما ليس بنص ولا إجماع  ولا قياس علة وهو ثلاثة أقسام تلازم بين حكمين من غير تعيين علة واستصحاب وشرع من قبلنا” [6]. أما التلمساني فإن الاستدلال عنده لا يكون إلا بطريق التلازم أو التنافي بين الحكمين “فإن كان بطريق التلازم فهو ثلاثة أقسام: استدلال بالمعلول على العلة واستدلال بالعلة على المعلول، واستدلال بأحد المعلولين على الآخر وإن كان بطريق التنافي فهو ثلاثة أقسام أيضا: تناف بين حكمين  وجودا وعدما، وتناف بينهما وجودا فقط، وتناف بينهما عدما فقط، فجميع أقسام الاستدلال ستة” [7].

والحاصل من هذه التعاريف أن الاستدلال هو كل نص اقترنت عناصره بعلاقات استدلالية، “وحد العلاقة الاستدلالية أنها بنية تربط بين الصور المنطقية لعدد معين من جمل النص” [8].

ويتنوع النص الاستدلالي من حيث ترتيب صوره إلى قسمين: القسم التدرجي الذي تكون فيه النتيجة مسبوقة بالمقدمات، والقسم التقهقري وهو ما كان بخلاف الأول.

أما من حيث الذكر والحذف فهناك القسم الإظهاري الذي تذكر فيه جميع الصور المنطقية المشكلة له، وهناك القسم الإضماري وهو ما طويت وأضمرت فيه بعض هذه الصور.

ومن حيث القيمة المنطقية نجد الصنف البرهاني وهو ما كانت علاقاته الاستدلالية قابلة للحساب الآلي، ونجد أخيرا الصنف الحجاجي  الذي تأبى العلاقات فيه الخضوع للحساب الصوري المجرد [9].

من خلال هذه المعطيات والتحديدات مجتمعة يتضح أن جوهر الاستدلال عمل انتقالي استنتاجي انبنائي، حيث يتخذ من القضايا المعلومة منطلقا بغية تحصيل قضايا أخرى كانت مجهولة قبل الطلب، بل قد تكون معلومة لدى المستدل فيريد إثباتها استدلالا. ومعلوم القضايا أو الشواهد يطلق عليه في الاصطلاح المنطقي مقدمة، ومجهول  القضايا أو الغوائب يسمى بالتالي أو النتيجة. وعليه يلزم في كل نظر واستدلال وجود معلوم (الشاهد) ومجهول (الغائب)، والناظر المستدل “إنما يطلب باستدلاله علم ما لم يعلم بأن يرده إلى ما علم وينتزع حكمه منه” [10].

وبناء على ما ذكر يتبين أن قوام الفعل الاستدلالي أمور ثلاثة أساسية هي:

أ – طرفا العملية الاستدلالية وهما المقدمة كمعلوم وشاهد ثم النتيجة كمجهول وغائب.

ب – النقلة الذهنية المقومة للعملية الاستدلالية، حيث تكون المقدمات مصدر هذه النقلة وتكون النتيجة مقصدها.

ج – اقتران المقدمات بالنتيجة وترتب هذه الأخيرة على الأولى بموجب علاقة استدلالية موجهة تتخذ صورة لزومية، بمعنى أن النتيجة تلزم عن المقدمات أو أن المدلول لازم عن الدال.

1 2 3الصفحة التالية

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق