مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

مفاهيم في التماسك ووحدة بناء النص» من خلال كتاب « قراءة في الأدب القديم» محمد محمد أبو موسى دراسة إحصائية معجمية (الحلقة السابعة)

(د)

دلل

 [دلالة]

سياق المصطلح:

– « وهذه التَّراكيبُ أيضا لها نغمٌ دالٌّ وهي ليست أنغامًا ساكنةً في الألفاظِ والتَّراكيبِ فحسب، وإنّما هي نَغمٌ يَجري في أوْصالِ المَعاني كما يَجري في أوْصالِ اللُّغةِ»[1]

– « ومن المهم جدًّا أن تَلتفتَ في هذا النَّص إلى قوله «وعزل المخبوءِ في أنغامِها عن ألفاظِها ومعانيها» لأنّ الذي يتميّزُ به طريقُ الأستاذِ في تحليلِ الشِّعرِ ولا يوجدُ في غيره هو استخراجُ مَعانٍ منَ النَّغمِ بمعنى أنَّ النّغمَ له دلالَةٌ كدلالاتِ الكلماتِ بِمُتونها ودلالَةِ الكلماتِ بأحْوالها منْ تَعريفٍ وتَنكيرٍ وتَقديمٍ وتَأخيرٍ…» [2]

– «…ويقولُ إن اقْتِحامَهُ لقُلوبِ الكَلماتِ لا يكونُ فقط بَحثًا عنْ دلالاتِها المُناسِبةِ لمقامِها في بيتِ الشِّعرِ وإنَّما يكونُ أيضًا بحثًا عن أَنغامِها، الّتي تَحْملُ مع الكَلماتِ دلالاتٍ ولكنَّها أَخْفى وأغْمَضُ وأنَّ هذه الأنغامَ التي في الأَلفاظِ هي ذاتُها الأنْغامُ التي في المَعاني… » [3]

-« …واحْفظْ هذا فإنَّه منَ الكلامِ النَّفيسِ جدًّا واعْلمْ أنَّ رَنينَ اللَّفظِ جِيءَ به للدَّلَالَةِ على رَنينِ المعْنى، فالنَّغمُ في المعنى هو الأَصلُ والشَّاعرُ المُتمكِّنُ منْ لُغتِهِ وفَنِّهِ هو الّذي يَخْتارُ الكلمةَ لِتَدُلَّ بمَعناها على ما في النَّفسِ من مَعنىً ولِتَدُلَّ بِرَنينها ونَغَمِها على ما في النَّفسِ من رَنينٍ ونَغمٍ»[4]

-« …كلُّ هذا مِنْ أَدقِّ ما يُدْرَكُ في دَلَالَةِ النَّصِّ وفيه منَ الدِّقَّةِ، واللُّطفِ، والخَفَاءِ، ما يَروقُ ويَروعُ، ويُدْهشُ وكلّ هذا وأَكثر منهُ، وأوسع وأضْبط عند الفُقهاءِ»[5]

-« …وقَولُهُ «فَما تَدومُ» هذه الفاءُ آذَنتْ بأنَّ ما بعدها مُترتِّبٌ على ما قَبْلها، وأنَّ تَغيُّرَها إنَّما هو لأنَّها قد سِيطَ منْ دَمها خُلْفٌ، ووَلعٌ وقَولُهُ: « ومَا تَمَسّك بالعَهْدِ» معْطوفٌ على تَدومُ، داخِلٌ في حَيِّزِ الفاءِ الدَّالَّةِ على التَّرتيبِ…»[6]

-« وكلُّ هذا يُؤكِّدُ أنَّ الدّلالَةَ الحَرفيةَ للشِّعرِ، لَيْستِ ضَرْبَةَ لَازبٍ، وإنَّما هو وَحيٌ تَكْفي إِشارتُهُ، وليسَ بالهَذرِ طُوِّلتْ خُطَبُهُ، ورَحمَ الله أبَا عبادةَ فقد كان يعْرفُ طَبعَ الشِّعرِ»[7]

– « …وذلك مُبالغةٌ في تَأكيدِ مَضمونِه، أَعني هُنا المَعنى الجَديدَ الذي هُو القُوَّة المَدْلولُ عليها بقَولهِ: «عُذَافِرَةٌ» وأنَّ التَّبليغَ الّذي هُو جِذْرُ المَعنى لا بُدّ لهُ منْ أَمرينِ، العِتْقُ والصَّلابةُ…»[8]

-« تَأمَّل القُدْرةَ الّتي تُحرِّكُ الشِّعرَ في هذا الأُفقِ البَعيدِ عن مَعناهُ، والّتي تَكونُ فيهِ الصُّوَرُ، والأَحداثُ، والشَّواغِلُ، وكلُّ مُكوِّناتِ الشِّعرِ في مَسافاتٍ تَتَحاذَى فيها مع الأَغراضِ منْ بَعيدٍ ولا تَتقاربُ وليس بينها أي الدَّلَالَةُ اللَّفْظيةُ والمَقصودُ بالشِّعرِ إلَّا اللَّمحُ، والتَّلويحُ، والإِيماضُ، الّذي هو كإيماضِ البرقِ، ويقولُ ابنُ رشيقٍ إِنّهُ لا يَأتي  بالكَلامِ على هذا الوَجهِ إلَّا الحَاذِقُ الماهرُ والشَّاعرُ المُلهمُ»[9]

-« وهذا التَّحوُّلُ في الرِّحلةِ الّتي هي حَدثٌ شِعريٌّ من أحداثِ القَصيدةِ يَتطلَّبُ منَّا أن نُفسِّرَ كثيرًا من أَحداثِها تَفسيرًا يَخرجُ من ضِيقِ الدلالَةِ النَّصِّيَّةِ إلى رَحابةِ المِثالِ والدَّلَالَةِ الإشاريةِ التي وَصفها ابْنُ رَشيقٍ بأنّها لَمحةٌ دالّةٌ واخْتِصارٌ وتَلويحٌ يُعْرفُ مُجْمَلًا، ومعناهُ بَعيدٌ من ظاهرِ لفظهِ»[10]

– « … وقدْ نبَّهتُ إلى مِثلِ هذا، في كتابِ دَلَالَاتِ التَّراكيبِ، وقُلتُ إنَّ لكلِّ شَاعرٍ خُصُوصياتٍ في بِنائهِ البَلاغيِّ وأنَّ الواجبَ هو أنْ تُنْقَلَ المَباحِثُ البَلاغِيةُ من مُتونها إلى رَحابةِ الشِّعرِ»[11]

-« …وهذا التَشَابهُ والتَّآخي في الصِّيغِ لا يَخلُو منْ دَلَالَةٍ، ولاحِظ أنَّ الاعتراضَ هنا هو تَوكيدٌ للضَّميرِ المُتَّصلِ يعني لَم يَأتِ بمعنىً جَديدٍ»[12]

-« وبعدما انْتهَيتُ من تَحليلِ القَصيدةِ أُكرِّرُ التَّنبيهَ إلى أَمرٍ مُهمٍّ، هو أنَّنا إذا لَاحَ لنا شَيءٌ وراءَ دلالاتِ الشِّعرِ، وظِلالهِ، فلا يَجوزُ إغفالُ ما ترى لأنَّ ذلكَ شَطرَ دلالَةِ الشِّعرِ…»[13]

– والاجْتهادُ في الوُصولِ إلى أقَاصي ما تَترامَى إليهِ أَضواءُ الدّلَالَةِ، أَمرٌ أَوْجبَهُ الدَّرسُ البَلاغيُّ، لأنَّ البَلاغةَ عند الشَّيخِ مُلخَّصةٌ في حُسنِ الدّلالَةِ، وتَمامِها، فيما لهُ كانتْ دلالَةً، والدّلالَةُ تعني طَريقةَ الإبانةِ، وهي غَيرُ المَدْلُولِ، وغيرُ الدَّالِّ، وإنَّما هي الإِبانةُ عنِ المعنى بالتَّصْريحِ بَدلَ التَّلويحِ، أو العَكسِ، أو الحَقيقةِ، أو المَجازِ، أو الإيجازِ، إلى آخرِه، أمّا تَمامُها وهو الذي نَقْصِدهُ هُنا فهو أن تَنْغَلَّ أيُّها الدَّارسُ مع المعنى في الشِّعرِ، حيثُ يَنغلُّ، وتَتَغْلَغَلَ معهُ حيثُ يَتغَلْغلُ وتَصعدَ معهُ في سُلَّمهِ الصَّعبِ»[14]

– « ولا مَعنى لِصُعوبةِ المَصعدِ إلّا أنْ تَحرِصَ على الوصولِ إلى خَوافي الدّلالاتِ، والإشاراتِ، وأنْ تَكونَ قَادرًا على أن تَعرُجَ إلى الأُفقِ الذي تَتَرامى فيهِ، وفَهمِ المَعاني الطّافيَةِ على سَطحِ الكَلامِ… ولا شَكَّ أيضًا أنَّ العناصِرَ المُكوِّنةَ للوجهِ الثَّاني للصُّورةِ تَصيرُ هي الأُخْرى ذاتَ دلالَةٍ، وليست فقط أنَّ صَاحبةً تَعبثُ بعقلِ مُحبٍّ »[15]

-« ولا ننسى أنَّ كلَّ مَناهجِ النَّقدِ الأدبيِّ، ومَذاهبهِ في كُلِّ أقطارِ الأرضِ، وفي كلِّ الأزْمنةِ، ليس لها غَايةٌ إلَّا اسْتكشاف جَوهرِ النَّصِّ، وما يَنطوِي عليهِ من دلالاتٍ …»[16]

-« وقد كَرَّر هذا كما كَررَ ذِكرَ عَرفةَ، وتَكرارُ ذِكرِ عَرفةَ في القَصيدةِ لهُ دلَالَاتٍ كَثيرةٍ…»[17]

– « …ودلالاتُ الكَلامِ تَتَّسعُ حتَّى تَنْساحَ، وتَنْداحَ، وليس للشِّعرِ صَوتٌ واحِدٌ، ومِثلُهُ الكلامُ المُبينُ الزَّاخرُ بزَخَمِ النُّفوسِ وأَهْوائِها»[18]

– «… وأعْتقِدُ أنَّ هذا البابَ يَنطوي على فِقهٍ جَيِّدٍ لِطبيعةِ الدّلالَةِ في الشِّعرِ، وحُدودِ تَفْسيرِها، وتَأْويلِها…»[19]

-« …وهذا من أَهمِّ دلالاتِ هذا البيتِ، لأنَّ جَوهرَ الصُّورةِ هو بَيان أنَّ الفَرزْدقَ يَنالُ ما لمْ يَنَلْهُ غَيرهُ…»[20]

– «ثُمّ راجِعْ معنى « قَاتَلتْ عن ظُهورِها» لأنَّ منْ شَرطِ فَهمِ الشِّعرِ والأدبِ والكَلامِ كُلّه أن تَنْفُذَ في اللُّغةِ إلى أَوْسعِ مَدْلولاتِها…»[21]

– « وقال «وهْيَ زُفَّفُ» ولكنَّهُ أَدخلَ فيها صَنْعةً أُخرَى، فبَناها على الاسْميةِ الدّالَّةِ على الثُّبوتِ والدَّوامِ، فأفادَ قُوّةَ إحْساسِها بالبَردِ…»[22]

-«والذي أُريدهُ من وراءِ هذا هُو أنْ أُبَيِّنَ ما أراهُ في هذه الأبياتِ الثَّلاثةِ الّتي تَصفُ غَريضَ السَّاريةِ مِنْ تَزاحُمِ الصُّورةِ الدَّالَّةِ على بِداياتِ الحَياةِ والطَّهارةِ والصَّفاءِ…»[23]

-«أُريدُك أن تَتأمَّلَ قيمةَ هذا في سِياقِ ذكرِ الصّاحبةِ، وأوْصافِ مَحاسِنها، من جِيدٍ رَشيقٍ، وضِيءٍ، وضَّاحٍ، ومُقْلةٍ حَوْراءَ، وطَرْفٍ فَاترٍ نَاعمٍ، وكيف يُوجِّهُ الشَّاعرُ هذا السُّؤالَ إلى تِلكَ الصّاحبةِ التي اسْتَبتْهُ بمحاسِنها، وكيف يَدُلُّ ذلكَ على طَهارةِ القلبِ، والتَّسامِي بالصَّاحبةِ تَسامِيًا فوقَ كلِّ شُبهةٍ رَخيصةٍ، والتَّنكير في قولهِ “بِغَدْرَةٍ” وبِناءُ الفعلِ للمَرَّةِ لهُ دلالَةٌ عَميقةٌ في هذا السِّياقِ…»[24]

التعريف اللغوي:

جاء في الصحاح:[دلل]: الدليلُ: ما يُسْتَدَلُّ به. والدليلُ: الدالُّ. وقد دَلَّهُ على الطريق يَدُلُّهُ دَلالَةً ودِلالَةً ودُلولَةً، والفتح أعلى. وأنشد أبو عبيد:

إنِّي امرؤٌ بالطُرْقِ ذو دَلالاتْ

ودَلَّه عَلَى الشَّيْءِ يَدُلُّه دَلًّا ودَلالةً فانْدَلَّ: سدَّده إِليه، ودَلَلْته فانْدَلَّ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

مَا لَكَ، يَا أَحمقُ، لَا تَنْدَلُّ؟ /// وَكَيْفَ يَنْدَلُّ امْرُؤٌ عِثْوَلُّ؟

 قالَ أبو مَنْصورٍ: سَمِعْتُ أعرابيّاً يَقولُ لِآخَرَ أما تَنْدَلُّ على الطَّريقِ؟ والدَّليلُ: مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ. والدَّلِيل: الدَّالُّ. وَالجَمْعُ أَدِلَّة وأَدِلَّاء، والاسْمُ الدِّلالة والدَّلالة، بِالكَسْرِ والفَتْحِ، والدُّلولة والدِّلِّيلى. قالَ سيبَوَيْهِ: والدِّلِّيلى عِلْمُه بِالدّلالَةِ ورُسوخُه فيها. وفي حَديثِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، في صِفَةِ الصَّحابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: وَيَخْرُجُونَ مِنْ عِنْدِهِ أَدِلَّة؛ هو جَمْعُ دَلِيل أَي بِمَا قَدْ عَلِموا فيَدُلّونَ عَلَيْهِ النّاسَ، يَعْني يَخْرُجونَ مِنْ عِنْدِهِ فُقَهاءَ فَجَعَلَهُمْ أَنفسهم أَدلَّة مُبالَغَةً. ودَلَلْت بهذا الطَّريقِ: عَرَّفْتُهُ، ودَلَلْتُ بِهِ أَدُلُّ دَلالة، وأَدْلَلت بِالطَّرِيقِ إدْلالًا. والدَّلِيلَة: المَحَجَّة الْبَيْضَاءُ، وَهِيَ الدَّلَّى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: «ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا». [25]

التعريف الاصطلاحي:

– دَلالاتُ الكلماتِ: العَلاماتُ المُبينةُ المُرشِدةُ إلى ما تتَّصلُ به وتُشير إليه من المَعاني، والدلالَةُ مصدرٌ يدل على علاقة الدالِّ بالمدْلول، علاقةٍ مُتواشِجةِ تترابطُ فيها عناصرُ ظاهرِ النصِّ بمضمونِه الدّلاليّ، وتهتمُّ علومُ بدراسةِ العلاقةِ بين العَلاماتِ والأشْياء، بما يضمنُ تماسُكَ عناصرِ النّصِّ.

///

دقق

 [دقة/دقيق/أدق]

سياق المصطلح:

-«وأوَّلُ شَيءٍ أُريدهُ هو مَعرِفةُ بِناءِ القَصيدةِ، أعْني مَعرِفةَ فَقَراتِها أو فُصولِها أو مَوْضوعاتِها، ووَجه تَرتيبِ هذهِ الفُصولِ، وكيفَ أوَّلها مِهادًا لِثانِيها؟ وكيفَ تَتابعتْ في اتِّساقٍ وبِناءٍ مُحكمٍ؟ ثمَّ مَعرفة المَعاني الجُزئيةِ الدَّاخلةِ في تَكوينِ كلِّ فصلٍ، لأنَّ معرفَةَ وجُوهِ التَّرتيبِ معرفةً دَقيقةً تُوجِبُ مَعرِفةَ هذه الجُزئياتِ مَعرفةً أَدَقَّ»[26]

« …وإنَّما تَكشِفُ عن هَيأةِ القَصيدةِ حين يَنضمُّ إليها المُراجَعةُ الدَّقِيقَةُ للْجُزئياتِ الّتي تَكوَّنتْ منها هذهِ الفُصول، لأنَّ هذهِ الجُزْئياتِ بظِلالِها ودَقِيقِهَا وجَلِيلِها هي الّتي تُعينُ على فِقهِ هذه الفُصولِ الّتي تَقومُ بها هَيْأةُ القَصيدةِ»[27]

-«…لا تَجدُ بابًا من أبوابِ العِلمِ في تُراثِ المُسلمينَ أوْ سعَ منهُ انتِشارًا، فقدْ دَاخَلَ كُلَّ فُروعِ المَعرِفةِ، وفي أيِّ بابٍ نَظرْتَ وجَدْتَ تَحْليلَ النَّصِّ يَلْقاكَ بِوجْهٍ يَعْرُبِيٍّ طَلْق، فالنَّحوُ تَحليلُ نَصٍّ، لأنَّ النَّظرَ في عَلاقاتِ الكَلماتِ، ورَوابِطِها، ومَعْرفةِ مَواقِعِها من الإِعْرابِ نَظرٌ في بِنيةِ النّصِّ، وتَحليل هذهِ البِنْيةِ، وقَول النُّحاةِ هذا حالٌ، وهذَا تَمييزٌ وهذا مُبتدأٌ، وهذا خَبرٌ، وهذه واوُ الحالِ، وتِلكَ عاطِفةٌ، أو مُسْتأْنَفةٌ، إلى آخِرِ تَدْقِيقٍ بَالِغٍ في تَفسيرِ النَّصِّ، وكَلامُهمْ في الفَرقِ بينَ الحالِ، والتَّمييزِ والصِّفةِ والفَرقِ بين الواواتِ، والفاءاتِ، والماءاتِ، كلّ هذا منْ أَدَقِّ ما يُدرَكُ في دَلالةِ النّصِّ وفيهِ منَ الدِّقَّةِ واللُّطْفِ والخَفاءِ ما يَروقُ ويَروعُ، ويُدهِشُ، وكلّ هذا وأكْثرُ منهُ وأوْسعُ وأضْبطُ عند الفُقهاءِ الذينَ يَسْتنْبِطونَ مُرادَ الحَقِّ من كلامِ الحقّ سُبحانهُ، ومَنْهجُهمْ في التَّفسيرِ والتَّحليلِ والتَّحديدِ والاسْتنْباطِ بَلغَ الغايةَ في الحَذرِ والدِّقّةّ والمُرونة، ولَهمْ ضَوابِطُ مُحْكمةٌ تَصلُحُ أنْ تَكونَ أساسًا في علمِ تَحليلِ النّصِّ» [28]

-« وهذا المَنْهجُ التَّحْليليُّ المُهتدي بأحْوالِ اللِّسانِ وطَرائقِ الأداءِ قد فَتحَ لنا نَافذةً خَفيَّةً اسْتطعْنا بقَدرِ ما لدينا من وَسائلَ أن نُدركَ منها طَابعًا عامًّا ودَقِيقًا يُحدِّدُ لنا باعِثَ القَولِ في القصيدةِ ومُثيرَ المُعاناةِ فيها، فأَدْركْنا أنَّ قَصيدةَ الحَادِرةِ «بَكَرَتْ سُمَيَّةُ» لَيستْ في الفَخرِ بِنفسهِ ولا بِقوْمهِ كما تَصِفها دِراساتٌ كَثيرةٌ، وإنَّما هي في النَّسيبِ والصَّبْوةِ، وقد اسْتطعْنا أنْ نُدرِكَ الرَّابطَ الدَّقِيقَ بيْن أَجزائِها الّتي تَتحدَّثُ عنْ رهْطهِ وبَلائِهِمْ أو  الَّتي تَتحدَّثُ عن رَحَلاتهِ، وأوْصافِ نُوقهِ، أو الّتي تَتَحدَّثُ عنْ سَخائِهِ، والْتِفافِ الرِّفاقِ حَولَهُ، اسْتَطعْنا أنْ نُدْركَ الرَّوابِطَ بين كلِّ هذهِ الأَجزاءِ وبيْن مَغْزى القَصيدةِ أو الأَصْلِ الّذي يُمْكِنُ أنْ نُسمِّيَهُ بيتَ القَصيدِ فيها…»[29]

-« …وهَكذا نرَى دَقَائِقَ الصَّنْعةِ البَلاغيةِ، ويَسْتَمرُّ الشَّاعرُ حتَّى يَصلَ بكَ إلى نَبْعهِ وأنَّهُ يَمدُّهُ سَحابٌ مِنْ بَعْدهِ سَحَابٌ (بِيضٌ يَعَاليل)»[30]

-« ثُمّ إنَّهُ لمَّا شَبَّهَ الخلَّةَ بالغُولِ وأَلْحقَها بها رجعَ وجَعلَ للغُولِ ثَوبًا، فَألْحقَ الغُولَ بالمَرْأةِ، يعْني أَلْحقَ المُشَبَّهَ بالمُشَبّهِ به، ثمّ رجع وألْحَق المُشَبّه به بالمُشبّه، وهذا منْ دَقيقِ الصَّنْعةِ، وكأنَّهُ يُقرِّبُ كُلًّا منَ الآخَرِ فَتزْدادُ المُشابهةُ، والمُقاربَةُ، والمُدَاخَلةُ»[31]

– « وهذا يعْني أنَّ هذا البَيتَ وَصف كرمَ أَصْلِها، ثُمَّ وَصف أيضًا جَلادَتَهَا وقُوَّتَها، وصَلَابَتها، وكأنَّهُ جَامِعٌ لمعنى البَيتيْنِ قَبلَهُ وهذا مَوْضِعٌ منْ مَواضعِ دِقَّةِ الصَّنْعَةِ ولُطفِها وخَفَائِها…»[32]

-« هذا البيتُ علّمني كيف أَفْهمُ الشِّعرَ، وكيْف أُدَقِّقُ في فَهمِ تَراكيبهِ، حتَّى أتَعرَّفَ على جِهاتِ مَعانيهِ، التي وإنْ بَعُدَتْ، فإنَّها لمْ تَنْقَطِع عن إشاراتِ التَّراكيبِ، ولا بُد أن تكونَ أضْواءُ التَّراكيبِ قَادرةً على أنْ تَسْقطَ هُناكَ…»[33]

-« …ثُمّ هي مُتناسِبةٌ مع سِياقِ الصُّورةِ المَليئةِ بخَراذِيلِ اللَّحمِ، وكأنَّ هذه الصُّوَرَ منَ الخَراذيلِ، والمَعْفورِ، ومُطرحِ البزِّ، والخُلقانِ، والمَأكولِ، كلّ ذلكَ خارجٌ منْ لَفظةِ ضَيْغم، وهذا منْ أَدَقِّ مُناسَباتِ الألْفاظِ لِسِياقها، وقالُوا لكلِّ كَلمةٍ مع صاحِبَتِها مَقامٌ، وهذا مَقامُ كلِمةِ ضَيغَم… »[34]

-« والتَّجْريدُ فَنٌّ دَقِيقٌ جدًّا لأنَّهُ يعْني أنَّ الصِّفةَ الّتي يتكلَّمُ عنها مَوْفورةٌ في المَوْصوفِ…»[35]

-« وأَهمُّ منْ هذا أنّ الفَرَزْدقَ وعَى ما فيها منْ تَفَوُّقٍ، ودِقَّةٍ، وحِذقٍ وبَصيرةٍ، بِمُجرَّدِ سَماعِها… »[36]

– « وعِلمُ الأَنسابِ من العُلومِ الّتي لا يَجوزُ لِشاعرٍ أنْ يَتساهَلَ فيهِ، وهو في الشِّعرِ بَالِغُ الدِّقَّةِ والوَعيِ والتَّشابُكِ»[37]

– « وتَأمَّل صِياغةَ قَولهِ « ما بَيْنَ يَبْرِينَ عَرْضه» وأنَّهُ لمْ يَقلْ ذَرعنَ بنا عَرْضَ يَبرينَ، لأنَّ في قوله« ما بَيْنَ يَبْرِينَ عَرْضه» وأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَرعْنَ بنا عَرْضَ يَبْرين، لأنَّ في قَولهِ «ما بَيْنَ يَبْرِينَ عَرْضَهُ» تَدْقِيقٌ، وتَأْكيدٌ، وتَكْرارٌ لذِكرِ المَكانِ…»[38]

– «…والكِنايةُ بتَوقُّدِ نارِ الشّعرَى كالكِنايةِ بغَبرةِ آفاقِ السَّماءِ، ورَدِّ عَجُزِ الكِناياتِ إلى صَدْرِها، وتَفنُّنٍ فيما بَينَ ذلكَ على حدِّ ما رأَينا، وهذا مِنْ دَقِيقِ صَنعةِ الشُّعراءِ»[39]

-«وقدْ رأيْنا الحَادِرةَ يُدَقِّقُ في الأَوْصافِ ويَتَعمَّقُها ويَصلُ في كلِّ حالٍ إلى أَخصِّها وأَدَقِّهَا، وهذا دالٌّ على فَرْطِ الشَّفافيةِ والدِّقَّةِ البَالغةِ في الحسِّ والشُّعورِ، وفَنُّ هذا الشّاعرِ فَنٌّ رَفيعٌ، ولعلَّنا نَستطيعُ بهذهِ المُتابَعة أنْ نُدرِكَ شَيئًا من خَصائصهِ المُتفرِّدةِ في صِياغتهِ السَّاحرةِ تَكونُ هذه الخَصائصُ لنا عَوْنًا على لَمحِ روحِ فنِّهِ وعَمودِ شِعرهِ، فنُدرِكُ مَذاقَهُ الخاصَّ به، وطَعم َشِعْرهِ الذي يُميِّزهُ عن سِواهُ، وهذا دركٌ طَيّبٌ حين يَصلُ إليه دارسُ الشِّعرِ والأدبِ»[40]

-«…وإنَّما العَطاءُ في التَّكامُلِ ووَحْدةِ الأجْزاءِ وصَيْرورتِها في كلٍّ هُو هذا البِناءُ، فاللَّبِناتُ المُنْفرِدةُ والمُتَغيِّرةُ لا تكونُ بِناءً وإنَّما يَكونُ البِناءُ في تَركيبِها ووضْعِها على هَيْأةٍ دَقِيقَةٍ وكَامِلةٍ…»[41]

التعريف اللغوي:

جاء في معجم اللغة العربية المعاصرة: دقَّقَ يُدقِّق، تدقيقًا، فهو مُدَقِّق، والمفعول مُدَقَّق. وجاء في لسان العرب دقَّق الشَّيءَ: بالغ في دَقِّه وسَحْقه، صيّره دقيقًا، أنعم دقّه، استعمل الدِّقَّة، أنعم النظرَ فيه، وشَيْءٌ دَقيق: غامِضٌ. والدَّقيقُ: الَّذِي لَا غِلظَ لَهُ خِلَافُ الْغَلِيظِ، وكَذَلِكَ الدُّقاقُ بِالضَّمِّ. والدِّق، بِالكَسْرِ، مِثْلُهُ، ومِنْهُ حُمّى الدِّقّ. قالَ ابْنُ بَرِّيّ: الفَرْقُ بَيْنَ الدَّقيق والرّقيق أن الدقيقَ خِلافُ الغَليظِ، والرَّقِيق خِلافُ الثَّخين،ولهذا يُقالُ حَساء رَقيق وحَساء ثَخينٌ، ولا يُقالُ فيهِ حَساءٌ دَقِيقٌ. ويُقالُ: سَيْفٌ دَقيقُ المَضْرِب، ورُمْح دَقيق، وغُصن دَقيقٌ كما تَقولُ رُمح غَليظٌ وغُصْنٌ غَلِيظٌ، وَكَذَلِكَ حَبْلٌ دَقِيقٌ وَحَبْلٌ غَلِيظٌ، وَقَدْ يُوقَع الدَّقِيقُ مِنْ صِفَةِ الأَمر الحَقِيرِ الصَّغِيرِ فَيَكُونُ ضِدَّهُ الجَلِيلُ؛ قالَ الشّاعِرُ:

فإنَّ الدَّقِيقَ يهِيجُ الجَلِيلَ، /// وإنَّ الغَرِيب إِذَا شَاءَ ذَلْ

ودقَّقْت الشيءَ وأَدْقَقْته: جَعَلْتهُ دَقيقاً. وَقَدْ دَقَّ يَدِقُّ دِقَّةً: صَارَ دَقِيقًا[42]

التعريف الاصطلاحي:

– التَّدْقيقُ: التَثبُّت والإحكامُ في مُعالجةِ الأمور، والتدقيقُ في بناء النصّ العنايةُ بصياغته ليكونَ مُتماسكاً متسقاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] قراءة في الأدب القديم، المقدمة:ج

[2] نفسه، المقدمة:ل

[3] نفسه: المقدمة:ن

[4] نفسه: المقدمة:س

[5] نفسه، ص: 12

[6] نفسه، ص: 30

[7] نفسه، ص: 34

[8] نفسه: ص:44

[9] نفسه، ص: 54

[10] نفسه، ص: 54

[11] نفسه، ص: 56

[12] نفسه، ص: 59

[13] نفسه، ص: 89

[14] نفسه، ص: 89-90

[15] نفسه، ص: 90

[16] نفسه، ص: 101

[17] نفسه، ص: 116

[18] نفسه، ص: 126

[19] نفسه، ص: 128

[20] نفسه، ص: 133

[21] نفسه، ص: 170

[22] نفسه، ص: 181

[23] نفسه، ص: 203

[24] نفسه، ص: 206

[25] الصحاح، 4/1698، لسان العرب، 11/248-249

[26] قراءة في الأدب القديم، المقدمة: أ/أ

[27] نفسه، المقدمة: ج/ج

[28] نفسه، ص: 12

[29] نفسه، ص: 26

[30] نفسه، ص: 32

[31] نفسه، ص: 36

[32] نفسه، ص: 45

[33] نفسه، ص:58

[34] نفسه، ص: 76

[35] نفسه، ص: 86

[36] نفسه، ص: 100

[37] نفسه، ص: 112

[38] نفسه، ص: 176

[39] نفسه، ص: 186

[40] نفسه، ص: 219

[41] نفسه، ص: 236

[42] معجم اللغة العربية المعاصرة، 1/757، لسان العرب، 10/101-102

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق