مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

مفاهيم التماسك والانسجام من خلال كتاب «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» لبرهان الدين البقاعي حذف الفعل في سورة البقرة «نماذج مختارة» «الحلقة 8»

من الأدوات المهمة التي تسهم مع غيرها في تحقيق تماسك النص القرآني واتساقه؛ الحذف الذي يقوم بدور أساسي في ربط الجملة الواحدة من ناحية، وربط عدة جمل بعضها ببعض من ناحية أخرى يقول عبد القاهر الجرجاني: «هو بابٌ دقيقُ المَسْلك، لطيفُ المأخذ، عجيبُ الأَمر، شبيهٌ بالسِّحْر، فإنكَ ترى به تَرْكَ الذِكْر، أَفْصَحَ من الذكْرِ، والصمتَ عن الإفادةِ، أَزْيَدَ للإِفادة، وتَجدُكَ أَنْطَقَ ما تكونُ إِذا لم تَنْطِقْ، وأَتمَّ ما تكونُ بياناً إذا لم تبن»[1] ذلك أن السيوطي أطلق عليها مصطلح «الاحتباك» يقول في هذا المنحى «ومأخذ هذه التسمية من الحبك الذي مَعناه الشد والإحكام وتحسِين أثر الصنعة فِي الثوب، فحبك الثوب سد ما بين خيوطه من الفُرج وشده وإحكامه بحيث يمنع عنه الخلل مع الحسن والرونق وبيان أخذه منه، من أن مواضع الحذف من الكلام شبهت بالفرج بين الخيوط، فلما أدركها الناقد البصير بصوغه الماهر فِي نظمه وحوكه فوضع المحذوف مواضعه كان حابكا له مانعا من خلل يطرقه فسد بتقديره ما يحصل به الخلل مع ما أكسبه من الحسن والرونق».[2]

  وأول أقسام الحذف التي سنسعى في هذا المقال إلى دراستها هو حذف الفعل، ومهما يكن من أمر فلا يمكننا احتواء هذا النظام وأسراره، ذلك أنه نظام مفتوح غير منته، لكن دراسته تقربنا إلى فهم أسرار النص القرآني وتفتح أمامنا علوما لغوية جمة، فسورة  البقرة مترامية الأطراف، وأساليبها ذات أفنان، قد جمعت من وشائج أغراض السور ما كان مصداقا لتلقيبها «فسطاط القرآن» [3] وهنا  سنقف على دراسة  بعض النماذج المختارة من آيات سورة البقرة التي ساهمت في تحقيق التماسك النصي بشكل بيِّن.

 

حذف الفعل:

جاءت الآيات التي تضمنت مواضع حذف الفعل في افتتاحية سورة البقرة كالآتي:

– «يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُون» [البقرة:9]

«الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ، رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّه أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُون»[البقرة:22]

وفي ما يلي جدول توضيحي لهذه الآيات:

الآية المحذوف الدليل سابق لاحق المرجعية نوع التماسك
9 ويخادعون

«الذين آمنوا»

يُخادِعونَ سابق داخلية بين عناصر آية واحدة
22 وجعل السماء بناء وجعل سابق داخلية بين عناصر آية واحدة

بناء على ما تقدم بيانه في الجدول، يتضح تحقيق التماسك النصي  في الآية الواحدة من خلال حذف الفعل في الآيتين«9-22» حيث كان الدليل فيها مقاليا سابقا، ونستطيع من خلال المرجعية الداخلية والتكرار أن نعرف العناصر المحذوفة ونحددها، حيث جاء الدليل مطابقا للفظ محذوف في قوله تعالى: «يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُون» [البقرة:9]، وقوله تعالى«يخادعون الله» أي بإظهار إسلامهم الذي يعصمون به دماءهم وأموالهم، وقوله تعالى: «والذين آمنوا» معطوف على لفظ الجلالة، والمعنى:ويخدعون الذين آمنوا بإظهار الإسلام، وإبطان الكفر، فيظن المؤمنون أنهم صادقون.[4] والدليل إلى معرفة المحذوف هو «يخادعون» فبقوله تعالى:«يخادعون الله» حيث وقع حذف فعل تقديره: «ويخادعون الذين آمنوا»[5]

وفي قوله تعالى: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ، رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّه أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُون»[البقرة:22] والعنصر المحذوف في هذه الآية هو الفعل«جعل»  وتقدير الكلام: وجعل السماء بناء، والدليل الذي يقودنا إلى استنباط المحذوف هو: الفعل«جعل» في قوله تعالى:« الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً»، فهذه الآيات توضح الكلمات المحذوفة، ومن ثم يسهم الحذف في تحقيق التماسك بين عناصر الآية الواحدة.

ومن الآيات التي تضمنت مواضع حذف الفعل أيضا في سورة البقرة:

 – «وَقُلْنَا ياآدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِين»[البقرة:35]

«يابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُون»[البقرة:40]

– «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم »[البقرة:54]

– «وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين»[البقرة:60]

«قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُون»[البقرة:71]

« فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون »[البقرة:73]

«وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين»[البقرة:124]

«وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود»[البقرة:125]

وفي قوله تعالى:«رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا  إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم» [البقرة 128]

وفي هذا الجدول تحليل مفصل لهذه الآيات التي بها حذف الفعل:

الآية المحذوف الدليل سابق لاحق المرجعية نوع التماسك
35 ولتسكن زَوْجُكَ اسْكُنْ أَنتَ سابق داخلية بين عناصر آية واحدة
40 ارهبوا فَارْهَبُونِ لاحق داخلية بين عناصر آية واحدة
54 ففعلتم فتاب عليكم فاقتلوا أنفسكم فتاب عليكم سابق لاحق داخلية بين عناصر آية واحدة
60 اذكروا إذ استسقى موسى لقومه الآية 47 سابق داخلية بين عدة آيات
60 فضرب فانفجرت اضرب،فانفجرت سابق لاحق داخلية بين عناصر آية واحدة
61 اذكروا إذ قلتم ياموسى الآية 47 سابق داخلية بين عدة آيات
63 اذكروا إذ أخذنا ميثاقكم الآية47 سابق داخلية بين عدة آيات
67 اذكروا إذ قال موسى لقومه الآية47 سابق داخلية بين عدة آيات
71 فوجدوها فذبحوها لاحق داخلية بين عناصر آية واحدة
72 اذكروا إذ قتلتم نفسا الآية 47 سابق داخلية بين عدة آيات
73 فضربوه فحيي اضربوه كذلك يحيي الله الموتى سابق لاحق داخلية بين عناصر آية واحدة
124 اجعل من ذريتي إماما إني جاعلك للناس إماما سابق داخلية بين عناصر آية واحدة
125 وقلنا جملة مقول القول «اتخذوا» لاحق داخلية بين عناصر آية واحدة
128 واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك ربنا واجعلنا مسلمين لك سابق داخلية بين عناصر آية واحدة

ويلاحظ من خلال الجدول تحقق التماسك في هذه الآيات  عن طريق حذف الفعل في عناصر الآية الواحدة، حيث كان الدليل إلى معرفة العناصر المحذوفة سابقا في أربع آيات، أولها في قوله تعالى: «وَقُلْنَا ياآدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِين»[البقرة:35]، وفي هذه الآية وقع حذف الفعل«ولتسكن» وتقدير الكلام: «اسكن أنت وزوجك الجنة» لأن فعل أمر المخاطب لا يعمل في الظاهر فهو على معنى« اسْكُنْ أَنْتَ وَلْتَسْكُنْ زَوْجُكَ » لأن شرط المعطوف أن يكون صالحا لأن يعمل فيه ما عمل في المعطوف عليه وهذا متعذر هنا لأنه لا يقال«اسكن زوجك»[6] وبالتالي جاء الدليل المذكور«اسكن» مطابقا للمحذوف في قوله تعالى:«وقلنا يا آدم اسكن».

وفي قوله تعالى: «يابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُون»[البقرة:40] والمعنى في الآية اذكروا شكر نعمتي فحذف الشكر اكتفاء بذكر النعمة وقيل: إنه أراد الذكر بالقلب وهو المطلوب أي لَا تغفلوا عن نعمتي التي أنعمت عليكم ولا تناسوها وهو حسن،[7] والعنصر المحذوف في هذه الآية هو الفعل«اذكروا»وبتقدير المحذوف يصبح الكلام: واذكروا أني فضلتكم على العالمين.

وفي قوله: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين »[البقرة:124]،وهنا تحقق التماسك بين آيتين متقاربتين في نفس السورة لأن الدليل على المحذوف «اذكروا» موجود في قوله تعالى:«يابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُون»والمعنى: أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه إليهنّ أم لا؟ فإن قلت: الفاعل في القراءة المشهورة يلي الفعل في التقدير، فتعليق الضمير به إضمار قبل الذكر، قلت: الإضمار قبل الذكر أن يقال: ابتلى ربه إبراهيم، فأما ابتلى إبراهيم ربه، أو ابتلى ربه إبراهيم، فليس واحداً منهما بإضمار قبل الذكر، أما الأوّل فقد ذكر فيه صاحب الضمير قبل الضمير ذكرا ظاهرا، وأما الثاني فإبراهيم فيه مقدّم في المعنى، وليس كذلك: ابتلى ربه إبراهيم، فإن الضمير فيه قد تقدم لفظا ومعنى فلا سبيل إلى صحته.[8]

وفي قوله تعالى:«رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا  إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم» [البقرة 128] حيث وقع حذف الفعل«اجعل» وتقدير الكلام: «واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك» والدليل عليه قوله تعالى:«ربنا واجعلنا مسلمين لك» «واجعلنا » عطف على ما تقدم «مسلمين» مفعول به ثان «لك» الجار والمجرور متعلقان بمحذوف دل عليه المذكور، أي واجعل من ذريتنا، «أمة» مفعول به أول للفعل المحذوف، ومن ذريتنا هو المفعول الثاني.[9]

بينما جاء مقاليا لاحقا في ثلاث آيات أيضا في قوله تعالى: «يابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُون »[البقرة:40] وتقدير الكلام: وإياي ارهبوا، «وإياي» الواو عطف، وإياي ضمير منفصل في محل نصب مفعول به مقدم «لارهبوا» مقدر لاستيفاء «فارهبون» مفعوله وهو الياء المقدرة، والأصل: فارهبوني«فارهبون»، «و إياي فارهبون»هو من باب الاشتغال و«إيا» فيه منصوبة بفعل محذوف يفسره المذكور، ولا يصح أن يكون الضمير مفعولا مقدما للفعل الذي يليه، لأن الفعل نصب الضمير الذي بعد نون الوقاية، والمحذوف للتخفيف  [10]

وفي قوله تعالى«قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُون»[البقرة:71]  وفي هذه الآية عطفت الفاء جملة فذبحوها على مقدر معلوم وهو فوجدوها أو فظفروا بها أو نحو ذلك وهذا من إيجاز الحذف الاقتصاري، ولما ناب المعطوف في الموقع عن المعطوف عليه صح أن نقول الفاء فيه للفصيحة لأنها وقعت موقع جملة محذوفة فيها فاء للفصيحة، ولك أن تقول إن فاء الفصيحة ما أفصحت عن مقدر مطلقا، وهنا وقع حذف فعل تقديره فوجدوها أو فظفروا بها أو نحو ذلك، والدليل على المحذوف هو قوله تعالى«فذبحوها»[11]

وفي قوله تعالى«وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود»[البقرة:125] العنصر المحذوف في هذه الآية هو فعل تقديره:«وقلنا» والدليل على المحذوف هو جملة مقول القول ؛ قوله تعالى« وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى» «واتخدوا» الواو عاطفة، واتخذوا فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة مقول القول محذوف معطوف على جعلنا، «من مقام» الجار والمجرور متعلقان باتخذوا «ابراهيم» مضاف إليه مجرور بالفتحة لأنه ممنوع من الصرف للعملية والعجمة،  [12]

كما أن هناك عنصر آخر من الأدلة التي تكون فيها المرجعية مشتركة كما بينا في الجدول أعلاه من خلال الآيات«54-60-73» من سورة البقرة، وقد تنوعت المرجعية تبعا لتنوع الدليل وموضعه كما جاء في هذه الآيات، وسميت بالمرجعية المشتركة لأن هناك دليلا سابقا وآخر لاحقا، وكلاهما يصلح لأن يحال إليه، وأيضا المرجعية داخلية، وكلها للربط بين عناصر الآية الواحدة، وفي هذه الآيات سنقف على معرفة العناصر المحذوفة من خلال النظر إلى ما سبق ذكره، وما سيأتي ذكره لاحقا، ففي قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم»[البقرة:54] فقد وقع حذف فعل تقديره «ففعلتم» والدليل الذي يحيلنا إلى معرفة العنصر المحذوف هو قوله تعالى:« فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ » فَتابَ عَلَيْكُمْ قبله محذوف تقديره «ففعلتم» [13] وهو دليل مقالي سابق، وهناك دليل مقالي لاحق وهو قوله تعالى«فتاب عليكم» الفاء عاطفة على محذوف، والتقدير ففعلتم ما أمركم فتاب «عليكم» الجار والمجرور متعلقان بتاب [14] ولما كان التقدير ففعلتم التوبة المأمور بها بأن قتل بعضكم بعضا بتوفيقه لكم سبحانه مع ما فيه من عظم المشقة، عطف عليه قوله«فتاب عليكم» أي مع عظم جرمكم، ولولا توبته عليكم ما تبتم؛ ثم علل ذلك بقوله«إنه» أي لأنه «هو التواب الرحيم». [15]

وفي قوله تعالى: «وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين»[البقرة:60] العنصر المحذوف في هذه الآية هو فعل تقديره «فضرب» أي فضرب فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً، متعلق بمحذوف تقديره: فإن ضربت فقد انفجرت، أو فضرب فانفجرت، كما مر في قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ [16] والفاء الفصيحة سميت بذلك لأنها أفصحت عن مقدر ذلك، لأنه لما ذكر عقب الأمر بالضرب، الانفجار دل على أن المطلوب بالأمر الانفجار، فلذا حذف الضرب على تقدير: فضربه دلالة على أن المأمور التزم الأمر،أي أن المحذوف قد يكون جملة هي السبب المذكور، فسميت فصيحة من باب المجاز العقلي. [17] وبالتالي الدليل الذي يقودنا إلى معرفة العنصر المحذوف هو قوله تعالى «اضرب» وهو دليل مقالي سابق من جنس المحذوف، وهناك أيضا دليل مقالي لاحق هو قوله تعالى:«فانفجرت».

وفي قوله تعالى: « فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون»[البقرة:73] وفي الآية اختصار، لأن التقدير: اضربوه ببعضها فيحيا، فضرب فحُيِي، «كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى»كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى يدل على ما حذف وهو فضربوه فحيي، والخطاب مع من حضر حياة القتيل، أو نزول الآية، ويريكم آياته، دلائله على كمال قدرته، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ؛ لكي يكمل عقلكم وتعلموا أن من قدر على إحياء نفس قادر على إحياء الأنفس كلها. [18] وفي هذه الآية وقع حذف فعلين، والتقدير: فضربوه فحيي والدليل على المحذوف الأول جاء مقاليا من جنس المذكور وهو قوله تعالى«اضربوه»، أما الدليل على المحذوف الثاني فجاء مقاليا لاحقا من جنس المذكور أيضا في قوله تعالى«كذلك يحيي الله الموتى»وفي هذه الآية إشارة إلى محذوف للإيجاز أي فضربوه فحيي فأخبر بمن قتله، أي كذلك الإحياء يحي الله الموتى. [19]

وفي هذه الآية تحققت مرجعية التكرار بين العناصر المذكورة والمحذوفة، وورد الدليل سابقا ولاحقا، وعليه تحددت المرجعية فكانت أحيانا سابقة، وأحيانا لاحقة، وفي ذكر الدليل داخل الآية فإن المرجعية كانت داخلية وهذا يحقق التماسك بين عناصر الآية الواحدة ولا شك أن المرجعية تحققت نظرا لوجود التكرار  بين كل من المذكور والمحذوف.

كما تحقق التماسك عن طريق حذف الفعل في آيات متعددة نذكر منها على سبيل المثال قوله تعالى:

– «وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيم»[البقرة:49]

«وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِين»[البقرة:93]

ويعد هذا النمط من الحذف أكثر الأصناف تحقيقا للتماسك؛ حيث أسهم في تحقيق التلاحم بين آيات متعددة  كما ذكرناها وبيناها بشكل مفصل في الجدول أعلاه، نأخذ منها قوله تعالى: «وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيم»[البقرة:49] عَطْفٌ عَلَى قَوْله: «نِعْمَتِيَ»  في قوله تعالى«يابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ» [الْبَقَرَة: 47] فيجعل إذ مفعولا به،كما هو في قوله تعالى: «واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركُمْ» [الْأَعْرَاف: 86] فهو هنا اسم زمان غير ظرف لفعل، والتقدير «اذكروا وقت نَجيناكم»، ولما غلبت إضافة أسماء الزمان إلى الجمل وكان معنى الجملة بعدها في معنى المصدر وكان التقدير «اذْكُرُوا» وقت إنجائنا إياكم،[20] وقوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِين»[البقرة:93] قوله تعالى: «وإذ أخذنا ميثاقكم» «إذ» تأتي  في القرآن كثيرا، والمعربون يعربونها بأنها مفعول لفعل محذوف تقديره: اذكر؛ وإذا كان الخطاب لأكثر من واحد يقدر: اذكروا، أي اذكروا إذ أخذنا ميثاقكم؛ والميثاق: العهد. [21] وذكر ها هنا: «وَاسْمَعُوا»، والمراد بقوله: «خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ» التلقي بالقبول والتمسك بما فيه مع وفور نشاط، «واسمعوا» دالا على معنى جديد وليس تأكيدا، ولك أن تجعله تأكيدا لمدلول خذوا ما آتيناكم بقوة بأن يكون الأخذ بقوة شاملا لنِية الامتثال وتكون نكتَة التَأكيد حينئذ هي الْإشعار بأنهم مظنة الإِهمال والْإخلال حَتى أكد عليهم ذلك قبل تبين عدم امتثالهم فيما يأتي، ففي هذه الْآية زيادة بيان لقوله تعالى في الْآية الأولى: «وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ» [البقرة: 63 ] [22]

ويعلق الرازي على هذه الآية بقوله:« اعْلَمْ أَنَّ فِي الإِعادة وجوها: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّكْرَارَ في هذا وأمثاله للتأكيد وإيجاب الحجة على الخصم على عادة العرب، وثانيها: أنه إنما ذكر ذلك مع زيادة وهي قولهم: «سَمِعْنا وَعَصَيْنا» وذلك يدل على نهاية لجاجهِم»[23] وبالتالي المرجعية في الآيتين 49- 93 من سورة البقرة داخلية جاء فيها الدليل مقاليا سابقا من جنس المذكور.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] دلائل الإعجاز في علم المعاني، عبد القاهر الجرجاني، تح: محمود محمد شاكر مطبعة المدني بالقاهرة – دار المدني بجدة، الطبعة: الثالثة 1413هـ – 1992م ص:146.

[2] الإتقان في علوم القرآن،عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي ن تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب  3/205.

[3] تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، منشورات دار سحنون للنشر والتوزيع تونس، المجلد الأول ص: 203

[4] تفسير القرآن الكريم، محمد بن صالح العثيمين، دار ابن الجوزي، تفسير سورة البقرة ص:40

[5] نفسه 1/40.

[6] البرهان في علوم القرآن، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركائه، 3/125

[7] الجامع لأحكام القرآن الكريم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر شمس الدين القرطبي، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، ج:2ص:7.

[8] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله،  دار الكتاب العربي – بيروت 1 /138.

[9] إعراب القرآن الكريم وبيانه، لمحيي الدين الدرويش، الطبعة الحادية عشرة: 1432هـ/ 2011م، منشورات اليمامة ودار ابن كثير، 1/173

[10] نفسه

[11] تفسير التحرير والتنوير 1/556.

[12] إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/171، الكشاف 1/183-185.

[13] تفسير ابن عطية، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي، عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية – بيروت 1/146.

[14] إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/105.

[15] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، المجلد الأول، ص:135

[16] أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي، المحقق: محمد عبد الرحمن المرعشلي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، 1/83

[17] إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/111

[18] أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي،1/88

[19] تفسير التحرير والتنوير 1/559.

[20] نفسه 1/489

[21] تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمن 1/302

[22] تفسير التحرير والتنوير 1/609.

[23] مفاتيح الغيب، لفخر الدين الرازي، الطبعة الثالثة: 1420هـ ، منشورات دار إحياء التراث العربي، بيروت. 3/604.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق