مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

«معجم الهيآت والإشارات والرموز في القرآن الكريم من خلال تفسير «التحرير والتنوير» للإمام الطاهر ابن عاشور» (الحلقة الثالثة)

ب- الإشارات(6):

الإشارة في اللغة الإشارية هي الوحدة الأساس التي تناظر الكلمة في اللغة المنطوقة(7)، والإشارة كذلك دال غير لغوي على مدلول، وهي علامة طبيعية أو صناعية تتوسط بين الباث والمستقبل بقصد التنبيه والإثارة(8). وتتألف الإشارات من حركات مختلفة بالأيدي أو الوجه أو الرأس(9). أما مهمة الإشارة باليد أو الأصابع هي تعيين شيء ما، ولها اعتبار خاص في علم الدلالة؛ أي إننا يمكننا أن نعين معنى الكلمة بالإشارة إلى مرجعها(10).

ثم إن الإشارة – باعتبارها أداة سيميائية طبيعية في الدلالة على المعنى- لا يقتصر تحققها على اليد، ولكنها تصدر من جهات جسدية متنوعة، كما مر بنا آنفا، فتصدر على هيئة رفع الحواجب، أو كسر الأجفان، أو لَيِّ الشفاه، أو تحريك الأعناق، أو انقباض الوجه، أو التلويح من بعيد بثوب أو نحوه تجاه عين الناظر، وقد يستعين المتستر بالإشارة بالحاجب وبالطرف وبغيرهما من الجوارح لبيان المعنى من غير أن ينكشف أمره(11).

«وعلى سبيل المثال فإن ملامح الوجه تشير إلى ما يمور في باطن الإنسان من مشاعر وأحاسيس، فالإشاحة بالوجه تعني الإعراض والنفور، والإقبال بالوجه يعني الموافقة والاستجابة، وهز الرأس يمينا وشمالا يعني الرفض، وهز الرأس من أعلى إلى أسفل يعني الموافقة والرضا والاستحسان… إلى آخر تلك الإشارات والإيماءات»(12).

يقول الجاحظ: «وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ، خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد: أولها اللفظ، ثم الإشارة، ثم العقد، ثم الخط، ثم الحال التي تسمى نصبة […] فأما الإشارة فباليد، وبالرأس، وبالعين والحاجب والمنكب، إذا تباعد الشخصان، وبالثوب وبالسيف. وقد يتهدد رافع السيف والسوط، فيكون ذلك زاجرا، ومانعا رادعا، ويكون وعيدا وتحذيرا. والإشارة واللفظ شريكان، ونعم العون هي له، ونعم الترجمان هي عنه. وما أكثر ما تنوب عن اللفظ، وما تغني عن الخط. وبعد فهل تعدو الإشارة أن تكون ذات صورة معروفة، وحلية موصوفة، على اختلافها في طبقاتها ودلالاتها. وفي الإشارة بالطرف والحاجب وغير ذلك من الجوارح، مرفق كبير ومعونة حاضرة، في أمور يسترها بعض الناس من بعض، ويخفونها من الجليس وغير الجليس»(13).

ذلك أن «اللغة تتركز في جسم الإنسان الذي ينفعل كله بما يعبر عنه، إن الإنسان لا يتكلم فقط بلسانه وأعضاء النطق الأخرى، ولكنه يتكلم بأعضاء جسمه أيضا، إنه يومئ برأسه، ويغمز يعينيه ويرمز بشفتيه، ويشير بأصبعه ويهز منكبيه، إن هذه الإشارات المصاحبة للألفاظ المنطوقة تقوم بتأكيد دلالات هذه الألفاظ من ناحية، أو إكمال ما يعتورها من نقص من ناحية ثانية، ومن هنا تتمثل لغة الإشارات الجسمية في نقل الأفكار والمشاعر والآراء والعواطف، وإذا كانت اللغة المنطوقة قد تتوقف على ألسنتنا لسبب أو آخر، فإن لغة الإشارات الجسمية لغة مستمرة متواصلة، لا تتوقف عن التعبير، إنها في تواصل مستمر مع الآخرين، كما أنها تعلن في كل وقت عن مكنونات النفس والفكر، وإذا كانت اللغة المنطوقة يمكن أن نخفي بها مشاعرنا ونكذب بها على الآخرين، فإن لغة الإشارات الجسمية تكشف دائما عما نخفيه، بل وكثيرا ما تفضحنا أمام الآخرين»(14).

ويكثر هذا الضرب من الإشارات في التراث العربي، خاصة على مستوى التواصل، ولكل إشارة منها دلالة خاصة بها تقوم مقام العبارة أو تتجاوزها في الدلالة ولذلك قال العرب: «رُبَّ إشارة أبلغ من عبارة»(15)، وسنعمل على بيان هذه الدلالات في القرآن الكريم إن شاء الله تعالى.

ولست أقصد بها ما يصطلح عليه الصوفية بالإشارات الصوفية، بحيث يتكلمون في بعض آيات القرآن عن معان لا تجري على ألفاظ القرآن ولكن بتأويل ونحوه، ولكن المقصود هنا الإشارات بمعناها اللغوي.

وتمثل الإشارات القسم اليسير من بين هذه الأقسام الثلاثة لندرة الإشارات الموظفة في القرآن الكريم، على عكس الكلام البشري المرتبط بالاستعمال غالبا، والذي تكثر فيه الإشارات المصاحبة للكلام وهذا ما وقفت عليه في بحثي السابق «معجم الهيآت والإشارات والرموز في التراث العربي من خلال لسان العرب لابن منظور»، وتكثر هذه الإشارات أيضا في الحديث النبوي الشريف كثرة ظاهرة وأغلبها من نَقْل الرواة الذين رووا الأحاديث مرفوقة بها لأهميتها بحيث لا يفهم الحديث بدونها، أو لأنها تساعد على اكتمال معنى الحديث، ووجِد منها في كلام العرب أيضا. 

ويدخل في هذا الباب أيضا بعض أشكال السلوك الإيمائي كالإيماءات الرامزة والمكيفة والموضحة التي تضمنها القرآن الكريم.

وتعتبر الإيماءات الرامزة من أهم أشكال الإيماءات التي يقوم بها الجسد البشري، وذلك لنجاعتها في المهمة التواصلية التي تؤديها. نجاعة تقارب نجاعة الكلمات والجمل في اللغة اللفظية. وتعرف بكونها: الإيماءات التي لها ترجمة لفظية مباشرة أو تعريف قاموسي غالبا ما يتكون من كلمة أو عبارة، وهناك اتفاق كبير بين أفراد الثقافة الواحدة على مدلولها. وتستخدم الإيماءات الرامزة بكيفية شعورية بغرض أن يتلقاها الآخر ويفهمها، ويتحمل القائم بالاتصال تبعاتها، تماما مثل الكلمات(16)، ذلك أنه يحمل قوة تواصلية تعادل الكلمات المنطوقة أحيانا وتتعداها في أحايين أخرى.

الصفحة السابقة 1 2 3 4الصفحة التالية
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق