مركز الأبحاث والدراسات في القيمدراسات عامة

معاينات تنذر بتدهور القيم و تدعو إلى تحرك سريع

معاينات تنذر بتدهور القيم و تدعو إلى تحرك سريع…

 قبل تحديد مفهوم القيم و إبراز دورها في حياة الفرد و المجتمع ، و أثرها في التنمية بنوع من التعميق لابد من بسط بعض المعاينات التي نعتبرها منطلقا لمبحث القيم و التي تم استقاؤها من الملاحظات اليومية على المستوى الوطني و المحلي و العالمي، و التي يشتم من القراءات الأولية لها ريح الرغبة في السيطرة و مظاهر  مخططات هيمنة و استحواذ و طمس ضوابط المجتمعات الفقيرة من قيم و مرتكزات ثقافية.
و من أهم ما يلفت النظر من هذه المعاينات نسوق العناصر التالية التي دخلت في المألوف لدى العديد من الناس و كأنها مكون ضروري من معيشهم اليومي    الطبيعي(1) «L’ Habitus » .
1. الانسياب العولمي الذي يغزو المجتمعات
العولمة كثقافة جديدة لم تقف عند الحدود التي رسمتها لنفسها عند منطلقاتها في البداية ككم من القيم   و الخدمات المشتركة في إطار تفاعلي، حيث يستشف من الدراسات المهتمة بالموضوع أن مفهوم العولمة استخدم في البداية لوصف كل العمليات التي تكسب العلاقات الاجتماعية نوعًا من الاتصال المترابط، حيث تجري الحياة في العالم كمكان واحد (قرية واحدة صغيرة) ، نتيجة التطور الهائل على مستوى المعرفة التكنولوجية و المعلوماتية و ما ارتبط بها من تطورات على مختلف الأصعدة و في كل الميادين. بل إن العولمة لم تخرج، رغم الإعلان عن هذا البعد التعاوني التفاعلي، عن الجذور الهيمنية التي ارتكزت عليها. و هذا ما يجعلنا نستنتج أن مفهوم العولمة مفهوم تاريخي، و ليس طارئا بسبب سهولة التواصل بين ساكنة المعمور. و يستمد تاريخيته من كونه لا يتجزأ عن التطور العام للنظام الرأسمالي، حيث تعد العولمة حلقة من حلقات تطوره التي بدأت مع ظهور الدولة القومية في القرن الثامن عشر، وهيمنة القوى الأوروبية على أنحاء كثيرة من العالم مع المد الاستعماري. و هكذا تتخذ العولمة مسعى استراتيجيا قصد اختزال مختلف الثقافات في ثقافة واحدة عن طريق تغيير المنظومات القيمية للمجتمعات، و الاستعاضة عنها بمنظومة قيم العولمة. و هذا ما أشار إليه الأستاذ طه عبد الرحمن في تعريفه للعولمة:” و أما التعريف الإجمالي للعولمة، فهو أن العولمة هي السعي إلى تحويل العالم إلى مجال واحد من العلاقات الأخلاقية، أو قل مجال علاقي أخلاقي واحد، عن طريق تحقيق سيطرات ثلاث:” سيطرة الاقتصاد في حقل التنمية” و ” سيطرة التقنية في حقل العلم” و ” سيطرة الشبكة في حقل الاتصال”. فلما كانت كل أفعال الإنسان، بموجب المسلمة الأخلاقية السابقة، أفعالا خلقية ترفعه أو تضعه، لزم أن تكون الأفعال المقومة للعولمة، أي السيطرات الثلاث، هي الأخرى أفعالا خلقية ، و أن تكون العولمة بالتالي عبارة عن عملية تخليق شاملة”(2)
 و معروف أن العولمة في بداياتها الهجينة كانت كاسحة في كل مساراتها و اتخذت  أبعادا عدة: سياسية و ثقافية وقيمية / أخلاقية … ويبرز فيها الجانب القيمي والأخلاقي بشكل متحيز واضح، سواء على مستوى الميل إلى ثقافة الغرب بهدف نشرها ،أو التحيز لتهميش الثقافات والقيم المحلية بدعوى التعميم وطمس معالم الخصوصية. وقد فطن إلى ذلك سوسيولوجيون ومفكرون كبار من أمثال أنور عبد الملك(3) ودعاة “الزنجوةNégritude-   (4)كقيمة إفريقية و إنسانية، و الذين منهم إيمي سيزار (Aimé Cesaire  ) (5)و ليوبولد سيدار سنغور(6)(L.S.Senghor) .إنها هيمنة القطب الواحد : النموذج الغربي ينزع لاحتواء العالم عبر إرادة فرض قيمه بقوة
 
السلاح حينا، وبالتهديد والابتزاز حينا آخر . فرض قيمه الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والتربوية، والهدف هو القضاء أو على الأقل الاختراق والتشويه وإعادة صياغة الخصوصيات الثقافية والحضارية وفق نموذجه القيمي.

2. التكنولوجيا الحديثة مطية لتمرير القيم السلبية للعولمة
إذا كانت العولمة، حسب مدعيها، قيمة كونية هدفها الارتقاء بالبشر فإن سلوكيات ومظاهر سلبية عدة مثل العنف والجنس والإدمان والتفكك العائلي، وضعف الوازع الأخلاقي … صارت تتخذ أبعادا قيمية على أساس أنها قيم من ضمن قيم العولمة الكونية، ومن ثمة يروج لها عبر وسائل الإعلام والسينما العالمية والقنوات الفضائية التي دخلت اليوم إلى كل بيت ،مع العلم إ ن شرط الكونية الأساس، في أي حركة تزعم لنفسها تلك الصفة، هو قيامها على أساس الإقناع و القبول التلقائي من قبل كل من ينضوون تحت لوائها ، أي لا ينبغي أن يكون القسر و الإكراه وراء ذلك الانضواء.و لن تكون هناك استجابة تلقائية لحركة من الحركات أو دعوة من الدعوات، إلا إذا كانت موافقة للفطرة معبرة عن أشواقها، و قادرة على تفتيق مواهب الناس و تنميتها، بمقتضى ما فيها من قيم محفزة و أحكام ضابطة و حدود رادعة.. وطبيعي أن هذا المد القيمي في شكله المنافي لقيم المجتمع المغربي كونيا وإسلاميا ووطنيا، وكما هو بالنسبة لمجتمعات كثيرة، بدأ يحدث شرخا في البناء القيمي الأصيل حسب ما يلاحظ، ويتسبب، تبعا لذلك، في دهورة أو تدمير السلوك والقيم عن طريق بث قيم جديدة من مثل المنافسة المتوحشة المدمرة، والتمرد على ما هو أصيل باسم الحداثة، ونشر الإباحية و قتل الكرامة و الزهد في تقدير الذات، و نشر سلوكيات شاذة من مثل إلغاء الفرق بين المرأة والرجل لا على أساس النوع الاجتماعي (Genre) الذي يتم قبوله كمقاربة منهجية للمساواة و الإنصاف و الحد من دونية المرأة كما كرمها الإسلام، و لكن على أسس أخرى بيولوجية و جنسية، و كذلك  قيمة ما يسمى ب “حرية الجسد” و هو سلوك يمنح المرأة  حرية التصرف بجسدها (الحرية الجنسية والتحكم في الحمل وفي جنس الجنين  والإجهاض و كل ما يتعلق بالإنجاب و الجنس وتشكيل الجسد…) و قد زامن الدعوة إلى هذه القيمة إجراءات مساعدة تدخل ضمن ما يسمى بصناعة الجسد الأنثوي و بنائه، و منها ترميم البكرة، و الاهتمام باللذة الجنسية، و الإباحية، و الزواج من الجنس الواحد، و المخادنة (المعاشرة الجنسية بين رجل و امرأة من دون زواج شرعي). و قد ساند هذا المد القيمي الجديد سعي لترسيخه على مستوى الوصلات الإشهارية و إيجاد مزيد من المحلات التجارية لتسويق مصنوعات التجميل كالعطور التي تحمل أسماء إباحية و مؤثرة، و الملابس الداخلية و المراهم و الأزياء، دون إغفال ترويج الثقافة المدعمة لذلك عن طريق مهرجانات فنية ترسخ ثقافة الجسد و الجنس بعيدا عن المقومات الثقافية الأصيلة.

 و على هذا المستوى القيمي / الأخلاقي، وحسب هذا التصور فإن مسألة التصدي و مواجهة هذه القيم  تبقى  مشكلة أساسا بالنسبة إلى الدول غير الغربية : فقدرة التحكم الهائلة ،والسيطرة والإدارة المتطورة في الاقتصاد والسياسة ووسائل الاتصال ومصادر المعرفة ومصادر الأخبار والمعلومات و الشركات متعددة الجنسية  العابرة للقارات، و ترحيل الخدمات …أمور تجعل الغرب الأميركي/ الأوروبي، هو مصدر العولمة، وبالتالي مصدر إنتاج القيم المسماة ” قيما كونية”، و العمل على نشرها وترسيخها في كل ربوع العالم بعيدا عن مدخل ومنهج المثاقفة.(7)

3. تنميط القيم إستراتيجية لعولمتها
إن المد العولمي يبني إستراتيجيته في ترسيخ أهدافه على قاعدة التنميط: فهو يعمل على تنميط قيم المجتمعات التاريخية و خاصة المجتمعات الإسلامية ليجعلها قيما واحدة مشتركة لدى جميع الشعوب. و يمتد هذا التنميط ليمس كل  السلوكيات اليومية للفرد، المتمثلة في العلاقات الإنسانية والارتباطات بين أفراد الأسرة والعائلة، وأنظمة القرابة، وأنماط التعايش والتساكن والاستهلاك، والعلاقة بين الجنسين، وطرائق وأنماط العيش( المأكل والملبس والمشرب)،والعلاقة بين الإنسان والله، والبعد الأنطولوجي للإنسان…و بعبارة أخرى فإن المد العولمي يعمل على تغيير فلسفة وجود الإنسان التي من خلالها يرى ذاته و يدرك نفسه و يحدد هويته و يرسم علاقته مع الآخر و الكون و الله.
و من خلال مختلف التحليلات لهذه المعاينات فإن هذا التنميط لا يحدث بمحض الصدفة وإنما هو محاولة جادة واستراتيجية محكمة وراءها رموز مؤثرون (فنانون، رياضيون، رجال صحافة،سينمائيون…) مشهورون يسهل التماهي بهم، و علماء و خبراء في مختلف ميادين المعرفة   وخاصة العلوم الإنسانية، ومؤسسات إعلامية كبيرة،ومراكز وشركات سينمائية مختلفة لها متخصصون استراتيجيون في مختلف أصناف العلوم الإنسانية، يعملون على توجيه هذا التنميط وفق أساليب وتقنيات ومقاربات بيداغوجية ومنهجية تستهدف الإنسان في كل مراحل العمر:( الطفولة،الشباب، المراهقة، الكهولة والشيخوخة). ومما زاد في أهمية هذا المد التنميطي وعزز من فاعليته وقدراته التطور الهائل في وسائل الاتصال والتواصل، وقدرتها على الاستقطاب نظرا لهندسة برامجها التفاعلية ، وسهولة استخدامها من لدن أبسط مستخدم لها. وبهذا التنميط يصير الإنسان مجرد رقم من بين 7 ملايير رقم  ( هم ساكنة المعمور) دون أن يكون لهذا المواطن ما يميزه عن الأرقام الأخرى ( باقي ساكنة المعمور). و هذا التنميط مبرمج ليمس الجانب العقدي و الروحي، و غايته بث الاستلاب و الألينة  (Aliénation) في عموم المواطنين. إنه عمل يتم عن وعي. و في هذا يقول اللورد ماكوبي (Lord Makoubi)  في حديث له أمام البرلمان البريطاني بتاريخ  2 فبراير 1835: “لقد سافرت في الهند طولا وعرضا , ولم أر شخصا واحدا يتسول أو يسرق . لقد وجدت هذا البلد ثريا لدرجة كبيرة، ويتمتع أهله بقيم أخلاقية عالية , ودرجة كبيرة من الرقي حتى إنني أرى أننا لن نهزم هذه الأمة إلا بكسر عمودها الفقري ، وهو تراثها الروحي والثقافي . ولذا أقترح أن يأتي نظام تعليمي جديد ليحل محل النظام القديم “(8)، لأنه لو بدأ الهنود يعتقدون أن كل ما هو أجنبي وانجليزي جيد وأحسن مما هو محلي ، فإنهم سيفقدون احترامهم لأنفسهم وثقافتهم المحلية وسيصبحون ما نريدهم أن يكونوا: أمة تمت الهيمنة عليها تماما”. و في هذا السياق أيضا قال المارشال ليوطي، المقيم العام الفرنسي في المغرب في محاضرة ألقاها في مدينة مكناس بمدرسة الدار البيضاء (الأكاديمية العسكرية بمكناس حاليا) أمام المراقبين المدنيين سنة 1920:” إن القوة تبني الإمبراطوريات و لكنها ليست هي التي تضمن لها الدوام إن الهامات تنحني أمام الحراب، في حين تظل القلوب تغذي نار الحقد و حب الانتقام. يجب إخضاع القلوب بعد أن تم هزم الأبدان…” 9))
تبعا لنتائج الدراسات المتخصصة في السلوكيات البشرية فإن الإنسان يكيف سلوكه انطلاقا من الممارسة المستمرة وتعرضه لمواقف حياتية مختلفة، سواء عن طريق القول أو الفعل أو المشاهدة. فقد يقبل الفرد ويقتنع برأي أو فكرة ما، كان في السابق رافضا لها لأنها منافية لقيمه، لكن عملية التكرار قولا أو مشاهدة تقلل لديه نسبة الرفض، إلى أن يصل إلى مرحلة تداعي آليات مقاومته فيكون التسليم والقبول. و بهذه العملية السيكولوجية يستضمر قيما كان موقفه منها سلبيا من قبل. و مثال ذلك ما يحدث في أوساطنا و خاصة لدى اليافعين من جراء تتبع وقائع المسلسلات المدبلجة التي صارت مدا جارفا لا يتوقف لا على مستوى القنوات الوطنية و لا على مستوى القنوات العربية التي تحقق أكبر مشاهدة من لدن الأسر المغربية. و الملاحظ بعين المدقق يرى أن تغيرات قد طرأت على أنماط الحياة اليومية من حيث الملبس و تناول الطعام و طريقة التخاطب من جراء غزو المسلسلات المدبلجة.     و أكثر من ذلك أن أفراد الأسرة الواحدة يشاهدون في جلسة مشتركة وقائع حلقات هذه المسلسلات دون أدنى تحرج من المواقف التي تخدش الحياء، و التي لا يقبل بها هؤلاء المشاهدون لو حدثت خارج المسلسلات.
و الملاحظ ذو البصر الحديد يكشف أن هناك عاملا مشتركا و سمة متفقا عليها في كل هذه المسلسلات و ما شابهها من برامج. و يتمثل ذلك في التركيز على الشباب و المرأة بدعوى التحرير و الترفيه     و الارتقاء. لكن الهدف مخالف لذلك إنه محاولة جادة لتقديم صياغة جديدة غريبة لقيمنا و فلسفتنا للحياة.
فعن طريق تبني استراتيجية تقوم على المكر و التحايل يتم النيل من قيمنا: فبواسطة جهازنا المفاهيمي (اللغة العامية أو اللغة السورية أو أية لغة أخرى مستمدة من العربية) يتم تقديم المسلسلات فتصبح لغتنا وعاء محشوا بمفاهيم وأفكار وقيم مغلوطة تنافي منظومة قيمنا الدينية و الوطنية و الكونية. و عن طريق المعاودة و التكرار تعاد صياغة ذواتنا و ما يحكمها من معايير أخلاقية و قيمية: فيتغير مفهوم الحلال و الحرام و الحشمة و الوقار و الإباحية و الاحترام و الإخلاص و العفة و الصدق و الرياء   و المستحب و المستقبح و المستحسن و الهجين…، فيحدث تبعا لذلك تمزق في الإنية المغربية أكبر بكثير من التمزق الذي أشار إليه قسطنطين زريق(9) في موضوع حديثه عن تمزق الذات العربية.
4.    استهلاك متنام لهذه القيم في غياب أي احتراز من خطورتها
إن الهجمة على القيم من لدن دعاة العولمة لها أهداف منها:
•    الانصهار في الشخصية العالمية و التماهي بها بشكل حرفي لتصير بديلا عن الشخصية الوطنية. إنها الشخصية الكونية التي تضيع فيها كل الخصوصيات المعرفية و العقدية   والوجدانية و الثقافية. إنها بلغة بلير(M.Bellaire) : الهيمنة التي يجب إحقاقها و التي تتلخص في غزو حقيقي لما هو عقلي و نفسي “وجداني”(10)
•    إحلال قيم الغرب بكل أبعادها اللغوية و الثقافية و التمثلاتية و العقدية، في كل المناطق    و السفر بها إلى أنأى الأماكن في المعمور، ادعاء أنها كونية، مما يستوجب ضرورة حفر أركيولوجي معرفي في العولمة. و لقد عبر عن هذه الضرورة الأستاذ الدكتور طه عبد الرحمن حين قال :” إن كل مسلم معاصر مسؤول عن العولمة و لو لم يكن صانعها، لأن الزمن الأخلاقي زمنه هو دون سواه، و تفريغ ذمته لهذه المسؤولية يوجب عليه أن يبادر إلى تعقب مظاهر العولمة و تفحص إمكانات التخلق التي تحملها، فإن كانت هذه الإمكانات تزيد في التخلق أخذ بها و حث عليها، وإن كانت تنقص من هذا التخلق ، استنهض همته في دفعها و التحذير منها، و إن كانت لا تزيد في التخلق و لا تنقص منه، خير فيها، إن شاء أخذ بها و إن شاء دفعها”.
و الواضح أن العولمة، حسب ما يلاحظ في مساراتها وتوجهاتها القيمية/الأخلاقية، مدرسة كولونيالية جديدة تعمل على إيجاد مؤسسات عبر قارية للتربية و التثقيف بدءا من المؤتمرات و انتهاء بالجمعيات و المؤسسات و الهيئات و البعثات التبشيرية. و غالبا ما تقرن هذه الهجمة بالمصلحة العامة و تغلف بمبادئ إنسانية و حضارية كالمدنية و حقوق الإنسان و المساواة و العدل بين الشعوب و إن اقتضى الأمر التدخل في الشؤون الداخلية. و أوضح مثال لهذه الصورة ما قاله صاحب المغرب الاشتراكي قبل أكثر من قرن من الزمن: “المغرب لنا…إننا أحرار في إدارته بالطرق التي نختارها. و يتعلق الأمر هنا بمعرفة نوع المؤسسات التي سنقدمها للمغرب، ذلك لأن هذا البلد المتخلف، الذي تعمه الفوضى و همجية القرون الوسطى يقتضي أن نعيد بناءه من جديد، و أن نبدأ من الصفر” (12)
وإزاء هذه الموجة العارمة والمد المتسارع في انتشار قيم العولمة المتوحشة المبنية على خطط ومناهج و استراتيجيات لا يوجد أي احتراز مسبق يقي من خطورة الأخذ بها و استحضار عواقبها :
    فثمة من يدعو إلى الأخذ بها جملة وتفصيلا، باعتبارها نتاجا إنسانيا متقدما حداثيا  لا يصح معه الحديث عن خصوصيات المجتمعات التي لم تشارك في إنتاجه؛
    وثمة من يرى أن الاحتراز بإعطاء الخصوصية مكانها في انتقاء القيم الكونية طريق يفضي إلى العزلة والتهميش والتقوقع.  
والواقع أن المؤسسات التي من المفروض أن تضطلع بمهام هذا الاحتراز وتجعل المواطن في منأى عن مخاطر هذه القيم المدمرة من مثل المؤسسات التعليمية والتربوية… غائبة بل مغيبة ،أو أن تدخلها يتسم بالقصور. وهذا ما يجعل المواطن وخاصة الأطفال واليافعين في هشاشة أمام هذه القيم البديلة ، وهكذا يتم تبني تلك القيم من لدن الناشئة دون القدرة على استنطاقها ومعرفة حدودها.
إن الرسوم المتحركة والألعاب التفاعلية والمحاضرات متعددة الأطراف على مستوى الأنترنيت والمواقع المتعددة… أساليب ممنهجة لتنميط القيم ما دامت المؤسسات الوصية على تربية النشء وإعداده لم تمد لهذا النشء بميكانزمات الدفاع والحصانة والمناعة، وبالتالي لم تنجح في تحديد مرجعيته وإقناعه بتبنيها واتخاذها معيارا في اختيار السلوك وتبني القيم.
إن التغيرات والمتغيرات الاجتماعية والسياسية والتكنولوجية المتسارعة من حولنا تتزايد وتتسارع في خطاها ، و إن وضع القيم بدأ يهتز في ظل العولمة .ومع تنامي هذا الوعي المتزايد فإنه يتحتم الاهتمام بالقيم الإسلامية وتنشئة الشباب وفق معاييرها  لكي يتكيف مع نفسه وبيئته   فالتربية   الصحيحة للنشء  تفرض علينا بناء نموذج القيم الصحيح الذي يجمع من خلاله بين الثوابت والمتغيرات ، وبين القيم والعادات والتقاليد الأصيلة والأفكار الحديثة الإيجابية منها، بعيداً عن الصور والأشكال التنميطية. إن الأمر يستدعي دراسة تحليلية متعددة التخصصات معتمدة أساسا الآليات التحليلية السوسيوأنتروبولوجية و السيكولوجية المعرفية. إن تحليلا من هذا النوع جدير بأن يدخل في عمق و متن العولمة بكل تجلياتها و خاصة ما يرتبط فيها بالبعد ألقيمي/ الأخلاقي، و ذلك بفضل ما يوفره من ملاحظة و تحليل علميين لظاهرة العولمة و اكتناه أعماقها بدلا من الوقوف على الوصف.       
إن استحضار هذا التحليل لموضوع العولمة يدعو إلى إعادة طرح السؤال الأخلاقي في موضوع الواجب كما طرحه كانط لكون دعاة العولمة ينطلقون من فكرة أن العولمة فعل يحكمه واجب أخلاقي تجاه الإنسانية جمعاء ن وكأن هناك قانونا عاما يفرض عليهم القيام بكل أعمالهم بما فيها تلك التي ترتبط بالعولمة . لقد ربط كانط الواجب بالقانون. حيث رأى أن ميدان العمل يمتاز بان الإنسان فيه  يتصور القانون ليعمل به ، ويريده قانونا لعمله ، بينما تخضع الظواهر العلمية لقانون العلم فحسب، ويمتاز الواجب فوق ذلك بان الإنسان يراعي فيه أن يكون عمله طاعة القانون للقانون ذاته ، لا لأي سبب أخر ،ويكون الدافع للعمل إرادة القانون لا إرادة أمر أخر معه.
إن هذا الطرح الكانطي لمفهوم الواجب يقود سلوكياتنا وفق الأمر الأخلاقي التالي (اسلك بحيث تريد ان تكون قاعدة سلوكك قانونا).
لكي نستوضح هذا الأمر بنوع من التجلي الكاشف نستعين بما افرد كانط من أمثلة توضيحية لذلك يصوغها الدكتور نجيب بلدي وفق التالي :”…يتخذ كانط لتوضيح صيغة الأمر الأخلاقي هذه ، عدة أمثلة نكتفي منها باثنين : في المثال الأول منهما يتساءل عما إذا كان من الممكن إن يصبح الانتحار موضع أمر أخلاقي. فيتصور إنسانا ضاقت به سبل الحياة إلى حد انه لا يجد لنفسه خلاصا إلا بالقضاء على حياته . ولكنه قبل أن يفعل ذلك يتردد شيئا ما ويتساءل عما إذا كان القيام بهذا العمل واجبا . فيتخذ سؤاله صيغة مثل هذه : وهل يجب على كل إنسان ضاقت به سبل الحياة إن يحل مشكلته بالقضاء على حياته؟ فيتعرف عندئذ التناقض في قاعدة عمله لو أصبحت نافذة ؛ انه لو اتخذ هذه القاعدة قانونا لقضى على إمكان وضع السؤال ووضع القاعدة ذاتها . فيتعرف تناقضا بينا ، فيحجم للتو عن عمله . أما المثال الثاني، فيتصور فيه إنسانا يرى نفسه في ضائقة مالية فيتساءل عما إذا كان من الممكن يقترض من صديق له مبلغا من المال ، واعدا إياه بالرد ، وان كان عارفا عجزه عن ذلك . انه إذن يتساءل عما إذا كان الفعل السابق ممكنا بالمعنى الأخلاقي ، أي عما إذا كان موضع واجب وأمر أخلاقي. فكأنه يقول وهل يجب على كل إنسان في ضيق مالي أن يقترض واعدا بالرد مع علمه بعدم استطاعة الرد ، أو يعد مع علمه بعدم الوفاء بالوعد؟ فيتبين له تناقضا شنيع في القاعدة التي يعزم على العمل ؛ انه ليقضي بعزمه هذا على معنى الوعد عند جميع الناس ، وليقضي بالتالي على أي أمل في أن يثق في أي واحد منهم . فتصبح القاعدة الأخلاقية أمرا غير ذي مفعول وينعدم الأمر ذاته” (13) 

– 1يعتبر مفهوم “الأبيتوس”  (Habitus) ” مفهوما مركزيا في  سوسيولوجيا بورديو، و يحدده في  مجموع الشروط التي تحكم علاقة الفرد بالمجتمع. و هو المحرك لكل سلوكياته وتصرفاته. فالفرد يسلك وفق ما يمليه عليه المحيط الاجتماعي الذي ينتمي إليه و ما يراكمه من رأسمال سوسيوثقافي. و هكذا يحيل مفهوم الأبيتوس إلى كل ما يستبطنه الفرد من مجتمعه، حيث يتم تحويل ما هو خارجي وجعله داخليا عن طريق عملية الاستبطان،و من ثمة تترسخ لدى الفرد كل البنيات الاجتماعية من عادات وتقاليد وقيم، و يتحول تبعا لذلك إلى مناصر و وكيل يدافع عن قيم مجتمعه التي يكون قد تشبع بها. الأبيتوس عملية تحويل منظومات القيم إلى مؤسسات للسلوك…

طه عبد الرحمن ، الآفات الخلقية للعولمة، كيف يمكن درؤها؟ مجلة المنعطف ع 20 س/1423- 2002.ص33-     – 2

 3- Anouar Abdel Malek, la Dialectique Sociale, Paris, Le Seuil, 1972
 4- Adotevi, Stanislas Speros, Négritude et négrologues. Paris : Éditions Le Castor Astral, 1972 réédité en 1998

5-Aimé Césaire, Discours sur la négritude, (avec le Discours sur le colonialisme), Paris, Présence Africaine,   2004
6 -يراجع في هذا الموضوع:
     Léopold Sédar SENGHOR, Liberté 1 : Négritude et humanisme, discours, conférences, Le Seuil, 1964
                                                   Liberté 3 : Négritude et Civilisation de l’Universel, Editions du Seuil 1977
                                              Liberté 5 : Le Dialogue des cultures, Le Seuil, 1992
7ا-لمثاقفةAcculturation عملية يعرفها ميلقن هرسكر فيتز، ورالف لنتون، وروبرت ردفيلد بأنها: (التغيير الثقافي في تلك الظواهر التي تنشأ حين تدخل جماعات من الأفراد الذين ينتمون إلى ثقافتين مختلفتين في اتصال مباشر، ممّا يترتب عليه حدوث تغييرات في الأنماط الثقافية الأصلية السائدة في إحدى الجماعتين أو فيهما معاً.
8-  G.Hardy. Le problème scolaire au Maroc. imp .Rapide ,Casablanca ,1920 , page 6
-9يراجع في هذا الشأن كتابا الدكتور قسطنطين زريق:”نحن و التاريخ” و “نحن و المستقبل”
10-M.Bellaire. Archives Marocaines ,1927, pp. 262-263
 عبد الرحمن طه- الآفات الخلقية للعولمة، كيف يمكن درؤها ؟ مجلة المنعطف،ع 20  س 1423- 2002 ص40.11
12- L. Deslinières Le Maroc Socialiste, Paris V.
13الدكتور نجيب بلدي ( مراحل الفكر الأخلاقي ) مكتبة الدراسات الفلسفية – دار المعارف مصر 1962 ص 43

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق