وحدة الإحياءأعلام

معالم قانون التفسير عند الإمام نجم الدين الطوفي

من المعلوم بالضرورة أن الله تعالى قد أنزل القرآن الكريم وتكفل بحفظه فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، والمقصود بالذكر في الآية القرآن، غير أن الذكر بمعناه يشمل الحديث واللغة وكل ما لا يتم الواجب إلا به، والوسيلة التي حفظ بها الله الذكر هو الإسناد وتمحيص أحوال الرواة في مجال القرآن والحديث معا، والقائم بنخل الأسانيد وتمحيص أحوال الرواة هم رجال من أهل السنة، وذلك بإقامة ميزان الجرح والتعديل، ولأهمية هذا الميزان قال عبد الله بن المبارك: “الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء”[1]؛ إذ بهذا الإسناد حفظ الله تعالى الكتاب والسنة.

أما ما بين دفتي المصحف فقد توفر له التواتر في كل كلمة كلمة وحرف حرف، وأما الحروف المروية في مجال القراءات السبع والعشر فقد توفر التواتر أيضا لأغلبها، ولكن ليس معنى هذا أن الحروف التي رويت بطريق الآحاد في نطاق السبع والعشر لم تصح كما يتوهم بعض المتأخرين بناء على تأثرهم بقاعدة “أخبار الآحاد لا تفيد العلم”.

وأما ما نقل في كتب الرواية من الأحاديث فغالبه أخبار الآحاد، والقليل منه متواتر، ومع ذلك فالحق أن أخبار الآحاد تفيد العلم عند جميع علماء السلف وغالب علماء الخلف إذا احتفت بها القرائن، وفي مقدمة هذه القرائن أن تكون الأمة قد نقلتها بالقبول عملا بها وتصديقا لها، وأغلب ما في الصحيحين من هذا النوع، والأمة لا تجتمع على ضلالة، بل تجتمع على الحق، ولا فرق بين الحق الذي في القرآن والحق الذي في الحديث، فكلاهما وحي، وكل وحي ذكر، والدليل على أن الذكر في الآية السابقة يشمل الحديث هو قول ابن حزم رحمه الله: “فأخبر تعالى كما قدمنا أن كلام نبيه كله وحي، والوحي بلا خلاف ذكر، والذكر محفوظ بنص القرآن، فصح بذلك أن كلامه، صلى الله عليه وسلم، كله محفوظ بحفظ الله، عز وجل، مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء؛ إذ ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء، فهو منقول إلينا كله، فلله الحجة علينا أبدا”[2].

ومن الأدلة على أن السند في الحديث كالسند في القرآن قول ابن مجاهد في كتاب السبعة[3]: “وأما الآثار التي رويت في الحروف فكالآثار التي رويت في الأحكام، منها المجتمع عليه السائر المعروف، ومنها ما توهم فيه من رواه فضيع روايته ونسي سماعه لطول عهده، فإذا عرض على أهله عرفوا توهمه وردوه على من حمله، وربما سقطت روايته لذلك بإصراره على لزومه وتركه الانصراف عنه، ولعل كثيرا ممن ترك حديثه واتهم في روايته كانت هذه علته، وإنما ينتقد ذلك أهل العلم بالأخبار والحلال والحرام والأحكام، وليس انتقاد ذلك إلى من لا يعرف الحديث ولا يبصر الرواية والاختلاف”.

فكما حفظ الله دينه بالسند من حيث نقل نصوصه، فكذلك حفظه بقواعد الأصول من حيث ضبط طرق استنباط معانيه.

وقد هبّ آلاف العلماء من أهل السنة بنية حفظ الدين في مجال نقل نصوصه سليمة، فكان في مقدمة هؤلاء الإمام البخاري والإمام مسلم، كما هبّ آلاف العلماء من أهل السنة بنية حفظ الدين في مجال استنباط معانيه سليمة، فكان في مقدمة هؤلاء الإمام الشافعي، فكان من نتائج جهود الطائفة الأولى بناء أركان ما يسمى بعلم الحديث، كما كان من نتائج جهود الطائفة الثانية بناء أركان ما يسمى بعلم أصول الفقه، وبهذين العلمين حفظ الله تعالى هذا الدين نصا ومعنى، وبهما تأصل منهاج أهل السنة، وكانا هما الإطارين العريضين للمنهجية التي يقوم عليها هذا المنهاج الأساس، والسد المنيع من تسرب التحريف إلى الكتاب والسنة.

ولا يعني هذا أن أهل السنة معصومين من الأخطاء، وأن مناهج غيرهم ضلال كلها، وإنما الذي يوصف بالحق المحض هو الوحي وحده، وغيره من اجتهادات أهل السنة وغيرهم معرض بلا شك للخطأ، غير أن أخطاء أهل السنة تمتاز عن أخطاء غيرهم بالتزامهم منهجا مبنيا على قواعد علم الحديث وقواعد علم أصول الفقه، فكانت أخطاؤهم معفوة مأجورة، كما أنها في غالبها أخطاء فردية من شأن كل من تبينت له أن يرجع عنها ويشكر من دلّه عليها، بخلاف أخطاء غيرهم فهي أخطاء جماعية موروثة ومحجوبة.

والالتزام بما وضعه علماء أهل السنة من قواعد علم الحديث وقواعد علم أصول الفقه هو الذي يميز هذا من ذاك.

فداخل قواعد علم الحديث يذكر وجوب الالتزام بالحديث الصحيح سواء أكان متواترا أو أخبار الآحاد، ويذكر رفض الأحاديث الضعيفة في مجال الأحكام، وداخل قواعد علم أصول الفقه يذكر الاحتجاج بالكتاب والسنة والإجماع والقياس مضافا إلى ذلك قواعد علوم اللغة العربية ومقاصد الشريعة وغيرها من المكملات المقبولة.

وقد ساهمت الفرق الإسلامية في تحجير طلب قواعد علم الحديث وأصول الفقه وتغييبها عن ساحة العلم، حتى ظن بعض المنتسبين للعلم أن الالتزام بها غير واجب، وتفاوتت مناهج تلك الفرق في فهم الإسلام، وانعكس هذا التباين على فن التفسير أكثر من غيره، والسبب في ذلك أنه كان مجالا واسعا لصراع الآراء والنظريات بين المذاهب والفرق الإسلامية المعتدلة وغيرها، وقد أشار إلى هذا ابن تيمية في مقدمة أصول التفسير[4]، وذلك في سياق بيان الخلاف الواقع في التفسير من جهة الاستدلال، ولاسيما عند حديثه عن الخطأ الواقع في الدال والمدلول. وغالب الأخطاء التي أشار إليها راجع إلى أصول تلك المذاهب والفرق الاعتقادية.

أما منهاج أهل السنة الخاص بفن التفسير فأقصد به المنهاج المفضل عندهم في تفسير القرآن، وهو المنهاج السداسي الذي تحدث عنه ابن تيمية في مقدمة التفسير، واستدل على حجيته واعتباره بأدلة كثيرة، ونقله عنه تلميذه ابن كثير بنصه في مقدمة تفسيره[5] الذي يعتبر اختصارا وتنقيحا لتفسير ابن جرير الطبري شيخ المفسرين، ويتمثل هذا المنهاج باختصار في تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، وتفسير القرآن بأقوال الصحابة وأقوال التابعين وأقوال الأئمة المجتهدين، وباللغة والبيان.

فهذه هي القواعد الكلية التي تعين على فهم القرآن فهما صحيحا، وتضع بين المفسر أصول الموازنة والترجيح بين الأقوال والآراء المنسوبة للمفسرين.

وتطبيق هذا المنهاج تطبيقا سليما يقتضي ألا يطغى عليه جانب التقليد لآراء الأشخاص ولا جانب المدلولات اللغوية على ما بيّن به الرسول، صلى الله عليه وسلم، مراد الله من كلامه، وفي هذا الصدد يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى[6]: “ومما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة الرسول، صلى الله عليه وسلم، لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم، ولهذا قال الفقهاء: الأسماء ثلاثة أنواع، نوع يعرف حده بالشرع كالصلاة والزكاة، ونوع يعرف حده باللغة كالشمس والقمر، ونوع يعرف حده بالعرف كلفظ القبض ولفظ المعروف في قوله: (وعاشروهن بالمعروف)”.

وأهمية هذا المنهاج السداسي تتجلى أولا في التزامه بالإطارين العريضين المذكورين سلفا، وهما: (قواعد علم الحديث وقواعد علم أصول الفقه)، ومن هذه الجهة عُد أفضل منهاج وأحسن طريق لتفسير القرآن، وتتجلى أهميته ثانيا في كونه يحقق التكامل المنهجي بين مقتضيات التفسير بالمنقول ومقتضيات التفسير بالمعقول المنصوص عليها في كتب التفسير وأصوله، غير أن غالب المفسرين لم يلتزم بتطبيقه تطبيقا تاما سليما لأسباب عديدة من أهمها ما يلي:

  1. ظاهرة التخصص التي تجعل بصمات المفسر واضحة في مجال تخصصه، وضعيفة غامضة في مجال العلوم والفنون التي لم يتقنها، وقد برزت هذه الظاهرة حينما صارت العلوم صناعة[7]، ولذلك فالجوانب الإيجابية في التفاسير المتداولة تقتصر في غالب الأحيان على توظيف المفسر للفنون العربية والإسلامية التي يتقنها وتدخل في مجال تخصصه، وقد تفوق أهل الأندلس على أهل المشرق في بعض العلوم والفنون في القرن الرابع والخامس الهجريين[8]، ولاسيما في مجال فن القراءات وتوجيه القراءات، وظهر هذا التفوق مثلا في البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي، كما تفوق أهل المشرق على أهل الأندلس في بعض العلوم والفنون في القرن السادس والسابع والثامن والتاسع، ولاسيما في مجال علوم الحديث، وذلك بسبب تشجيع الأيوبيين والمماليك لدور الحديث هناك.
  2. عدم التقيد بقواعد علم الحديث، فأهل التفسير من أقدم عصورهم كانوا معروفين بالتساهل في رواية الأخبار تساهل أهل السير والمغازي، ولذلك قال الإمام أحمد: “ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير والملاحم والمغازي”، ويروى: ليس لها أصل؛ لأن الغالب عليها المراسيل.

وكثير من المصادر المتداولة في التفسير بالمأثور قد امتلأت بالأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيليات مما جعل الاستفـادة منها صعبا على غير المتخصصين، وفي طليعة هذه التفاسير تفسير ابن جرير الطبري، فهو وإن كان من أهل الحديث، ويلتزم ذكر الروايات بأسانيدها، إلا أنه في الأعم الأغلب لا يتعقب الأسانيد بتصحيح ولا تضعيف، وذلك لتأثره بمنهاج أهل عصره المتمثل في قولة بعضهم: “من أسند لك فقد أحالك”، و”من أسند لك فقد برئت ذمته”،أي: أن من أسند لك فقد حملك البحث عن رجال الإسناد ومعرفة درجاتهم من العدالة والجرح، فهو بعمله هذا قد خرج عن العهدة[9].

وقد كان غرض المتقدمين نقل جميع ما بلغهم من وجوه التفسير، فإذا ساغ تساهلهم في تلك المرحلة المتقدمة لهذا المعنى، فلا يسوغ في حق غيرهم مع انتهاء حركة التدوين.

وأما أثر الإسرائيليات على التفسير فقد كان سيئا جدا عند المتأخرين؛ لأنهم لا يميزون بين الضعيف والصحيح منها، ولا يميزون بين مقام الاستشهاد وبين مقام الاستدلال الذي يراعى في روايتها.

وفي ذلك قال ابن تيمية: “ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها على ثلاثة أقسام، أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح، والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه، والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني!..”[10].

  1. تأثير المذاهب الفقهية على طوائف المفسرين، ولاسيما المتأخريـن منهم، وهذا التأثير وسع من دائرة الاختلاف المذموم في مجال التفسير؛ لأنه لا يكون في كثير من الأحيان اختلافا طبيعيا تبعا لاختلاف المواهب والمحصول العلمي عند المختلفين، وإنما يكون عن اختيار مرجوح وعن تعصب وتقليد.
  2. عدم التقيد في التفسير بقواعد أصول الفقه.
  3. ظاهرة التقليد عند غالب المفسرين المتأخرين حيث يقتصر بعضهم على مجرد النقل من تفسير غيره بقصد الانتصار لفن أو لمذهب، أو بقصد الاختصار والاكتفاء بوضع الحواشي والطرر ونحو ذلك.

فلهذه الأسباب ومثيلاتها ألف ابن تيمية مقدمته في التفسير، وهي من أشهر ما ألف في علم أصول التفسير ومناهجه استقلالا.

وممن ألف في هذا الباب أيضا الإمام نجم الدين الطوفي (ت 716هـ)، حيث وضع قانونا للتفسير في كتابه الإكسير[11]، وسلك فيه مسلكا حسنا.

ومن هذا الباب أيضا المقدمات المنهجية التي تتصدر بعض كتب التفسير على غرار المقدمات الأصولية التي تتصدر بعض أمهات كتب الفقه.

وهذه المقدمات المنهجية في مجال التفسير تدل على امتلاك أصحابها للمقاييس الصحيحة في التعامل مع المنقول من وجوه التفسير، حيث لم يكن ليلبس عندهم لبوس القطعيات، ولا ليدرج ضمن لائحة المسلمات التي لا تناقش بحال من الأحوال، بل لابد أن ينظر إليه نظرة نقد وتمحيص، وأن يطرح على بساط الدرس النقدي وفق قوانين محددة.

أما الإمام نجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي[12]، فهو من علماء القرن السابع الهجري، رحل إلى أهم المراكز العلمية في المشرق وقتئذ، وهي بغداد ودمشق ومصر.

وقد تلمذ لابن تيمية والمزي وابن كثير وعلم الدين البرزالي بدمشق، وشرف الدين الدمياطي وأبي حيان الأندلسي بمصر، وأبي بكر القلانسي الباجسري ببغداد، وغيرهم من علماء عصره، وهو معدود من الحنابلة، وله مصنفات جليلة في مختلف العلوم تدل على مُكنته في مجالها، واطلاعه الواسع، ولم تذكره المصادر في طبقات المفسرين، لكن له أجزاء في تفسير بعض السور كتفسير سورة ق وتفسير سورة النبإ أغلب كتبه التي وصلت إلينا لم تزل مخطوطة، واختياراتـه وآراؤه الفقهية والأصولية فيما نشر من مؤلفاته شاهدة على حنبليته، وكونه حنبليا لا يحجب عنه اختيار آراء المذاهب الفقهية الأخرى وترجيحها، وهذا مما يدل على سعة اطلاعه، ورجّح قول الإمام مالك في شرح روضة الناظر في بعض المسائل الخلافية.

وقد اتهم بالتشيع، وهذا إشكال قد وقع أيضا لبعض أفاضل علماء أهل السنة في كتب التراجم، لكن لم يثبت ذلك في حقهم كما يقتضيه البحث العلمي، بل تشهد كتبهم ومشيختهم على براءتهم من مثل هذه التهم، فليسلك الطوفي في هذا المسلك وبهذا الاعتبار.

ويعتبر الحافظ ابن رجب من أهم الطاعنين عليه، وقد ترجمه في ذيل طبقات الحنابلة[13]، فكيف يجمع في حقه بين النقيضين!

ولأجل ذكره في طبقات الحنابلة ذكرت أنه حنبلي المذهب، وإلا فالأمر يحتاج إلى الاستقراء كما يتطلبه منهج البحث العلمي، وأما الاكتفاء في مثل هذا بمجرد كتب التراجم وطبقات الفقهاء فهو محمول على سبيل التغليب لا على سبيل التحقيق، بل قد يقع أحيانا تنازعٌ في حق المترجَم، أيّ مترجم، فلا يتم التحقق من انتسابه للمذهب المذكور إلا من خلال ما وصل إلينا من تراثه العلمي.

وأما كتابه الإكسير في علم التفسير، فقد طبع بمصر سنة 1977 بتحقيق د. عبد القادر حسين، وهو كتاب في معظم مادته العلمية أشبه بكتاب الفوائد المشوق لابن القيم، حيث ذكر فيه قواعد نافعة في فن التفسير وعلوم القرآن، وقد قسمه ثلاثة أقسام، فعقد القسم الأول في تقسيم القرآن إلى ما هو بيِّن بنفسه وإلى ما ليس ببيِّن في نفسه فيحتاج إلى بيان على نحو ما ذكره الزركشي في البرهان[14]، وفيه ذكر قانون التفسير، وعقد القسم الثاني في بيان مقتضيات التفسير بالمعقول والمنقول، وعقد القسم الثالث في علم المعاني والبيان، وهو الجمهور الأعظم من الكتاب، وأصله من كتاب الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور لأبي الفتح نصر الله[15] بن محمد المعروف بابن الأثير الكاتب ت637هـ.

وأما المقدمة؛ فقد خصَّصها للحديث عن معنى التفسير والتأويل، وعن سبب وضع قانون التفسير، قال: “فإنه لم يزل يتلجلج في صدري إشكال علم التفسير، وما أطبق عليه أصحاب التفاسير، ولم أر أحدا منهم كشفه فيما ألّفه، ولا نحّاه فيما نحّاه، فتقاضتني النفس الطالبة للتحقيق، الناكبة عن جمر الطريق، لوضع قانون يعول عليه، ويصار في هذا الفن إليه، فوضعت لذلك صدر هذا الكتاب، مردفا له بقواعد نافعة في علم الكتاب،… فمن ألّف على هذا الوضع تفسيرا، صار في هذا العلم أولا وإن كان أخيرا”[16].

ويعتذر الطوفي عن المفسرين المتقدمين بأن غايتهم في تلك المرحلة الأولى إنما كانت هي نقل كل ما بلغهم من وجوه التفسير، كغاية المشتغلين بالحديث رواية أو أصحاب المصنفات الحديثية الذين لم يشترطوا فيها الصحة، ويشبّه قانونه بالنسبة للتفسير بعلوم الحديث في مجال نقد الحديث وتمحيص صحيحه من سقيمه، وقانون الأصول بالنسبة للفقه، وأصول الإمام بالنسبة لمذهبه الفقهي، قال: “نقل المفسرون كل ما بلغهم من وجوه التفسير، وعدم تعرضهم للقانون الذي ذكرته لا يدل على عدم اعتباره؛ لجواز أنهم نقلوا ما نقلوه ليعتبر بالقانون المذكور، ألا ترى أن رواة الحديث نقلوا كل ما بلغهم منه من صحيح وسقيم، ثم إن جهابذة النقد منهم وضعوا للحديث قانونا معتبرا اعتبروا به أحوال الرواة، ونقّحوا به إحكام الروايات، حتى عرف السقيم من الصحيح، والمعدَّل من الجريح، واتضح المبهم، وفصُح الأعجم، وزال الإشكال، وارتفع الإجمال، ثم إن الفقهاء تسلموا الحديث من أهله، وفيه المتعارض والموهم للتناقض، فانتدبت له نقادهم، وهم الأصوليون، فوضعوا له قانون الأصول، فاعتبروه منه، فأزالوا تعارضه، ونفوا تناقضه، بحمل مطلقه على مقيده، وعامه على خاصه، وإعمال ناسخه، وإهمال منسوخه، فاستخرجوا بذلك لأنفسهم أقوالا متعارضة، وآراء مختلفة متناقضة، فتسلمها أهل كل مذهب عن إمامهم، فاجتهدوا فيها باعتبارها قوانين ذلك الإمام وقواعد مذهبه، تارة بتقرير النصين وحملها على اختلاف حالين، وتارة بطرد القولين بالنقل والتخريج في المسألتين، حتى جعلوا له مذهبا واحدا، الفتيا عليه لا تكاد تختلف، ولم يقل أحد إن نقل المحدثين والأئمة والفقهاء لجميع ما صار إليهم دليل على عدم اعتبار القوانين المميزة لما يجب إعماله مما يجب إهماله، كذلك هاهنا ولا فرق،…”[17].

 والمعالم الرئيسة لهذا القانون الذي ذكره في القسم الأول من الكتاب تتجلى في الطرق الأربعة التي نص على وجوب تقيد المفسر بها في التفسير متى وجدت، قال: “كلما أردنا فهم معنى من كلام الله عز وجل فلا يخلو إما أن يكون بيّنا بنفسه كالقسم الأول[18] من قسمي الكلام المذكورين أو لا، فإن كان فلا إشكال؛ إذ المراد منه هو المفهوم منه لكل عاقل، كالمفهوم من قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ، ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾، ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾، ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾، ونحو ذلك.

وإن لم يكن كذلك، فلا يخلو إما أن يكون في تأويله دليل عقلي قاطع، أو نص عن النبي، صلى الله عليه وسلم، تواتري، أو اتفاق من العلماء إجماعي، أو نص أحادي صحيح، أو لا يكون شيء من ذلك، فإن كان فيه شيء من الطرق المذكورة وجب المصير فيه إلى ما دل على أنه المراد منه، سواء كان ما دل عليه أحد هذه الطرق موافقا لظاهر لفظ الكلام أو لا.

أما العقلي القاطع والتواتر؛ فلإفادتهما العلم القاطع، فلا يعارضه الظاهر المحتمل، ولذلك قدمناهما.

وأما الإجماع؛ فلاستلزامه دليلا تقوم به الحجة من نص أو غيره؛ إذ لا إجماع إلا عن مستند، ولقيام الدليل على عصمة الأمة من أن تجمع على خطأ، ومثال ذلك تأويل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾، ﴿وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ﴾ ونحوه، على أنه كذلك بعلمه لابد، أنه والإجماع على هذا التأويل، مستند إلى العقل القاطع باستحالة التجزئة والتبعض والحلول عليه تعالى.

وأما الأحادي الصحيح؛ فلأنه يعتاد عليه الظن، ويوجب العمل والعلم على مذهب مرجوح، فكان أولى من غيره”[19].

فما دلّ على بيان مراد الله بأحد هذه الطرق وجب المصير إليه، فإن اجتمعت ووقع تعارض بينها وتعذر الجمع ولم يمكن التوفيق قُدِّم منها ما كان أفاد العلم القاطع أخذا بالأرجح وعملا بالأقوى، والتعارض لا يُتصور بين القواطع، ومورد الترجيح إنما هو في الأدلة الظنية، وبالتالي فوظيفة المفسر في الترجيح بين الأدلة الظنية هي كوظيفة المجتهد في ترتيب الأدلة والتصرف فيها على غرار ما هو مذكور في أمهات كتب أصول الفقه.

فإن انعدمت هذه الطرق التي ذكرها سلك المفسر حينئذ مسلك الترجيح في البيان بما دون ذلك مما يصلح شاهدا ومعضدا للمفهوم من ظاهر اللفظ أو فحواه أو معقوله، وإلا اعتبر مفهوم ظاهر الكلام لقوته، قال: “وإن لم يكن في تأويله شيء من الطرق المذكورة، مثل إن كان فيه آحاد ضعيفة، أو شيء عن أصحاب التواريخ والسير غير مفيد للعلم بصحة ما دل عليه، أو ظنه بدليل خارج من قرينة عقلية أو غيرها، أو تأويل مختلف فيه متعارض عن العلماء، نظرنا: فإن كان ما ورد فيه من الأحاديث الضعيفة والتواريخ والسير المذكورة موافقا للمفهوم من ظاهر الكلام أو من فحواه أو معقوله حُمل الكلام على ما فهم منه، وكان الخبر الضعيف ونحوه مؤكدا لما استفيد من اللفظ، وإن لم يكن موافقا للمفهوم من ظاهر اللفظ أو معقوله ألغي لضعفه وضعف ما يفيده الظن إن أفاده، واعتبر مفهوم ظاهر الكلام لقوته وقوة ما يفيده من ظن أنه المراد ما لم يمنع منه مانع أقوى منه؛ إذ المقصود من الكلام الإفهام، والظاهر من المتكلم الحكيم إرادة ظاهر الكلام”[20].

ويبدو من سياق كلام الطوفي في مقدمة الإكسير[21] تحرّره من نزعة التقليد التي طغت على مفسري عصره، قال: “ولم أضع هذا القانون لمن يجمد عند الأقوال، ويصمد لكل من أطلق لسانه وقال، بل وضعته لمن لا يغتر بالمحال، وعرف الرجال بالحق، لا الحق بالرجال”.

وحمل ألفاظ الكتاب والسنة على مقتضياتها الظاهرة المشهورة في عرف أهل اللغة قاعدة لا محيد عنها عند الطوفي ما لم يمنع من ذلك مانع أقوى حجية كما سلف الذكر، ويفهم عنه هذا أيضا من كلامه في شرح روضة الناظر[22] في سياق رده على ابن قتيبة[23] في حمله (أو) على غير بابها في مواضع من القرآن وزعمه أنها بذلك المعنى عند المفسرين، قال: “وقد قال ابن جني في اللمع وهو من فحول أهل اللغـة وأئمتهم: وأين وقعت أو فهي لأحد شيئين. وكذلك حكى القاضي أبو يعلى في العدة عن أحمد رحمه الله. وهذا هو الأصل المختار، وهو حمل ألفاظ الكتاب والسنة على مقتضياتها الظاهرة المشهورة في عرف أهل اللغة، ما لم يمنع منه مانع قاطع أو راجح، ولا نسارع إلى تحريفها عن موضوعاتها بأدنى احتمال.

فمن المواضع المذكورة ما ذكره ابن قتيبة في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا.عُذْرًا أَوْ نُذْرًا﴾، ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾، أن أو في هذه المواضع عند المفسرين بمعنى واو النسق.

قلت: وتوجيهها على أصل الباب، أنها في قوله سبحانه وتعالى: ﴿عُذْرًا أَوْ نُذْرًا﴾ للتنويع،…”.

والمراد بظاهر اللفظ هو ما عبّر عنه ابن جزي في تفسيره[24]، في الوجه السابع من وجوه الترجيح بقوله: “أن يكون ذلك المعنى المتبادر إلى الذهن؛ فإن ذلك دليل على ظهوره ورجحانه”، وهذا هو التفسير الذي تعرفه العرب من لغتها.

ومن المعلوم بالضرورة اعتبار القراءات المتواترة في التفسير؛ لأنها من جملة المتواتر، وأما المنقول من القراءات آحادا على جهة التفسير فهو عند الطوفي حجة يوجب العمل، وهو من جملة الأحادي الصحيح كما يفهم من كلامه في شرح روضة الناظر[25].

ومن المعلوم أن للقراءات وتعددها بالنسبة إلى التفسير حالتين: حالة ليس لها تعلق بالتفسير، وهي اختلاف القراء في وجوه النطق بالحروف والكلمات مما يتعلق بكيفيات الأداء وصفات الحروف، وحالة لها تعلق بالتفسير، وهي اختلاف القراء في غير صفات الأداء وكيفياته، وهو الاختلاف الواقع في فرش الحروف، أي: في الكلمات التي تتوارد عليها القراءات، وتتناول بنيتها وأوضاعها في التركيب، وأحوالها في الإفراد والتثنية والجمع، وفي التذكير والتأنيث، وفي الإسناد والصيغة والزمن وترتيب الحروف أحيانا وأماكن النقط وعددها أو استبدال الكلمة بغيرها تماما كما في بعض الآحاد أو الشواذ، إلى غير ذلك من صور التغاير والتنوع بين القراءات، وفي هذه الحالة تدور القراءات على صور ثلاث، وهي:

أ. اختلاف القراءتين من جهة اللفظ والمعنى.

ب. اختلاف القراءتين من جهة اللفظ واتفاقهما في المعنى.

جـ. اتفاق القراءتين من جهة اللفظ واختلافهما في المعنى.

 وكل صورة من هذه الصور عظيمة الأهمية في التفسير[26]، ويتعين على المفسر اعتبارها عند النظر في تأويل آيات القرآن، وعدم الاقتصار على قراءة معينة كما يفعل بعض المفسرين؛ ذلك لأن تنزيل معاني القرآن على قراءة واحدة فيه ترجيح لإحدى القراءات بلا مرجح، وهو أمر إن لم يكن فيه تعصب لإمام القراءة المتبعة في القطر الذي ينتسب إليه المفسر فلا أقل من أن يكون فيه تضييق لما أراد الله أن يكون فسيحا، وذلك بحمل القرآن على وجه واحد وتأويل واحد، وأيضا لما كانت القراءات المتواترة لا مجال للشك في حجيتها من جهة النقل ومن جهة اللغة، فإنها من هاتين الجهتين تعتبر تفاسير ضمنية في أعلى درجات الوثوق، ومن ثم لا مُسوغ لتقديم غيرها عليها من تفسير قد يهدي إليه النظر أو يرشد إليه السياق أو ما إلى ذلك من وجوه الاستدلالات.

ولا تقل القراءات الشاذة أهمية عن القراءات المتواترة في مجال البيان والكشف عن المعاني المرادة من الآي كما لا يخفى، وهذا جلي في الصورتين الأولى والثانية من صور اختلاف القراءات الثلاثة السالفة الذكر.

وتعتبر القراءات عند الطوفي بنوعيها المتواترة والشاذة أمرا أساسيا في تفسير القرآن، فقد نص عليها في جملة العلوم التي ينبغي للمفسر النظر فيها، قال: “ومنها معرفة القراءات المنقولة عن الأئمة السبعة، ورواتهم، وما يلحق بها من شاذ فصيح أو متوجّه”[27]، ويشهد لذلك أيضا ما ذكره في سياق حديثه عن الكلام المنثور والمنظوم، أيهما أفضل؟ قال: “وهذا الشاطبي قد نظم التفسير وزاد عليه كثيرا، وقصيدته جزء يسير من التفسير،…”[28].

وطلب التفسير من أقوال الصحابة لا شك في اعتماده؛ لأنهم أدرى بذلك، لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، بل تفسيرهم في حكم المرفوع من حيث الاستدلال به والاحتجاج، وقد نص ابن جزي في مقدمة تفسيره[29] على اعتماد هذا الطريق، وذكره في الوجه الرابع من وجوه الترجيح.

وقد قال البدر الزركشي في البرهان[30]: “اعلم أن القرآن قسمان، قسم ورد تفسيره بالنقل عمّن يعتبر تفسيره، وقسم لم يرد، والأول ثلاثة أنواع: إما أن يرد التفسير عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أو الصحابة، أو عن رؤوس التابعين؛ فالأول يبحث فيه عن صحة السند، والثاني يُنظر في تفسير الصحابي، فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتمادهم، وإن فسره بما شاهده من الأسباب والقرائن فلا شك فيه؛ وحينئذ إن تعارضت أقوال جماعة من الصحابة، فإن أمكن الجمع فذاك، وإن تعذّر قُدِّم ابن عباس…، وأما الثالث، وهم رؤوس التابعين إذا لم يرفعوه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، ولا إلى أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فحيث جاز التقليد فيما سبق، فكذا هنا، وإلا وجب الاجتهاد”.

ومعرفة أقوال الصحابة والتابعين في التفسير خاصة، وفي العلم والدين عامة خير وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين؛ لأنهم أفضل ممن بعدهم كما دل عليه الكتاب والسنة، ويمكن طلب الحق في بعض أقوالهم؛ لأنه لا يخرج عنها، ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه.

وقد نبه ابن تيمية على أن الخلاف في التفسير بين السلف قليل، وأن خلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وأن غالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وأن التابعين إذا اجتمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك[31].

والمسلك الذي ذكره الطوفي فيما ورد فيه التأويل المختلف عن العلماء يتفق مع ما ذكره ابن تيمية في خصوص أقوال التابعين، وهذا يعني اعتباره لأقوال الصحابة من باب أولى، قال: “وأما ما ورد فيه التأويل المختلف عن العلماء، فذلك الاختلاف إما أن يشتمل على التناقض والتضاد أولا، فإن اشتمل عليه كالقروء[32] التي صُيِّر في تأويلها إلى الحيض مرة، وإلى الأطهار أخرى، كان أحد النقيضين أو الضدين متعينا للإرادة؛ لاستحالة الامتثال بالجمع بينهما، وحينئذ يجب التوصل إلى المراد المتعين بطريق قوي راجح من الطرق المتقدم ذكرها أو غيرها إن أمكن.

وإن لم يشتمل على التناقض، بل كان مجرد اختلاف، وتعدد أقوال، فإن احتمل اللفظ جميعها وأمكن أن تكون مرادة منه، وجب حمله على جميعها ما أمكن، سواء كان احتماله لها مساويا، أو كان في بعضها أرجح من بعض، وإلا فحمله على بعضها دون بعض إلغاء للفظ بالنسبة إلى بعض محتملاته من غير موجب، وهو غير جائز، ولأنه لو جاز أن يكون مرادا، فإعمال اللفظ بالنسبة إليه أحوط من إهماله، نعم إن كان احتماله لها متفاوتا في الرجحان جاز في مقام الترجيح تقديم الأرجح فالأرجح بحسب دلالة اللفظ عليه، أو جلالة قائله، أو عاضده الخارجي، وغير ذلك من وجوه الترجيحات…”[33].

ومعنى هذا أن الطوفي يرى جواز الترجيح بين مذاهب المفسرين باعتبار المسائل الجزئية لا باعتبار مجموع المذهب، كما هو بالنسبة للمذاهب الفقهية، فيصح أن يقال: مذهب مالك في أن الماء المستعمل في الحدث طهور أرجح من مذهب الشافعي وأحمد في أنه غير طهور، إلى غير ذلك من الجزئيات القابلة للرجحان والمرجوحية، وأن هذا الترجيح صحيح إذا دلّ عليه الدليل، ويفهم هذا، أيضا، بتفصيل من كلامه في شرح روضة الناظر[34] في باب ترتيب الأدلة والترجيح، وهذه مسألة ربطها بنوع النزاع اللفظي.

وأما النزاع المعنوي الذي مأخذه النزاع في تصويب المجتهدين، فيتجه فيه الترجيح الكلي بين المذاهب الفقهية بناء على القول بأن كل مجتهد مصيب، وقد وقع هذا الترجيح من غير إنكار سواء باجتهاد أو تقليد، وهو دليل الجواز.

وهذه مسألة أخرى تحتاج إلى مزيد إيضاح وتفصيل ليس هذا هو موطن ذكرها.

وقد خصص الطوفي القسم الثاني من كتابه الإكسير، كما ذكرت سلفا، في بيان العلوم التي اشتمل القرآن عليها، وينبغي للمفسر النظر فيها وصرف العناية إليها، وجعل تلك العلوم على قسمين: منها ما هو لفظي يتعلق بلفظ القرآن، ومنها ما هو معنوي يتعلق بمعناه، وكل منهما على أنواع، وهي مجمل مقتضيات التفسير بالمعقول والمنقول، فمن كانت له يد في معرفة هذه العلوم، وأراد أن يضع تفسيرا، كان له هذا القانون معضدا ومعينا متى ائتم به؛ لاستيعابه النسبي ما يحتاجه من مسالك وقواعد تفسيرية تنفعه في التمحيص والتحقيق، وتعينه في توظيف مقتضيات التفسير توظيفا صحيحا، وتبعده عن منكر التأويل ومنحول التفسير، قال رحمه الله: “واعلم أن هذا القانون في التفسير يدفع عنك كثيرا من خبط المفسرين بتباين أقوالهم، واختلاف آرائهم، وإنما ينتفع بالتزام هذا القانون من كانت له يد في معرفة المعقول والمنقول، واللغة وأوضاعها، ومقتضيات ألفاظها، والمعاني والبيان، بحيث إذا استبهم عليه تفسير آية، وتعارضت فيها الأقوال، صار إلى ما دل عليه القاطع العقلي أو النقلي على تفصيل سبق، ثم إلى مقتضى اللفظ لغة، ونحو ذلك. أما من كان قاصرا فيما ذكرناه، فلا ينتفع بما قررناه؛ لأنه يكون كمن له سيف قاطع، لكن لا تقله يده، لعلة به،…”[35].

وبعد؛ فإن البحث العلمي يقتضي أن تدرس بعض القضايا المنهجية الواردة في هذا القانون بشكل أوسع، ولذلك فإني أحب أن أقرر بأن هذا العرض الوجيز لم يستطع معالجة أطراف الدرس المنهجي في التفسير عند الإمام الطوفي معالجة تامة، ولا استيفاءها استيفاء كاملا، بل هو مجرد محاولة في تفهم القانون المذكور، وعرض لخطوطه العريضة ومعالمه الرئيسة بطابع يطبعه الاقتضاب ويحكمه الاختصار، وذلك في سياق سلسلة المحاولات المهتمة بدراسة مناهج المفسرين والتعريف بها واستبانة معالمها في إطار المحور الثالث من محاور الندوة العلمية المباركة التي تنظمها الرابطة المحمدية للعلماء بتطوان تحت عنوان مناهج الاستمداد من الوحي، وفق الله الجميع لما يحبه الله ويرضاه، والحمد لله رب العالمين.

قائمة المصادر والمراجع

  1. الإحكام في أصول الأحكام للإمام ابن حزم الظاهري.
  2. الإكسير في علم التفسير للإمام الطوفي.
  3. اختلاف القراءات وأثره في التفسير واستنباط الأحكام للدكتور عبد الهادي حميتو.
  4. البحر المحيط للإمام أبي حيان الأندلسي.
  5. البرهان في علوم القرآن للإمام البدر الزركشي.
  6. تأويل مشكل القرآن للإمام ابن قتيبة.
  7. التسهيل لعلوم التنزيل للإمام ابن جزي الأندلسي.
  8. تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير الدمشقي.
  9. التفسير والمفسرون للأستاذ محمد حسين الذهبي.
  10. ذيل طبقات الحنابلة للإمام ابن رجب.
  11. السبعة للإمام ابن مجاهد.
  12. شرح روضة الناظر للإمام الطوفي.
  13. المقدمة للإمام ابن خلدون.
  14. مقدمة صحيح الإمام مسلم.
  15. مقدمة أصول التفسير للإمام ابن تيمية.

الهوامش

  1. ينظر مقدمة صحيح مسلم، 1/15.
  2. الإحكام، 1/96–97.
  3. ص: 63.
  4. ص: 79.
  5. 1/4-6.
  6. 13/27
  7. ينظر: مقدمة ابن خلدون، ص: 440.
  8. يشير إلى ذلك ما ذكره أبو حيان في مقدمة تفسيره، 1/3، قال: “… وما زال بأفقنا المغربي الأندلسي، على بعده من مهبط الوحي النبوي، علماء بالعلوم الإسلامية وغيرها كملة، وفهماء تلاميذ لهم دراة نقلة، يروون فيروون، ويسقون فيرتوون، وينشدون فينشـدون، ويهدون فيهدون، هذا وإن اختلفوا في مدارك العلوم، وتباينوا في المفهوم، فكل له مزية لا يجهل قدرها، وفضيلة لا يسر بدرها، ومما برعوا فيه علم الكتاب، انفردوا بإقرائه منذ أعصار دون غيرهم من ذوي الآداب، أثاروا كنوزه، وفكوا رموزه، وقربوا قاصيه، وراضـوا عاصيه، وفتحوا مقفله، وأوضحوا مشكله، وأنهجوا شعابه، وذللوا صعابه، وأبدوا معانيه في صورة التمثـيل، وأبدعـوه بالتركيـب والتحليل،…”.
  9. ينظر: التفسير والمفسرون للذهبي، 1/212.
  10. المقدمة، ص: 100.
  11. ص: 11-15.
  12. نسبة إلى بلدته طوفى.
  13. 2/366–370.
  14. 2/183 .
  15. ترجمته في التكملة لوفيات النقلة، 3/535، رت 2937، ووفيات الأعيان، 5/389، رت 763، وسير أعلام النبلاء، 23/72، رت 52، وغيرها.
  16. الإكسير، ص: 1.
  17. المصدر نفسه، ص: 15–16.
  18. الكلام عنده إما أن يكون متضح اللفظ والمعنى أو لا، فالأول هو البيّن بنفسه؛ لاتضاح لفظه واشتهاره وضعا أو عرفا، ونصوصيته في معناه، والثاني، وهو عدم الإيضاح في لفظه ومعناه جميعا لاشتراك ونحوه.
  19. الإكسير، ص: 11–12.
  20. نفسه، ص: 12.
  21. ص: 1.
  22. 1/287–288.
  23. في تأويل مشكل القرآن، ص: 543.
  24. التسهيل، 1/20.
  25. 2/25.
  26. ينظر: اختلاف القراءات وأثره في التفسير واستنباط الأحكام للدكتور عبد الهادي حميتو.
  27. الإكسير، ص: 19.
  28. المصدر نفسه، ص: 103.
  29. 1/9.
  30. 2/172.
  31. ينظر مقدمة التفسير، ص: 38 و105.
  32. في المطبوع المحقق: القرء.
  33. الإكسير، ص: 12–13.
  34. 3/682.
  35. الإكسير في علم التفسير، ص: 13-15 بتصرف.
Science
الوسوم

د. أنس وكاك

عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء

 وأستاذ التعليم العالي بكلية اللغة العربية بمراكش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق