مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامدراسات وأبحاثدراسات عامة

معالم الرؤية المنهاجية الكامنة في نصوص الوحـيمن خلال آيات القرآن في موضوع المـــرأة. ج2

الدكتور عبدالرحمن العمراني
أستاذ الفقه الإسلامي
جامعة القاضي عياض، مراكش

ثانيا ـ تثبيت الوضع الجديد للمرأة في ظل الإسلام:

مما اعتمده القرآن في تثبيت وضع المرأة الجديد ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، توزيع خطابه بين ربط القلب بالله، والدعوة إلى التزام أوامره والتحذير من مخالفتها. وذلك من منطلقين اثنين أحدهما إيماني والثاني تشريعي.

1 ـ المنطلق الإيماني:

والمراد به ربط المرء بالله وتعليق نفسه به سبحانه من أجل أن يراجع نفسه في هدوء، ويغير نظرته، ويسمو باهتماماته، ويرقى بالحياة الزوجية خاصة والحياة الإنسانية عامة عن الحياة البهيمية، وقد حصل ذلك بتقرير المسلمات الآتية:

أ ـ تقرير أن الله عز وجل خالق الكون:

يتحدث القرآن عن أصل التوحيد الذي يتأسس عليه إيمان الفرد، ومنه توحيد الخالق. قال تعالى: “ألا له الخلق والأمر”. وورد الأمر بالتفكر فيما يعرفه العربي في بيئته، ووجه أنظار المخاطبين إليه لينتهوا إلى أن ليس للمرء من ذلك شيء، ويدركوا أن ما كان من ذكر أو أنثى فإنما هو هبة من الله عز وجل، حتى إذا تم التصديق بهذا لم يبق مجال للحكم بأن ولادة الأنثى هي مسؤولية المرأة. قال تعالى: “وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يشركون” (القصص:68). وقال: “لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا، ويجعل من يشاء عقيما، إنه عليم قدير” (الشورى:47). وبهذا رد على أهل الجاهلية الذين يحسبون أن المرأة مسؤولة عن جنس المولود كما تحدثت بذلك امرأة هجرها زوجها أبو حمزة الضبي لأنها تلد البنات فقالت:

ما لأبي حمزة لا يأتينـا؟

يظل في البيت الذي يلينا

غضبان أن لا نلد البنيـن

تالله ما ذلك في أيدينــا

وإنما نأخذ ما أعطينــا

ونحن كالزرع لزارعينـا.

وكان البدء في الآية بالإناث في قوله سبحانه: “يهب لمن يشاء إناثا” تقديما لهن على الذكور وتكريما لمقامهن. وقد قرر القرآن أن الخلق ذكورا وإناثا هبة من الله، والوهاب يهب ما يشاء لمن يشاء متى يشاء؛ لا يسأل عما يفعل سبحانه وهم يسألون. فقد وهب إسماعيل لأبيه إبراهيم على كبر سنه وسن زوجته، وكذلك وهب يحيى لزكرياء، وخلق عيسى عليه السلام من غير أب. وكل ذلك من أجل أن يستيقن المرء أن ليس له من الأمر شيء، وأنه إذا تزوج فليتوجه سائلا ربه بالقول: “ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما” (الفرقان:74). هكذا بهذا الإجمال ليحصل استقرار العين بالذكر والأنثى معا.

ثم جاءت النصوص من السنة تبين فضل من وهبه الله أنثى، وذلك فيما رواه الإمام مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين، وضم أصابعه[11]“. وفي رواية الترمذي:  “من عال جاريتين دخلت أنا وهو الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه[12]“. وذلك من أجل أن يغرس في النفوس حب البنات، ويهدم ما كان يعتقده الناس أنهن مجلبة للعار، ممحقة للرزق. وقد رأى الصحابة كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم يتعامل مع ابنته فاطمة ليقتدوا به في ذلك.

ب ـ تقرير مساواة المرأة الرجل في أصل النشأة:

ينطلق القرآن في تثبيت رؤيته الجديدة للمرأة والإقناع بها من بيانه أنها تشترك والرجل في أصل النشأة. قال تعالى: “ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء” (النساء: 1) ليدل به على أن لا تمايز بينهما في أصل نشأتهما، وعلى أن الذي يقتضيه الأمر أن تكون شقيقة للرجل.

هكذا ثبت القرآن الوضع الصحيح للمرأة في النفس بأن أخبر بالمنطلق في نشأتها وأنها لا تختلف فيها عن الرجل، ومن ثم صار يذكرها مع الرجل ليشتركا في الخطاب نحو قوله سبحانه: “والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى” (الليل: 4). ونبه على أن ما ورد من تمايز بينهما قضاه الله تعالى فلحكمته العالية سبحانه، فلا يعاند أحد فيها بقوله سبحانه: “ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض؛ للرجال نصيب مما اكتسبوا، وللنساء نصيب مما اكتسبن، واسألوا الله من فضله. إن الله كان بكل شيء عليما”(النساء: 32) لينتهي إلى بيان ميزان الأفضلية بين الناس جميعهم وهو تقوى الله عز وجل بقوله: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم” (الحجرات:13).

ج ـ تأكيد شخصيتها وتقرير مسؤوليتها عن أعمالها:

ينبني على مساواة المرأة الرجل في أصل النشأة أنها تتساوى معه فيما خلقا من أجله، ومنه التكاليف الشرعية. وقد جاء الخطاب بالتكليف لهما معا. وأكد أن كل واحد منهما يجزيه الله عن عمله. وما اختصها به فلمناسبته الفطرة التي فطرها الله عليها. قال تعالى: “ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا” (النساء: 123). وقال: “من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون” (النحل: 97). وقال: “من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها، ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب” (غافر:40). وقال: “فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض” (آل عمران: 195). وورد ذكر مساواتها الرجل في العقوبة عند الجناية في قوله تعالى: “الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدة منهما مائة جلدة” (النور: 2). وقوله سبحانه: “والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله، والله عزيز حكيم” (المائدة: 38). وجمع رسول الله ذلك كله في قوله: “إن النساء شقائق الرجال[13]“.

د ـ رسم الصورة التي يجب أن تكون عليها في المجتمع:

ثبت أن المرأة والرجل مكلفان شرعا، وظهر أن الخطاب الشرعي ورد في كتاب الله بقوله سبحانه: “ياأيها الذين آمنوا” وقوله: “ياأيها الإنسان” ليعم الجنسين معا، وورد فيه تخصيصها بالخطاب بمجموعة آيات هي بمثابة ضوابط تخضع لها في حياتها ومنها أمرها بالعفة، وسترها ما يجب ستره من زينتها، وتميزها بلباسها الساتر، وأوضح لها من يجوز لها أن تبدي من زينتها لهم في قوله تعالى: “ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها. وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء. ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن. وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون” (النور: 31 ).

هنا جاء تخصيص المرأة بالخطاب في أمر عرف منها التساهل فيه قبل البعثة، وهو ما عبر عنه بالزينة؛ فأمرها بغض البصر وحفظ الفرج مثلها مثل الرجل، وقرر أنهما مسؤولان عن ذلك. ونهاها عن  إبداء ما تعودت على إبدائه من زينتها بحكم العادة ليقتصر فقط على ما ظهر منها وهو وجهها وكفها. وضبط من يحل أن تبدي زينتها لهم من الرجال ليخرج من سواهم. وذلك من أجل أن تسلم من أي تحرش جنسي، وأن لا تتسبب فيه، وتعيش عفيفة حتى إذا ما تزوجت تزوجت وهي مصونة سليمة من الأذى. وجاء التحذير من تبرجها فيما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صنفان من أهل النار لم أرهما؛ قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا[14]“. قال ابن عبدالبر:  “أراد اللواتي يلبسن من الثياب الخفيف الذي يصف ولا يستر أي هن كاسيات بالاسم عاريات[15]“.

وبهذا بدأ القرآن يؤسس لبناء مجتمعه الفاضل في أخلاقه، في علاقاته، في مسؤولياته؛ فتنوع خطابه بين التعميم فيما من شأنه التعميم، والتخصيص فيما من شأنه التخصيص. وهنا ورد تخصيص المرأة بالخطاب تنبيها على دورها في حفظ سلامة المجتمع ليؤكد أن المسؤولية في تحقيق الأمن الاجتماعي مشتركة بينهما، ولكل دوره المرسوم له لحمايته. قال تعالى: “فليحذر يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم” (النور:63).

2 ـ المنطلق التشريعي:

ويتجلى في تشريع مجموعة أحكام تهم المرأة ومنها:

أ ـ فرض حصانتها بالزواج:

يقدم لنا القرآن كيف أن المرأة في الجاهلية لم يكن يلتفت إليها إلا باعتبارها متعة للجنس أو نصيبا ماليا للميراث. ولم يكن يراعى في زواجها أحيانا أنها خالصة لزوجها؛ ولكن حقا مشاعا يشاركه أحيانا غيره فيه. قال تعالى مبينا من يحرم الزواج بهن : “والمحصنات من النساء إلا ما ملكت  أيمانكم كتاب الله عليكم” (النساء: 24). أي يحرم نكاح امرأة في عصمة زوجها، مما يفيد أنه لم يكن منكرا في الجاهلية أن يشترك رجلان أو أكثر في عصمة امرأة واحدة. قال ابن عاشور: “والتقدير؛ حرمت عليكم المحصنات من النساء. والمحصنة من أحصنها الرجل إذا حفظها واستقل بها عن غيره. والمراد أي حرمت عليكم ذوات الأزواج ما دمن في عصمة أزواجهن، فالمقصود تحريم  اشتراك رجلين في عصمة المرأة، وذلك إبطال لنوع من النكاح كان في الجاهلية يسمى الضماد[16]“.

وإن القرآن بنهيه عن هذا يكون قد هدم نكاح الجاهلية بشتى صوره، وأقر صورة واحدة لاجتماع رجل وامرأة في عصمة زوجية بعدما كان الناس قبل البعثة يمارسون أنماطا من الارتباط بين الجنسين مما لا يمكن أن تقبله فطرة سليمة. أخرج الشيخان عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها أخبرته أن “النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء؛ فنكاح منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها. ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه؛ فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع. ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع به الرجل. ونكاح رابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا؛ كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك. فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم[17]“.

إن الذي يتأمل هذه الصور التي كان يتم على وفقها ارتباط الرجل بالمرأة يدرك درجة الانحطاط الأخلاقي الذي كان يفرض على المرأة، ودرجة السفالة التي كان يضع فيها بعض الأزواج أنفسهم بقبولهم الفعل في نسائهم من أجل نجابة الولد. لا غيرة يملكونها على أعراضهم، ولا حصانة تحصل للمرأة بزواجها. من أجل ذلك جاء الحكم صريحا بتحريم المحصنة و التشديد فيه بقوله سبحانه: “كتاب الله عليكم”. “أي هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم، يعني الأربع فالزموا كتابه، ولا تخرجوا عن حدوده، والزموا شرعه وما فرضه[18]“. وكما ذم الشارع اغتصاب حصانة المرأة الزوجية ذم ما كان يفرضه بعض أولياء النساء عليهن من إكراههن على الفساد طمعا فيما يجلبنه إليهم من مال فقال تعالى: “ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا. ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم” (النور: 33).

وبهذا أسس القرآن حكمه الجديد الذي يخالف ما كان معمولا به من قبل؛ فقد كشف عن وضع المرأة في ظل الجاهلية، وبين ما كان يمارس عليه من سوء عشرة، وجاء نهيه عن ذلك صريحا مشفوعا ببشرى مغفرة ما صدر منه قبل نزول التحريم. وفي ذلك توجيه نظر الإنسان إلى المستقبل، ودعوة إلى الالتزام بما نزل، وإفساح المجال له في ابتغاء ما أحل الله له بقوله سبحانه: “وأحل لكم ما وراء ذلكم”.

ب ـ تحديد أصناف المحرمات من النساء:

وهذا تشريع تنظيمي يحفظ مقصدا مهما من مقاصد شريعتنا وهو النسب، وصيانة الصلة الرحمية بين أولي الأرحام بأن بين من يصلح نكاحهن ومن لا يصلح في قوله سبحانه: “ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا؛ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة، وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن؛ فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم، وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف. إن الله كان غفورا رحيما” (النساء: 23). ويظهر من هذه الآية إعطاء الإسلام الزوجية مفهوما واضحا طاهرا حيث بين من يحل الزواج بهن ومن لا يحل الارتباط بهن في عصمة زوجية تجنبا لقطع الرحم. وإن القرآن هنا إذ يرسم نظاما لبناء الأسرة مخالفا لما كان معروفا في الجاهلية بلفظه الصريح “حرمت” يكون قد حدد من يحق له أن يحرم ويحل؛ وهو الله وحده، وليس لأحد غيره أن يقوم بهذا. وأيضا عندما يفتح باب التوبة عما سبق من مخالفة لما نهى عنه بقوله: “إلا ما قد سلف” أي فهو معفو عنه؛ يكون قد شجع على الانخراط في نظامه الجديد لمن يريده.  وإن هذا التشريع وإن كان يحقق مصلحة عامة في المجتمع فإن المرأة تبقى المستفيد الأكبر منه لأنه حماها ” مما كانت ترزح تحته في الجاهلية من خسف وهوان، ومن عسف وظلم حتى تقوم الأسرة على أساس سليم ركين، ومن ثم يقوم المجتمع ـ وقاعدته الأسرة ـ على أرض صلبة وفي جو نظيف عفيف[19]“.

ج ـ رسم حقوق الزوجة:

وقد مهد لتشريع هذه الحقوق بتوضيح ما تمثله المرأة بالنسبة للرجل؛ فذكر أن بها تحقيق سكينته، وأن أحدهما يكمل الآخر من أجل أن يدركا أن لا حياة طبيعية منسجمة مع الفطرة إلا باجتماعهما. قال تعالى: “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون” (الروم:21). وفرض قوامة الرجل على المرأة باعتبارها مسؤولية يتحملها بقوله: “الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم” (النساء: 34).  وقال: “ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة، والله عزيز حكيم” (البقرة: 228). ثم بين حقوقها المادية والمعنوية من صداق ونفقة وحسن معاشرة.

  أما الصداق فجعله فريضة منه سبحانه لها وليس تطوعا بعدما كانت لا تحلم أن تستفيد منه من قبل. قال سبحانه: “وآتوا النساء صدقاتهن نحلة” (النساء:4 ). ونبه على أنه ملك لها محذرا من أخذه منها عنوة بقوله: “ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله”. قال ابن عاشور: “جانبان مستضعفان في الجاهلية مغبون فيهما أصحابهما؛ مال اليتيم ومال النساء فلذا حرسهما القرآن أشد الحراسة؛ ابتدأ بالوصية بحق اليتيم وثنى بالوصاية بحق المرأة في مال ينجز إليها لا محالة. وكان توسط حكم النكاح بين الوصايتين أحسن مناسبة تهيئ لعطف هذا الكلام. والمقصود بالخطاب ابتداء هم الأزواج لكيلا يتذرعوا بحياء النساء وضعفهن وطلب مرضاتهم إلى غمط حقوقهن في أكل مهورهن  أو يجعلوا حاجتهن للتزوج  ـ لأجل إيجاد كافل لهن ـ ذريعة لإسقاط المهر في النكاح[20]“.

ـ وأما حقها في النفقة فورد في قوله تعالى: “وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف” (البقرة: 233). وكذا قوله سبحانه في حق المطلقات: “لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها، سيجعل الله بعد عسر يسرا” (الطلاق: 7) وقوله: “أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم” (الطلاق: 6).

ـ وأما دعوته لحسن معاشرتها فوردت قوله عز زجل: “وعاشروهن بالمعروف؛ فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا” (النساء: 19). ولا شك أن في التعبير بلفظ المعاشرة نفيا للإضرار والإكراه، ودعوة إلى الإحسان إليها. و”يشمل ـ حسن المعاشرة ـ العلاقة الطيبة بكافة مظاهرها؛ فلا يكون فظا غليظا، ولا يعبس في وجهها بغير ذنب. وكذا اهتمامه بها من كل الجوانب فيؤنسها ويروح عنها متاعب البيت ومسؤوليته، ويصابر في معاشرتها ولو عند الكراهية حتى يجعل الله مخرجا لكل منهما[21“. وبهذا يكون هذا الدين قد جدد صورة العلاقة الزوجية برفع المشاعر الإنسانية في الحياة الزوجية من المستوى الحيواني الهابط الذي كان متداولا عندهم إلى المستوى الإنساني الرفيع، وظللها بظلال الاحترام والمودة والتعاطف والتجمل، ووثق الروابط والوشائج فلا تنقطع عند الصدمة الأولى، وعند الانفعال الأول.

د ـ تنظيم الفرقة الزوجية:

سبق أن مما كانت تعانيه المرأة من ظلم زوجها أنه كان يتركها كالمعلقة؛ لا يعاملها باعتبارها زوجة، ولا يفارقها لترتبط بغيره؛ فلما جاء الإسلام بالحق نظم طلاقها وبين آثاره. قال تعالى: ” الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله. فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به، تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون” (البقرة: 229). وقال سبحانه: “يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة، واتقوا الله ربكم. لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، وتلك حدود الله، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذوي عدل منكم. وأقيموا الشهادة لله، ذلكم يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر. ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب. ومن يتوكل على الله فهو حسبه. إن الله بالغ أمره. قد جعل الله على كل شيء قدرا” (الطلاق:3 ).

وإن تنظيم الزواج ورسم طريقة حله شرعا إنما وردا لمنع العبث بالحياة الزوجية، وللمساهمة في حفظ أمن المجتمع من التفكك ومفاسده. ومن يتأمل هذه الآيات يدرك أنها لم ترد مورد الاختيار بالنسبة للأزواج؛ ولكن وردت باعتبارها حدودا لله للتنبيه على خطورة انتهاكها. ويظهر للقارئ مدى الصرامة التي وردت في آيات الطلاق من سورة البقرة، وكذا الوضوح والصراحة في الحكم الذي يجب اتباعه، والتذكير بمراقبته سبحانه لكل شيء؛ فورد فيها قوله “ولا يحل لكم”، وقوله: “فلا تحل له” وقوله: “تلك حدود الله”، وقوله: “ولا تتخذوا آيات الله هزؤا” وقوله: “ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر”، وقوله: “واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير”، وقوله: “واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه”، وقوله: “ولا تنسوا الفضل بينكم، إن الله بما تعملون بصير” (البقرة: 229  ـ 237 ). وكلها عبارات شديدة تحذر من المخالفة وعواقبها.

هـ ـ تقرير انخراط المرأة في الحياة العامة:

تتعدد الآيات القرآنية التي تقص ما قامت به النساء من أعمال في زمن النبوة، ومنها مشاركتها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة في قوله تعالى: “ياأيها النبيء إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك “(الأحزاب: 50). ومنها مشاركتها في بيعة رسول الله بقوله سبحانه: “ياأيها النبيء إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن، إن الله غفور رحيم” (الممتحنة: 12). ومنها اشتراكها في الموالاة للمؤمنين وفي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله سبحانه: “والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله؛ أولئك سيرحمهم الله. إن الله عزيز حكيم” (التوبة: 71). ومنها تقرير أهليتها للشهادة بقوله سبحانه: “واستشهدوا شهيدين من رجالكم؛ فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى” (البقرة:282). وهذه نماذج تبرز حضور المرأة في المجتمع ومشاركتها في الحياة العامة، ويزيدها توضيحا ما كانت تقوم به النساء زمن النبوة من أعمال بمحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن فيه دلالة على أنها عنصر فاعل في الحياة مثل شقيقها الرجل إذا ما التزمت الضوابط الشرعية في اللباس والسلوك والقول.  

ثالثا ـ خاتمة:

يمكن القول إن القرآن الكريم اهتم اهتمام كبيرا بموضوع المرأة، ظهر في معالجة قضاياها عبر خطاب إيماني وتشريعي في عشر سور من القرآن منها سورة النساء الكبرى ـ وهي سورة النساء ـ، والصغرى وهي سورة الطلاق، أما السور الأخرى فهي البقرة والمائدة والنور والأحزاب والمجادلة والممتحنة والتحريم. وجمع القرآن ما يعرض للمرأة في حياتها من زواج وفرقة وآثارهما، وأوضح مسؤوليتها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسجل مبايعتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأهليتها وكفاءتها ومساواتها للرجل في الحقوق والواجبات. وجاء في آخر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ” استوصوا بالنساء خيرا[22]“. وبذلك يكون قد غير نظرة الجاهلية العربية إلى المرأة بنقلها من امرأة “لا تعرف لها حقوقها الإنسانية، فتنزل بها عن منزلة الرجل نزولا شنيعا، يدعها أشبه بالسلعة منها بالإنسان، وذلك في الوقت الذي تتخذ منها تسلية ومتعة بهيمية، وتطلقها فتنة للنفوس، وإغراء للغرائز، ومادة للتشهي والغزل العاري المكشوف[23]” إلى امرأة في ظل الإسلام لها مكانها الطبيعي في كيان الأسرة ودورها الجاد في الحياة العامة.

 نشر بتاريخ 28/05/2012

——————————————————————————–

[11]  ـ صحيح مسلم بشرح النووي: كتاب البر والصلة.

[12]  ـ سنن الترمذي: كتاب البر والصلة.

[13]  ـ سنن أبي داود والترمذي ومسند أحمد.

[14]     صحيح مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها.

[15]  التمهيد لما في الموطإ من المعاني والأسانيد.

[16]  ـ التحرير والتنوير لابن عاشور عند تفسير الآية : 24 من سورة النساء.

[17]  ـ صحيح البخاري: كتاب النكاح.

[18] ـ تفسير ابن كثير للآية 24 من سورة النساء.

[19]– في ظلال القرآن عند تفسير الآية 23 من سورة النساء.

[20]   ـ التحرير والتنوير عند تفسير  الآية 19 من سورة النساء.

[21]  ـ المصدر نفسه.

[22]  صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، وصحيح مسلم: كتاب الرضاع.

[23]   في ظلال القرآن عند تفسير الآية 19 من سورة النساء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق