مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

معارضة خبر الآحاد لعمل أهل المدينة وأثر ذلك في اختلاف الفقهاء 10

الدكتور عبد الحق يدير

أستاذ التعليم العالي كلية الآداب و العلوم الانسانية فاس سايس

 

6- ابن قيم الجوزية وعمل أهل المدينة: روى ابن قيم الجوزية رحمه الله عن جمهور العلماء أنهم نازعوا المالكية في مبدأ الأخذ بعمل أهل المدينة، وقالوا: “عمل أهل المدينة كعمل غيرهم من أهل الأمصار، ولا فرق بين عملهم وعمل أهل الحجاز والعراق والشام، فمن كانت السنة معهم فهم أهل العمل المتبع، وإذا اختلف علماء المسلمين لم يكن عمل بعضهم حجة على بعض، وإنما الحجة اتباع السنة، ولا تترك السنة لكون عمل بعض المسلمين على خلافها أو عمل بها غيرهم، ولو ساغ ترك السنة لعمل بعض الأمة على خلافها لتركت السنن وصارت تبعا لغيرها. فإن عمل بها ذلك الغير عمل بها وإلا فلا، والسنة هي العيار على العمل، وليس العمل عيارا على السنة، ولم تضمن لنا العصمة قط في عمل مصر من الأمصار دون سائرها، والجدران والمساكن والبقاع لا تأثير لها في ترجيح الأقوال، وإنما التأثير لأهلها وسكانها، ومعلوم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وظفِروا من العلم بما لم يظفر به من بعدهم، فهم المقدمون في العلم على من سواهم، كما هم المقدمون في الفضل والدين، وعملهم هو العمل الذي لا يخالف، وقد انتقل أكثرهم عن المدينة، وتفرقوا في الأمصار، بل أكثر علمائهم صاروا إلى الكوفة والبصرة والشام مثل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وأبي موسى وعبد الله بن مسعود وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ومعاذ بن جبل، وانتقل إلى الكوفة والبصرة نحو ثلاثمائة صحابي ونيف، وإلى الشام ومصر نحوهم، فكيف يكون عمل هؤلاء معتبرا ماداموا في المدينة، فإذا خالفوا غيرهم لم يكن عمل من خالفوه معتبرا، فإذا فارقوا جدران المدينة كان عمل من بقي فيها هو المعتبر، ولم يكن خلاف من انتقل عنها معتبرا؟ ! هذا من الممتنع، وليس جعل عمل الباقين معتبرا، أولى من جعل عمل المفارقين معتبرا، فإن الوحي قد انقطع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق إلا كتاب الله وسنة  رسوله، فمن كانت السنة معه فعمله هو العمل المعتبر حقا، فكيف تترك السنة المعصومة لعمل غير معصوم؟.

ثم يقال: أرأيتم لو استمر عمل أهل مصر من الأمصار التي انتقل إليها الصحابة على ما أداه إليهم من صار إليهم من الصحابة، ما الفرق بينه وبين عمل أهل المدينة المستمر على ما أداه إليهم من بها من الصحابة، والعمل إنما استند إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله؟ فكيف يكون قوله وفعله الذي أداه من بالمدينة موجبا للعمل دون قوله وفعله الذي أداه غيرهم؟ هذا إذا كان النص مع عمل أهل المدينة، فكيف إذا كان مع غيرهم النص، وليس معهم نص يعارضه وليس معهم إلا مجرد العمل؟ ومن المعلوم أن العمل لا يقابل النص، بل يقابل العمل بالعمل، ويسلم النص عن المعارض”.[1]

وقد أورد ابن قيم الجوزية عقب كلامه هذا جملة من الاعتراضات التي اعتـُرض بها على المالكية في أخذهم بعمل أهل المدينة واعتباره حجة شرعية، ثم بيّن وجاهتها العلمية، وخلص إلى القول بأن عمل أهل المدينة ثلاثة أنواع:

أحدهـا: لا يعلم أن أهل المدينة خالفهم فيه غيرهم.

والثاني: ما خالف فيه أهل المدينة غيرهم، وإن لم يعلم اختلافهم فيه.

والثالث: ما فيه الخلاف بين أهل المدينة أنفسهم.

ثم بين أن ما عليه العمل إما أن يراد به القسم الأول، أو هو والثاني، أو هما والثالث، فإن أريد الأول فلا ريب أنه حجة يجب اتباعه، وإن أريد الثاني والثالث  فلا دليل عليه[2].

هذه مجمل آراء بعض الفقهاء التي بينوا من خلالها مخالفتهم لعمل أهل المدينة، وخاصة منه العمل المتأخر بالمدينة الذي سبيله الرأي والاجتهاد.

 

أثر رواية الحديث في اختلاف الفقهاء، للدكتور عبد الحق يدير، سلسلة أطروحات وأعمال رقم 17، طبعة 2011م، المملكة المغربية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس-فاس. ص335 وما يليها.

 

 


[1] – انظر إعلام الموقعين: 2/ 274- 276.

[2] –  نفسه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق