مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

معارضة خبر الآحاد لعمل أهل المدينة وأثر ذلك في اختلاف الفقهاء 5

الدكتور عبد الحق يدير

أستاذ التعليم العالي كلية الآداب و العلوم الانسانية فاس سايس. 

 

القسم الثاني: العمل الذي مصدره الاجتهاد والاستدلال: وهو كما قال ابن قيم الجوزية: “معترك النزال ومحل الجدال”[1]، وقد اختلف فيه أصحاب مالك على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ليس بحجة أصلا، وأن الحجة هي إجماع أهل المدينة من طريق النقل، ولا يرجح به أحد الاجتهادين على الآخر، وهذا قول المحققين من أصحاب مالك: كأبي بكر الأبهري، وأبي يعقوب الرازي، والقاضي أبي الفرج، وابن المنتاب، وغيرهم من كبراء البغداديين[2] وأنكر هؤلاء أن يكون هذا مذهبا لمالك أو لأحد من معتمدي أصحابه[3].

قال الباجي: “وهو الصحيح… والدليل على أن هذا ليس بإجماع يحتج به أن العقل لا يحيل الخطأ على الأمة. ولولا ورود الشرع بتصويب المؤمنين لم نقطع على صوابهم فيما أجمعوا عليه ولم يرد شرع بتصويب أهل المدينة دون غيرهم والإخبار عن عصمتهم، ولا سبيل إلى نقل ذلك وإنما ورد الشرع بتفضيل الصحابة وتنزيههم. وقد خرج من جلتهم جماعة عنها كعلي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وعبد الله بن مسعود، وعمار  بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص، وحذيفة، وأبي عبيدة ومعاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، ومن لا يُحصى كثرة من أفاضل الصحابة وأئمتهم رضي الله عنهم.

ولا فضيلة توجد في جملة الصحابة إلا ولهؤلاء المذكورين فيها أوفر حظ وأعلى رتبة. فإن كان إجماع أهل المدينة حجة على هؤلاء كان إجماع هؤلاء أيضا حجة على أهل المدينة، ولا فرق بين الموضعين”[4].

والوجه الثاني: أنه وإن لم يكن حجة فإنه يرجح به اجتهادهم على اجتهاد غيرهم. قال القاضي عياض: “وبه قال بعض الشافعية، ولم يرتضه القاضي أبو بكر، ولا محققو أئمتنا وغيرهم”[5]

والوجه الثالث: أن إجماعهم من طريق الاجتهاد حجة وإن لم يحرم خلافه. قال عياض: “وعليه يدل كلام أحمد بن المعذل، وأبي مصعب، وإليه ذهب القاضي أبو الحسن بن أبي عمر من البغداديين، وجماعة من المغاربة من أصحابنا، ورأوه مقدّما على خبر الواحد والقياس؛ وأطبق المخالفون أنه مذهب مالك. ولا يصحّ عنه كذا مطلقا”  [6]

وقد حرر أبو العباس القرطبي موضع النزاع في مسألة عمل أهل المدينة وإجماعهم بقسميه فقال: “أما الضرب الأول، فينبغي أن لا يختلف فيه، لأنه من باب النقل المتواتر، ولا فرق بين القول والفعل والإقرار إذ كل ذلك نقل محصل للعمل القطعي، وأنهم عدد كثير، وجم غفير، تحيل العادة عليهم التواطؤ على خلاف الصدق، ولا شك أن ما كان هذا سبيله أولى من أخبار الآحاد والأقيسة والظواهر.

وأما الثاني: فالأول منه أنه حجة إذا انفرد، ومرجّح لأحد المتعارضين، ودليلنا على ذلك أن المدينة مأرز الإيمان، ومنزل الأحكام، والصحابة هم المشافهون لأسبابها، الفاهمون لمقاصدها، ثم التابعون نقلوها وضبطوها، وعلى هذا فإجماع أهل المدينة ليس بحجة من حيث إجماعهم، بل إما هو من جهة نقلهم المتواتر، وإما من جهة شهادتهم لقرائن الأحوال الدالة على مقاصد الشرع… وهذا النوع الاستدلالي إن عارضه خبر: فالخبر أولى عند جمهور أصحابنا، لأنه مظنون من جهة واحدة، وهو الطريق؛ وعملهم الاجتهادي مظنون من جهة مستند اجتهادهم، ومن جهة الخبر، وكان الخبر أولى. وقد صار كثير من أصحابنا إلى أنه أولى من الخبر بناء منهم على أنه إجماع، وليس بصحيح، لأن المشهود له بالعصمة كل الأمة لا بعضها”[7].

وقد تحرر بهذا موضع النزاع ـ كما قال الزركشي رحمه الله ـ[8]، وتبين الصحيح من مذهب مالك، بناء على شهادة وخبرة المحققين من أصحابه.

وقد نبّه الأبياري رحمه الله على مسألة حسنة، وهي أنّا إذا قلنا: إن إجماعهم حجة، فلا ينزل منزلة إجماع جميع الأمة، حتى يُفسّق المخالف، وينقض قضاؤه، ولكن يُقال: هو حجة، على معنى أن المستند إليه مستند إلى مأخذ من مآخذ الشريعة، كالمستند إلى القياس وخبر الواحد. (انظر البحر المحيط: 6/447).

وخلاصة القول: فإن المتتبع لعبارات الإمام مالك في عمل أهل المدينة يرى أنه كان يعتبر إجماعهم المستند إلى النقل بمثابة الحديث المتواتر، يلزم المصير إليه، والأخذ به؛ وترك ما خالفه من خبر واحد أو قياس، لأنه نُقل نقلا يحجّ ويقطع العذر. وأما ما نقله أهل المدينة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق الآحاد أو ما أدركوه بالاستنباط والاجتهاد، فهذا لا فرق فيه بين علماء المدينة وغيرهم من الأئمة في أن المصير منه إلى ما عضده الدليل والترجيح كما صرح بذلك غير واحد من محققي المالكية ومعتمديهم، والله أعلم وأحكم.

 

أثر رواية الحديث في اختلاف الفقهاء، للدكتور عبد الحق يدير، سلسلة أطروحات وأعمال رقم 17، طبعة 2011م، المملكة المغربية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس-فاس. ص328 وما يليها.

 

 


[1]  ـ أنظر إعلام الموقعين: 2/282.

[2]  ـ أنظر ترتيب المدارك: 1/50ـ51، والبحر المحيط: 6/443، وإعلام الموقعين: 2/283.

[3]  ـ نفسه.

[4]  ـ أنظر إحكام الفصول ص 482ـ483.

[5]  ـ أنظر ترتيب المدارك: 1/51.

[6]  ـ نفسه.

[7]  ـ انظر البحر المحيط: 6/447.

[8]  ـ نفسه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق