مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

مظاهر التماسك والانسجام من خلال كتاب «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» لبرهان الدين البقاعي نماذج مختارة من سورة البقرة: الآيات من «260-265» أنموذجا «الحلقة 7»

وفي هذا المقال سنكمل دراسة اتساق هذا المقطع القرآني في ثلاثة مظاهر أساسية:

يقول عز وجل: «مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم»[البقرة:261]«الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون »[البقرة:262]«قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيم»[البقرة:263] «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين »[البقرة:264]

«وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير [البقرة:265]

1- مظاهر الإحالة وكيف أسهمت في تماسك الآيات واتساقها:

ومما يجذب الانتباه في هذا الباب هو الإحالة النصية؛ وهي إحالة عنصر معجمي على مقطع من الملفوظ أو النص،[1] ومن ثم فهي تلعب دورا أساسيا في الربط بين أجزاء النص، بحيث لا يمكن للمتلقي فهم عناصرها دون العودة إلى العناصر المحال عليها، وهذا النوع بدوره يتفرع إلى قسمين: أولهما الإحالة القبلية وهو استعمال كلمة أو عبارة تشير إلى كلمة أخرى، أو عبارة أخرى سابقة في النص أو المحادثة، أما المصطلح الثاني فهو النوع الثاني من أنواع الإحالة الداخلية وهوومفهومه عكس مفهوم المصطلح الأول، ويترجم بالإحالة البعدية إلى العنصر اللاحق، ويعرف علماء اللغة هذا المصطلح بأنه استعمال كلمة أو عبارة تشير إلى كلمة أخرى أو عبارة أخرى سوف تستعمل لاحقا في النص أو  المحادثة.[2]

ويلاحظ أن الإحالة النصية حاضرة في مجموع الآيات، خصوصا منها الإحالة على سابق لكون هذا العنصر أكثر انتشارا في معظم النصوص خاصة النص القرآني؛ إذ لا تخلو أي آية من ضمير متصل أو منفصل بارز أو مستتر يعود على عنصر أساسي في النص ألا وهو المخاطب المتمثل في المؤمنين، فالله عز وجل يتوجه بخطابه هذا إلى فئة معينة من الناس تتجلى في المؤمنين، ويظهر ذلك بجلاء إيراده تعالى لعبارة «يا أيها الذين آمنوا» وبما أن المخاطب الأساسي في هذه الآيات هو هذه الفئة، فلقد كان من الضروري أن يحيل النص القرآني عليها ، إذ ورد ذكرها في الآية الأولى وذكرت بعده الضمائر متأخرة عن المحال عليه، ولهذا كانت الإحالة إحالة داخلية على لفظ سبق ذكره، وفي هذا الصدد نقترح خطاطة لتبيين العلاقة بين الضمائر والعنصر المحال عليه:

 

ويتبين من خلال هذه الخطاطة أن الإحالة في هذه الآيات هي إحالة على سابق تمثلت في فئة«الذين آمنوا» وقد حضرت في مجموع الآيات، وحضورها هذا دلالة واضحة على الاتساق الظاهر  والتماسك النصي، كما نلاحظ  أن الضمير «هو» أكثر  العناصر الإحالية استعمالا فقد ساهم بشكل واضح في تكون نسيج النص، بحيث كانت كل الضمائر سواء المتصلة أو المنفصلة عائدة على الفئة التي كانت موضع حديث خاص في الآيات، وهذا التواجد الواسع للضمائر المحيلة على فئة المؤمنين من الناس توضح لنا جليا ذلك الاتساق الحاصل بين الآيات رغم ورود بعضها منفصلا عن البعض الآخر.[3]

2- مظاهر التكرار في الآيات وكيف أسهمت في تماسكها واتساقها:

يعد التكرار من الظواهر التي تتسم بها اللغات عامة، واللغة العربية خاصة، و يتحقق التكرار على مراتب   متعددة؛ مثل تكرار الحروف، والكلمات والعبارات والجمل والفقرات، والقصص أو المواقف كما هو واقع في القرآن الكريم، والتكرار هو إعادة ذكر  لفظ أو عبارة أو جملة أو فقرة، وذلك باللفظ نفسه أو بالترادف، وذلك لتحقيق أغراض كثيرة أهمها تحقيق التماسك النصي بين عناصر النص المتباعدة، [4] ويحدده الرضي بقوله:«والتكرير ضم الشيء  إلى مثله في اللفظ مع كونه إياه في المعنى للتأكيد والتقرير، والغالب فيما يفيد التأكيد أن يذكر بلفظين فصاعدا» [5] وفي هذا بيان لوظيفة من وظائف التكرار، وهي الضم؛ والضم يعني ربط الشيء بما ضم إليه، وفي هذا الربط يتحقق التماسك بينهما.[6]

أما أهميته أو وظيفته في ضوء التحليل النصي المعاصر فهو يهدف إلى تدعيم التماسك النصي، وكذلك يوظف من أجل تحقيق العلاقة المتبادلة بين العناصر المكونة للنص[7] وهو مصطلح يدل دلالة واضحة على التلاحم والترابط بين أجزاء النص.

وإذا عدنا إلى الآيات سيتبين لنا أن هناك عنصرين يتكرران في النص برمته؛ أما العنصر الأول فهو لفظ الجلالة حيث تكرر بدرجة لافتة للنظر وهي عشر مرات، واستمرار ذكر لفظ الجلالة عبر الآيات يسهم في تماسك أجزائها، أما العنصر الثاني؛ فهو فعل الإنفاق الذي تكرر بصيغ مختلفة خمس مرات في النص، وقد ساهم التكرار في اتساق آيات النص القرآني وتلاحمها، ذلك أن توظيف لفظ الجلالة وفعل الإنفاق في ثنايا النص ساهم في تآخي جمله من جهة، وتآخي آياته من جهة ثانية مما جعل منه كلا موحدا.

ومن أمثلة هذا التماسك أيضا هو ذكر الاسم الموصول وجملة الصلة«مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله» في بداية النص القرآني، وإيرادهما مرة ثانية في «الآية: 265»وهذا التكرار في التعبير القرآني فيه  تذكير للمتلقي بأهمية الإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته من ناحية، وتوحيد بين آياته وأجزائه من ناحية ثانية، وإذا أمعنا النظر في البناء الدلالي لمجموع هذه الآيات التي قمنا بدراستها سيتبين لنا أنها تقوم على التكرار بالأساس؛ إذ ابتدأت بتشبيه حال النفقة في سبيل الله بالحبة التي أنبتت سبع سنابل،ثم ثنى بتشبيه حال النفقة رياء الناس بالحجر الأملس، ليشبه مرة ثانية حال النفقة ابتغاء مرضاة الله بالجنة التي أصابها وابل فآتت أكلها، وفي المقابل يشبه حال النفقة رياء الناس بجنة أصابها إعصار فاحترقت، والتكرار هنا تجسد في مظهرين: أولهما: متمثل في تكرار المفردات وتكرار الصور البيانية، والثاني: وهو المقابلة التي ظهرت في الجمع بين صورتين متناقضتين: صورة الإنفاق في سبيل الله، وصورة الإنفاق رياء الناس.

ففي قوله تعالى«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين،وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير»[البقرة: 264-265][8] مشهد كامل مؤلف من منظرين متقابلين شكلا ووضعا وثمرة، وفي كل منظر جزئيات، يتسق بعضها مع بعض من ناحية فن الرسم وفن العرض؛ ويتسق كذلك مع ما يمثله من المشاعر والمعاني التي رسم المنظر كله لتمثيلها وتشخيصها وإحيائها، إنه المشهد الكامل، المتقابل المناظر، المنسق الجزئيات، المعروض بطريقة معجزة التناسق والأداء، الممثل بمناظره الشاخصة لكل خالجة في القلب وكل خاطرة، المصور للمشاعر والوجدانات بما يقابلها من الحالات والمحسوسات، الموحي للقلب باختيار الطريق في يسر عجيب [9]

وقد اتصلت هذه الآيات بقوله تعالى: ««وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير [البقرة:265] اتصالا وثيقا على سبيل الشرح والتفسير فقوله تعالى:«وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ » يكشف عن جانب من جوانب الإنفاق في سبيله تعالى وابتغاء مرضاته، ويتمثل في جهاد النفس،وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ وليثبتوا منها ببذل المال الذي هو شقيق الروح، وبذله أشق شيء على النفس على سائر العبادات الشاقة وعلى الإيمان، لأن النفس إذا رضيت بالتحامل عليها وتكليفها ما يصعب عليها ذلت خاضعة لصاحبها وقل طمعها في اتباعه لشهواتها، وبالعكس، فكان إنفاق المال تثبيتا لها على الإيمان واليقين»[10]

ولما كان المشهد مجالا للبصر والبصيرة من جانب، ومرد الأمر فيه كذلك إلى رؤية الله ومعرفته بما وراء الظواهر، جاء التعقيب لمسة للقلوب«والله بما تعملون بصير» [11] وهذه الآية يمكن القول أنها شرح وتفسير للمعنى الوارد في الآية الأولى بحيث بينت بشكل واضح معنى الإنفاق في سبيل الله وكذا أجره المضاعف عنده تعالى، وقد ارتبطت هذه الآية بالآية الأخيرة من النص ارتباط بيان وإيضاح عن طريق المقابلة إذ جاءت هذه الأخيرة بصورة جنة أصابه إعصار فاحترقت وهي تمثيل لمن يعمل الأعمال الحسنة ولا يبتغي بها وجه الله.

فالنص  القرآني الذي نحن بصدد دراسته ينهض على المقارنة غير المصرح بها بين من ينفق ماله في سبيل الله وابتغاء مرضاته، وبين من ينفق ماله رياء الناس ولا يبتغي بها وجه الله تعالى، ولعل هذا ما يفسر  المقابلة التي انبنت عليها الآيات هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية يبدو أن علاقة البيان والإيضاح هي الخيط الناظم لمجموع الآيات، بحيث يوضح اللاحق منها السابق ما جعل النص متناسق الأطراف؛ وهذا التناسق الدقيق الملحوظ في تركيب كل مشهد على حدة، وفي طريقة عرضه وتنسيقه؛ هذا التناسق لا يقف عند المشاهد فرادى، بل إنه ليمد رواقه فيشمل المشاهد مجتمعة من بدئها في هذا الدرس إلى منتهاها، إنها جميعا تعرض في محيط متجانس، محيط زراعي؛ حبة أنبتت سبع سنابل، صفوان عليه تراب فأصابه وابل، جنة بربوة فآتت أكلها ضعفين، جنة من نخيل وأعناب، حتى الوابل والطل والإعصار التي تكمل محيط الزراعة، لم يخل منها محيط العرض الفني المثير. [12]

3- أهمية السياق في انسجام هذه الآيات:

وفي تحديد سياق سورة البقرة يرى سيد قطب أن هذه السورة تضم عدة موضوعات، ولكن المحور الذي يجمعها كلها محور واحد مزدوج يترابط الخطان الرئيسيان فيه ترابطا شديدا، فهي من ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية في المدينة واستقبالهم لها، ومواجهتهم لرسولها صلى الله عليه وسلم وللجماعة المسلمة الناشئة على أساسها وسائر ما يتعلق بهذا الموقف، بما فيه تلك العلاقة القوية بين اليهود والمنافقين من جهة، وبين اليهود والمشركين من جهة أخرى، وهي من الناحية الأخرى تدور حول موقف الجماعة المسلمة في أول نشأتها وإعدادها لحمل أمانة الدعوة والخلافة في الأرض، بعد أن تعلن السورة نكول بني إسرائيل عن حملها، ونقضهم لعهد الله بخصوصها وتجريدهم من شرف الانتساب الحقيقي لإبراهيم عليه السلام صاحب الحنيفية الأولى، وتبصير الجماعة المسلمة وتحذيرها من العثرات التي سببت تجريد بني إسرائيل من هذا الشرف العظيم، وكل موضوعات السورة تدور حول هذا المحور المزدوج بخطيه الرئيسين[13] ومن ثم كانت هذه السورة رغم وحدة غرضها جامعة  للمعاني المختلفة والمواضيع المتباعدة، ذلك أن القرآن الكريم ألف كثيرا بين المعاني المختلفة في السورة الواحدة، وألقى بينها تداعيا معنويا ونظميا، ولم يكن يسترسل في الحديث عن الجنس الواحد استرسالا يبعث على الملل، ولم يكن ينتقل من معنى إلى آخر انتقالا يخرجه إلى حد المفارقات التي تجمع أشتاتا من غير نظام، فلم يكن يدع الأجناس المختلفة والأضداد المتباعدة حتى يجاور بينها ويبرزها في صورة مؤتلفة، وحتى يجعل من اختلافها نفسه قواما لائتلافها، فتقويم النسق وتعديل المزاج بين الألوان والعناصر المختلفة أشد عناء من تعديل أجزاء العنصر الواحد[14] وهنا ضرب الأستاذ محمد  بن عبد الله دراز مثلا بسورة البقرة فقال:«اعلم أن هذه السورة على طولها تتألف وحدتها من: مقدمة، وأربعة مقاصد، وخاتمة على هذا الترتيب:

«المقدمة» في التعريف بشأن هذا القرآن، وبيان أن ما فيه من الهداية قد بلغ حدًّا من الوضوح لا يتردد فيه ذو قلب سليم، وإنما يعرض عنه من لا قلب له، أو من كان في قلبه مرض.

«المقصد الأول» في دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام.

«المقصد الثاني» في دعوة أهل الكتاب دعوة خاصة إلى ترك باطلهم والدخول في هذا الدين الحق.

«المقصد الثالث» في عرض شرائع هذا الدين تفصيلًا.

«المقصد الرابع» ذكر الوازع والنازع الديني الذي يبعث على ملازمة تلك الشرائع وينهى عن مخالفتها.

«الخاتمة» في التعريف بالذين استجابوا لهذه الدعوة الشاملة لتلك المقاصد وبيان ما يرجى لهم في آجلهم وعاجلهم.[15]

لقد تكررت الدعوة إلى الإنفاق في السورة، فالآن يرسم السياق دستور الصدقة في تفصيل وإسهاب، يرسم هذا الدستور مظللاً بظلال حبيبة أليفة؛ ويبين آدابها النفسية والاجتماعية، الآداب التي تحول الصدقة عملاً تهذيبياً لنفس معطيها؛ وعملاً نافعاً مربحاً لآخذيها؛ وتحوّل المجتمع عن طريقها إلى أسرة يسودها التعاون والتكافل، والتواد والتراحم؛ وترفع البشرية إلى مستوى كريم: المعطي فيه والآخذ على السواء[16]، كما أن هذا المقطع القرآني جاء في سياق توجيهات الدين الإسلامي للجماعة المسلمة وإعدادها لحمل أمانة الخلافة في الأرض، وفي المقطع نجد الكلام منصب على المتلقي بالأساس ويتمثل في الجماعة المسلمة، إذ يتوجه تعالى بكلامه إلى هذه الفئة قصد إعدادها لحمل أمانة الخلافة في الأرض وبناء مجتمع مسلم يقوم على التكافل والتعاون بين أفراده:

المتكلم : الله عز وجل             الرسالة: الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله        المتلقي: الجماعة المسلمة

فالتعبير القرآني في هذه الآيات موجه إلى مخاطب عام يتمثل في الجماعة المسلمة، ومخاطب خاص وهو متعدد؛ فهناك المنفقون في سبيل الله وابتغاء مرضاته؛ وهم الذين يجودون بأموالهم سرا وعلانية، وهناك من يتبع النفقة بالمن والأذى، وهناك من ينفق المال كارها أو مرائيا، وهناك من يضن بالمال فلا يعطيه إلا بالربا، فكانت وظيفة المقطع القرآني وظيفة توجيهية بالأساس تقوم على الحظ والتأليف من جهة، وعلى النهي من جهة ثانية، ويتمثل ذلك في عرض صورة الزرع الذي يمثل الحياة النامية والمعطية، كما يظهر أيضا في صورة جنة بربوة عالية إذا أصابها وابل تشربت منه وازدادت خصوبة، ومن ناحية ثانية فقد جاء الخطاب بصيغ النهي من الخالق إلى المخلوق: «لا تبطلوا» ومع أن التوجيهات التي وردت في هذا الدرس تعد دستوراً دائماً غير مقيد بزمن ولا بملابسات معينة، كما أن العلاقة التداولية لسياق الخطاب في هذه الآيات تشترك في الاشتمال على جملة من الوشائج اللفظية والمعنوية التي تربط أجزاء الآيات بعضها ببعض والتي أدت بدورها  إلى تكوين نسيج النص لتسهم بذلك في انسجام الخطاب القرآني، فجاء المقطع القرآني متماسك الأطراف ومتآخذ الأجزاء حيث ساهمت مجموعة من الأدوات في اتساقه الشكلي من ناحية، وفي انسجامه الدلالي من ناحية ثانية، ذلك أن النص يزخر بالعديد من الأدوات والآليات التي تشد أجزاءه وتربط آياته ومعاني جمله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

 [1] نسيج النص ص: 119

[2] علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، دراسة تطبيقية على السور المكية، صبحي إبراهيم الفقي 1/274، 2/38-40

 [3] انظر المجلة الأكاديمية للأبحاث والنشر العلمي، الاتساق والانسجام في النص القرآني، منير بورد، ص:483، الإصدار الخامس عشر 5-08-2020.

[4] علم اللغة النصي 2/20

[5] شرح الرضي على الكافية، رضي الدين الأستراباذي 1/49.

[6] علم اللغة النصي 2/19

[7] نفسه2/21

[8] في ظلال القرآن3/308

[9] في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، 3/309

 [10] تفسير الكشاف 1/313

 [11] في ظلال القرآن 3/308

[12] نفسه 3/310

 [13] في ظلال القرآن  ص:28.

[14] في لسانيات النص وتحليل الخطاب نحو قراءة لسانية في البناء النصي للقرآن الكريم، الدكتور عبد الرحمن بودرع، ص:67

[15]النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم، محمد بن عبد الله دراز، دار القلم للنشر والتوزيع،طبعة مزيدة ومحققة 1426هـ- 2005م، ص:196-197

[16] في ظلال القرآن، 3/30.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق