مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

مظاهر التماسك والانسجام من خلال كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للإمام البقاعي: التناسب اللفظي والمعنوي في سورة البقرة «نماذج مختارة » «الحلقة التاسعة»

التناسب في الألفاظ والمعاني في سورة البقرة :

إذا عدنا إلى نظم سورة البقرة نجد أنه متعدد الجوانب، ومن نتائج النظم المعجز  قوة الارتباط وبديع الائتلاف والتناسب، فلا يكفي لفهم أسرار النظم القرآني الوقوف على نظم الألفاظ وتراكيبها ما لم يراع في ذلك إظهار التناسب بين الآيات ونظم الجمل، وإحكام الروابط بينها على وجه يتبين به «وجه النظم مفصلا بين كل آية وآية وفي كل سورة سورة» [1] ذلك أن البحث في التناسب المعنوي الذي يراعى في وحدة النسق، ووحدة السورة يدفعنا إلى بيان أسرار اختيار ألفاظ القرآن ومفرداته وأبنيته وتراكيبه، وأوجه التناسب في اختيار كل عنصر من تلك العناصر، ووضعه في موضعه المقدر له من السياق القريب والبعيد داخل إطار السورة وهيكلها المترابط الأجزاء [2] وذلك غاية ما يسعى علم المناسبة إلى اكتشافه، فهو كما وصفه البقاعي: «إيجاد علل الترتيب» ببيان علل اختيار طريق النظم وترتيبه من حيث اختيار الحروف في الكلمات، والكلمات في الجمل وتصريفها، وغير ذلك مما له علاقة بالنظم، فيثبت للإعجاز طريقان: أحدهما: نظم كل جملة على حيالها بحسب التركيب، والثاني نظمها مع أختها بالنظر إلى الترتيب [3]  فعلم مناسبات القرآن علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه، وهو سر البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما اقتضاه من الحال [4] وبه يتراءى نظم الكلمات والجمل في الوجوه المختلفة التي تتصرف فيها من تقديم وتأخير، وتعريف وتنكير، وذكر وحذف، وإفراد وتثنية وجمع، وطريق الإسناد، وغير ذلك من أساليب النظم العديدة التي تظهر بها مستويات من المعاني، وأنماط من الترابط، يتناولها علم المناسبة لكونها مطلبا بلاغيا يقتضيه المقام ويدعو إليه حال المخاطب،[5] ويدرس علم المناسبة النص القرآني بوصفه وحدة بنائية مترابطة الأجزاء، ومهمة المفسر أو الباحث عنه العودة إلى النظم الذي سيق له الكلام، ونظرا لاتساع مجال البحث فيما يتعلق بهيكل السورة وألفاظها، وأبنيتها وتراكيبها، وتنوع أساليب الخطاب فيها، آثرنا الحديث في هذا المقال عن التناسب في النظم في سورة البقرة؛ وسنتناول فيه الحديث عن التناسب في الألفاظ والمعاني، والتناسب في الصياغة والبناء انطلاقا من  نماذج مختارة من سورة البقرة.

إن من خصائص النظم القرآني أن تأتي الكلمات في الآيات مبنية بناء محكما بحيث تؤدي معانيها في موضعها الذي لا تؤديه أية كلمة أخرى بدلا منها، وهذا الترابط المتين والبناء القوي بين الألفاظ والمعاني تجليه بلاغة السياق، فتظهر ما حسن من التناسب، فصار القرآن  معجزًا لأَنه جاءَ بأَفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنًا أصح المعاني [6] يقول عز وجل:«خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيم»[البقرة آية 6]»فآثر النص القرآني لفظ «الختم» على غيره من الألفاظ التي في معناه؛ كالطبع والكتم والرين؛ ليؤدي هذا اللفظ معناه الدقيق الدال على شدة الكفر، وعدم الوعي عن الحق سبحانه، والتمادي في الباطل، فمعنَى«ختم»؛ طبع على قلوبهم بكفرهم وهم كانوا يسمعون ويبصرون ولكنهم لَمْ يستعملوا هذه الحواس استعمالا يجدي عليهم، فصاروا كمن لم يسمع ولم يبصر ولم يعقل [7]، ومراعاة لحسن نظم الآيات ومقاماتها جيء بلفظ «الختم» في هذه الآية استئنافا بيانيا لما سبق من ذكر«الذين كفروا» وأنهم غير مؤمنين، فاختار أولئك «الكفر» ثم أصروا عليه «سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُون»[البقرة:6] ومن هنا جاء الختم على القلوب والأسماع والأبصار من الله نتيجة وليس حكما، ولما كان الكفر هو الستر والتغطية فلابد أن يكون ختما على القلوب، فناسب التعبير بهذه الدلالة، لأن المراد إظهار جحودهم المفرط، والإصرار على الباطل بعد معرفة الحق، وهذا نوع من عذاب الله لهم خص بالختم والغشاوة على القلب والأسماع والبصر فهم لأجل ذلك « صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُون»[البقرة:171] وصارت قلوبهم من كثرة المعاصي وتوالي التجرؤ على بارئها محجوبة بالختم، وأنها أشد قسوة من الحجارة[8] وفي الختم استعارة، شُبه حكمه عليها بالكفر والشقاوة، فلا تعي الخبر، ولا تقبله بضرب الخاتم على الشيء كتما له وتغطية لئلا يتوصل إليه، وخص به القلوب لأنها محل العقل والعلم والفهم، [9] قال ابن قتيبة:«خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ» بمنزلة طَبَعَ الله عليها، والخَاتَمُ بمنزلة الطابَع، وإنما أراد: أنه أقفل عليها وأغلقها، فليست تعي خيرا ولا تسمعه، وأصل هذا: أن كل شيء ختمتَه، فقد سددتَه وربطتَه»[10] ويعضد هذا المعنى قوله تعالى في مواضع أخر من كتابه الكريم: «وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُون»[التوبة:87] وقوله عز وجل: «كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون» [الروم:59]وقوله تعالى: «كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِين»[يونس:74] وقوله تعالى:« بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلا»[النساء:155] وقد ناسب قوله تعالى:«خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيم»[البقرة آية 6]»التعبير بالختم للغرض الذي سيقت لأجله مضامين الآيات؛ ذلك أن أسلوب القرآن الكريم يتأنق في اختيار ألفاظه، ولما بين الألفاظ من فروق دقيقة في دلالتها، فكل لفظة وضعت لتؤدي نصيبها من المعنى أقوى أداء، ولذلك لا تجد في القرآن ترادفا بل فيه كل كلمة تحمل إليك معنى جديدا. [11]

وفي باب تناسق الألفاظ والمعاني، حضور التكرار في القرآن الكريم الذي يجعل المعاني القرآنية كلا متناسقا متجاوبا لا تناقض فيه ولا اختلاف، ففي قوله تعالى:«أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون»[البقرة:187]  في سياق الحديث عن أحكام الصيام مع قوله تعالى:«الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُون» [البقرة:229] في سياق الحديث عن أحكام الطلاق، فقوله: «تلك حدود الله فلا تقربوها» وقوله بعدها«تلك حدود الله فلا تعتدوها» لأن الحد الأول نهي، وهو قوله تعالى«ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد» وما كان من الحدود«نهيا» أمر بترك المقاربة، والحد الثاني«أمر»وهو بيان عدد الطلاق، بخلاف ما كان عليه العرب من المراجعة بعد الطلاق من غير عدد، وما كان «أمرا» أمر  بترك المجاوزة وهو الاعتداء[12]  وهنا يبين الكرماني أسرار التكرار، وارتباط كل كلمة في سياقها المناسب لتدل على معناها دلالة بينة، وبذلك يندفع التنافي بين الآيتين لأن سياق كل واحدة منهما مختلف عن سياق الأخرى فناسب قوله تعالى:«تلك حدود الله فلا تقربوها»[البقرة:187] أن يكون تحذيرا من مخالفة ما شرع إليه من أحكام الصيام،وقَوْلُهُ: «فَلا تَقْرَبُوها» نهى عن مقاربتها الموقعة في الخروج منها على طريق الكناية لأن القرب من الحد يستلزم قصد الخروج غالبا، وجملة «تلك حدود اللَّه فلا تعتدوها» معترضة بين جملة «ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً» وما اتصل بها، وبين الجملة المفرعة عليها وهي فإن طلقها فلا تحل له من بعد الآية، ومناسبة الاعتراض ما جرى في الكلام الذي قبلها من منع أخذ العوض عن الطلاق، إلا في حالة الخوف من ألا يقيما حدود اللَّه، وكانت حدود اللَّه مبينة في الكتاب والسنة، فجيء بهَذه الجملة المعترضة تبيِينا؛ لِأن منع أخذ العوض على الطلاق هو من حدود اللَّه، وحدود اللَّه استعارة للأوامر والنواهي الشرعية بقرينة الإشارة،[13] لذا ناسبها إطلاق الاعتداء الذي هو تجاوز الحد على مخالفة حكم الشرع.

وجيء به في سياق الأمر للتحذير من ترك المجاوزة وهو الاعتداء، وكررت معه كلمة «حدود الله» أربع مرات لتأكيد أمر الوقوف عندها، وجعلها ضابطا ينتهي إليه حكم الشرع، وهكذا كان إعجاز القرآن في إظهار التناسب بين الألفاظ ومعانيها، وإظهار تلازمهما في الجملة القرآنية، لتكون الأفصح في الدلالة والأكثر تأثيرا في النفس، والأنسب في النظم. [14]

التناسب في الصياغة والبناء:

المتدبر لألفاظ القرآن الكريم بسياق اللفظ ونظمه وتركيب المعاني وتصريفها فيما تتجه إليه،وإطالة النظر في كل معنى من معانيه، ثم وجه ارتباط ذلك بما قبله واندماجه فيما بعده، ثم تدبر الألفاظ على حروفها وحركاتها، ومناسبة بعضها لبعض في ذلك، والتغلغل في الوجوه التي من أجلها اختير كل لفظ في موضعه، ثم النظر في روابط الألفاظ والمعاني من الحروف والصيغ التي أقيمت عليها، وهذا غاية ما تسعى البلاغة إلى إيصاله إلى المخاطبين من حيث تكثير الفائدة، وجمع دقائق المعاني المراد بيانها، ومن ثم فالنظر إلى الدلالة التركيبية المستفادة من السياق ونظم الآيات، وما تشتمل عليه من مقامات وقرائن أحوال تظهر دقة القرآن في اختيار ألفاظه مراعيا في ذلك روح السورة العام على أتم وجه وأكمله، وتحقيقا لذلك تبنى الألفاظ في الآيات بالإفراد والتثنية والجمع، تبعا لسياقها ومقاصدها ويوضع كل منها في موضعه الأخص به، بحيث لا يحل غيره محله، [15]ومن صور الألفاظ تلك قوله تعالى: «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُون» [البقرة:17]

فاختيار صيغة الجمع هنا في كلمة «ظلمات» وإيثارها على المفرد للمبالغة والتكثير، وفي هذا الموضع جمعت الظلمة لأن السياق يناسبها، وبيان ذلك أن صورة «الظلمات» تتناسب تماما مع أحوال المنافقين وما هم فيه من ظلمات الشك والكفر والارتياب والنفاق، لأن كل حالة منها تصلح لِأن تشبه بالظلمة وتلك هي حالة الكفر، وحالة الكذب، وحالة الِاستهزاء بالمؤمنِين، وما يتبع تلك الْأحوال من آثار النفاق [16] والتمثيل منزع جليل بديع من منازع البلغاء لا يبلغ إلى محاسنهِ غير خاصتِهِم، وهو هنَا من قبيل التشبيه لا من الاستِعارة لِأن فيه ذكر المشبه والمشبه بِه وأداة التشبيه وهي لفظ مثل، فجملة: «مثَلهم كمثل الذي استوقد نارا» واقعة من الجمل الماضية موقع البيان والتقرير، فكان بينها وبين ما قبلها كمال الِاتصال فلذلك فصلت ولم تعطف[17] فتعين في هذه الآية استعمال صيغة الجمع إشارة إلى مضمون الآيات السابقة، من قوله تعالى:«وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِين» [البقرة:8] وما تضمنه المثل من الإشارة إلى الوجوه المشابهة بين أجزاء حالهم وأجزاء الحالة المشبه بها.

وقد يتم توجيه مناسبة الجمع اعتمادا على نظم الآية وسياقها، ومن ذلك أنه لما كان من معنى«النور» الحق، ومن معاني «الظلمة» الكفر، استعير لكثرة الكفر«الظلمات» [18] والتقابل بين «النور» و«الظلمة» تقابل الإيجاب والسلب، وجمع الظلمات إما لتعددها في الواقع سواء رجع ضمير الجمع إلى المستوقدين أو المنافقين أو لأنها في الحقيقة وإن كانت ظلمة واحدة، لكنها لشدتها استعير لها صيغة الجمع مبالغة، [19] أو يكون  ذلك تكثيرا للظلمات باعتبار محالها من القلب والبصر والحال، أي بالضلالة من قلوبهم وأبصارهم وليلهم، أي ظلمات لا ينفذ فيها بصر، فلذا كانت نتيجته«لا يبصرون» أي لا إبصار لهم أصلاً ببصر ولا بصيرة.[20]

وبهذا تبين وجه التناسب بين الصيغة وسياق الآية أو الآيات التي اكتنفتها، واختيار صيغة الجمع هنا لكلمة الظلمات يكون إما باعتبار قوتها، وإما باعتبار كثرتها.[21]

ومن الأمثلة البليغة التي تحققت فيها المزاوجة بين صيغتي الإفراد والجمع، قوله تعالى: « يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون» [البقرة:219] لقد اتضح في هذه الآية أن الآثم هنا قد ورد بصيغة المفرد، وتم وصفه وصفا تفخيما بكلمة «كبير»، في حين وردت صيغة «المنافع»جمعا ونكرة، والنكتة البلاغية في إفراد الآثم هنا توحي بأنه من جنس الآثم كله، وأما مناسبة جمع «منافع» فمجيئها على هذه الصيغة لتدل على أنها مهما كثرت فهي معدودة في مقابل الآثم الذي يفضي إلى آثام كبيرة غير متناهية، وفي تقديم الآثم على المنفعة بيان لقصد إبعاد الضرر عن النفس، وتعليق الحكم على موطن الآثم الكبير.[22]

وننتقل من اختيار صيغة الجمع إلى اختيار صيغة المشاركة التي تكون من طرفين وما لها من أوجه تناسبية دقيقة يتلاءم فيها اللفظ مع سياقه المقامي، من ذلك قوله تعالى: «وإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُون» [البقرة:51] إذ إن الإتيان بلفظ «واعدنا» هنا يتناسب وسياق الآية من عدة وجوه: أحدها: اتساق لفظ «واعدنا» من حيث المعنى الصرفي لصيغة«فاعل»وتأتي لمعنى المشاركة، أي أنها تأتي من اثنين، وأكثر ما تكون كذلك. [23]

وقد يعدل الخطاب القرآني من صيغة «فعّل» إلى صيغة «أفعل» تبعا لاختلاف سياق الآيات، الذي على أساسه يتم التوظيف البلاغي لصيغ الكلمات، لأن كل صيغة تعبر عن معنى لا تعبر عنه الصيغة الأخرى، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: «وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيم وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُون »[البقرة: 50-49] وسر اختيار هاتين الصيغتين«نجى»و«أنجى» في هذا المقام تعود إلى ما فيهما من أسرار تناسبية يمكن إجلاءها بما يأتي:

قد يرد في القرآن الكريم «فعّل» و«أفعل» بمعنى واحد أو كأنه بمعنى واحد، مثل استعمال «نجى وأنجى» وأن التشديد في «نجّى» يدل على  الكثرة والمبالغة، وأن القرآن الكريم كثيرا ما يستعمل «نجى» للتلبث والتمهل في التنجية، ويستعمل «أنجى» للإسراع فيها، فإن «أنجى» أسرع من «نجى» في التخليص من الشدة والكرب، [24] فإنه لما كانت النجاة من البحر لم تستغرق وقتا طويلا ولا مكثا استعمل«أنجى» بخلاف البقاء مع آل فرعون، فإنه استغرق وقتا طويلا ومكثا فاستعمل له «نجى» ونحو قوله تعالى في سيدنا إبراهيم عليه السلام «فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون»[العنكبوت:24] [25] فنقول  إن ذلك بحسب ما يقتضيه السياق والمقام، فقد يتطلب المقام ذكر الإسراع في النجاة فيستعمل «أنجى»، وقد لا يتطلب ذلك فيستعمل «نجى» وكل ذلك صحيح [26] وهذا يتناسب مع اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن هذا الإنجاء كان لأسلافهم، لأن في نجاة أسلافهم نجاة لهم، فإنه لو استمر عذاب فرعون للآباء لأفناهم، فعظم نعمة التنجية أوجبت المبالغة في بنائها لأنها تحمل في طياتها منتين، منة على السلف لنجاتهم مما كانوا فيه من عذاب، ومنة على الخلف لتمتعهم بالحياة بسببها، فكان من الواجب عليهم أن يقدروا هذه النعمة قدرها، وفي الآية أيضا أثار لفظ «يذبح» علي «يذبح» مصورا به ما حدث، وضعف عينه للدلالة على كثرة ما حدث من القتل في أبناء إسرائيل يومئذ ولا تجد ذلك مستفادا إذا وضعنا مكانها كلمة يقتلون.[27] وهذا ما يتناسب وفعل النعمة «نجى».

ومراعاة لجانب النظم في اختيار الصيغ يمكن بيان الفروق الدقيقة في بنيات النظم لإظهار جمال الدلالات البلاغية المكتسبة من التراكيب النحوية، ومثل هذا واضح في قوله تعالى: «وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُون »[البقرة:25] حيث اختير اسم المفعول«مطهرة» على اسم«طاهرة» وقد بحث الزمخشري سر اختيار لتلك الصيغة فقال:« فإن قلت: هلا قيل طاهرة؟ قلت: في «مطهرة» فخامة لصفتهنّ ليست في «طاهرة»، وهي الإشعار بأن مطهراً طهرهنّ. وليس ذلك إلا اللَّه عزّ وجلّ المريد بعباده الصالحين أن يخوّلهم كلّ مزية فيما أعدّ لهم.» [28] سبب اختيار صيغة المفعول إذا أن صيغة الفاعل هنا تثبت صفة الطهر للأزواج، أما صيغة المفعول فتثبت تلك الصيغة وزيادة، إذ تدل كذلك على  أن ثمة فاعلا لها، وليس ذلك إلا الله عز وجل فكان في ذلك مزيد تفخيم وتشريف لتلك الأزواج الموصوفة. [29] وهكذا نجد أن صيغ الألفاظ في الآيات وتعددها قد جاء تبعا لسياق الآيات ومقاصدها، فيرد اللفظ بذلك محققا تناسقا قويا وتناسبا متينا في الآية مع المعنى المراد إظهاره في السورة بأبلغ تناسب. [30]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] نظم الدرر (1/18)، النظم المعنوي والتركيبي لسورة البقرة دراسة لغوية في ضوء علم المناسبة، زهراء خالد العبيدي وطلال يحيى الطوبجي، دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 38، العدد 3، 2011 ص:1028.

[2] التناسب البياني في القرآن، دراسة في النظم المعنوي والصوتي، أحمد أبو زيد، ص172.

[3] انظر نظم الدرر (1/7).

[4] نظم الدرر (1/5)

 [5] النظم المعنوي والتركيبي لسورة البقرة دراسة لغوية في ضوء علم المناسبة، زهراء خالد العبيدي وطلال يحيى الطوبجي، دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 38، العدد 3، 2011 ص:1029

[6] بيان إعجاز القرآن، مطبوع ضمن: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، سلسلة: ذخائر العرب،  الخطابي، ص: 27.

[7] لسان العرب (8/16)

[8] النظم المعنوي والتركيبي لسورة البقرة دراسة لغوية في ضوء علم المناسبة، زهراء خالد العبيدي وطلال يحيى الطوبجي، دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 38، العدد 3، 2011 ص:1029

[9] قطف الأزهار في كشف الأسرار، جلال الدين السيوطي،  ص: 182

[10] غريب القرآن، ابن قتيبة، المحقق: أحمد صقر، دار الكتب العلمية 1/40

[11] من بلاغة القرآن، أحمد بدوي، ص: 51.

[12] البرهان في متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان،الكرماني، شرح وتعليق السيد الجميلي، ص: 68 .

 [13] التحرير والتنوير (2/413-186).

[14]  النظم المعنوي والتركيبي لسورة البقرة دراسة لغوية في ضوء علم المناسبة، زهراء خالد العبيدي وطلال يحيى الطوبجي، دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 38، العدد 3، 2011 ص:1030.

[15]  النظم المعنوي والتركيبي لسورة البقرة دراسة لغوية في ضوء علم المناسبة، زهراء خالد العبيدي وطلال يحيى الطوبجي، دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 38، العدد 3، 2011 ص:1030

[16] التحرير والتنوير (1/312).

[17] التحرير والتنوير (1/302).

[18] التفسير الكبير، الرازي، (1/312).

[19] روح المعاني (1/170).

[20] نظم الدرر (1/120).

 [21] الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم دراسة نظرية تطبيقية، عبد الحميد يوسف هنداوي، ص:113.

 [22] النظم المعنوي والتركيبي لسورة البقرة دراسة لغوية في ضوء علم المناسبة، زهراء خالد العبيدي وطلال يحيى الطوبجي، دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 38، العدد 3، 2011 ص:1031

[23] أوزان الفعل ومعانيها، هاشم طه، ص:84.

[24] بلاغة الكلمة في التعبير القرآني ، فاضل السامرائي، ص: 65.

[25] نفسه ص: 74.

[26]نفسه ص: 74.

[27] من بلاغة القرآن ص:52 .

[28] الكشاف 1/110.

[29] الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم ص: 108.

[30] النظم المعنوي والتركيبي لسورة البقرة دراسة لغوية في ضوء علم المناسبة، زهراء خالد العبيدي وطلال يحيى الطوبجي، دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 38، العدد 3، 2011 ص:1032

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق