مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

مظاهر التماسك والانسجام من خلال كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للإمام البقاعي: الانسجام الصوتي في الفاصلة القرآنية «نماذج مختارة من سورة البقرة» «الحلقة الثالثة عشرة»

الفاصلة القرآنية لغة واصطلاحا:

«الفَصْل» الحاجز بين الشيئين، فصل بينهما يفصل فصلا فانفصل، وفصلت الشيء فانفصل أي قطعته فانقطع، و«المَفْصِل»: وَاحِدُ مَفاصِل الأَعضاء،و«الانْفِصَال»: مطاوِع فصَل، والمَفْصِل: كل ملتقى عظمين من الجسد، و«الفاصِلة»: الخَرزة التي تفصِل بين الخرزتين فِي النِّظام، وعقد مفصل أَي جعل بين كل لؤلؤتين خرزة، و«الفصل»: القضاء بين الحق والباطل، وقوله عز وجل: «هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ»؛ أي هذا يوم يفصَل فيه بين المحسن والمسِيء ويجازى كل بعمله وبما يتفضل الله به علَى عبده المسلم، ويوم الفصل: هو يوم القيامة، قال الله عز وجل: «وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ»[1]

إذا كان التناسب الإيقاعي يتألف من تناسب الأصوات والمقاطع، ومن توازن الكلمات والقرائن والآيات، فإن أبرز عناصره وأكثرها وضوحا هو تناسب الفواصل، ذلك أن أبرز خصائص النظم القرآني هي التزام الفاصلة في جميع آياته التزاما مطردا، لا يختلف أبدا، كأنها القافية في الشعر، بل إن دور الفاصلة في النظم القرآني يفوق دور القافية في الشعر،[2] وتسمى الفاصلة رؤوس الآيات، قيل: هي كلمة آخر الآية كقافية الشعر وقرينة السجع،[3] قال الرماني: الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع توجب حسن إفهام المعاني، والفواصل بلاغة، والأسجاع عجيب.[4]

وفرق الإمام أبو عمرو الداني بين الفواصل ورءوس الآي، قال: أما الفاصلة فهي الكلام المنفصل مِما بعده، والكلام المنفصل قد يكون رأس آيَة وغيْر رأس، وكذلك الفواصل يكن رؤوس آي وغيرها وكل رأس آية فاصلة، وليس كل فاصلة رأس آية، فالفاصلة تعم النوعين وتجمع الضربين، واستدل على رأيه هذا بما ذكره سيبويه في تمثيل القوافي بقوله تعالى:«يَوْمَ يَاتِ»[ هود :105] وقوله تعالى: «مَا كُنَّا نَبْغِ»[الكهف:64] وهما غير رأس آية بإجماع، مع «إذا يَسْرِ»[الفجر:3] وهو رأس آية باتفاق،[5] وسميت الفاصلة بهذا الاسم لأنه«ينفصل عندها الكلامان، وذلك أن آخر الآية فصل بينها وبين ما بعدها،وأخذت من قوله تعالى: «كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُون»[فُصِّلَت:3] [6].

ومن هذه الآراء التي عرضناها يتبين ما واجه العلماء من صعوبة في تحديد الفاصلة وتعريفها، ويرجع السبب في هذه الصعوبة فيما يبدو إلى تنوع أشكال الفاصلة القرآنية وتعدد صورها، فقد تكون كلمة، وقد تكون مقطعا من كلمة، وقد تكون جملة، وقد انتبه سيد قطب إلى شيء من هذا حين قال:«إن كل سورة من سور القرآن تغلب فيها قافية معينة لآياتها، والقوافي في القرآن غيرها في الشعر، فهي ليست حرفا متحدا، ولكنها إيقاع متشابه مثل: بصير، حكيم، مبين، مريب» «الألباب، الأبصار، النار، قرار» «خفيا، شقيا، شرقيا،شيئا» وتغلب القافية الأولى في مواضع التقرير، والثانية في مواضع الدعاء، والثالثة في مواضع الحكاية،[7] والفواصل لم تأت عبثا أو لتتميم السجع، بل جاءت لتؤدي معنى تتم به الفائدة ويطلبه السياق،قال فضل عباس حسن:«الفاصلة القرآنية لم تأت لغرض لفظي فحسب، وهو اتفاق رؤوس الآي بعضها مع بعض، وهو ما يعبرون عنه بمراعاة الفاصلة، إنما جاءت الفاصلة في كتاب الله تعالى لغرض معنوي يحتمه السياق، وتقتضيه الحكمة، ولا ضير أن يجتمع مع هذا الغرض المعنوي ما يتصل بجمال اللفظ وبديع الإيقاع…»[8] ولا نجد فواصل القرآن مجرد توافق ألفاظ وأوزان فقط، إنما نرى أن لها ارتباطا وثيقا بالمعنى، ارتباطا يجعل من الآية بكليتها باقة متناسقة الألوان في التعبير والتنسيق، ففي قوله تعالى:« وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُون »[البقرة:101] وقوله تعالى: «وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُون »[البقرة:102] وقوله تعالى:«وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُون» [البقرة:103] وفي ورود«يَعْلَمُون » فاصلة لثلاث آيات متتالية،  ما يزيد من أثر الإيقاع لا سيما أن الآيتين«102-103»وردتا باللفظ نفسه مع تقابل السياق ما أثرى دلالة ذلك التقابل وعزز الجانب الصوتي المتمثل بتكرار الألفاظ والفواصل، ويظهر جمال الفاصلة الإيقاعي من خلال دلالة التوازي أيضا وهو السجع الذي يدور عليه محور الإيقاع وهو منوط بنهايات الفواصل التي تمثل السكتة الدلالية الطبيعية في الأداء اللغوي، وقد يكون التوازي في نهايات القرائن يعقب على معنى سابق لوروده كما في قوله تعالى: «أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُون»[البقرة:12] «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُون»[البقرة:13] فلما كانت الآية الأولى تتحدث عن الفساد في الأرض، وتلك قضية تتعلق بالحواس الظاهرة، ختمت بقوله: «ولكن لا يشعرون» لأن المشاعر هي الحواس، ولما كانت القضية الثانية تتعلق بالسفه وهو الجهل ناسب أن تختم بالعلم،[9] قال الزمخشري:« فإن قلت: فلم فصلت هذه الآية ب: «لا يَعْلَمُونَ» ، والتي قبلها ب: «لا يَشْعُرُونَ» ؟ قلت: لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحقّ وهم على الباطل، يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة، وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدّى إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دنيوي مبنى على  العادات، معلوم عند الناس، خصوصا عند العرب في جاهليتهم وما كان قائما بينهم من التغاور والتناحر والتحارب والتحازب، فهو كالمحسوس المشاهد ولأنه قد ذكر السفه، وهو جهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقا له» [10] فالفاصلة في القرآن الكريم عموما، لم تكن حلية لفظية، وإنما كانت ضرورة اقتضاها المعنى وطلبها بشدة يقول الزمخشري:«لا تحسن المحافظة على الفواصل لمجردها إلا مع بقاء المعاني على سردها على المنهج الذي يقتضيه حسن النظم والتآمه، فأما أن تهمل المعاني ويهتم بتحسين اللفظ وحده غير منظور فيه إلى مؤداه فليس من قبيل البلاغة، وبنى على ذلك أن التقديم في «وبالآخرة هم يوقنون» ليس لمجرد الفاصلة بل لرعاية الاختصاص.[11]

وأول ما يلفت انتباهنا هو أن القرآن الكريم قد خلا من التنافر في بنية كلماته، فأصواته كلها قامت على الائتلاف، هذا من جانب، ومن جانب آخر فقد سجلت كلمات القرآن الكريم قمة التناسق بين أصواتها والمعاني المرادة لها، ففي قوله تعالى:« الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون »[البقرة: 157-156]  بين الله تعالى حال الصابرين في هذه الآية؛ وهي أنهم إذا أصابتهم مصيبة قالوا إن لله فله أن يصيبنا بما شاء لأن ملكه وعبيده، وإن إليه راجعون بالموت، فلا جزع إذاً ولكن تسليم لحكمه ورضاً بقضائه وقدره، ثم بشر أولئك الصابرين بمغفرة ذنوبهم وبرحمة من ربهم، وإنهم المهتدون إلى سعادتهم وكمالهم، فقال: «أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» [البقرة: 157] [12] وجاءت الفاصلة هنا«وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» جملة إسمية مؤكدة، يقول البقاعي في تحليلها:«وأولئك» إشارة إلى الذين نالتهم الصلوات والرحمة فأبقاهم مع ذلك في محل بعد في الحضرة، وغيبة في الخطاب «هم المهتدون» فجاء بلفظ «هم» إشعاراً بصلاح بواطنهم عما جره الابتلاء من أنفسهم، وأن أداة البعد في «أولئك» إشارة إلى علو مقامهم وعز مرامهم، ولذا عبر عن هدايتهم بالجملة الاسمية على وجه يفهم الحصر» [13] أما مناسبة الفاصلة: لما كانت الآيات تتحدث عن أوصاف الصابرين  بقوله«أولئك» إشارة كسابقه إلى الصابرين المنعوتين بما ذكر من النعوت، والتكرير لإظهار كمال العناية بهم، ويجوز أن يكون إشارة إليهم باعتبار حيازتهم ما ذكر من الصلوات والرحمة المترتبة على ما تقدم، فعلى الأول المراد بالاهتداء في قوله عز شأنه: « هُمُ الْمُهْتَدُونَ » هو الاهتداء للحق والصواب مطلقا، والجملة مقررة لما قبل كأنه قيل: وأولئك هم المختصون بالاهتداء لكل حق وصواب، ولذلك استرجعوا واستسلموا لقضاء الله تعالى، وعلى الثاني هو الاهتداء والفوز بالمطالب، والمعنى: أولئك هم الفائزون بمطالبهم الدينية والدنيوية.[14]

وفي قوله تعالى:« وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم» [البقرة:143]جاءت الفاصلة هنا« إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم» ختم هذه الآية بهذه الجملة، وهي جارية مجرى التعليل لما قبلها أي للطف رأفته وسعة رحمته نقلكم من شرع إلى شرع ، وتأخر الوصف بالرحمة لكونه فاصلة، وتقدم المجرور اعتناءا  بالمرؤوف بهم [15] و«الرؤوف الرحيم» صفتان مشتبهتان مشتقة أولاهما من الرأفة، والثانية من الرحمة، فالرأفة صيغة مبالغة في رحمة خاصة وهي دفع المكروه وإزالة الضر، وأما الرحمة فاسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى، ويدخل فيه الإفضال والإنعام، فالجمع بين رؤوف ورحيم في الآية يفيد توكيد مدلول أحدهما بمدلول الآخر بالمساواة أو الزيادة، وتقديم«رؤوف» ليقع لفظ «رحيم» فاصلة فيكون أنسب بفواصل هذه السورة لانبناء فواصلها على حرف صحيح ممدود يعقبه حرف صحيح ساكن ووصف رؤوف معتمد ساكنه على الهمز، والهمز شبيه بحروف العلة، فالنطق به غير تام التمكن على اللسان، وحرف الفاء لكونه يخرج من بطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا أشبه حرف اللين فلا يتمكن عليه سكون الوقف، وتقديم«بالناس» على متعلقه وهو «رؤوف رحيم» للتنبيه على عنايته بهم إيقاظا لهم ليشكروه مع الرعاية على الفاصلة،[16] فالله عز وجل في هذه الآية يطمئن  المسلمين على إيمانهم وعلى صلاتهم، وأنهم ليسوا على ظلال، وإن صلاتهم لم تضع، فالله سبحانه لا يعنت بالعباد ولا يضيع عليهم عبادتهم التي توجهوا بها إليه، ولا يشق عليهم في تكليف يجاوز طاقتهم التي يضاعفها الإيمان ويقويها« وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم» فجاءت الفاصلة مؤكدة ومعللة هذا الأمر، وهو أنه تعالى متصف بصفتي الرأفة والرحمة ، يعرف طاقتهم المحدودة، فلا يكلفهم فوق طاقتهم، وإنه يهدي المؤمنين، ويمدهم بالعون من عنده لا جتياز الامتحان حين تصدق منهم النية.[17]

وفي قوله تعالى:« قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُون»[البقرة:144] جاءت الفاصلة هنا «وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُون» وقرىء«يَعْمَلُون»على صيغة الغيبة فهو وعيد للكافرين، والجملة عطف على ما قبلها وهما اعتراض للتأكيد،« وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُون » اعتراض بين الكلامين جيء به للوعد والوعيد للفريقين من أهل الكتاب الداخلين تحت العموم السابق المشار إليهما،[18] فالمراد «بما يعملون» هذا العمل ونحوه من المكابرة والعناد والسفه، وهذا الخبر كناية عن الوعيد بجزائهم عن سوء صنعهم لأن قول القادر ما أنا بغافل عن المجرم تحقيق لعقابه، إذ لا يحول بين القادر وبين الجزاء إلا عدم العلم، فلذلك جاءت الفاصلة  وعدا للمسلمين لدلالته على عظيم منزلتهم، فإن الوعيد إنما ترتب على مخالفتهم للمؤمنين  فلا جرم أنه سيلزم جزاء للمؤمنين على امتثال تغيير القبلة، ولأن الذي لا يغفل عن عمل أولئك لا يغفل عن عمل هؤلاء فيجازى كلا بما يستحق.[19]

ومن خلال تطبيق الوحدة الإيقاعية على فواصل سورة البقرة نجد معظم آيات السورة تنتهي بنهاية مناسبة لمعنى الآية، ولوحدة الإيقاع وتناسب الفواصل، ومن ذلك نأخذ قوله تعالى:« يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون» [البقرة:219] «فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم»[البقرة:220] «وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون »[البقرة:221]«وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين»[البقرة:222] « نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين»[البقرة:223] « وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم»[البقرة:224] «لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيم »[البقرة:225] «لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم»[البقرة:226] وقوله تعالى: «وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيم»[البقرة:227] «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيم»[البقرة:228] هذا المقطع يبين لنا كيف تتنوع النهايات التي تذيلت بها الآيات في السورة، وكيف تؤدي كل نهاية وظيفتها في التناسب المعنوي والإيقاعي معا،هذا المقطع يتكون من عشر آيات ختمت  الأولى بقوله تعالى:« لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون» والثالثة بقوله تعالى:«لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون» فالنهايتان متقاربتان، لكنهما اختلفا في الغاية من بيان الآيات، ففي الآية الأولى بين الله عز وجل بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع، وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى[20] وأما الآية الثانية فتضمنت تحريم من الله عزّ وجل على المؤمنين أن يتزوّجوا المشركات من عبدة الأوثان، وأن الطريقين مختلفان، والدعوتين مختلفان؛ إن طريق المشركين والمشركات ودعوتهم إلى النار، وطريق المؤمنين والمؤمنات هو طريق الله، والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه،أي بشرعه وما أمر به وما نهى عنه، ويبين آياته وأحكامه للناس، لكي يتذكروا فيعتبروا، وختمت بقوله تعالى:«لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون» [21] فجاءت الفاصلة هنا «وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون» جملة فعلية معطوفة على«يدعو»، «ويبين آياته للناس»، أي يظهرها ويكشفها بحيث لا يحصل فيها التباس، أي أن هذا التبيين ليس مختصا بناس دون ناس، بل يظهر آياته لكل أحد رجاء أن يحصل بظهور الآيات تذكر واتعاظ، وللناس متعلق بيبين، واللام معناها الوصول والتبليغ[22] وفي الآية الخامسة ختمت بقوله:«وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين»أي الذين صار لهم الإيمان وصفا راسخا تهيئوا به للمراقبة، وهو إشارة إلى أن مثل هذا من باب الأمانات لا يحجز عنه إلا الإخلاص في الإيمان والتمكن فيه، [23] أما بقية الآيات العشر فقد ختمت بنهايات تتضمن تأكيد بعض صفات الله تعالى؛ ختمت اثنتان بصفتي العزة والحكمة، واثنتان بصفتي السمع والعلم، وآية بصفتي الغفور الرحيم، وأخرى بصفتي الغفور الحليم، ومن خلال تتبع فواصل الآيات في سورة البقرة نجد الآية في الغالب تختم بصفتين إلهيتين متجاورتين متماثلتين في الوزن الصرفي وأكثر ما تكون على وزن «فعيل»، وقد يختلفان في الوزن فتأتي الصفة الأولى على وزن «فعال» أو «فاعل» والثانية على وزن «فعيل» مثل: ثواب رحيم، شاكر عليم، فقد وردت نهاية بعض المقاطع في سورة البقرة بصفتي: «السميع العليم» في الآيات«137-181-127-227-224-244-256»[البقرة]، ووردت بعض المقاطع بصفتي«عزيز حكيم» في الآيات «129-220-240-228-260-209»[ البقرة] وأخرى بصفتي  «الغفور الحليم» في الآيات «225-236»[البقرة] وصفتي: «واسع عليم» في الآيات:«115-247-261-268»[البقرة] وصفتي «التواب الرحيم» في الآيات «37-54-128-160»[البقرة] وصفتي «العلي العظيم» وهما ختام آية الكرسي[البقرة:255 ]  وهو ختام مناسب لآية تضمنت صفات الله الجليلة، وقد تكون الفاصلة بصفة واحدة مطلقة كالعلم المطلق، ومنه قوله تعالى« وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم»[البقرة:29]  وقوله:« إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير» [البقرة:110] وقوله: « أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم » [البقرة:231] أو القدرة المطلقة كقوله تعالى:« إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير»[البقرة:109- 20] ومن خلال هذه الآيات المختارة نلاحظ التناسب الإيقاعي في هذه النهايات أو الفواصل التي تنتهي بفاصلة يتردد فيها صوتان متجانسان متناسقان هما النون والميم، مسبوقان بالياء الممدودة في بعضها، والواو الممدودة في بعضها الآخر، ومعلوم أن هذا الجمال الإيقاعي يأتي من التناسب بين العناصر الصوتية واللفظية، ومن توازن الفقرات والآيات، وانتظام الكلمات  وتماثل الفواصل، فقد أبرز مصطفى صادق الرافعي  القيمة الجمالية لتركيب الأصوات وتلاؤمها وتناسب الألفاظ وحسن ائتلافها يقول:«مناسبة التركيب في أحرف الكلمة الواحدة، ثم ملاءمتها للكلمة التي بإزائها، ثم اتساق الكلام كله على هذا الوجه حتى يكون كالنغم الذي يصب في الأذن صبا، فيجري أضعفه في النسق مجرى أقواه؛ لأن جملته مفرغة على تناسب واحد»[24]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] لسان العرب 11/521.

[2] التناسب البياني في القرآن، دراسة في النظم المعنوي والصوتي، أحمد أبو زيد ص:349.

[3] البرهان في علوم القرآن، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، 1/53.

[4] ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني في الدراسات القرآنية والنقد الأدبي، حققها وعلق عليها: محمد خلف الله أحمد ومحمد زغلول سلام، دار المعارف،ص:97

[5] البرهان في علوم القرآن، 1/53.

[6] نفسه 1/53.

[7] في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، 4/547.

[8] إعجاز القرآن الكريم، فضل عباس حسن، ص: 226.

[9] نفسه، ص: 229.

[10] الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي 1/64.

[11] الإتقان في علوم القرآن، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، 3/359.

[12] أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري، 1/134.

[13] نظم الدرر 2/259-260.

[14] روح المعاني ، المجلد الأول ،ص: 571.

[15] البحر المحيط في التفسير، المجلد الأول، ص: 200-201.

[16] التحرير والتنوير، المجلد الأول، ص:25-26.

[17] في ظلال القرآن 2/133.

[18] روح المعاني 1/409-415.

[19] التحرير والتنوير، المجلد الأول، ص:34.

[20] في ظلال القرآن، سيد قطب، 2/229.

[21] نفسه، 2/240.

[22] البحر المحيط، 2/421.

[23] نظم الدرر، المجلد الأول ص:424.

[24] تاريخ آداب العرب، مصطفى صادق الرافعي، 2/44.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق