وحدة الإحياءدراسات عامة

مصطلح مقاصد الشريعة عند الإمام الشافعي

لقد اتفق جمهور العلماء على أن الإمام الشافعي هو أول من وضع علم أصول الفقه ودونها في كتاب، ولم يسبقه إليه أحد من قبله، كما قال القاضي عياض: “وللشافعي في تقرير الأصول وتمهيد القواعد وترتيب الأدلة والمآخذ وبسطه ذلك ما لم يسبقه إليه من قبله، وكان فيه عليه عيالاً، كل من جاء بعده مع التفنن في علم لسان العرب والقيام بالخبر والنسب[1]“.

وهذا الكلام كما يصدق على علم الأصول فكذلك يصدق على علم المقاصد؛ لأن المتتبع لمباحث المقاصد في التراث الإسلامي يجد أن مقاصد الشريعة ليست علما مستقلا عن علم أصول الفقه؛ لأن ما استخدم في مقاصد الشريعة في أغلبه يرجع أساسا إلى علم أصول الفقه؛ لا من حيث المصطلحات ولا القواعد ولا المناهج، وإن كان من تجديد في المصطلحات فلا يصل إلى درجة انقلاب العلم إلى غيره، وإنما هو تجديد في صلب العلم وفي بنيته.

نعم هناك إضافات أضافها أعلام الفكر المقاصدي، ومفاهيم أيضا اقتبسوها من علوم أخرى وفنون أخرى ووظفوها في علم أصول الفقه من باب مقاصد الشريعة، لكن هذه الألفاظ لم تبلغ درجة الخروج عن علم أصول الفقه وحدّه، وأقصى ما يمكن أن يقال إنهم طوروا بابا من أبواب علم أصول الفقه، وهو طور كبير وعظيم جدا[2].

ولما كانت العناصر المكونة لأصول مقاصد الشارع من وضع الشريعة هي القصد الابتدائي والقصد الإفهامي والقصد التكليفي والقصد الامتثالي التعبدي[3]، كانت البدايات الأولى لعلم أصول الفقه تعالج هذه الأمور التي تكون بنية مقاصد الشريعة وصلبها، وهي التي كانت سبب ظهور علم أصول الفقه منذ البداية؛ لأن ما كتبه الإمام الشافعي في الرسالة لا يخرج عن المبدأ الثاني من مبادئ مقاصد الشريعة وهو قصد الشارع من وضع الشريعة للإفهام.

بل إن شيخ المقاصد أبا إسحاق الشاطبي عندما تحدث عن مسألة قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام؛ نقل فقرات حرفية من كتاب الرسالة، وأحال عليه بالنص، فالمادة هي عينها مادة كتاب الرسالة. ثم قال في آخر المسألة: “والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام، في “رسالته” الموضوعة في أصول الفقه، وكثير ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ؛ فيجب التنبه لذلك، وبالله التوفيق[4]“.

وهذه إشارة واضحة إلى أن الإمام الشافعي هو من نبه على منهج مقاصد الشريعة، بل أنه وضع ضوابط لفهم مقاصد الشريعة، والتي سماها الإمام الشاطبي بعد ذلك “بالأدوات التي بها تفهم المقاصد[5].”

مصطلح مقاصد الشريعة

ومع ذلك، فقد ذهب بعض الباحثين إلى أن استعمال لفظ المقاصد بمدلوله الاصطلاحي لم يبرز إلا بعد انقضاء القرن الثاني، وأن ظهوره بدأ في القرن الثالث مع بعض العلماء والأصوليين، الذين يصرحون في مؤلفاتهم بالكلام عن المقاصد[6].

ولكن إذا رجعنا إلى ما نقله إمام الحرمين عن الإمام الشافعي في كتاب “البرهان”، نجد أن الإمام الشافعي قد استعمل لفظ “مقاصد الشريعة” بمدلوله الاصطلاحي.

وقد نقل إمام الحرمين هذا النص عن الإمام الشافعي عند حديثه عن تقاسيم العلل والأصول، ورده على من ينكر قصد تخصيص لفظ التكبير في الإحرام في الصلاة، فقال:

“قال الشافعي، رضي الله عنه، في مجاري كلامه في رتب النظر: “من قال لا غرض للشارع في تخصيص التكبير وفي الاستمرار عليه ولا غرض لصحْبه ومَن بعدهم من نقلة الشرائع والقائلين بها في التكبير على التخصيص، وقد استتب الناس عليه مع تناسخ العصور، واعتقاب الدهور قولا وعملا، وتناوله الخلف عن السلف، حتى لو فرض عقد الصلاة بغيره، لعُدَّ نُكْرًا، وحُسب هجرًا[7]، فمن قال: والحالة هذه: لا أثر لهذا الاختصاص وإنما هو أمر وفاقي، فقد نادى على نفسه بالجهل بمقاصد الشريعة، وقضايا مقاصد المخاطبين فيما يؤمرون به وينهون عنه. ولو كان غير التكبير كالتكبير، لكان ذكر الشارع التكبير كلاما عريا عن التحصيل نازلا منزلة قول القائل ابتداء: أيحرم على الجنب سورة آل عمران؟ مع القطع بأن غيرها من السور بمثابتها، ولا ينطق المبتدئ بها إلا ويبينُ لغْوُه على عمد إن لم يكن ساهيا[8]“.

وقد صرح إمام الحرمين على أن هذا الكلام من نص الإمام الشافعي، وأنه ليس مستنبطا من نصوصه، وهو ليس كما نسبه بعض الدارسين إلى إمام الحرمين، وذكروا أنه أقدم من استعمل مصطلح «مقاصد الشريعة[9].” فلا أدري كيف أنهم أغفلوا نسبته إلى الإمام الشافعي، مع أن العبارة صريحة بالنقل عن الشافعي في مجاري كلامه في رتب النظر، ثم أن السياق يقتضي عدم الفصل بين أول كلامه وآخره، وكما وردت زيادة: “ثم قال” في نسخة مخطوط الأصل التي تدل على مواصلة كلامه وتمامه.

مقاصد الشريعة عند الإمام الشافعي

ويؤكد هذا أيضا ما نقله إمام الحرمين عن نصوص الإمام الشافعي في مقاصد الأحكام، فقد أشار إلى بعض مقاصد الطهارة والزكاة والصوم والحج والقصاص والحدود والقضاء، وبعض المقاصد الكلية؛ كحفظ النفس والنسب والمال كما في كتاب “مغيث الخلق في ترجيح القول الحق[10]“.

ومن هذه النقول ما ذكره في مقاصد الزكاة:

“قال الشافعي  رضي الله عنه: “المقصود من الزكاة إنما هو سد الخلات ودفع الجوعات، ورد الفاقات والإحسان إلى الفقراء وإغاثة الملهوفين، وإحياء المهج وتدارك الحشاشة والجثث.”

فقال: “اللائق بهذا الغرض أن تكون الزكاة على الفور، وأن لا تسقط بالموت، لأنا لو قلنا: إنه يكون على التراخي، ولا يكون على الفور، وأنها تسقط بالموت لأدى ذلك إلى إبطال هذه الحكمة المطلوبة؛ لأنه إذا علم أنه على التراخي وليس على الفور لا يزال يؤخر ويميل إلى الهوينا والبطالة ويجنح إلى الكسالة، حتى يصير دينا في الذمة، وإنه إذا مات يسقط وذلك يؤدي إلى إبطال الزكاة وتعطيل مقصود الشرع وغرضه وهو باطل قطعا. وقال: المغلب في الزكاة معنى المواساة، فلا جرم يجب في مال الصبيان كصدقة الفطر والعشر[11]“.

 وقال أيضا: “فجامع ما يتخيل المتخيل في الطهارة معنيان: أحدهما؛ الطهارة والنظافة والنزاهة، وتطهير الدنس ودرء العيافة وإحياء مراسم العبادة”. ثم رأى أن الطهارة لمقصود النظافة لا تتحقق إلا بمراعاة المعنى. الثاني؛ وهو التعبد، وضوابط الشرع معتبرة لئلا يختل مقصود الشرع من النظافة[12]“.

إضافة إلى ذلك ما أشار إليه الإمام الشافعي في كلامه من ضرورة المحافظة على الضروريات الخمس:

  1. مقصد حفظ الدين في قوله: “وَمَعْنَى (من بَدَّلَ قُتِلَ) مَعْنًى يَدُلُّ على أن من بدل دينه دين الحق وهو الإسلام… إنما يقتل على الخروج من الحق لأنه لم يكن على الدين الذي أوجب الله، عز وجل، عليه الجنة، وعلى خلافه النار، إنما كان على دين له النار إن أقام عليه، قال الله جل ثناؤه: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْاِسْلَامُ﴾ (ءال عمران: 30)[13].” فهو في هذا النص نبه على حفظ الدين بـحد المرتد ودخوله النار.
  2. مقصد حفظ النفس في قوله: “القصاص حيث شرع إنما شرع صيانة للدماء في أهبها وحفظا للنفوس في نصبها، وردعا للغواة، وزجرا للنجاة، وحقنا للدماء عن أصحاب المجون، وأولى العرامة في مطرد العرف ومستقر العادة، هذه هي الحكمة الكلية والمصلحة الجلية[14].” وفي هذا النص نبه على حفظ النفس بالقصاص وجعله من المصالح الكلية التي قدمها الإمام الشافعي على القياس[15].
  3. مقصد حفظ النسل في قوله: “اللائق بمنهاج الشرع صيانة ماء الإنسان، وحفظه عن الاختلاط… الحدود حيث شرعت، إنما شرعت لردع وزجر الغواة عن الإقدام على تلطخ فراش الغير واختلاط المياه والاضطراب واشتباه الأنساب[16]“.
  4. مقصد حفظ العقل في قوله: “إذهاب العقل محرم… وليس له أن يشرب خمرا لأنها تعطش وتجيع ولا لدواء؛ لأنها تذهب بالعقل، وذهاب العقل منع الفرائض، وتؤدي إلى إتيان المحارم وكذلك ما أذهب العقل غيرها[17]“.
  5. مقصد حفظ المال في قوله: “الأصل في الأملاك صيانتها على الملاك وحفظ الأموال على أربابها ولا يزول ملك المولى إلا بتراض من جهته، وإلا بسبب مشروع، ولا يقطع ملك المالك عليه إلا بحق[18]“.

كليات الشريعة عند الإمام الشافعي

وإذا كان الإطلاق الخاص لمقاصد الشريعة عند العلماء هي: المصالح الأساسية المقصودة من وضع الشريعة ابتداء؛ أي الضروريات والحاجيات والتحسينيات، فإن هذه النصوص المنقولة تدل على أن الإمام الشافعي يستعمل مصطلح “مقاصد الشريعة” بمدلوله الخاص المعروف وهو المصالح، بل هو أول من أطلقها حسب ما اطلعت عليه من آثار العلماء في أصول الفقه عامة والمقاصد خاصة. والله أعلم.

ثم إذا تأملنا في تعاريف العلماء للمقاصد نجدها تدور على معنى واحد وهو أنهم عرفوا “مقاصد الشريعة”؛ بمعنى المصالح أو الغايات[19]. وهو كذلك عند الإمام الشافعي، رحمه الله، إلا أنه أطلقها على المصالح الكلية؛ أي المصالح المستفادة من أدلة شرعية كلية.

وهذا كما نقل عنه إمام الحرمين حين قال: “ذكر الشافعي في الرسالة ترتيبا حسنا فقال: “إذا وقعت واقعة فأحوج المجتهد إلى طلب الحكم فيها، فينظر أولا في نصوص الكتاب، فإن وجد مسلكا دالا على الحكم، فهو المراد، وإن أعوزه انحدر إلى نصوص الأخبار المتواترة، فإن وجده، وإلا انحط إلى نصوص أخبار الآحاد، فإن عثر على مغزاه وإلا انعطف على ظواهر الكتاب. فإن وجد ظاهرا لم يعمل بموجبه حتى يبحث عن المخصصات فإن لاح له مخصص، ترك العمل بفحوى الظاهر، وإن لم يتبين مخصص، طرد العمل بمقتضاه، ثم إن لم يجد في الكتاب ظاهرا نزل عنه إلى ظواهر الأخبار المتواترة، مع انتفاء المختص ثم إلى أخبار الآحاد.

فإن عدم المطلوب في هذه الدرجات، لم يخض في القياس بعد، ولكنه ينظر في كليات الشرع ومصالحها العامة[20]، ثم إذا لم يجد في الواقعة مصلحة عامة، التفت إلى مواضع الإجماع، فإن وجدهم أطبقوا على حكم نصوا عليه، فقد كفَوه مؤنة البحث والفحص. فإن عدم ذلك، خاض في القياس، ونظر فإن وجد الواقعة في معنى المنصوص عليه، فلا يثقل عليه سبر الطرق. فإن أعوزه فيقيس، ويطلب الإخالة والمناسبة والإشعار، فإذا هجم عليه، عمل به إذا لم يعارضه مثله فإن عارضه ما يوازيه في الإخالة، يكلف الترجيح، فإن استويا في طرق التلويح، لم يفت بواحد منهما.

فإن تعسر عليه وجدان المخيل طلب الشبه، إن جعلناه حجة. لا مزيد على هذا الترتيب إلا أن يعينه الرب، فإنه لو قدم الإجماع ليفتي به، جاز، فإنه مقدم على كل مسلك في المرتبة العلية. والله أعلم[21]“.

لقد صرح إمام الحرمين على نقل هذا النص من كتاب الرسالة للشافعي، ولكن لم نعثر على هذه العبارة في الرسالة، والظاهر أنه نقلها من الرسالة القديمة التي لم تصل إلينا نسخة منها، فالرسالة الموجودة الآن بين يدينا هي الرسالة الجديدة التي ألفها الإمام الشافعي بمصر. أما الرسالة القديمة فهي من الكتب المفقودة في هذا العصر.

فهذه النصوص كلها تدل على أن مصطلح “مقاصد الشريعة” كان متداولا في كتب الإمام الشافعي الأصولية عامة والرسالة القديمة خاصة، ولا يبعد الجزم بأن الإمام الشافعي ذكر بعض مسائل مقاصد الشريعة في رسالته القديمة وخاصة عند ترتيب الأدلة كما صرح به إمام الحرمين.

ومما يقوي هذا الجزم  والله أعلم:

  1. تصريح الإمام الشافعي عند تأليفه الرسالة الجديدة وهو بمصر على غياب بعض كتبه القديمة واختصاره منها خوف طول الكتاب دون تقصي العلم في كل أمره، فقال فيه: “وغاب عني بعض كتبي وتحققت بما يعرفه أهل العلم مما حفظت فاختصرت خوف طول كتابي فأتيت ببعض ما فيه الكفاية دون تقصي العلم في كل أمره[22]“.
  2. تصريح إمام الحرمين على نقله عن الشافعي في الرسالة، وقد بين الموضع الذي أخذ منه كما في قوله في النص السابق: “قال الشافعي، رضي الله عنه، في مجاري كلامه في رتب النظر”. وكقوله: “فنسرد كلام الشافعي على وجهه ثم نعود إلى مراسم الحجاج والخلاف واختيار الحق؛ قال الشافعي: أما الحدود… فهذه جمل جمعها الشافعي في مساق هذه المسألة[23]. هذه كلها تدل على صحة نقله، وأنها ليست من تعبير صاحب “البرهان”. ولا ننسى أن إمام الحرمين قد تربى مشبعا بتعليم والده الذي هو أحد شراح الرسالة المعروفين.
  3. كتاب البرهان لإمام الحرمين حفظ لنا المسائل الأصولية لجماعة من الأئمة الذين ضاعت كتبهم فيما ضاع من تراثنا. ومن بينها المسائل الأصولية للشافعي في رسالته القديمة[24]. بل نقل فيه عن الشافعي مسائل كثيرة جدا وهي غير موجودة في الرسالة الجديدة حتى أن المحقق لم يفهرس لاسمه، معتذرا في فهرس الأعلام، بقوله: “الشافعي (الإمام رضي الله عنه) لم نفهرس له لأنه يتردد في معظم الفقرات[25]“.
  4. بداية استعمال مصطلح “مقاصد الشريعة” بشكل كبير ومناقشة مسائلها كانت على يد الأصوليين من الشافعية. وهذا ما يدل على تأصيل إمامهم لهذه المسألة. والله أعلم.

ونرجع الآن إلى قول الإمام الشافعي: “فإن عدم المطلوب في هذه الدرجات، لم يخض في القياس بعد، ولكنه ينظر في كليات الشرع ومصالحها العامة، ثم إذا لم يجد في الواقعة مصلحة عامة، التفت إلى مواضع الإجماع”، فدل على تقديم مقاصد الشريعة على الإجماع والقياس في الترتيب لا العمل. ولكن مقصوده هنا هي المقاصد الضرورية الكلية، وليست المقاصد الحاجية أو التحسينية.

هذا ما نبه عليه إمام الحرمين في هذا الموضع بعد أن ذكر هذه الجملة، حيث قال: “وعد الشافعي من هذا الفن إيجاب القصاص في المثقل، فإن نفيه يخرم قاعدة الزجر”.

وقال أيضا في قسم الضروريات: “ومن خصائص هذا الضرب أن القياس الجزئي فيه وإن كان جليا إذا صادم القاعدة الكلية ترك القياس الجلي للقاعدة الكلية”.

ثم ذكر أن هذه الخاصية من وضع الإمام الشافعي، فقال: “ثم أحسن نظره في الفرع ورتبه لأمرين عظيمين: أحدهما؛ تقديم القواعد الكلية على الأقيسة الجزئية، ولذلك أوجب القتل بالمثقل خيفة انتصابه ذريعة إلى إهدار الدماء، في نفيه إبطال قاعدة القصاص…[26]“.

فتبين لنا من هذه النصوص والمثال الذي ذكره إمام الحرمين على أن ما يقصده الإمام الشافعي بكليات الشرع ومصالحها العامة هي المقاصد الضرورية الكلية. وهي التي قدمها على الإجماع والقياس في ترتيب الأدلة[27].

 ويمكن أن نستدل أيضا على صحة ذلك بقول إمام الحرمين في كتاب الترجيح: “ونحن الآن نرسم ما يترجح به مذهب الإمام المطلبي الشافعي رضي الله عنه… ومجامع الكلام في ذلك يحصرها طرق[28]“. ثم ذكر من بين هذه الطرق: “طريقة أخرى: وهي تشتمل على نظر كلي إلى الفروع وهذا يتأتى بضبط ورد نظر إلى الكليات، فالشريعة متضمنها: مأمور به ومنهي عنه ومباح. فأما المأمور به: فمعظمه العبادات، فلينظر الناظر فيها. وأما المنهيات: فأثبت الشرع في الموبقات منها زواجر، ولا يكاد يخفي احتياط كثير من الناس فيها، وبالجملة الدم معصوم بالقصاص، ومسألة المثقل يهدم حكمة الشرع فيه، والفروج معصومة بالحدود، ولا يخفي ما فيها من الاضطراب، والأموال معصومة عن السراق بالقطع[29]“.

والذي يهمنا هنا هو أن إمام الحرمين نسب إلى الإمام الشافعي هذا النظر إلى الكليات، وجعله من المميزات التي يترجح بها مذهب الإمام الشافعي. وهذه الكليات كما في النص هي الضروريات الخمس؛ فقد نبه على حفظ الدين بالعبادات، وعلى حفظ النفس بالقصاص، وعلى حفظ النسل والعرض بحد الزنا وحد القذف، وعلى حفظ المال بالقطع؛ فدل على أن المراد بالكليات هي الضروريات.

كما أن شيخ المقاصد أبو إسحاق الشاطبي قد أشار إلى معنى “كليات الشريعة” في المقدمة الأولى من كتاب الموافقات، فقال: “الظن لا يقبل في العقليات، ولا إلى كلي شرعي؛ لأن الظن إنما يتعلق بالجزئيات؛ إذ لو جاز تعلق الظن بكليات الشريعة؛ لجاز تعلقه بأصل الشريعة لأنه الكلي الأول، وذلك غير جائز عادة؛ وأعني بالكليات هنا: الضروريات والحاجيات والتحسينيات[30]“.

وهذا يدل على أن كليات الشريعة هي صلب مقاصد الشريعة عند الإمام الشاطبي. فهي كذلك عند الإمام الشافعي كما رأينا.

ثم ذكر الإمام الشاطبي أن مقاصد الشريعة لا تعدو عن هذه الكليات، وذلك في قوله: “تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها؛ أن تكون ضرورية. والثاني؛ أن تكون حاجية. والثالث؛ أن تكون تحسينية[31]“.

الكليات الثلاث

لقد أصبح من المعتاد لدى الباحثين تقسيم المقاصد الشرعية ومصالحها المرعية إلى هذه الكليات الثلاث ضروريات، وحاجيات، وتحسينات. كما أصبح من المعتاد اللجوء والاحتكام إلى هذا التقسيم لتمييز مراتب المصالح ومعرفة ما يقدم وما يؤخر، وما يعتبر فيه الترخيص وما لا يعتبر، وما يمكن تفويته وما لا يمكن، إلى غير ذلك مما  يترتب على هذا التقسيم من قواعد وتطبيقات أصولية وفقهية.

وزعموا أن هذا التقسيم نجد أساسه، أول ما نجد، عند إمام الحرمين، وذلك في باب تقاسيم العلل والأصول من كتاب القياس في (البرهان)، بعد أن عرض آراء العلماء فيما يعلل و ما لا يعلل من أحكام الشرع، وذكر نماذج لتعليلاتهم، وأثر كل ذلك في إجراء الأقيسة في الأحكام، ثم قالوا: “وظاهر من عبارته الإشعار بأن هذا التقسيم من وضعه، وأنه غير مسبوق به[32]“.

هذا ما ذكروه، ولننظر الآن ماذا فعل إمام الحرمين في باب تقاسيم العلل والأصول من كتاب القياس في (البرهان)، فقد قال فيه: “هذا الذي ذكره هؤلاء أصول الشريعة، ونحن نقسمها خمسة أقسام:

أحدها؛ ما يعقل معناه وهو أصل، ويئول المعنى المعقول منه إلى أمر ضروري لابد منه مع تقرير غاية الإيالة الكلية والسياسية العامية. وهذا بمنزلة قضاء الشرع بوجوب القصاص في أوانه؛ فهو معلل بتحقق العصمة في الدماء المحقونة، والزجر عن التهجم عليها..[33]“.

هذا الذي ذكره إمام الحرمين نجده مشابها تماما لما عند الإمام الشافعي كما نقل عنه إمام الحرمين نفسه، في سياق رد الشافعي على مخالفه: “وقال الشافعي: هذا مما يعقل معناه في الجملة… وأحكام الشرع تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إلى ما لا يعقل معناه أصلا، وإلى ما يعقل معناه ظاهرا[34]، وإلى ما يعقل أصل معناه ولكن لا يعقل وجه تفاصيله.

الأول؛ كضرب الدية على العاقلة، ووجوب الغسل بخروج المني دون خروج البول.

والثاني؛ مشروعية القصاص، وهو معقول وهو لحكمة الردع والزجر.

والثالث؛ نحو الوضوء، أصل المعنى معقول وهو النظافة والصلاة وهي الرياضة، وإزالة الأنجاس. ولكن تطرق إلى تفاصيله أنواع من التعبدات كتفاصيل الركعات وما بينا في الأنجاس، فكان التعبد غالبا فانحسم باب القياس”.

ثم علق إمام الحرمين على هذا الكلام فقال: “فدقيقة الشافعي، رضي الله عنه، تلائم الأصل فكان أولى… ومن بدائع نظره أنه قسم الأحكام إلى ما يعلل وإلى ما لا يعلل، وما يعلل ينقسم إلى ما يتطرق إليه أنواع التعبدات[35]“.

فأنت ترى أن تقسيم الإمام الجويني يشبه تماما تقسيم الإمام الشافعي، لا من حيث التأصيل ولا من حيث التمثيل. كما ستراه جليا في باقي الأقسام.

ثم ذكر الجويني أيضا في قسم الضروريات: “ومن خصائص هذا الضرب أن القياس الجزئي فيه وإن كان جليا إذا صادم القاعدة الكلية ترك القياس الجلي للقاعدة الكلية[36]“.

وهذه الخاصية نجدها أيضا عند الإمام الشافعي بل هي من بديع وضعه المميز كما نقل عنه الإمام الجويني والغزالي: « ثم أحسن نظره في الفرع ورتبه لأمرين عظيمين: أحدهما: تقديم القواعد الكلية على الاقيسة الجزئية، ولذلك أوجب القتل بالمثقل خيفة انتصابه ذريعة إلى إهدار الدماء، في نفيه إبطال قاعدة القصاص…[37]“.

ثم انتقل إلى القسم الثاني من تقاسيم العلل والأصول، فقال:

والضرب الثاني: ما يتعلق بالحاجة العامة، ولا ينتهي إلى حد الضرورة. وهذا مثل تصحيح الإجارة؛ فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها، وضِنَّة ملاكها بها على سبيل العارية؛ فهذه حاجة ظاهرة غير بالغة مبلغ الضرورة المفروضة في البيع وغيره[38]“.

ثم نقل عن الإمام الشافعي من دقيق ما يجري في هذا القسم، فقال: “ومن دقيق ما يجري في هذا الفن، وهو العلق النفيس في هذا القبيل: أن الشافعي ألحق إثبات الخيار والأجل بأبواب الرخص. من جهة أن قياس التقابل في المعاوضات أن يخرج العوض عن ملك أحد المتعاقدين حسب دخول مقابله في ملكه، وإذا حل أحد العوضين وتأجل الثاني، كان ذلك خارجا عن هذا القانون، وكذلك الخيار الطارىء على العقد المبني على اللزوم في حكم الرخص. والتأجيل أثبت فسحة لمن لا يملك الثمن في الحال ورجاء أن يتمحله  إلى منقرض الآجال. والخيار أثبت لتروي من لا بصيرة له، وعدم الدراية في السلع أعم وأغلب من المعرفة بها.

والقول في ذلك عندنا؛ أن أصل البيع مستنده الضرورة، أو الحاجة النازلة منزلة الضرورة، واللزوم فيه بمطلق البيع قد لا يستند إلى الضرورة. نعم. لو قيل: لا يفضى البيع قط إلى لزوم جر ذلك ضرارا بينا من حيث لا يثق المتعاوضان بما يتقابضان، وكان من الممكن أن يقال: إذا تراضى المتعاقدان على الإلزام لزم، وإن أطلقاه فالحكم بلزومه من غير تراضيهما فيه مصلحي وليس ضروريا. وكذلك المصير إلى اقتضاء مقتضى العقد حلول العوضين مصلحي. فإذا تمهد ذلك، فشرط الخيار والأجل لا يخرم أمرا ضروريا. فليفهم الفاهم ذلك، وليتئد إذا انتهى إلى هذا المقام.

ولكن الشافعي نظر إلى تعبدات الشارع، فقد مهد في العقود تمهيدا عاما، وإن لم يكن مستنده إلى ضرورة مدركة بالعقول أو حاجة، ثم رأى ما يطرأ عليها بمثابة ما يطرأ على وظائف العبادات من الرخص والتخفيفات، وإن كانت العبادات في أصولها غير مستندة إلى أغراض، وإلا فالقاعدة الكلية اتباع الحاجة والضرورة، أو اتباع رضا المطلقين، فإن ألحق ملحق الخيار والأجل بالرخص من جهة ندورهما بالأضافة إلى ما تمهد في التعبد والاستصلاح في العقود، وإلا فاتباع الرضا من غير اقتحام أمر كلي أمس للقياس الكلي من الاستصلاحات[39]“.

والضرب الثالث؛ “ما لا يتعلق بضرورة حاقة ولا حاجة عامة ولكنه يلوح فيه غرض في جلب مكرمة أو في نفي نقيض لها ويجوز أن يلتحق بهذا الجنس طهارة الحدث وإزالة الخبث[40].”

ثم مرة أخرى، يستشهد إمام الحرمين بنصوص الشافعي في تقرير هذه المسألة، فقال: “ولهذا ذهب طوائف من الفقهاء إلى أنه يحرم على الإنسان التضمخ بالنجاسات من غير حاجة ماسة. والشافعي نص هذا في الكثير، وقد ردد، في مواضع من كتبه، تحريم لبس جلد الميتة قبل الدباغ، وحرام على المرء أن يلبس جلود الكلاب والخنازير، فتميز ظهور الغرض في إزالة النجاسة عن النظافة الكلية المعينة في الوضوء، ولهذا خصص الشافعي الوضوء بالنية من حيث التحق بالتعبدات العرية عن الأغراض، وضاهى العبادات البدنية“.

والضرب الرابع؛ “ما لا يستند إلى حاجة وضرورة، وتحصيل المقصود فيه مندوب إليه تصريحا ابتداء، وفي المسلك الثالث في تحصيله خروج عن قياس كلي[41]“.

 وقد مثل لهذا القسم بالكتابة ثم ناقش فيه مذهبي الإمام مالك والإمام الشافعي في مسألة الكتابة، فقال: “فقد مثلناه بالكتابة، فهو في الأصل كالضرب الثالث الذي انتجز الفراغ منه في أن الغرض المخيل الاسحثاث على مكرمة لم يرد الأمر على التصريح بإيجابها، بل ورد الأمر بالندب إليها؛ فان العتق في الابتداء محثوث عليه مندوب إليه.

فهذا الضرب يتميز عن الضرب الثالث المقدم عليه؛ فإن الشرع احتمل فيه خرم قاعدة ممهدة وهي امتناع معاملة المالك عبده، وامتناع مقابلة الملك بالملك على صيغة المعاوضات ولم يجر مثل ذلك في الضرب الثالث، وإن اختص الضرب الثالث بإيجاب الطهارة، ولا تجب الكتابة على رأي معظم العلماء.

وذهب مالك، رحمه الله، في طوائف من السلف إلى وجوبها وإسعاف العبد إذا طلبها، ووجد فيها خيرا. ومأخذ مذهبه في ذلك يقرب من إيجاب الطهارات، مع العلم بأن النظافة في نفسها لا تجب بأمر مقصود، وتعلق أيضا بظاهر الأمر في قوله تعالى: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾ (النور:33).

والشافعي، رحمه الله، رأى الإيتاء واجبا كما أنبأ عنه قوله تعالى ﴿وَءاتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ﴾ (النور: 33). فكان هذا مما اعترض به عليه إذ أجرى إحدى الصيغتين على اقتضاء الإيجاب وحمل الأخرى على الاستحباب[42].

فأما ما أشرنا إليه من تشبيه هذا الضرب على رأي مالك بالطهارات فهو يصلح لعقد المذهب، وإلا فقد مهدنا أن القياس لا يجرى في محاولة تأصيل الأصول على هذا الوجه، وإنما يجري طرف من التشبيه في جزيئات النوع من غير خروج عنه. وأما التعلق بالظاهر فأوجَه.

ولكن الشافعي لم يعتمد في ايجاب الإيتاء مجرد الظاهر لكن عول على سير الصحابة، رضي الله عنهم، وما كان منهم ونقل آثارا مطابقة لمعتقده، وضم إليه أن الكتابة يتضمنها إرفاق من كل وجه، والإيتاء منه. وقد رآه الأولون على الاطراد يتضمنها والتبرعات لا تطرد سيما في الأموال. والكتابة تلزم في حق السيد، ومن متضمنها الرفق المنقول. وما تقرر يلزم شيئا إذا صح لم يلزم الإقدام عليه. على أني لا أرى على مذهب الشافعي مسألة أضيق مسلكا من الإيتاء.

ونحن نقول وراء ذلك: أما مالك فسوى بين الكتابة وبين باب الطهارات في إثبات إيجاب الأصل، ولاح على أصله إجراء قسم الكتابة في وضع الشرع على باب الطهارات باحتمال أمور خارجة عن أقيسة المعاوضات فيها.

والشافعي لم يوجب الكتابة، وقال: للشرع تعبد في الإيجاب متبع. ويخرج من ذلك تعادل الضربين في خروج الطرفين عن القياس، فانتهض إيجاب الطهارة محصلا لمكرمة النظافة، كما انتهض رفع الحجر في الكتابة مرعيا في تحصيل العتاقة.

ثم قال الشافعي: في رفع الحرج في الكتابة ترغيب مالي، يتعلق بغرض بين في تحصيل الكسب، فإن العبد يحرص إذا طمع في العتاقة والسيد يتحصل على كسب كان لا يتحصل له بغير الكتابة بظاهر الظن، فخرجت الكتابة عن قبيل القرب لظهور الغرض منها، ولم يكن في الطهارات غرض ناجز فلاقَ بها ترغيب في الثواب. وهذا يقتضي إلحاقها بالقرب المفتقرة إلى النيات[43]“.

والضرب الخامس؛ “والضرب الخامس من الأصول ما لا يلوح فيه للمستنبط معنى أصلا، لا مقتضى من ضرورة أو حاجة أو استحثاث على مكرمة وهذا يندر تصويره جدا فإنه إن امتنع استنباط معنى جزئي فلا يمتنع تخيله كليا ومثال هذا القسم العبادات البدنية المحضة فإنه لا يتعلق بها أغراض دفعية ولا نفعية ولكن لا يبعد أن يقال تواصل الوظائف يديم مرون العباد على حكم الانقياد وتجديد العهد بذكر الله تعالى ينهى عن الفحشاء والمنكر[44]“.

ولا يخلو هذا القسم أيضا من نقله عن الإمام الشافعي في تقرير هذه المسألة، فبعد أن ذكر أن هذا القسم لا يضبطه القياس ولا يحيط به المستنبط، قال: “فأما ما يثبت برسم الشارع، ولم يكن معقول المعنى، فلا يسوغ القياس فيه، وهذا كورود الشرع بالتكبير عند التحريم، والتسليم عند التحليل، ومن هذا القبيل اتحاد الركوع وتعدد السجود، فمن أراد أن يعتبر غير التكبير بالتكبير مصيرا إلى أنه تمجيد وتعظيم، فقد بعد بعدا عظيما، وزال من القاعدة الكلية، فإن إيجاب الذكر عند التحليل ليس معقول المعنى.

 وإذا قال الحنفي: معنى التكبير معقول. قيل له: اشتراط ما يتضمن تمجيدا عند التحريم غير معقول، ولا ينفع الاكتفاء يكون التكبير معقول المعنى، فإن هذا يرجع إلى وضع اللسان، ومعنى الصيغ، وليس هذا من معاني الشرع في ورد ولا صدر.

 قال الشافعي، رضي الله عنه، في مجاري كلامه في رتب النظر: “من قال لا غرض للشارع في تخصيص التكبير… فقد نادى على نفسه بالجهل بمقاصد الشريعة…[45]“.

فهذه هي تقاسيم العلل والأصول عند إمام الحرمين، التي تبين لنا منها على فضل تأصيل الإمام الشافعي وسبقه فيها، ولا يخلو قسم من هذه الأقسام إلا وفيه تأصيل منقول عنه، وخاصة فيما يتعلق بأصل تقسيم الأحكام حيث قسم إلى ثلاثة أقسام: إلى ما لا يعقل معناه أصلا، وإلى ما يعقل معناه ظاهرا، وإلى ما يعقل أصل معناه ولكن لا يعقل وجه تفاصيله.

إضافة إلى الأمثلة التي ضربها الإمام الجويني وأغلبها من نصوص الإمام الشافعي تأصيلا وتفريعا، فإنه لا يبعد أن يكون التقسيم الخماسي أيضا من وضعه أو من توجيهه. والله أعلم.

خاتمة

وفي خاتمة هذا البحث أرسم خلاصة مشتملة على أهم النتائج التي توصلت إليها، فهي كالآتي:

  1. أن الإمام الشافعي، رحمه الله، أول من استعمل مصطلح “مقاصد الشريعة”، وعبر عنها أيضا بكليات الشرع ومصالحها العامة.
  2. أن مصطلح “مقاصد الشريعة” كان متداولا عند الإمام الشافعي في كتبه الأصولية عامة والرسالة القديمة خاصة.
  3. أن علم مقاصد الشريعة ليس علما مستقلا عن علم أصول الفقه.
  4. أن الإمام الشافعي له فضل كبير في تقسيم المصالح إلى الضروريات والحاجيات والتحسينيات.
  5. أن الإمام الشافعي قد تنبه للضروريات الخمس وأشار إليها جملة وتفصيلا.
  6. أن الإمام الشافعي قدم المقاصد الضرورية الكلية على القياس الجلي في ترتيب الأدلة.
  7. أن الإمام الشافعي قد وضع ضوابط لفهم مقاصد الشريعة التي تسمى بالقصد الإفهامي.
  8. أن الإمام الشافعي قال بضرورة مراعاة كليات الشريعة ومصالحها العامة في الاجتهاد.
  9. أن الإمام الشافعي قسم أحكام الشرع إلى ثلاثة أقسام: إلى ما لا يعقل معناه أصلا، وإلى ما يعقل معناه ظاهرا، وإلى ما يعقل أصل معناه ولكن لا يعقل وجه تفاصيله.
  10. أن مؤلفات إمام الحرمين مشحونة بآراء الإمام الشافعي الأصولية والمقاصدية التي اقتبست من كلامه وكتبه المفقودة الآن. فينبغي للباحث أن ينظر فيها ولا يكفي أن يحكم على الآراء الأصولية للشافعي في الرسالة الجديدة دون رسالته القديمة. وحبذا لو جمعت هذه الأراء من الكتب الأصولية في بحث أو كتاب مستقل ليسهل الرجوع إليها أو تلحق بكتاب الرسالة الجديدة.

وبعد؛ فإن موضوع مقاصد الشريعة عند الإمام الشافعي موضوع ذو شجون، وما أشرت إليه لا يعدو لمحات خاطفة، ونظرات سريعة، ولعل في هذا ما يفتح مجالا لدراسة أكثر شمولا، وأعمق فكرا، ويكفي أني طرقت موضوعا جديدا، وأطمع أن يكون ما قدمت في هذا البحث عن عالم قريش الذي ملأ الأرض علما قد أسهم في تجلية بعض جوانب الفكرية والمنهجية لهذا الإمام الجليل.

الهوامش

[1].  القاضي عياض، ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام الإمام مالك، ليبيا: دار الحياة، تحقيق: أحمد بكير محمود 1/92. انظر أيضا: عبد الرحمن بن خلدون (808ﻫ)، مقدمة ابن خلدون، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، (1413ﻫ/1993م)، ص360، ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، بيروت: دار صادر، تحقيق: إحسان عباس، 1414ﻫ، 4/165.

[2].  من محاضرات تعميق التخصص لأستاذنا الدكتور فريد الأنصاري، رحمه الله، لطلبة وحدة الفتوى ومقاصد الشريعة والمجتمع سنة 2003، جامعة المولى إسماعيل بمكناس.

[3].  انظر: الشاطبي (توفي 790ﻫ)، الموافقات، تقديم الشيخ بكر بن عبد الله أبي زيد، تعليق وتخريج وضبط لأبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، ط1، (1418ﻫ/1997م)، 2/8.

[4].  المصدر نفسه،  2/104، وانظر: 2/101-104، و5/56.

[5].  الشاطبي، الاعتصام، تحقيق: سليم بن عيد الهلالي، السعودية: دار ابن عفان، ط1، 1418ﻫ، 2/293.

[6].  محمد منصيف العسري، الفكر المقاصدي عند الإمام مالك، الدار البيضاء: مركز التراث الثقافي المغربي، ط1، ص30 . وانظر: الفكر المقاصدي عند الإمام الغزالي، (بحث دبلوم الدراسات العليا)؛ أعدها محمد عبدو، تحت إشراف الدكتور أحمد الريسوني، كلية الآداب الرباط، 1996م، ص6. وانظر: أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، مصر: دار الكلمة، ط1، 1997م، ص24. محمد سعد بن أحمد الليوبي، مقاصد الشريعة وعلاقتها بالأدلة الشرعية، دار الهجرة، ط1، 1418ﻫ، ص48.

[7].  وفي نسخة دمياط زيادة، (ثم قال). وهي نسخة الأصل التي اعتمد عليها المحقق.

[8].  الإمام الجويني (478ﻫ)، البرهان في أصول الفقه، تحقيق عبد العظيم محمود الديب، المنصورة: دار الوفاء، مصر ط4، 1418ﻫ، 2/624.

[9].  انظر: أحمد الريسوني، من أعلام الفكر المقاصدي، بيروت: دار الهادي، ط1، 2003م، ص19. وانظر: مقاصد الشريعة وعلاقتها بالأدلة الشرعية، م، س، ص51.

[10]. شكك محقق كتاب “البرهان” في نسبة كتاب “مغيث الخلق” إلى إمام الحرمين لما فيه من التعصب المذهبي. [البرهان، م، س، 2/983]، بينما جزم آخرون نسبته إليه. هذا، وقد عثرت على فقرات طويلة من مغيث الخلق نقلها الإمام الغزالي (توفي 505ﻫ)، في: المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق وتعليق: محمد حسن هيتو، دمشق: دار الفكر، ط3، (1419ﻫ/1998م)، ص618، ثم قال في آخره، “هذا تمام القول في الكتاب وهو تمام المنخول من تعليق الأصول بعد حذف الفضول… والاقتصار على ما ذكره امام الحرمين، رحمه الله، في تعاليقه من غير تبديل وتزييد في المعنى وتعليل”. كما نقل ابن السبكي (توفي 756ﻫ) جملا منه ونسب الكتاب إلى إمام الحرمين في الإبهاج في شرح المنهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي، تحقيق: جماعة من العلماء، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1404ﻫ، (3/206) وطبقات الشافعية (5/172). والله أعلم.

[11]. انظر: عبد الله الجويني (478ﻫ)، مغيث الخلق في ترجيح القول الحق، بهامشها: إحقاق الحق وإبطال الباطل للعلامة محمد زاهد الكوثري، بيروت: المطبعة العصري، ط1، (1424ﻫ/2003م)، ص60-61.

[12]. المرجع نفسه، ص52-53.

[13]. محمد بن إدريس الشافعي (204ﻫ)، الأم، بيروت: دار المعرفة، ط2، 1393ﻫ، 1/257.

[14]. مغيث الخلق، م، س، ص95.

[15]. ذكر إمام الحرمين والغزالي أن من حسن نظر الإمام الشافعي في الفروع أنه رتبها لأمرين عظيمين: أحدهما؛ تقديم القواعد الكلية على الأقيسة الجزئية. ولذلك أوجب القتل بالمثقل خيفة انتصابه ذريعة إلى إهدار الدماء، في نفيه إبطال قاعدة القصاص… وانظر: مغيث الخلق، م، س، ص 95، والبرهان، م، س، 2/604، والمنخول، م، س، ص611.

[16]. مغيث الخلق، م، س، ص94-96.

[17]. الأم، م، س، 2/253.

[18]. مغيث الخلق، م، س، ص92.

[19]. انظر مثلا: محمد الطاهر بن عاشور (توفي 1393ﻫ)، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ودراسة: محمد الطاهر المنساوي، ماليزيا: دار الفجر، وعمان: دار النفائس، ط2، 2001م، ص251 و415، وانظر: علال الفاسي (توفي 1394ﻫ)، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، دار الغرب الإسلامي، ط5، 1993م ص7. وانظر كذلك: يوسف حامد العالم، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية،  القاهرة: دار الحديث، والخرطوم: الدار السودانية، ط3، (1417ﻫ/1997م)، ص79، ونظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، م، س، ص 7، ووهبة الزحيلي، أصول الفقه الإسلامي، بيروت: دار الفكر المعاصر/ لبنان، وسورية: دار الفكر دمشق، ط2، (1418ﻫ/1998م)، 2/1045، ومقاصد الشريعة وعلاقتها بالأدلة الشرعية، م، س، ص37، وإسماعيل الحسني، نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر ابن عاشور، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، (1416ﻫ/1995م) ص119، ونور الدين الخادمي، الاجتهاد المقاصدي حجيته.. ضوابطه.. مجالاته، سلسلة من مجلة كتاب الامة، رقم: 65، ط1، (1419ه/19968م)، ص1/52- 53، وعبد الرحمن إبراهيم الكيلاني، قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ودمشق: دار الفكر، ط1، (1421ﻫ/2000م)، ص47.

[20]. قال الإمام الجويني بعد ذكر هذه الجملة: “وعد الشافعي من هذا الفن إيجاب القصاص في المثقل، فإن نفيه يخرم قاعدة الزجر”. وهذا المثال دليل واضح على أن ما يقصده الإمام الشافعي بقوله: “كليات الشرع ومصالحها العامة” هو مقاصد الشريعة بمعناها الاصطلاحي؛ لأن مقصد الزجر لحفظ النفس مصلحة كلية. والله أعلم.

[21]. البرهان، م، س، 2/874-875.

[22]. محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار الكتب العلمية، ص431.

[23]. البرهان، م، س، 2/584 – 596.

[24]. عبد العظيم محمود الديب، فقه إمام الحرمين، المنصورة: دار الوفاء/مصر، ط2، 1409ﻫ، ص577.

[25]. البرهان، م، س، 2/945.

[26]. مغيث الخلق، م، س، ص77.

[27]. لقد أخر الإمام الشافعي الإجماع عن المقاصد الضرورية، وذاك تأخير مرتبة لا تأخير عمل، إذ العمل به مقدم. كما دل عليه قوله في الأخير، “فإنه لو قدم الإجماع ليفتي به، جاز، فإنه مقدم على كل مسلك في المرتبة العلية”. أما وجه تقديم المقاصد الضرورية على الإجماع فظاهر من حيث كونها معتبرة في جميع الملل. كما قال الشاطبي، “فقد اتفقت الأمة، بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس” (الموافقات، 32). والله أعلم.

[28]. البرهان، م، س، 2/744.

[29]. المرجع نفسه، 2/746-747.

[30]. الموافقات، م، س، 1/19.

[31]. المصدر نفسه، 2/17.

[32]. نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، م، س، ص31، ومن أعلام الفكر المقاصدي، م، س، ص12–13، وانظر: يوسف أحمد محمد البدوي، مقاصد الشريعة عند ابن تيمية، عمان: دار النفائس، ط1، (1421ﻫ/2000م)، ص76، وانظر الباحثة: يمينة ساعد بوسعادي، مقاصد الشريعة وأثرها في الجمع والترجيح بين النصوص، بيروت: دار ابن حزم، ط1، (1428ﻫ/2007م)، ص91، وغيرها من الكتب في الدراسات المقاصدية.

[33]. البرهان، م، س، 2/602.

[34]. وفي المطبوع، “وإلى ما لا يعقل معناه ظاهرا” وهو تصحيف للمثال المذكور وهو القصاص وهو معقول المعنى ظاهرا.

[35]. مغيث الخلق، م، س، ص68-70.

([36])     البرهان، م، س، 2/604.

[37]. مغيث الخلق، م، س، ص77، والمنخول، م، س، ص611.

[38]. البرهان، م، س، 2/602.

[39]. المرجع نفسه، 2/608-609.

[40]. البرهان، م، س، 2/603.

[41]. المرجع نفسه، 2/603.

[42]. ولعل هذا من قبيل مراعاة الإمام الشافعي لاتساع لسان العرب كما في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾ (التوبة: 120). ففي هذه الآية الخصوص والعموم. وكما في قوله تعالى: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ (الأحزاب: 6)؛ يعني معنى دون معنى. انظر، الأم، م، س، 5/141.

[43]. البرهان، م، س، 2/616-618.

[44]. المرجع نفسه، 2/603.

[45]. البرهان في أصول الفقه، م، س، 2/624. كما سبق نصه الكامل في بداية هذا البحث.

Science
الوسوم

د. أحمد وفاق بن مختار

كلية الشريعة والقانون

جامعة العلوم الإسلامية الماليزية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق