مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمفاهيم

مصطلح المراقبة

ذة. أسماء المصمودي.    

المراقبة في اللغة : “رقب، الراء والقاف والباء أصل واحد مطرد، يدل على انتصاب لمراعاة شيء”[1]

 راقب الله تعالى في أمره أي خافه .[2]

ومنه الرقيب : من أسماء الله الحسنى ، وهو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، وفي الحديث “ارقبوا محمدا في آل بيته” أي احفظوه فيهم” [3]

و”في الرقيب ثلاثة أمور: أحدهما أنه المتتبع للأمور

الثاني أنه الحافظ قاله السدي

الثالث أنه الشاهد، قاله الضحاك”[4]

 المراقبة في القرآن الكريم :

ورد هذا المفهوم في القرآن الكريم باسم الله عز وجل “الرقيب” كما جاء في الآيات الكريمة :

 قال تعالى :”يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا” [5]

وقال عز من قائل : ” ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد”[6]

قال تعالى : “لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا”[7]

والرقيب اسم مشتق من فعل ” رقب ” للدلالة على اسم الفاعل بقصد المبالغة، إذ الغاية في الآيات الكريمة هي الدلالة على الرقابة الكبرى التي لا تغفل ولا تنام، فلا تخفى عليها خافية، لا فيما ظهر من الأفعال أو ما بطن من السرائر، فالحق سبحانه وتعالى هو الرقيب والمراقب لأفعال الخلق، فهو المراقب لكلامهم بسمعه، والمبصر لأفعالهم وحركاتهم ببصره، ومن خلق العبد الصادق في توجهه إلى مولاه المقيم لنفسه مقام الهيبة والخشية، أن لا تفارقه مراقبة الحق له، وهذا دليل على سمو همة العبد وبعده عن الغفلة .

المراقبة في الحديث النبوي الشريف :

إن أجل حديث يستشهد به في هذا المقام هو حديث الإسلام والإيمان والإحسان  الذي عرفه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله : “أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك “[8] . إن مداومة العبد على العلم بمراقبة الحق له، دليل على يقظة فهمه ودوام حضوره مع الله عز وجل بفكره وقلبه ومن ثمة بكل جوارحه،  إذ يغدو استحضاره لمراقبة الحق واستحياؤه منه عز وجل مانعين من انغماسه في المعاصي وداعيين لإقباله على الطاعات، بغرض الفوز بمرضاة الله، وهذا أصل كله خير، فلا يصل إلى هذا المقام إلا من أقبل على الله بمحاسبة النفس وزجرها عن الكبائر والصغائر، لتصفو وترقى فتغدو في مراعاة ومراقبة لبارئها . فمتى أحس العبد بقرب الله ورقابته، تحقق بمقام الإحسان، ومن ثمة يتحقق بأشرف مقامات الدين ” وأرباب القلوب في هذه المراقبة على حالين، أحدهما ـ غالب عليه مشاهدة الحق فكأنه يراه. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحال بقوله :”وجعلت قرة عيني في الصلاة “

وثانيهما ـ لا تنتهي إلى هذا، لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه مطلع عليه ومشاهد له، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ” الذي يراك حين تقوم[9][10].

المراقبة عند الصوفية :

تعد المراقبة مقاما من مقامات الترقي الصوفي، وقد صنفها القاشاني ضمن باب المعاملات معرفا إياها كالآتي :

“المراقبة: وصورتها في البدايات : محافظة الجوارح من المخالفات .

وفي الأبواب : مخالفة قوى النفس تحفظا من دواعيها.

وأصلها في المعاملات: مراقبة الحق للقلب على الدوام في السير إليه بين تعظيم مذهل، ومداناة حاملة وسرور باعث .

ودرجتها في الأخلاق : مراقبته في تجليه لعباده بأخلاقه حتى يتخلق بها .

وفي الأصول : دوام ملاحظته للمقصود في القصد إليه مع حفظ الأدب معه .”[11]

تدرج القاشاني في تعريف مقام المراقبة الذي يترقى حسب منازل العبد، فتبدأ بالمحافظة على الجوارح من المعصية، وبعدها مخالفة النفس، وقد قال الإمام البوصيري  فيها:

    وخالف النفس والشيطان واعصيهما    وإن هما محضاك النصح فاتهم [12]

إذ اعتبر الصوفية أصل كل مخالفة ومعصية من النفس والانسياق لأهوائها ورعوناتها. كما جعل الإمام القاشاني أصل المراقبة في القلب الذي يداوم على مراقبة الخالق متمثلا الأدب والتذلل بين يدي الله عز وجل، مراعيا حوافظ التعظيم والتقديس، ومتشبعا بالشوق والمحبة للخالق الأعظم الذي له المنة الكبرى، ومن ثمة فإن حفظ المراقبة في الجوارح ما هو إلا صورة في الواقع للأصل الذي هو حفظها بالقلب فتنعكس إذ ذاك عليها، ولأجل هذا قال بعضهم:” من راقب الله تعالى في خواطره، عصمه الله في جوارحه .[13]

 وقد عرفها الشيخ ابن عجيبة قائلا : “المراقبة : إدامة علم العبد بإطلاع الرب، أو القيام بحقوق  الله سرا وجهرا خالصا من الأوهام، صادقا في الاحترام، وهي أصل كل خير، وبقدرها تكون المشاهدة، فمن عظمت مراقبته، عظمت بعد ذلك مشاهدته. فمراقبة أهل الظاهر: حفظ الجوارح من الهفوات، ومراقبة أهل الباطن: حفظ القلوب من الاسترسال مع الخواطر والغفلات، ومراقبة أهل باطن الباطن: حفظ السر من المساكنة إلى غير الله “[14] .

والمراقبة حال باطني يعيشه المؤمن المحسن في سريرته وسره، فقد سأل أبو العباس البغدادي جعفر بن نصير عن المراقبة فقال : “مراعاة السر لملاحظة نظر الحق سبحانه مع كل خطرة .” [15] والسر والخطرة من دقائق الخَلْق الإنساني التي لا يطلع عليها إلا بارئُها، فوجب الاستدامة على مراعاة سلامتها، وفي ذلك يقول المرتعش أيضا: “المراقبة مراعاة السر بملاحظة الغيب مع كل لحظة ولفظة “.[16]

وقد صنف الصوفية المراقبة ضمن أهم الطاعات وأجلها لما تورثه من الاستقامة والتقوى، وبذلك كانت أسا في الممارسة الصوفية فيقول أبو عثمان المغربي : “أفضل ما يلزم به الإنسان نفسه في هذه الطريقة : المحاسبة والمراقبة وسياسة عمله بالعلم”.

 ويقول الجريري: “أمرنا هذا مبني على فصلين : وهو أن تلزم نفسك المراقبة لله تعالى، ويكون العلم على ظاهرك قائما”.[17]

و”سئل ابن عطاء : ما أفضل الطاعات؟ فقال : مراقبة الحق على دوام الأوقات .

وقال الواسطي :  أفضل الطاعات حفظ الأوقات، وهو: أن لا يطالع العبد غير حده، ولا يراقب غير ربه، ولا يقارن غير وقته.[18]

أما عن علاماتها فيقول ذو النون المصري : “علامة المراقبة : إيثار ما آثر الله تعالى، وتعظيم ما عظم الله تعالى، وتصغير ما صغر الله تعالى” .[19] فيكون حال العبد الذي تمثل مقام المراقبة في موافقة مع الله ظاهرا وباطنا، مستجيبا مطيعا، راضيا بالعبودية معترفا بالألوهية .

وعن ثمارها يقول الجنيد : ” من تحقق في المراقبة خاف فوت حظه من ربه عز وجل لا غير.”[20] إذ يدرك العبد أن كل غفلة عن الله عز وجل هي فوات الحظ مع الحق، وفي هذا الإدراك قمة الحضور مع الله عز وجل في كل سكنة و حركة، فيستحي العبد من مخالفة الطاعات، وإتيان المعاصي، ومن ثمة يغدو مدركا لحقائق التشريع، وفي هذا قال النصراباذى : “الرجاء : يحرك إلى الطاعات، والخوف : يبعدك عن المعاصي والمراقبة تؤديك إلى طرق الحقائق .

وقال إبراهيم الخواص : المراعاة تورث المراقبة، والمراقبة تورث خلوص السر والعلانية لله تعالى” . [21]

وقد حث الصوفية على التزام المراقبة في سلوكهم لما أدركوا لها من جليل الثمار،  فيقول أبو حفص: إذا جلست للناس فكن واعظا لقلبك ولنفسك، ولا يغرنك اجتماعهم عليك، فإنهم يراقبون ظاهرك ، والله يراقب باطنك “.[22]

والسبيل للوصول إلى مقام المراقبة هو اتباع كتاب الله وسنة رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، والتزام ذكر الله عز وجل، إذ به تنمحي الأغيار والأكدار وتنجلي الأسرار والهبات، ومقام المراقبة هبة يكرم بها الله عز وجل من نشد مقام القرب والجوار .

وقد قال أحمد بن عطاء رحمه الله : خيركم  من راقب الحق بالحق في فناء ما دون الحق وتابع المصطفى صلى الله عليه وسلم في أفعاله  وأخلاقه وآدابه.[23]

الهوامش:


[1] مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكرياء، راجعه وعلق عليه أنس محمد الشامي،ط.2008، دار الحديث،ص.348

[2] نفسه، ص.209

[3] لسان العرب،ابن منظور، ط.2003، دار الحديث، ج.4، ص. 208

[4] ـ الجامع لأحكام القرآن، أحمد الأنصاري القرطبي، راجعه وضبطه محمد إبراهيم الخفناوي، ط.2007، دار الحديث، ج.9، ص.13.

[5] ـ سورة النساء، الآية :1.

[6] ـ سورة المائدة، الآية : 117

[7] ـ سورة ألأحزاب، الآية : 52

[8] صحيح مسلم بشرح النووي، تحقيق عصام الصبابطي ـ حازم محمد ـ عماد عامر،ط.4، دار الحديث،  باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، ج.1، ص.178

[9] سورة الشعراء، الآية :218

[10] ـ الجامع لأحكام القرآن، ج.5،.ص.514

[11]معجم اصطلاحات الصوفية، عبد الرزاق القاشاني، عبد العالي شاهين، ط.1992، دار المنار، ص.228

[12] البردة، الإمام البوصيري، مكتبة الآداب ، ط. 2006،ص.5

[13] الرسالة القشيرية، أبو القاسم القشيري، تحقيق محمود بن الشريف، ط.1989، مؤسسة دار الشعب ص333

[14] معراج التشوف إلى حقائق التصوف، عبد الله أحمد بن عجيبة، تحقيق عبد المجيد خيالي، مركز التراث الثقافي المغربي،ص.31ـ32

[15] الرسالة القشيرية، ص.334

[16] نفسه، ص.335

[17] نفسه، ص.334

[18] نفسه، ص.336

[19] نفسه، ص.334

[20] نفسه، ص.334

[21] نفسه، ص.334

[22] نفسه، ص.335

[23] اللمع، أبو نصر السراج الطوسي، تحقيق عبد الحليم محمود، ط.2002، مكتبة الثقافة الدينية ،ص.83

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق