وحدة الإحياءمفاهيم

مصطلح الأمة.. بين الإقامة والتقويم والاستقامة

يرى الباحث أن المصطلح يمثل كسب الأمة وإسهامها الحضاري في مختلف المجالات، وبالتالي فإن الإشكال المصطلحي إشكال عظيم، لا يقدره قدره إلا الراسخون في العلم. من هذا المنطلق قارب الباحث هذا الموضوع، متناولا العناصر التالية: إقامة المصطلح الأصل وما تقتضيه، تقويم المصطلح الفرع وما يقتضيه، استقامة المصطلح الوافد وما تقتضيه.

مقدمة في طبيعة الإشكال المصطلحي في الأمة اليوم

الإشكال المصطلحي إشكال عظيم، لا يقدره قدره إلا الراسخون في العلم. وقد كان همّ النبوات، مذ آدم عليه السلام، تسمية الأشياء بأسمائها، وضبط كلمات الله عز وجل لكيلا يعتريها تبديل أو تغيير. والدين، مذ كان، تعريف وتثبيت لمفاهيم المصطلحات الأساسية التي يقوم عليها التصور الصحيح للكون والحياة والإنسان. وما خطوط الكفر والفسوق والعصيان إلا زوايا انحراف عن ذلك التصور لدى الإنسان. ولو أن بني آدم أقاموا المصطلحات، وأتموا الكلمات، ولم يغيروا خلق الله، ودين الله، لما احتاجوا إلى كل هؤلاء الرسل، والأنبياء، والصديقين، والشهداء، لردهم ردا إلى الفطرة، وإعادتهم، بعد أن عبثوا بالأسماء، إلى حاقّ الأسماء.
والأمة اليوم، وهي على عتبة تجديد النطق بالشهادتين، تعاني من أمر المصطلح ما تعاني:
تعاني من أمر المصطلح الأصل، الذي به قامت، وعليه قامت، وله قامت؛ المصطلح الذي به كانت الأمة الوسط، وبه كانت خير أمة أخرجت للناس، وبه كان رجالها شهداء على الناس: مصطلح القرآن والسنة البيان؛ لا تفهمه حق الفهم، ولا تقوم به، أو عليه، أو له، ولا تقيمه، كما أمرت صدقا وعدلا، كما ينبغي له.
وتعاني من أمر المصطلح الفرع، الذي يمثل خلاصة تفاعلها مع التاريخ وفي التاريخ، المصطلح الذي يمثل كسبها وإسهامها الحضاري، في مختلف المجالات: مصطلح العلوم والفنون والصناعات؛ لا تعلمه حق العلم، ولا تقوّمه حق التقويم، ولا توظفه حق التوظيف.
وتعاني من أمر المصطلح الوافد، الذي يمثل فيضان الغرب وطوفانه الذي أغرق أغلب أجزاء الأمة، ولاسيما في العلوم المادية والعلوم الإنسانية، نتيجة هبوطها وارتفاعه.

أولا: إقامة المصطلح الأصل وما تقتضيه

1. مفهوم إقامة المصطلح الأصل

 إقامة المصطلح الأصل تعني إتمام الكلمة، وإتمام الكلمة يعني التوفية، قال الراغب “إقامة الشيء: توفية حقه” المفردات / قوم ومن وفَّى فقد وفَى واستوفى، وقام بالأمر وأقامه حتى قام واستقام، وصار الاسم يساوي مسماه، والمصطلح يطابق مفهومه، ومتى أقيم المصطلح قام الخلق والأمر على وجهه، وأقيم الدين على حقه، وقامت الحجة على المقصر والغالي، واستقام التواصل بين الناس، وقام الناس بالقسط. وليس لغير ذلك أرسلت الرسل وأنزلت الكتب: (لَقَد اَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [سورة الحديد/الآية: 24].
ولقد كان إبراهيم عليه السلام المثال لذلك، فجعله الله جل جلاله بذلك للناس إماما (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) ( البقرة/الآية: 123).
إن إقامة مصطلح الخلق دون تبديل (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) [سورة الروم/الآية: 29]، وإقامة مصطلح الأمر دون تأويل (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْاَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعَ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [سورة الجاثية/الآية: 17]. هو مناط إقامة المصطلح، وبقدر تلك الإقامة في العالم يكون السلام والأمن، وبقدر الإخلال بها يكون الاضطراب والفزع والخوف.
وإقامة المصطلح الأصل هي الأصل، وإذا لم يقم الأصل، لم تقم الفروع، ومن ثم كان البدء ضرورة عند محاولة القيام بإقامة المصطلح، إقامة المصطلح الأصل: مصطلح الوحي الإلهي، مصطلح كلام الله جل جلاله، مصطلح كلام رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، مصطلح القرآن والسنة البيان؛ ففيهما خلاصة حق مصطلح “الخلق” من رب الخلق، وفيهما خلاصة حق مصطلح “الأمر” من رب الأمر. (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) [سورة المائدة/الآية: 50]  (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْاَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [سورة الأعراف/الآية: 53].
ومدار الإقامة في القرآن على جعل الشيء قائما على أحسن وجه، وأكثر إسنادها فيه إلى الصلاة فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ؛ لأنها عمود الأمر؛ إذا قامت قام، وإذا انهدمت انهدم. عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال له:  “… أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ…” رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
ولأنها أساس الصلة بين العبد ورب العبد: إذا اتصلت إقامتها اتصل التيار، وإذا انقطعت انقطع التيار ومما أسندت إليه فيه:
“الدين” وما يمثله من كتب، كالتوراة والإنجيل وما أنزل (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ اَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [سورة الشورى/الآية: 11] (ولَوْ اَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالاِِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم) [سورة المائدة/الآية: 68] لأن جميع فوائد الشرع ومقاصد الشرع منوطة بإقامة الشرع. فإن كانت كانت، وإن انعدمت انعدمت.
و”الشهادة” و”الوزن” ليقوم الناس بالقسط… إذ كل اختلال في الميزان يزلزل الأكوان بله الإنسان (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَان) [سورة الرحمن/الآيتان: 5 – 7] (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) [سورة الطلاق/الآية: 2].
وبناء عليه فإقامة المصطلح الأصل تستلزم فيما تستلزم:
– إقامة لفظه؛
– وإقامة مفهومه؛
– وإقامة العمل به؛
–  وإقامة بيانه؛

2. إقامة لفظ المصطلح الأصل

وهي تعني أن يكون لفظه هو المستعمل في التواصل بين الناس بيانا وتبينا: به يعبرون، وإياه يتدبرون، لم يهملوه في معجمهم الحي، ولم يعوضوه بشيء ولَّدوه أو استوردوه؛ لأنه المختار للناس كل الناس، من رب الناس ملك الناس إله الناس، هو المختار للتسمية والدلالة، وهو المختار الأنسب للمسمى والمدلول، اختاره الله جل جلاله على علم بالألفاظ والمعاني، والألسن والأجناس والأعصر؛ فمن هجره فقد هجر كتاب الله، ومن اختار غيره فقد اختار غير ما اختار الله، ولن تصح إقامة للدين بغير إقامة ألفاظه إرسالا واستقبالا، قولا وسماعا (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْاُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمُ ءايَاتِه) [سورة الجمعة/الآية: 2]. (وَإِنْ اَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اَسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) [سورة التوبة/الآية: 6].
ولقد خلت على الأمة قرون أهملت فيها بعض ألفاظ ربها، أو استحدثت أو استوردت بدلاً منها، وكل ذلك صرف للأمة عن الصراط المستقيم، وصد لها عن سواء السبيل.

3. إقامة مفهوم المصطلح الأصل

وهي تعني أن يفهم من لفظه ما فَهِمَه أو فُهِّمه من أنزل عليه صلى الله عليه وسلم أول مرة دون تغيير أو تبديل، بدلالة زمن التنزل للألفاظ، ودلالة سياق الاستعمال للألفاظ، ودلالة الصفات والأشكال والأحوال التي وردت عليها الألفاظ، والعلاقات والقضايا التي ارتبطت بها الألفاظ. فلا يفهم اللفظ بدلالة ما بعد زمن التنزل، ولا بدلالة سياق غير سياق الاستعمال القرآني للألفاظ، ولا بدلالة صفات أو أشكال وأحوال لم يرد عليها اللفظ في القرآن، أو علاقات أو قضايا لم يرتبط بها اللفظ في القرآن، فلكم ضيقت مفاهيم قرآنية بعد أن كانت ما أوسعها! ولكم وسعت مفاهيم بعد أن كانت ما أضيقها! ولكم غُيرت مواقع وأنساق، ولكم شوهت قضايا وبدلت علاقات عبر العصور. ولن يصلح آخر هذا الفهم إلا بما صلح به أوله: استفادة المفهوم من مجموع صور استعمال اللفظ مفهوما بدلالة زمن التنزل. وإلا فهو التشوه والتشويه المستمر.

4. إقامة العمل بالمصطلح الأصل

وهي تعني التخلق بما يقتضيه مفهومه في الظاهر والباطن معا، في الجنان واللسان والجوارح، في الفرد والجماعة والأمة؛ ذلك بأن الدليل على حاق التحقق هو التخلق. وما لم يتمثل المفهوم في واقع يمثله فلن تظهر الثمار، وكل ادعاء للفهم دون شاهد من العمل فإنما هو محض افتراء. ولو أحسنوا الفهم لأحسنوا العمل، ولو أحسنوا العمل لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم: (وَلَوْ اَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْاَرْضِ) [سورة الأعراف/الآية: 95].
وبإقامة العمل بالمصطلح الأصل تقوم الحجة، وتمثُل القدوة، ويظهر للعيان فضل ما جاء به القرآن. وما منع الناس أن يومنوا في هذا الزمان، إلا أن أمة القرآن لا تقيم العمل بمصطلح القرآن.

5. إقامة بيان المصطلح الأصل

وهي تعني أداءه كما حُمِل، بعد حَمْله كما أُنْزِل. (وَإِذَ اَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) [سورة آل عمران/الآية: 187] وذلك يتأكد خاصة في هذه الأمة الخاتمة؛ لانقطاع النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم في الناس، واستمرار التكليف في متبعيه إلى قيام الساعة، بالشهادة على الناس. (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمُ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ) [سورة البقرة/الآية: 142].
ولا إقامة للبيان دون إقامة لما سبق من التبين، لفظا ومفهوما وعملا. ولا شهادة على الناس دون شهادة على النفس لتحقيق الأهلية للشهادة على الناس.

ثانيا: تقويم المصطلح الفرع وما يقتضيه

1.  مفهوم تقويم المصطلح الفرع

أ. التقويم في المعاجم مداره على معنيين:

معنى تحديد القيمة: يقال: “قوَّمت المتاع جعلت له قيمة معلومة1“، “والقيمة ثمن الشيء بالتقويم، وفي الحديث: قالوا يا رسول الله لو قوَّمت لنا… أي: لو سعّرت لنا، أي: حددت لنا قيمتها2“.
ومعنى جعل الشيء مستقيما. يقال: “قوَّمت الشيء، فهو قويم؛ أي مستقيم3“، “وقوَّمته تقويما فتقوَّم، بمعنى عدَّلته فتعدَّل4“.
ب‌. والمصطلح الفرع هو “مصطلح العلوم والفنون والصناعات5”  في تاريخنا؛ المصطلح الذي يمثل خلاصة تفاعل الأمة “مع التاريخ وفي التاريخ، المصطلح الذي يمثل كسبها وإسهامها الحضاري في مختلف المجالات6“، المصطلح الذي يلخص عطاء الأمة وثمرة جهدها عبر العصور، في كل أصناف العلوم، بمختلف تخصصاتها: صنف العلوم الشرعية، وصنف العلوم الإنسانية، وصنف العلوم المادية، المصطلح الذي تفرع على المصطلح الأصل، متولداً من إقامة المصطلح الأصل:
إما مستنبطاً من المصطلح الأصل؛
أو خادما للمصطلح الأصل؛
أو دائرًا في فلك المصطلح الأصل.
ج‌.  وتقويم المصطلح الفرع، بناء على ذلك، هو تحديد قيمته:
–  بالنسبة لذاته؛ أي مدى كفاية جهازه المصطلحي في تمثيل البنية، والأنساق، والتصور، والتطور الذي عرفته مفاهيم كل تخصص، في كل صنف من أصناف العلوم.
– وبالنسبة لأصله؛ أي مدى ملاءمة مصطلحاته ومفاهيمه للأصل الذي تفرعت عليه، في كل تخصص، بكل صنف من أصناف العلوم؛ مستنبطة كانت، أم خادمة، أم دائرة في الفلك.
– وبالنسبة لحاجة الأمة إليه؛ أي مدى استجابته وإجابته عن بعض حاجات الأمة الآنية أو المستقبلية: في التجديد لما حقه التجديد في صنف العلوم الشرعية، والأسلمة لما حقه الأسلمة في العلوم الإنسانية، والأنسنة لما حقه الأنسنة في العلوم المادية.

2. ما يقتضيه تقويم لفظ المصطلح الفرع

أ. إعداد النص: ذلك بأن “التراث خزان الممتلكات، ومستودع جميع ما نملك من مصطلحات7“. فإذا غابت نصوص ما –وهي موجودة غير مفقودة- لسبب ما، غاب ما فيها من مصطلحات، أو ما يلقي الضوء على مصطلحات، وتعذر بسبب ذلك كل ما يتوقف على حضور ذلك؛ من درس صحيح، وفهم صحيح، وتقويم صحيح…
والنصوص الموجودة الآن نوعان:
– نص معد علميا؛ فهو موثق النسبة، محقق المتن، مكشف المحتوى.. وقليل ما هو.
– ونص غير معد وهو نوعان أيضا:
النوع الأول: نوع منشور وكأنه لمّا ينشر، لما هو عليه من خلل في التوثيق، والتحقيق، والتكشيف، أو لما هي عليه الأمة من رداءة في الاتصال، والتواصل، والتوصيل.
النوع الثاني: نوع مخطوط، وحالته من كل الوجوه هي الأدهى والأمر. وإخراجه من الظلمات إلى النور؛ إنقاذا له، وتعجيلا بالانتفاع به، على رأس المستعجلات من الأولويات.
ولإعداده إعدادا شاملا تقترح المنهجية التالية8:
– الفهرسة الشاملة لمراكزه وما فيها من مخطوطات؛
– التصوير لكل ما فهرس من مخطوطات؛
– التخزين لكل ما صُوِّر؛
– التصنيف لكل ما خُزِّن؛
– التوثيق لكل ما صُنِّف؛
– التحقيق لكل ما وُثِّق؛
– التكشيف لكل ما حُقِّق؛
– النشر، طباعة وتوزيعا، لكل ما وُثِّق وحُقِّق وكُشِّف.
بذلك يتم الإعداد العلمي الشامل للنص التراثي، ليبدأ، انطلاقا منه، الإعداد العلمي الشامل للمصطلح التراثي9.
ب. إحصاء مصطلحات النص المعد:
ويقتضي إنجاز معجم مفهرس للمصطلحات في كل تخصص من تخصصات التراث: ولا يكون ذلك إلا بفهرسة مصطلحات كل كتاب منشور من كتب التخصص أولا، كما لا تكون تلك الفهرسة إلا من متخصصين فيه، وبالإحصاء والاستقراء التام10.

3. ما يقتضيه تقويم مفهوم المصطلح الفرع

أ. “الدراسة الوصفية لمصطلحات كل علم،  بأركانها وشروطها المفصلة في منهج الدراسة المصطلحية. وهذه المرحلة طويلة شاقة، إلا على من يسرها الله تعالى عليه؛ لاقتضائها دراسة مصطلحات كل مؤلِّف على حدة، أو بعضها، وأحيانا دراسة مصطلحات الكتاب الواحد، أو بعضها. وما أكثر المؤلفات والمؤلفين في كل تخصص! وما أقل الباحثين والباحثات في المصطلح!11“.
ب. “الدراسة التاريخية لمصطلحات كل علم، بشروطها المشار إليها في منهج الدراسة المصطلحية. وهذه المرحلة لا تكاد تقل مشقة عن سابقتها؛ لاقتضائها رصد التطور في كل مصطلح، منذ تطوره المحتمل لدى المؤلِّف الواحد في تراثه، حتى مجموع تراث التخصص على امتداده. وكل إخلال في المرحلة الوصفية ينتج عنه خلل في المرحلة التاريخية. والأصل استدراك المؤرخ على الواصف، ولكن أنَّى ذلك، إلا لمن آتاه الله تعالى علما وفهما. وقليل ما هم!12“.

4. ما يقتضيه تقويم إعمال المصطلح الفرع

من شروط الاستفادة من المصطلح العلمي في التراث “شرط إعماله وعدم إهماله: وهذه هذه؛ لأننا لو راكمنا ما راكمنا من الإنجازات في هذا المجال، وكدَّسنا ما كدّسنا من المعاجم الغنية الشهية الميسرة النادرة المثال، ثم لم يصحب ذلك استعمال لتلك المصطلحات في واقع الحال، فإننا نكون كما قال الله عز وجل: (كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه) [سورة الرعد/ الآية: 15]13“.
وقبل الاستعمال لابد من تقويم الإعمال.
ومما يقتضيه تقويم الإعمال أمران:

الأمر الأول: مقارنة المصطلح الفرع بالمصطلح الأصل

فإن كان مستنبطا كمصطلح العلوم الشرعية، فما مدى صحة النسبة لفظا ومفهوما؟؛ هل لفظه هو اللفظ الذي حقه الإعمال أم لا؟ وهل مفهومه ابن شرعي لمفهوم المصطلح الأصل أم لا؟…
وإن كان خادما للمصطلح الأصل، كمصطلح بعض العلوم الإنسانية علوم الآلة وما في معناها، فما مدى صحة الخدمة؟ هل وظيفته هي الوظيفة التي حقها أن تكون؟ وهل كفايته في الخدمة تامة أم ناقصة؟.
وإن كان دائرا في فلك المصطلح الأصل، كمصطلح العلوم المادية، فما مدى هيمنة المصطلح الأصل عليه؟ وما مدى تأثره به وعدم خروجه عن مجاله؟.
الأمر الثاني: مقارنة المصطلح الفرع بالحاجة الحالية والمستقبلية للأمة، لتبيُّن مدى جدواه في مختلف المجالات: مجال التجديد لماحقه التجديد، ومجال الأسلمة لما حقه الأسلمة، ومجال الأنسنة لما حقه الأنسنة، ومجال الترجمة والتعريب لما حقه الترجمة والتعريب… وغير ذلك من الحاجات الكبرى للأمة.

5. منهج تقويم المصطلح الفرع

ذلكم -في حدود ما جُرِّب فصح- هو منهج الدراسة المصطلحية14؛ بأركانه الخمسة في الدرْس، وخطواته الستة في العرْض، ومراحله المتكاملة في السير؛ من الوصفية حتى المقارِنة.

ثالثا: استقامة المصطلح الوافد وما تقتضيه

1. مفهوم المصطلح الوافد

يراد بالمصطلح الوافد: كل ألفاظ العلوم التي انتقلت في العصر الحاضر إلينا من غير ثقافتنا. وبما أن الغرب في هذا العصر هو الأعلى، فقد غمر مصطلحه تلقائيا كل الأراضي المنخفضة عنه، فاكتسح مصطلحه مصطلح العلوم المادية كلها أو كاد، وغلب على مصطلح العلوم الإنسانية كلها أو كاد، ولم يكد يسلم من طوفانه، لانخفاضه وارتفاعها، إلا مصطلحات العلوم الشرعية.

2. مفهوم الاستقامة في المصطلح الوافد

مدار الاستقامة في اللغة على الاستواء وعدم الاعوجاج.
والمقصود بها هاهنا: انسجام المصطلح الوافد لفظا ومفهوما مع طبيعة ألفاظ ومفاهيم الثقافة التي يفد عليها؛ فتعرفه ولا تنكره، وتقبله ولا ترفضه، وينفعها ولا يضرها، ويقوي ذاتها ولا يحْطمها، وتحتاج إليه ولا يكون لغوا فيها.
وهو يوم يفد غالبا، إن لم يكن دائما، لا يكون مستقيما. فيجب عند ثبوت الحاجة إليه، أن يخضع لعدة عمليات تمس لفظه ومفهومه معا، قبل أن يصادق عليه للتداول. مثله في ذلك مثل الغذاء؛ يؤكل بعد الحاجة إليه، ثم يخضع لعمليات هضم في الفم والمعدة والأمعاء، قبل المصادقة على امتصاصه والاستفادة من المفيد منه، فالتخلص بوسائل التخلص من غير المفيد منه.
ولقد تأسست في أمتنا مؤسسات عديدة، على رأسها المجامع اللغوية، تصدت للعمليات اللازمة لاستقامة اللفظ، ولاسيما في العلوم المادية، فكانت حركة التعريب وتنسيق التعريب.
وقلما تأسست مؤسسات للتصدي للعمليات اللازمة لاستقامة المفهوم، ولاسيما في العلوم الإنسانية، على غرار المعهد العالمي للفكر الإسلامي الذي تذكر بعض جهوده هنا فتشكر.
وظل الاستعمال، أثناء ذلك وبعد ذلك، لنتائج جهود تلك المؤسسات أكبر إشكال.
ومن ثم بناء على ذلك، فلا استقامة للمصطلح الوافد، ولا اطمئنان إليه وعليه، حتى يستقيم لفظه، ويستقيم مفهومه، ويستقيم استعماله.

3. استقامة لفظ المصطلح الوافد

وذلك، بجعل لفظه منسجما مع ألفاظ اللسان العربي؛
إما بترجمته؛ أي: وضع مقابل عربي له بطريقة من طرق الوضع كالبحث في التراث عن لفظ يساويه، أو يدانيه، أو يقبل أن تتطور دلالته إليه. فإن لم يكن، فاشتقاق صيغة مناسبة له من أصل لغوي مناسب، فإن لم يمكن، فنحت لفظ دال عليه حسب قواعد النحت، وهكذا…
وإما بتعريبه بالمعنى الخاص للتعريب، أي: إدخال لفظه الأعجمي في قالب عربي، قابل لأن ينحت منه ويشتق ما يحتاج إليه من صيغ، كالديمقراطية مثلا؛ فهي قابلة لأن ينحت منها المصدر الرباعي (دَقْرَطَة) وهذا الصواب المهجور، خلافا للخطأ المشهور (دَمَقْرَطَة) الخماسي. ومنه يشتق الباقي: دَقْرَطَ (الماضي) يُدَقْرِطُ (المضارع) فهو مُدَقْرِطٌ (اسم الفاعل) والشيء مُدَقْرَطٌ (اسم المفعول) وهكذا…
وإن المجامع اللغوية وأشباهها من لجن التعريب، لتسعى جاهدة بأن تحقق هذه الاستقامة للمصطلحات الوافدة، ولاسيما في العلوم المادية، ولكن أنَّى لها ذلك! وهي بالوضع الذي هي عليه، و”بالعناية المركزة” التي تحظى بها من أولي الأمر في غرفة الإنعاش! مما ينذر بوفاة طبية عاجلة، مقدمةً لوفاة حقيقية آجلة، إن لم يتداركها وأمثالها المتداركون.

4. استقامة مفهوم المصطلح الوافد

وذلك بجعل مفهومه، ولاسيما في العلوم الإنسانية، منسجما مع مفاهيم رؤية الأمة، وخصوصية الأمة، وثقافة الأمة؛
إما بترجمة مفهومه، إن صح التعبير، أي: تفريغه من مضمونه غير المقبول وتعويضه بمضمون مقبول.
وإما بأسلمته، بالمعنى الخاص للأسلمة، أي: إدخال التعديلات اللازمة عليه بالتنقيح والتصحيح حتى يصير مقبولا مستساغا، لا يتنافر مع الرؤية، ولا يتنافى مع الخصوصية الثقافية للأمة.
ومن المؤسسات التي رفعت شعار “الأسلمة” بالمعنى العام والخاص: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ولاسيما في عهد مؤسسه: الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي شهيد الفكر الإسلامي رحمه الله تعالى.

5. استقامة استعمال المصطلح الوافد

وذلك باعتماده رسميا، بعد استقامة لفظه ومفهومه، في مختلف مجالات الحياة، ولا سيما:
في الإعلام؛ فهو الأكثر انتشارا، والأسرع استقرارا.
وفي التعليم؛ فهو الأكثر تمكينا، والأقوى تأمينا.
وفي الإدارة؛ فهي الأهم في التطبيق اليومي، والتواصل الشعبي الرسمي.

خاتمة: في ضرورة الجيل الراسخ الناسخ، لكشف الغمة عن الأمة

1. جيل رسخ فنسخ، واستقام فأقام، وعدل فأُشْهِد.
2. جيل استوعب ما كان وما هو كائن بعلم، ثم حلّل وعلّل وركّب من كل ذلك، بناء على كل ذلك، ما ينبغي أن يكون بحكمة ورُشْد.
3. جيل رسخت أقدامه في العلمية أساسا في البحث، والمنهجية أساسا في المراحل، والتكاملية أساسا في السير، فأقام المصطلح الأصل كما ينبغي، وقوّم المصطلح الفرع كما ينبغي، وحرَص على الاستقامة في المصطلح الوافد كما ينبغي.

الهوامش

• يقصد بـ”مصطلح الأمة”: جميع  ما استعملته الأمة الإسلامية عبر تاريخها الطويل من ألفاظ اصطلاحية في مختلف العلوم.l

1. المصباح/قوم.
2. اللسان/قوم.
3. المصدر نفسه.
4. المصباح/قوم.
5. نحو تصور حضاري للمسألة المصطلحية، ص21.
6. المرجع نفسه.
7. نظرات في المصطلح والمنهج، ص56.
8. المرجع نفسه،، ص56-59.
9. المرجع نفسه، ص59.
10. المرجع نفسه، ص61.
11. مشروع المعجم التاريخي للمصطلحات العلمية، ص:20.
12. المرجع نفسه، ص21.
13. نظرات في قضية  المصطلح العلمي في التراث، م، س، ص41.
14. ينظر كتاب: نظرات في المصطلح والمنهج، ص: 59.

د. الشاهد البوشيخي

الأمين العام لمؤسسة البحوث والدراسات العلمية “مبدع”
والمدير المؤسس لمعهد الدراسات المصطلحية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق