مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

مصادر التصوف المغربي(1)

    إن تاريخ الحركة الصوفية جزء من تاريخنا العام الذي لا يشمل الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي فحسب، بل يتجاوزه إلى الجانب الثقافي والروحي. على أن التصوف المغربي كان له كبير أثر في توجيه جميع مرافق الحياة وتلوينها، بحيث انتشرت شذراته في مصنفات لم يكن من المنتظر أن تحفل به. فإنك تجد أخبار الصوفية وحياة الزهاد ووصف الحركات الطرقية التي قامت في المغرب في وقت مبكر، تجدها مبعثرة في كتب التاريخ والتراجم والمناقب والفهارس والرحلات، بل حتى في كتب الفقه مثل “شرح ميارة على المرشد“، و”معيار” الونشريسي الذي تحوي أجزاؤه نتفاً متناثرة، لو نسقت لتحصلت منها مجموعة لا بأس بها في وصف التيارات المعاكسة التي خلقها انبثاق الطرقية في المغرب.

    أما كتب التاريخ المغربي، فيغلب على الظن أنها تحوي من الصوفيات أكثر مما تحويه مصنفات الشرق؛ لأن الدور الذي قام به التصوف المغربي في الميدان السياسي لا يكاد يضاهَى. ويكفي أن نعلم أن أسراً مالكة لم تتمكن من مسك زمام الحكم بالمغرب، إلا بفضل روابطها مع الصوفية الذين بلغت سلطتهم الروحية على الشعب مبلغاً أصبحوا يوجهونه الوجهة التي يرتضونها؛ بل إن هناك حركات صوفية كالحركة الدلائية استغلت نفوذها الروحي فاحتفظت بمقاليد السلطة السياسية لنفسها. والمتتبع لحركة التأليف في المغرب يلاحظ أن كتابة التاريخ توقفت أو كادت بعد القرن الحادي عشر، إذ أن أمهات المصنفات التي تعتبر أصولاً للتاريخ المغربي قد صنف معظمها قبل ذلك العصر. وعندما فترت كتابة التاريخ، انبثق لون من التاريخ الخاص أو تاريخ الأشخاص هو التراجم. ويرى ليفي بروفنصال في كتابه “مؤرخو الشرفاء” أن تكاثر كتب التراجم يرجع لاستفحال الطرقية في القرن العاشر. ولعل في هذا الرأي جانباً من الحق؛ إلا أن تطور أدب التراجم في الشرق ربما كان له أثره أيضاً. على أن كتب التراجم عرفت من قبل، وعدم كثرتها راجع إلى ضعف حركة التأليف بالمغرب قبل القرنين السابع والثامن.

    أما كتب الرحلات، ففيها نوعان: نوع يشمل رحلات ابن بطوطة وابن جبير وابن رشيد والتجيبـيّ والعبدري ومن إليهم، لا يكاد يلم بالصوفيات إلا عرضاً؛ وهناك طائفة من الرحلات كرحلة اليوسي (“المحاضرات“) والعياشي والقادري والكوهن، يعثر الباحث في ثناياها على مستندات هامة في تاريخ الفكرة الصوفية والحركة الروحية.     

    ولنضرب أمثلة موجبة، ليتبين مدى إسهام كل صنف من هذه المصادر في حفظ التراث الصوفي المغربي.

    فالمعلومات الصوفية التي نجدها في كتب التاريخ، هي إما معلومات تتصل بأشخاص يعدون من الصوفية كانت لهم صلات ودية أو احتكاكات بملوك؛ أو معلومات تتعلق بالملوك والقادة السياسيين الذين كانوا يظهرون أحياناً بمظهر التبتل والتقشف والزهد، بحيث يجر الحديث عنهم إلى الحديث عن متصوفة العصر؛ وهناك ضرب ثالث من المعلومات يتصل ببناء الأضرحة والزوايا والرباطات، ومساهمة الملوك في ذلك.

     فكتاب “المعجب في تلخيص أخبار المغرب” مثلاً قد تعرض لأحمد ابن قسي المتصوف الذي سيق إلى عبد المومن وعفا عنه، ولكن قتله بعد ذلك أصحابه الذين جاءوا معه من الأندلس، (ص: 126)؛ وتحدث عن يعقوب المنصور، فذكر أنه:

     أظهر بعد ذلك (أي عام 583 هـ) زهداً وتقشفاً وخشونة ملبس ومأكل، وانتشر في أيامه للصالحين والمتبتلين وأهل العلم الحديث صيت، وقامت لهم سوق وعظمت مكانتهم منه ومن الناس، ولم يزل يستدعي الصالحين من البلاد، ويكتب ويسأل الدعاء، ويصل من يقبل صلته منهم بالصلاة الجزيلة. (ص. 170). 

    وذكر أيضاً أن »أبا يوسف كتب قبل خروجه (أي إلى الغزوة الثانية بالأندلس عام 592 هـ) إلى جميع البلاد بالبحث عن الصالحين والمنتمين إلى الخير وحملهم إليه. قال: فاجتمعت له منهم جماعة كبيرة كان يجعلهم كلما سار بين يديه«. (ص. 175).

    ونرى صاحب “الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية” يتحدث عن عبد الحق المريني، فيصفه بأنه كانت له بركة معروفة ودعاء مستجاب، وأنه كان يسرد الصوم وكان كثير الأوراد والأذكار. (ص. 29). وإذا سمع بصالح أو عالم، قصده لزيارته. (ص. 30). وكان أبو سعيد معظماً للعلماء، موقراً للصالحين، يتواضع بين أيديهم. (ص. 37).

    وأعطتنا “الذخيرة” أيضاً صورة لهذه الحركة المهدوية التي لها كبير اتصال بالفكرة الصوفية والتي اتسمت في المغرب بخطورة لم تعرفها في الشرق. فأشار مثلاً (ص. 38) إلى قيام العبيدي بجبل ورغة من أحواز فاس، وادعائه أنه الفاطمي المهدي، واتباع كثير من قبائل المغرب له، وذلك أول عام 600 هـ، حتى قبض عليه وأحرق في باب المحروق بفاس. وكان العبيدي هذا »رجلاً صالحاً متخشعاً كثير الورع والعبادة«. وتهتم “الذخيرة” بلون آخر من التراث الصوفي هو الشعر، فنراها تنقل مثلاً (ص. 47) قول مصعب الخشني:

فلندع ذكر زينب وسعاد      إن ذكر الإله أقرب رحما

 وقول السجلماسي (ص. 55):

طيب بذكر الله فاك فإنه      لأجل ما فاهت به الأفواه

إلى أن قال:

ما للفتى لا يرعوي وصباحه       ومســـاؤه يعظـــــانه بســــواه

تلقاه تيّاهاً عـــلى مـن دونه        ولسوف يعطشه الذي أرواه

   وذكر (ص. 97 و104) أن العلماء وأشياخ الطرق كانوا يقومون بدور الوساطة بين أدعياء الملك، وأكد (ص. 100) أن أبا يوسف بنى الزوايا في الفلوات، وأوقف لها الأوقاف الكثيرة لإطعام عابري السبيل وذوي الحاجة. ونرى صاحب “الأنيس المطرب” يتحدث عن تبتل عبد الله بن ياسين مع أمير صنهاجة يحيى ابن إبراهيم في الرباط الذي بناه في إحدى الجزر (2/ 13)، ويصف الأمير يحيى بـن عمر بأنـه كان من أهل الورع والزهد؛ كما وصف يوسف بن تاشفين (ص. 36) بأنه كان زاهداً متورعاً صالحاً متقشفاً لباسه الصوف، لم يلبس قط غيره، وأنه كان »محباً في الفقهاء والعلماء والصلحاء مقرباً لهم صادراً عن رأيهم«. ولا بدع إن اهتم صاحب “الأنيس” بالجانب الصوفي، ونحن نراه ينقل عن ابن الزيات صاحب “التشوف إلى رجال التصوف“. وهنالك مثال ثالث في كتاب “زهرة الآس” للجزنائي الذي أخبرنا بوجود حركة رهبانية قرب فاس في القرن الثاني (ص. 18)، وذكر أن “حلية الأولياء” كانت تدرس بالقرويين إلى جانب التفسير.

   وحتى كتب التاريخ الأندلسي تعد مصدراً هاماً للتصوف المغربي: مثال ذلك “اللمحة البدرية” التي ذكر فيها ابن الخطيب (ص. 42)، لدى حديثه عن أبي يوسف المريني، أنه كان “أشبه بالشيوخ منه بالملوك”.

    على أننا نعثر أحياناً على مستندات هامة عن التصوف المغربي في كتب التاريخ الشرقية. ونريد أن نحلل هنا مدى إسهام كتب التراجم والمناقب في توضيح الفكرة الصوفية المغربية.

    ولعل أول مصدر من هذا النوع هو كتاب “المدارك” للقاضي عياض، حيث جمع “رقائق الوعاظ ومناهج العلماء والزهاد“. وقد طالعت معظم أجزاء الكتاب، فوجدت نصيب المغاربة ضعيفاً، لأن المؤلف ترجم لطبقات المالكية؛ ومعظم ما ذكر من المغاربة سبتيون. ولعل ما يفيدنا به هذا الكتاب من الوجهة الصوفية هو أن الحالة التي اتسم بها الصوفية من زهد وتبتل كادت تكون صفة عامة لمجموع العلماء. وقد أكد لنا هذا أبو يعقوب التادلي المعروف بابن الزيات في كتابه “التشوف إلى رجال التصوف” الذي صرنا نعتبره عقب دراسته[1] المصدر الثاني في هذا الباب بعد “المدارك“. فقد ترجم في هذا الكتاب  »لمن كان بحضرة مراكش من الصالحين، ومن قدمها من أكابر الفضلاء”، واعتبر الكل من رجال التصوف »وإن كان مشتملاً  ـ كما يقول في المقدمة ـ  على أصناف من أفاضل العلماء والفقهاء”.

    إذ “اسم التصوف يصدق  ـ كما يقول أيضاً ـ  على جميعهم عند المحققين”. وقد جرد الكتاب من علوم التصوف، واقتصر على إيراد أخبار الرجال وجمع تراجم “جملة من المجهولين والمجهولات”، ولم يتعرض للأحياء كمعاصره أبي محمد صالح وأبي العباس السبتي، واستغرق الكلام على بعض صلحاء سوس وتادلة ودكالة، ولا سيما رجراجة. وهناك كتاب يقل عن “التشوف” من حيث القيمة وهو “المستفاد في ذكر الصالحين من فاس والعباد” لمحمد  بن عبد الكريم الفندولاي. وهو غير “المستفاد في مناقب العباد” للجزنائي (زهرة الآس، ص. 17). إلا أن قيمة “التشوف” تكمن في اعتباره مصدراً لصوفية المغرب، بينما يهتم “المستفاد” بصوفية الشمال، ولا سيما ناحية فاس. ولعل قيمة الكتابين لا تظهر بوضوح إلا عند سرد أنواع المعلومات التي يزوداننا بها.

   ويوجد كتاب آخر عنون على النسق نفسه، وهو “التشوف في معرفة أهل التصوف” لعبد الرحمن الصومعي الزمراني. إلا أنه أقل قيمة، لكونه عبارة عن لائحة أسماء خالية من نبض الحياة الذي تخفق به صفحات كتاب ابن الزيات. ويلاحظ أن كلا المؤلفين من تادلا التي يظهر أنها كانت منبثقاً للفكرة الصوفية منذ العصور الأولى. وذلك يدلنا على مبلغ إسهام البادية المغربية منذ أعرق العصور في طبع التصوف وتوجيهه. ولعل لهذا الطابع صلة بالرجال الرجراجيين الذين زعم الكثير من المؤرخين أنهم صحابة. وقد انغمر ابن الزيات في الحياة الصوفية بعد أن تضلع  ـ كغيره من باقي الصوفية المغاربة ـ  في علوم الشريعة وأسّس زاوية في الصومعة. وهنالك صوفي تدلاوي آخر هو أحمد بن أبي القاسم الصومعي أفرد مولاي بوعزة بكتاب سماه: “المعزى في مناقب أبي يعزى“.

   ويغلب على ظننا أن الحركة الصوفية كانت أنشط في الجبل (ولا سيما الريف) والقرى منها في الحواضر، اللهم إلا بعض مدن الساحل التي كانت مهبطاً لصوفية الأندلس كسبتة وأسفي وسلا أو مدن داخلية كمراكش وفاس، نظراً لإشعاعهما الثقافي الذي تنجذب له النفوس. ومهما يكن، فإن أولى التراجم الصوفية إنما حظيت بها مداشر البادية، ككتاب “المقصد الشريف والمنزع اللطيف في ذكر صلحاء الريف” لعبد الحق البادسي (في القرن الثامن)، و”إثمد العينيين” لابن تجلات في مناقب الأخوين الهزميريين، اللذين عاشا ردحاً طويلاً في أغمات، ثم حظي صوفية المدن بكتب منها: “المنهاج الواضح في ترجمة أبي محمد صالح” (المتوفى عام 631 هـ)، تلميذ أبي مدين الغوث، (ومدينة أسفي نفسها إنما بنيت حول ضريح أبي محمد صالح؛ كما قامت مدينة زرهون حول الضريح الإدريسي بعد بناء المولى إسماعيل لهذا الضريح عام (1110 هـ)، وتأسيسه جامع الخطبة الكبير المتصل بالضريح وكذلك وزان)، و”السلسل العذب الأحلى في صلحاء فاس ومكناسة وسلا” لمحمد الحضرمي، الذي صنفه في القرن الثامن وكذلك “الكوكب الوقاد فيمن حل بسبتة من العلماء والصلحاء والعباد“.

   وكتاب “السلسل” هذا يعطينا صورة عن مدى استقامة الصوفية في القرن الثامن، وعن الروح التي كانوا متشبعين بها. فقد ترجم للشيخ ابن عاشر دفين سلا؛ كما ترجم لفئة من تلاميذه كانوا نموذجاً للمثالية الكاملة، لا يعبئون بالكرامات والخوارق، ولا يتطلعون إلى الأغراض. وقد قـال سيدي أحمد ابن عاشر ـ كما في “السلسل“: »غاية الكرامة الاستقامة«، وكان يقول: »الغش أصل كل خلق سوء«، ويقول: »لا ينبغي لأحد أن يعمل بجهل، وإنما العمل بعد العلم«. ومن تلاميذ ابن عاشر سيدي علي بن أيوب الرباطي الذي كان يقول: »من ظن الحق في غير القرآن، ضل؛ ومن طلب الوصول على غير طريق السنة، لم يصل أبداً«؛ ومن تلاميذه أيضاً محمد الحلفاوي الإشبيلي الذي استوطن فاساً، وأخذ التصوف عن أبي يعقوب الزيات. وقد قام بحملة على المناكر والخرافات، وأعانه على ذلك أبو عنان المريني، ومنهم ابن أبي مدين العثماني الذي كان يقول: »روض نفسك بالآداب الشرعية تبلغك للحضرة القدسية«، وابن عباد صاحب “الرسائل الكبرى والصغرى“. ولعل أصحاب هذه التراجم قد تأثروا كما تأثر خلفهم بالمصنفات الأندلسية التي أشار ابن بشكوال إلى بعضها، ككتاب “كرامات الصالحين” لعبد الرحمن بن فطيس في ثلاثين جزءاً، وكتاب “الحاوي الجامع بين التوحيد والتصوف والفتاوي” للمعسكري صاحب “السحابة فيمن دخل المغرب من الصحابة“، وكتاب “الإفصاح عمن عرف بالأندلس بالصلاح” لأبي البركات البلفقيي، و”أنوار الأفكار فيمن دخل جزيرة الأندلس من الزهاد والأبرار” لابن الصقر المتوفى عام 559 هـ.

   ولعل الفراغ الذي نصطدم به من حيث المصادر في المرحلة التاريخية التي تفصل بين عياض وابن الزيات هو تقريباً الفراغ نفسه الذي نلاحظه فيما يخص القرون التالية إلى القرن العاشر، إذ بدأت كتب التراجم تتضخم. فكان في طليعة ما ألف كتاب “دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر” الذي لخصه وير (Weir) في كتاب عنوانه هكذا: The Shaikhs of Morocco in The XVIth Century [“مشايخ المغرب في القرن السادس عشر“]، بعد أن جرده من كل ما يمت إلى التصوف بصلة. وقد ترجم “الدوحة” إلى الفرنسية عام 1913 م كَرول (Graule). أما شخصية ابن عسكر، فهي شخصية صوفية. فقد تردد على العالم الزاهد ابن خجو، وتتلمذ للصالح عبد الوارث اليصلوتي، ودرس التصوف بعد زيارته لمراكش التي امتاز جوها بطابع السذاجة، تتفتق في أكنافه الروح الصوفية. لذلك كانت مراكش مقصد الرواد من كبار الصوفية كابن عربي الحاتمي، وعمر بن مودود الفارسي، أو من الأدباء الذين انتجعوا طمأنينة الروح وسكون النفس، كابن الحاج البلفيقي، وابن الخطيب السلماني. وقد تعرض الأستاذ ليفي بروفنصال لـ”الدوحة” في كتابه “مؤرخو الشرفاء” (ص. 234)، فذكر أن ابن عسكر هو أول مؤرخ للحركة الجزولية بالمغرب. ومعلوم أن سند الجزولي يتصل بالإمام الشاذلي الذي أخذ عن سيدي عبد السلام بن مشيش، وتفرعت عن طريقه معظم الطرق الصوفية في العالم الإسلامي. وقد لاحظ ابن عسكر ما أكدناه أول البحث من أن»الجبل« أكثر خصباً وإنجاباً للصوفية من غيره، ويكفي أنه أنجب الشاذلي وشيخه ابن مشيش.

    وفي القرن العاشر أيضاً ألف ابن القاضي (المولود عام 960 هـ) كتاب “درة الحجال في غرة أسماء الرجال” و”جذوة الاقتباس“. وتحوي كل من “الجذوة” و”الدرة” معلومات شتى عن صوفية المغرب وأحوالهم ومصنفاتهم وأسانيدهم. فقد حدثنا عن أحمد الملياني الذي تزعم الانتساب إليه »الطائفة اليوسفية الملعونة« (الدرة، 1/87)، وتحدث عن رضوان الجنوي (ص. 147)، فوصفه بأنه آخر المحدثين الصالحين. وقد ولد رضوان هذا من أب  مسيحي ومن يهودية أسلما، فكان يقول:  »خرجت من بين فرث ودم«. ومع ذلك، طبعت فاس الوادعة روحه الطاهرة بنزعة صوفية جعلته في صف كبار العلماء الروحيين. وقد أفرده أحمد المرابي بكتاب سماه “تحفة الإخوان ومواهب الامتنان في مناقب سيدي رضوان“. وهذا دليل على مدى تأثير البيئة الصوفية الفاضلة في تكييف النفوس. وحدثنا ابن القاضي أيضاً عن الطائفة الأندلسية التي قتل مؤسسها المبتدع على يد السلطان سيدي محمد بن عبد الله المخلوع عام 985 هـ، وعن طائفة العكاكزة الذين يجب أن »يحذرهم المسلم ولا يغتر بخزعبلاتهم«، (ص. 167). ولعل أهم ما تفيدنا به “الدرة” و”الجذوة” في هذا الباب هو قيمة بعض الصوفية الذين كانت لهم قدم راسخة في العلوم. ومن بين هؤلاء محمد بن علي الجزولي الذي تولى القضاء والخطابة بحضرة أبي سعيد المريني، وكان له التقدم في أصول الفقه، ومع ذلك لبس خرقة الصوفية (ص. 267).

     وهنالك مصنف يضاهي “الدرة” في نسق العنوان، وهو “درر الحجال في مناقب سبعة رجال“. وقد طالعت نسخة منه بخط المؤلف الصغير الإفراني صاحب “صفوة من انتشر من أخبار صلحاء القرن الحادي عشر“، الذي يعد كذلك مصدراً هامّاً في الموضوع، في خزانة فضيلة قاضي مراكش العلامة السيد عباس بن إبراهيم. وعلى ما في هذه النسخة من بتر، فإنها تعطينا صورة عن المشاكل والاحتكاكات التي كان يثيرها في المغرب وجود الطرقية واستفحالها ومعارضة الفقهاء لها. وقد تحدث عن مشروعية ما يقرب للأضرحة من ذبائح، والتبرك بأتربتها، وبناء المساجد على قبور الصالحين، وهل يخرج من المزارات اللاجئون إليها من المجرمين، وما إلى ذلك مما كان يشغل الفكر العام إذ ذاك (أي في القرن الثاني عشر). وقضية الطرقية والمشايخ والزوايا قد شغلت الرأي العام منذ القرن الثامن بصورة خاصة؛ كما نبه على ذلك زروق في “قواعده”. وقد بلغت القضية مبلغاً أدى بابن خلدون نفسه إلى تصنيف كتاب في التصوف سماه “شفاء السائل لجملة المسائل“. (وقد سبق لنا أن حللنا هذا الكتاب، وأثبتنا نسبته لابن خلدون في سلسلة أبحاث نشرتها “رسالة المغرب“).

   وتوجد مجموعة من كتب التراجم والمناقب صنفها أفراد العائلة الفاسية التي قامت بدور هام في توجيه الفكرة الصوفية الجزولية. ومن هذه الكتب “مرآة المحاسن“، لمحمد العربي الفاسي، و”المنح الصوفية في الأسانيد اليوسفية” لأخيه أحمد بن أبي المحاسن، أورد فيها لائحة شيوخ الصوفية الذين أخذ عنهم والده سيدي يوسف الفاسي، ومنها “المنح البادية” لمحمد الصغير بن عبد الرحمن الفاسي المتوفى عام 1134ﮬ، ذكر في قسمه الثالث الطرق المذكورة في “رسالة” العجيمي”،  وزاد عليه بعض الطرق المغربية والأندلسية. والكتاب موجود في نحو عشر كراسات من حجم متوسط. وقد صنف أبو زيد الفاسي كتباً شتى في التصوف منها “ابتهاج القلوب بأخبار الشيخ أبي المحاسن وشيخه المجذوب” ،(والمجذوب هذا هو سيدي عبد الرحمن صاحب الملحون الذي جمعه دوكاستري عام 1896 م في كتاب سماه Gromes de Sidi Abderrahmane El Majdoub، و”بستان الأزاهر“، وتأليف في مناقب محمد بن عبد الله الأندلسي. ووالد أبي زيد هذا هو عبد القادر بن علي الفاسي الذي كان رئيس الزاوية الجزولية وشيخ الطريقة الشاذلية في الشمال، وكان يعقد دروساً في التصوف. ولمحمد المهدي الفاسي أيضاً كتب شتى في التصوف، منها “ممتع الأسماع في أخبار الجزولي والتباع وما لهما من الأتباع“، و”تحفة أهل الصديقية“، إلخ.

     وقامت العائلة القادرية كذلك بدور مهم في تاريخ الحركة الصوفية. فمن أفرادها محمد العربي بن الطيب القادري الذي ذيل “تحفة أهل الصديقية“، وأخوه عبد السلام صاحب “إغاثة اللهفان بأسانيد أولي العرفان“، و”المقصد الأحمد في التعريف بأحمد” بن عبد الله معن الأندلسي، و”معتمد الراوي في مناقب سيدي أحمد الشاوي“، و”نزهة الفكر في مناقب الشخصين سيدي محمد ووالده سيدي أبي بكر الدلائي، ومنهم أحمد القادري صاحب “نسمات الآس في حجة سيدنا أبي العباس“، تزهد منذ صباه ورحل إلى مصر، حيث أخذ أصول الطريقة القادرية على علماء الكنانة. ومحمد بن الطيب القادري هو صاحب “الزهر الباسم” في مناقب الخصاصي، و”نشر المثاني في أهل القرن الحادي عشر والثاني“.

   ومن العائلات التي كان لها تأثير عميق في وجهة التصوف المغربي، العائلات الدلائية والناصرية والشرقاوية والوزانية. وسنتحدث عنها عند تطور الطرقية وموقف ملوكنا منها. ويكفي أن نشير إلى مصادر مهمة تتصل بهذه العائلات كـ“الروض اليانع الفائح في مناقب سيدي محمد الصالح” للحسن بن رحال، و”المرقي” لعبد الخالق العروسي، و”يتيمة العقود” للعيدوني، و”بغية الرائي في التعريف بالشيخ أبي عبد الله محمد المكي الدلائي“، لولده محمد، و”البدور الضاوية” لسليمان الحوات، و”الدرر المرصعة بأخبار أعيان درعة“، وهو ـ كما يقول ليفي بروفنصال ـ »أقدم تاريخ للحركة الناصرية في الجنوب«، و”تحفة الإخوان في مناقب شرفاء وزان” لحمدون الطاهري.

   وتوجد، علاوة على ما ذكرنا، كتب تراجم شتى، يضيق نطاق البحث عن إيراد جميعها، ساق الكتاني معظمها في آخر “السلوة“، منها: “الدر النفيس في مناقب الإمام إدريس بن إدريس“، لأحمد الحلبي الذي استوطن فاساً وعاش بها، وترجمة ابن مشيش لمحمد بن زاكور، و”مباحث الأنوار في أخبار الأخبار” لأحمد الولالي، ذكر فيه من لقيه من الصلحاء، و”الأنوار في ذكر طريقة السادة الصوفية الأخيار” لأحمد بن عطية السلاوي، و”المقباس في محاسن سيدنا أبي العباس” للوزير الغساني، و”سلوة المحبين” لعبد الله بن يخلف، و”تحفة الزائر” لابن عاشر الحافي، و”إفادة المرتاد في التعريف بابن عباد” لابن السراج، و”طبقات الحضيكَي” (التي تختص بصوفية سوس)، و”الارتجال في مناقب مشاهير سبعة رجال“، و”مناقب المختار الكنتي“، وكلاهما لمحمد الأمين الصحراوي، و”ترجمة الدباغ والدرقاوي” لابن القاضي، إلخ.

   تلك فذلكة عن كتب التراجم والمناقب. وهذه الكتب لا تحوي في الغالب إلا تراجم امتاز أصحابها بالطابع الصوفي بكل ما في الكلمة من معنى، بحيث يسوغ لنا أن نستند إليها بكل اطمئنان لاستخلاص صورة عن التصوف المغربي من خلال رجاله. وقد اعترف ليفي بروفنصال بأن كتب التراجم المغربية لا تشتمل من ناحية عامة إلا على تراجم صوفية، كان أصحابها من علماء الإسلام (مؤرخو الشرفاء، ص. 49). ولاحظ هنري باسي في كتابه “أدب البرابرة” (Essai sur la littérature des Berbères, Alger, 1920, p. 27) أن مصنفات التراجم قد أغفلت الأساطير الشعبية المنسوبة للصوفية والأولياء. ولكن هذه الترهات المدسوسة على الصوفية يحتفل بها أقوام يحرصون على جمعها من أفواه العامة، كما فعل بعضهم بترجمة العالم الزاهد الشيخ زروق، الذي قام بنقد  الفكرة الصوفية وتمحيصها على نسق شرعي (راجع: Légende populaire de Zarrouk, Archives Berbères, Vol . L, Années 1915-1916, p. 293).

   وإذا كانت صورة هذه الشخصية المشهورة بآرائها الناصعة المبثوثة في “القواعد” و”عدة المريد“، قد احتفت بها هالة من الأساطير الشعبية، فما بالك بغيرها ممن لهم تراجم غامضة. فيجب أن لا تتقبل إلا بكامل الاحتراس ما ينسب لشخصيات صوفية من أقاويل تشذ عن الشرع.

        تلك جملة كتب التراجم والمناقب التي يمكن أن نعتبرها مصدراً لتاريخ التصوف المغربي. وهي كتب مغربية صوفية؛ وإلا فهنالك كتب أخرى من هذا الطراز لمؤلفين مشارقة تحتوي على مستندات هامة في الموضوع، لأن المغرب جزء من بلاد الشرق الإسلامي، قد حظي رجاله باعتناء المؤرخين المشارقة، وهنالك من الأندلسيين أيضاً من زار المغرب، بل عاش فيه وترجم لصوفيته كابن عربي الحاتمي وابن البركات البلفيقي وابن الخطيب.

  ومنها كتب لأدباء تلمسانيين كـ”بستان” ابن مريم، و”النجم الثاقب” لمحمد ابن أبي الفضل صعد الأنصاري الذي ترجم لابن عاشر والسبتي وغيرهما.

  والنوع الثالث من المصادر هو الرحلات المغربية. فهي تنقسم في نظرنا إلى قسمين: رحلات يهتم أصحابها إما بمظاهر العمران في الأمصار التي زاروها، كرحلة ابن بطوطة وابن جبير والزياني، وإما بالمظاهر الثقافية كرحلات ابن رشيد والتجيبـي والعبدري، ورحلات اهتم أصحابها كثيراً بالحركات الصوفية في الأقطار التي زاروها. وغالب هذا الطراز إما رحلات إلى الحج كرحلتي العياشي والناصري، أو داخل المغرب كـ”محاضرات” اليوسي، و”روضة الأنفاس فيمن لقيته بالحضرتين مراكش وفاس” للمقري. ولعل هنالك نوعاً ثالثاً من الرحلات التي تعد مصدراً للتصوف، ولكنها أشبه بكتب مناقب كـ”نسمة الآس في حجة سيدنا أبي العباس“، (وهي رحلة سيدي أحمد القادري مع شيخه سيدي أحمد بن عبد الله معن). وعدم اعتبارنا النوع الأول من الرحلات مصدراً لتاريخ التصوف المغربي إنما هو على جهة العموم، وإلا فإننا نجد معلومات تتصل بالتصوف والصوفية في رحلة ابن بطوطة، مثلاً، الذي ذكر أنه لازم الشيخ كمال الدين القاري خمسة أشهر ووهب ما عنده للقراء، ثم انتقل إلى الحجاز ونزل بزاوية تنسب إلى الملك بشير. ونرى ابن بطوطة يحدثنا في رحلته أيضاً عن نوع جديد من الطرقية أشبه بأندية الفروسية والرياضة، وهي جماعة الإخوان أو الفتيان الغرباء الذين وجدهم في الأناضول »يتعاونون على البر وإكرام الضيف والاشتراك في الطعام والغناء والرقص واللهو البريء، ويتصل نظامهم بنظام الفتوة في الإسلام«. غير أنك قلما تجد معلومات لها صلة مباشرة بالتصوف المغربي؛ وكذلك رحلة الزياني التي أكد لنا فيها أن »أحسن ما في مغربنا من الزوايا الناصرية الموسومة بزاوية البركة، وطائفتهم أحسن الطوائف«. ومن أغرب ما ذكره ابن بطوطة وذكره من المؤرخين المشارقة ابن خلكان، أن يعقوب المنصور ترهبن وانخلع من الملك ولبس المرقعة وقصد بلاد المشرق زاهداً متبتلاً وأنه توفي هناك. وقد فند صعد الأنصاري هذه المقالة في “النجم الثاقب” (مخطوط). وهذا الإغراق في الخيال قد نتج ـ على ما يظهر ـ  عما تحلى به يعقوب المنصور حقيقة من زهد حتى قيل إنه تنازل عن الملك لولده.

   وتوجد رحلات لمؤلفين زاروا المغرب أو عاشوا فيه كابن الخطيب الذي تطفح رحلته “نفاضة الجراب بأخبار الأدباء والصلحاء المغاربة، وكـ “أنس الفقير وعز الحقير” لابن قنفذ المعروف بابن الخطيب القسمطيني، الذي أفاض في وصف الجو الروحي الذي خلقه في المغرب الصوفي الكبير سيدي أحمد بن عاشر دفين سلا.

   أما “محاضرات” اليوسي، فهي وصف شائق للحياة الأدبية والصوفية بالمغرب في القرن الحادي عشر، ألفها خلال رحلته إلى الجنوب عام 1095 (ص. 37). ويرسم لنا هذا الكتاب ألواناً شتى عن التصوف المغربي، يعطينا مجموعها صورة لا بأس بها عما بلغته الحركة الطرقية بالمغرب بعد القرن العاشر. وسننقل للقارئ نماذج من هذه المعلومات القيمة عندما نتحدث عن أدعياء التصوف إبان الانحلال. وقد أشار لرحلة أبي عبد الله بن ناصر إلى الشرق وتلقينه الطريقة الشاذلية للمصريين (ص. 59)، وتحدث عن الزاوية الدلائية وانهيار سلطانها السياسي عام 1079 هـ، وعرج على عادة الإطعام في الزوايا فذكر أنه شاع إطعام الطعام، ولا سيما في بلادنا المغربية، وخصوصاً في البوادي (ص. 117).

   والرحلة العياشية الموسومة بـ”ماء الموائد” مشحونة كذلك بالمعلومات الطريفة عن التصوف الشرقي والغربي. إلا أن رحلة سدي أحمد الناصري أقصر منها نفساً في الموضوع، بالرغم من تمحض شخصية الناصري للجانب الصوفي. وقد اغتنم الناصري وجوده بإفريقية والجزائر وطرابلس ومصر، فأسس فروعاً للطريقة الناصرية. وقد قام الأستاذ بربروجير (A. . Berbrugger) بترجمة فرنسية مختصرة للرحلتين في كتاب واحد سماه:

Voyage dans le sud de l’Algérie et des Etats barbaresques de l’Ouest et de l’Est, par El-Aïachi  et Moulay Ahmed .

   على أن العياشي ناصري الطريقة أيضاً، أخذ أصولها عن الشيخ سيدي محمد بن ناصر. وقد أفادنا بمعلومات طريفة عن شيوخ الطريقة الزروقية الفاسية في طرابلس وبرقة، حيث مدفن الشيخ زروق (1/96)؛ وكذلك في باقي أقطار المشرق. كما أشار إلى بعض خصائص الطريقة في مصر، ولا سيما الجامية والنقشبندية »التي قلما توجد في أرض المغرب، بل لا يعرفها أهله حتى  بالاسم لبعد بلاد مشايخها« (ص. 213). ثم وازن بينهما وبين الشاذلية المغربية، فلم يجد فرقاً إلا في الاصطلاح الراجع إلى الأعمال الظاهرة. ولعل هذا من أبرز الفروق بين الطرقية المغربية: إذ بينما نرى الأولى مطبوعة بشكليات صارمة وتراتيب ومستويات »برتكولية«، بينما نرى الثانية موسومة بطابع الفطرة. ومن جملة المظاهر الشكلية لبس الخرقة الذي هو عنوان الاندراج في الطريقة في الشرق. هذا، بينما الطرقية المغربية تكتفي بتشابك الأصابع، كناية عن التعاهد بالتزام الشروط. (غير أن قاسم الحلفاوي ذكر في مناقب عبد الكريم الفلاح (مخطوط) أن لأبي الحسن الشاذلي طريقتين: طريقة مشيشية فيها صحبة واقتداء من غير خرقة، وأخرى فيها لبس الخرقة وتلقين الذكر. ومهما يكن، فإن الخرقة اندرست في القرون الأخيرة). ومن الأمور التي ابتليت بها الطرقية في الأقطار الإسلامية ما أشار إليه العياشي من شيوع المنكرات في المواسم (1/ 256). وقد تحدث عن كتاب يعزى لأبي حامد الغزالي وهو “منهاج العابدين“، فنسبه (وقد سبقه إلى ذلك الحاتم)، لصوفي مغربي سبتي هو علي المسفر؛ وكذلك كتاب “النفخ والتسوية” الذي ينسب للغزالي أيضاً، ويسميه الناس “المضنون به على غير أهله” (1/ 356). وتوجد غير هذا أشتات قيمة من المعلومات تلقي ضوءاً على بعض الجوانب الغامضة في التصوف المغربي، أو تؤكد لنا على الأقل ما ورد في المصادر الأخيرة.

   أما الفهارس، فقد كان من حقنا أن ندرجها في قسم التراجم والمناقب، لأن الفهرسة عبارة عن سلسلة تراجم لشيوخ المؤلف، تتخللها أحياناً معلومات ثقافية أو اجتماعية أو سياسية عن ذلك العصر.

  ولعل أقدم فهرسة مغربية تتسم بطابع صوفي “فهرسة” القاضي عياض. إلا أن السمة العلمية غالبة عليها. ومع ذلك، فإنها تعطينا صورة عن بعض من التقى المؤلف بهم من صوفية بفاس وسبتة. وقد طالعتها فألفيتها لا تختلف في وجهتها عن “المدارك“. وأهم ما تفيدنا به هو أن معظم علماء ذلك العصر كان فيهم نزوع طبيعي نحو العبادة والتبتل، وأن الروح الصوفية كادت تكون غالبة على الجميع.

   وقد فتر ما كنا نلحظه من تآليف الفهارس عند المغاربة، وبالأخص السبتيين، حتى استأنفت في القرن الثامن بفهرسة يحيى السراج وأقرانه من كبار العلماء. وامتد ذلك على وتيرة متوسطة إلى أن جاء القرن الحادي عشر، فظهرت فيما بعده فهارس اشتملت على نتف مبعثرة من أخبار الصلحاء، منها فهرسة سيدي عبد القادر الفاسي تحتوي على أسانيده الصوفية، و”المنح البادية” لمحمد بن عبد الرحمن الفاسي الذي سبق الحديث عنها في قسم التراجم، و”مرآة المحاسن” نفسها تحتوي على فهرسة مؤلفها سيدي العربي الفاسي و”بذل المناصحة في فضل المصافحة” لأحمد السوسي البوسعيدي.

  وقبل أن نختم هذا البحث عن مصادر التصوف المغربي، نأبى إلا أن نشير إلى مجموعة منوعة من المصنفات اهتمت بالموضوع، منها المغربي ومنها الشرقي. فمن ذلك طائفة من المصنفات في نقد أدعياء التصوف، منها “المزايا في ما أحدث في أم الزوايا” للمحدث ابن عبد السلام الناصري، (حيث أشار إلى أن الشيخ سيدي أحمد الصقلي هو الذي أدخل إلى المغرب الطريقة الخلوتية بعد رجوعه من مصر)، و”كشف قناع الالتباس عن بعض ما تضمنته بدع مدينة فاس” لمحمد بن أحمد الصباغ، و”عدة المريد الصادق” للشيخ زروق.

   وهنالك كتب أخرى تعتبر مصدراً هاماً في الموضوع، منها “رسائل ابن عباد و”المباحث الأصلية” لابن البنا التي شرحها ابن عجيبة والتي كان الشيخ التباع يربي بها أصحابه. وهنالك، خارج الدائرة المغربية، كتب شتى ألفت في الطريقة الشاذلية ككتب ابن عطاء الله، وأخرى بعدها ككتاب للسيوطي “في تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية” و”تحقيق الصفا في الطريقة الشاذلية لمحمد بن عبد العزيز بن فهد المكي.

   وتتوافر إلى جانب ما ذكرناه فسيفساء من الرسائل والأجوبة والردود والحواشي والشروح مختلفة المنازع متباينة المشارب، غير أنها صورة حية للتيارات المتعاكسة التي كانت تهز الحركة الصوفية. فهنالك تآليف ككتاب ابن الفقيرة في مناقب أبي عمرو القسطلي المراكشي (“شمس القلوب“)، وهناك خطبة للسلطان أبي الربيع مولانا سليمان العلوي في المواسم والطوائف. وقد كان مولانا سليمان هذا صوفي الروح كما يتبين ذلك من إحدى إجازاته التي تتصل بالجزولي على طريق التباع عن طريق الشيخ محمد الشرادي. ومما يدلنا على مدى ما كان يتمتع به المغاربة إذ ذاك من حرية القول، نقد أبي محمد المكي بن مريدة المراكشي دفين فاس الخطبة السليمانية في كتابه “الكواكب السيارة“. وقد ألف الشيخ محمد بن كيران بأمر من مولانا سليمان رداً على رسالتين وهابيتين تنسبان لسعود بن عبد العزيز (طبع عام 1327هـ)، بهامش “إظهار العقوق” لمحمد بن مصطفى المشرفي الذي نقد فتوى الشيخ محمد عبده)؛ كما نقدها مفتي فاس سيدي المهدي الوزاني في كتاب سماه “النصح الخالص“، إلخ. ويوقفنا هذا على مدى مساهمة فقهاء المغرب وصوفيته في النشاط الفكري المتولد عن مساجلات أنصار التصوف وخصومه، (أو على الأقل خصوم الملبسين من المتصوفة، وإلا فإن محمد عبده كان صوفي النزعة وكذلك الأفغاني). ومما صنف أيضاً في هذا الباب “مقام التجلي والتخلي من صحبة الشيخ أبي محلي” لأحمد التواتي.

   أما الشروح التي يمكن الرجوع إليها لتوضيح الفكرة الصوفية حول الأخلاق والمثالية، فهي شروح الحكم العطائية التي يوجد الشيء الكثير منها لابن عباد وزروق والقلصادي ومحمد جسوس الفاسي وللحراق ولابن عجيبة التطواني ومحمد بن عبد السلام بناني والشيخ الطيب بن كيران، إلخ. ومن الرسائل “جواب الشيخ الغزواني عن أسئلة الناصر اللقاني” المصري، وهي نموذج للتأويلات الصوفية المغربية للقرآن. أما القصائد: فكثيرة، منها: أرجوزة “حديقة الأزهار في الزاوية” لليازغي، و”المقباس” للوزير الغساني، و”ديوان الحراق” الذي نحا فيه منحى ابن الفارض وابن عربي وعبد الغني النابلسي في »وحدة الوجود«، والتلبس بما يسمونه الحقيقة المحمدية. ويعلو الحراق نفسه أحياناً، فيكاد يطاول سلفه ابن الفارض في رقة الأسلوب وسمو المعنى. ومما يتصل بالتصوف العام قصيدة لأحمد الشريشي السلوي الشاعر الطبيب. وقد شرحها كل من أحمد الصومعي وأحمد بن أبي المحاسن الفاسي. وهنالك كتاب يمكن أن يعتبر خلاصة للأدعية النبوية التي جرت على ألسنة الصوفية بعد القرن التاسع وهو “دلائل الخيرات“، الذي شرحه أفراد من العائلة الفاسية. وقد انتشر في العالم الإسلامي هو و”ذخيرة المحتاج” للشيخ المعطي الشرقي. وقد نحا المغاربة منحى الصوفية المشارقة في مدح الأشياخ بقصائد لا تخلو من معلومات تفيد المؤرخ. من ذلك دالية اليوسي في مدح سيدي محمد بن ناصر الدرعي، وهي »مشهورة بين أهل الأدب« عارض بها دالية البوصيري  في أبي الحسن الشاذلي وأبي العباس المرسي. وقصيدة البوصيري هذه تدل على ما كان للصوفية المغاربة من مكانة في نفوس صوفية الشرق، (وقد مدح البوصيري كذلك أبا صالح)[2].

        إن علماء المغرب كانوا يترصدون لأهل البدع من الأدعياء والملبسين. وقد سقنا نماذج من انتقاداتهم المرة. وإذا علمت أن معظم من تطرق إلى الكشف عن مخاريق المبتدعة كزروق والعياشي متشبعون بروح صوفية بليغة، عرفت أن علماء الصوفية كانوا حريصين على فضح الدجاجلة الذين يندسون في حظائرهم التماساً لأعراض الدنيا وحطامها. على أن دعاة السلفية أمثال الطرطوشي وابن عربي المعافري وأبي محفوظ راشد من المغاربة، وابن القيم وشيخه ابن تيمية وابن الجوزي من المشارقة قد تشبعوا هم أنفسهم بالتصوف السني؛ وإذا رجعنا بين المتأخرين إلى سيرة محمد عبده، وجدنا تلميذه مصطفى عبد الرازق يؤكد في الكتاب الذي خصصه لترجمته أن الشيخ درويش أثر بتربيته الصوفية في الأستاذ. ويعلل هذا التأثير قائلاً: »إذا كانت التربية الحديثة تدعو إلى تهذيب الأذواق بفنون الجمال الحسي، فإن التربية الصوفية تدعو إلى تلطيف السر بأنواع من الرياضة«. وقد جاء في ملخص سيرة عبده المنشور في المجلد الثامن من “المنار“: »أنه لكثرة الانهماك في الذكر والفكر والنظر في كتب التصوف والتنقل في أحوال القوم ومقاماتهم، يخرج (أي الأستاذ) عن حسه ويزج في عالم الخيال أو عالم المثال ـ كما يقول ـ فيناجي أرواح السالفين«. وقد كان التصوف والتفسير هما  »قرة عين الأستاذ« على حد تعبير مصطفى عبد الرازق. غير أن جمال الدين الأفغاني »خلع محمد عبده من التصوف، بمعنى الدروشة والانقطاع إلى التحنث والرياضة، إلى معنى للتصوف جديد«. (ص. 74). وقد ترجم محمد عبده لشيخه الأفغاني في صدر “رسالة الدهريِّين” فوصفه بأنه »حنيفي مع ميل إلى مشرب السادة الصوفية رضي الله عنهم«.

        وحمل زكي مبارك على الصوفية ما شاء له فكره الثائر وقلمه الجامح، ولكنه عاد آخر الأمر فقال في كتابه “التصوف الإسلامي“: »الصوفية هم الناس، ومن عداهم أشباح بلا أرواح«. (2/ 205)، وقال: »إن الصوفية أعقل من الأدباء وأشرف. سيلقى الصوفية ربهم راضين مبتسمين. أما نحن، فسنذهب إلى النار في ركاب امرئ القيس الذي أنذره الرسول«. (2/ 322).

 الهوامش


[1] اعتمدنا على مخطوط مكتبة الفقيه الحاج أحمد الزبدي. وقد نشرت كلية الآداب بالرباط هذا المخطوط.

[2] كان قطب الدين القسطلاني بمدرسة الحديث بالقاهرة كثير الاعتناء بأصحاب أبي صالح الوافدين على مصر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق