مركز الدراسات والبحوث في الفقه المالكيغير مصنف

مسائل الخلاف لأبي بكر ابن الجهم (ت329هـ)

   ألف أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن الجهم بن حبيش المعروف بابن الوراق المروزي، كتابا في مسائل الخلاف.

   وهذا الكتاب لا زال مفقودا لحد الآن، إلا أنه قد ورد في خزانة القرويين بفاس، كتاب بعنوان: «مسائل الخلاف لابن الجهم»، مخطوط برقم: (489)، ومنه نسخة مصورة بالخزانة الوطنية برقم: (2247)، في 192 ورقة، وهي مبتورة الأول والآخر، بحيث لا يوجد فيها أية إشارة إلى صاحب الكتاب ولا ناسخه، ولا تاريخ نسخه، ولا تملكه أو تحبيسه، باستثناء ما كتب في أول المخطوط: مسائل الخلاف لأبي بكر الوراق المروزي المعروف بابن الجهم.

   وبعد البحث والاطلاع على الكتاب تبين أنه ليس مسائل الخلاف لابن الجهم، وإنما هو قطعة كبيرة من كتاب في «علم الخلاف» لأحد الشافعية يجرد فيه الخلاف على الحنفية، إذ كل الأحكام التي يدافع عنها، وينتصر لها هي أحكام المذهب الشافعي، وتكون أحيانا مخالفة لمذهب المالكية.

ومن الأمثلة على ذلك:

   قال صاحب مسائل الخلاف: “لا يجمع بين فرضين في التيمم خلافا له، والمسألة غامضة، والشافعي يعول فيها على الآثار…”.[مسائل الخلاف ص: 7]، وهذه من المسائل التي اتفق فيها المذهبان المالكي والشافعي، انظر التلقين للقاضي عبد الوهاب ص: 21، لكني أوردت هذا النص هنا لتنصيصه على الإمام الذي ينصر مذهبه، وهو الإمام الشافعي.

   قال صاحب مسائل الخلاف: “مسح الرأس يستحب فيه التكرار خلافا له…”.[مسائل الخلاف ص: 2]، في حين يقول المالكية في هذه المسألة: «ولا فضيلة في تكرار مسح الرأس والأذنين».[التلقين ص: 14].

   قال صاحب مسائل الخلاف: “مسألة: لمس الرجل امرأته ناقض للوضوء، خلافا له، والمعتمد قوله تعالى: (أو لمستم النساء)، واللمس حقيقة في التقاء البشرتين والجس باليد..”[مسائل الخلاف ص:3]، في حين يذهب المالكية إلى أن لمس المرأة بدون لذة لا ينقض الوضوء، إذا كان لغير لذة، قال القاضي عبد الوهاب: “فأما لمس النساء فيجب الوضوء منه إذا كان للذة…”. [التلقين ص: 15]، وهذه المسألة من المسائل التي رد فيها المالكية على الشافعية، قال ابن أبي زيد القيرواني: «ويقول [أي الشافعي] بعموم آية الملامسة، فيوجب الوضوء على من لمس أمه أو ابنته، ولم يخصص ذلك بما روي من الحديث في حمل النبي صلى الله عليه وسلم أمامة في الصلاة، وما روي من قبلته ثم يصلي، وتقبيله لعائشة ثم يصلي، ومسه برجله لعائشة وهو في الصلاة، وهي معترضة لتقبض رجليها ليسجد». [الذب عن مذهب مالك: 1/280].

   قال صاحب مسائل الخلاف: “مسألة: سؤر السباع كلها طاهرة إلا سؤر الكلب والخنزير…” [مسائل الخلاف ص: 11]، في حين يرى المالكية: “الحيوان كله طاهر العين طاهر السؤر، إلا ما لا يتوقى النجاسة غالبا كالكلب والخنزير والمشركين، فأسآرهم مكروهة…”. [التلقين ص: 17].

   قال صاحب مسائل الخلاف: “الصلاة تجب بأول الوقت وجوبا موسعا، وقال أبو حنيفة لا تتصف بالوجوب إلا في آخر الوقت…” [مسائل الخلاف ص: 14]. في حين “قال أصحاب مالك رحمه الله: إن جميع الوقت وقت للوجوب”. [إحكام الفصول ص: 215].

   إضافة إلى هذا فإن اللغة والأسلوب الذي ألف بها هذا الكتاب جاءت جدلا جافا، مثقلا بالنافي والمقتضي، والسؤال والجواب المجرد عن تفاصيل الأدلة والآثار، وهذا الغالب على مؤلفات الخلاف للشافعية والحنفية خلال القرن الخامس والسادس فما بعدهما، وهو خلاف ما عرف عن مسائل الخلاف لابن الجهم -من خلال النصوص المنقولة عنه- وإن كان صاحب جدل وخلاف؛ إلا أن لغته واضحة سلسة على نمط المتقدمين، غير مثقلة باصطلاحات أهل الجدل، وغنية جدا بالآثار والأحاديث المسندة، وهذا ما لاحظه الخطيب البغدادي(ت463ﻫ)؛ حيث قال فيه: «له مصنفات حسان محشوة بالآثار يحتج لمالك وينصر مذهبه، ويرد على من خالفه». [تاريخ بغداد: 1/287]، وهو ما تؤكده أيضا النقول الغزيرة عن ابن الجهم في كتاب الذب عن مذهب مالك لابن أبي زيد القيرواني.

   وأنقل من هذا الكتاب نصا مدعما لهذا الحكم يبين بما لا يدع -للشك مجالا- عدم صحة نسبته لابن الجهم، وأنقله بطوله لما يقدمه من صورة حية عن الوضع الذي تردت إليه المناظرة بين الشافعية والحنفية، في ذلكم العصر، وهو ما انتقده الإمام الغزالي في الإحياء بشدة. [أنظر الإحياء: 1-45].

   قال صاحب مسائل الخلاف: «(المسألة: سجود التلاوة سنة غير واجبة، وقال أبو حنيفة واجبة، والكلام ثلاث مسالك….) المسلك الثالث، وهو مستقل، لو لم يساعدنا الإجماع في الأداء على الراحلة، ولم يرد الخبر وهو السبر والاستصحاب، فإنا نقول: الأصل براءة الذمة، فمن جعل القراءة سببا لوجوب السجود فهو المطالب ببيان مدركه، ومدرك الإيجاب إما نص، أو قياس على منصوص، ولا نص ولا منصوص يقاس عليه، ولا دليل يدل على الوجوب، ومهما انتفى دليل الوجوب وجب استصحاب براءة الذمة، فإن قيل: ولم تنكرون على من يقول: النفي يعلم بنص أو قياس على منصوص، فإن انتفى دليل النفي تقرر الوجوب؟ قلنا هذه موازنة لقضية باطلة، فإن الخصم إذا ساعدنا على انتفاء دليل الوجوب، وانتفاء دليل الإثبات لم يتوقف، بل يرجع إلى أصل البراءة، فإن قال متعلق بالاستصحاب: هو دليل، قلنا: تسميته دليلا تجوز، وحاصله راجع إلى نفي الدليل المعين، فإن كان يمنع بالاسم فقد تعلق بالاستصحاب، وهو دليل، والخصم مطالب ببيان مدرك الأمر. فإن قيل: قولكم لا دليل للوجوب، فإن أعربتم عن جهلكم بالدليل فمسلم، ولا يقوم جهلكم حجة علينا، وإن ادعيتم العلم بالنفي ليس كذلك، وهو دعوى، لا سبيل إلى إثباتها، فلعله قد قام دليل عرفه الخصم، ولم يظهر لكم، نعم يصلح مثل هذا الكلام لإبداء العذر، فإن الجاهل الذي لم يبلغه الدليل معذور، فيكون دليله دافعا لا ملزما.. إذ للخصم أن يقول: أنا أعرف الدليل، ولكن لا يلزمني إظهاره، قلنا: هذا سؤال باطل، نبهنا على بطلانه في مواضع، فإن معنى دليل المسؤول ذكره مستند فتواه، والمفتي إذا سبر فلم يجد دليلا مغيرا، ووجد أصلا جاز له استصحابه، بل وجب عليه، والمناظر ليس عليه أن يذكر إلا مستند فتواه، وقد ذكره، يبقى قولهم: إن هذا دليل دافع، لا ملزم، والجواب: أن المعترض إذا تمادى في عدم العلم بالدليل، فالدليل في حقه ملزم، والجواب أن يتعلق بالاستصحاب، كما لزمنا، وإن عرف دليلا مغيرا فليس الدليل ملزما في حقه، إلا بعد إبطال ذلك الدليل عليه، وإبطاله قبل إظهاره غير ممكن، فليظهره حتى يبطله. فإن قيل: لا يلزمني إظهاره، قلنا: لا يلزمه شرعا أو جدلا ؟ فإن قال: شرعا، فليس كذلك، فإن العلم لا يحل منعه، ومن كتمه فسق، والمستدل يجوز على نفسه أن يشذ عنه مدركه من الشرع، بل القائل بهذا السؤال فاسق قطعا، فإنه بين الكذب، وبين الكتمان، فإن لم يعرف وذكر ذلك عنادا فاسق، وترك الفسق لازم، وإن قال لا يلزمني في الجدل ورسمه، فنقول: نبرأ إلى الله تعالى من واضع جدل هذا وضعه ورسمه، فليس الواضعون للجدل معصومين [خرم مقدار كلمة] اتباع رسمهم، وإن كانوا معصومين فمنهم من جعل التعلق بالاستصحاب صحيحا ملزما، فليتبع رسم هذا، بل إذا اختلفوا في هذا الوضع وجب اتباع الدليل، ومقصود الجدل، وما وضع الجدل إلا للمعاونة على النظر، فإن المناظر الواحد لا يستقل بمراتب النظر، فيبتدئ أحد المتناظرين رتبة فيذكره الثاني المرتبة الثانية .. وما وضع لها رتبة مع الفساق والمعاندين، والمصر على السؤال فاسق، معاند: إما بالكذب، وإما بالكتمان، ونحن بين أن نفتح هذا الباب فيفتح باب في العناد تبطل به فوائد النظر، فيتضرر به مقصود الجدل، وبين أن نقول إن عرف أمرا فعليه أن يذكره لا أن يدل عليه، ولكن عليه التذكير والبينة عليه، حتى ينظر المستدل به، فليت شعري أيهما أقرب للفائدة ومقصود المناظرة وموافقة الشريعة؟ إذا كان الجدال اصطلاحا منا، فلنصطلح على الأحسن والأقطع للشغب والعناد، والدليل عليه أن من ذكر دليلا من قياس أو غيره فهو معترف بأن الحكم به غير جائز ما لم يسلم عن المعارضة، فلو قال السائل: أقم الدليل على أنه لا معارض بأن عندي معارض، فلا يلزمه ذكره، رد هذا السؤال، لأن المعاونة على النظر يفوت به، ويجب على المستدل أن يستوفي كل ممكن في ابتداء التوبة وهو نوع من الاصطلاح قبيح، فكذلك القول في هذا السؤال ولا فرق، وإنما حد المستدل أن يذكر ما تحل به الفتوى، فما بعد ذلك لا يلزمه، وإنما المتنافي تقرير هذا الكلام، لأنه كثير التكرر في مسائل النفي، ولا طبقة من متخلفي المناظرين الذين أقعدهم القصور عن معرفة الفقه وتحقيقه، اغتمنوا هذا السؤال، جعلوه دون التوبة، (خرم كلمتين) في هذا السؤال، واستعانوا به على البطالة والكسل، فيقدرون به على اللجاج في كل مقام، ويلحقون أنفسهم بزمرة المتناظرين، من غير معرفة تحقيق المسألة أصلا..».[مسائل الخلاف ص: 23].

أصل هذا البحث من كتاب المستوعب لتاريخ الخلاف العالي ومناهجه عند المالكة تأليف ذ محمد  العلمي: 1/242-247.

                               بقلم الباحث: عبد الرحيم اللاوي

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. جزيتم على هذه المعلومات المركزة، فإن أصعب ما يواجه المحقق نسبة الكتاب إلى صاحبه

  2. جزاك الله خيرا أخي الكريم على ما أفدت به.
    وأسألك إن كان لك علم بالنسخة التي نقل عنها الدكتور محمد السليماني في تحقيقة مقدمة ابن القصار في الأصول، فإنه نقل عن ابن الوراق في هامش التعليق على مسألة زكاة الخضراوات في ص 62 من الكتاب، فإن تكن التي في الرباط فإنه يكون حينها قد أحال إلى ما توهمه كتاب ابن الوراق وليس له، وإن تكن غيرها فهذه فرصة لمعرفة موقعها منه بالتواصل معه. في حفظ الله وتوفيقه.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق