مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمعالم

مسألة تأسيس مدينة فاس: التاريخ والإشكالية.

 2- دوافع التأسيس ومؤهلات الاختيار:

تجمع كافة المصادر التاريخية التي تعرضت لقيام الدولة الإدريسية أن مدينة وليلي كانت عاصمة لهذه الدولة قبل تأسيس مدينة فاس؛ إذ أن بيعة الإمام إدريس بن عبد الله العلوي، الوافد على المغرب فرارا من بطش العباسيين بآل البيت، كانت بمدينة وليلي؛ وأن كل التحركات التي قام بها إدريس الأكبر هذا في المغرب الأقصى أو في اتجاه تلمسان على أبواب المغرب الأوسط قد انطلقت من هذه المدينة وانتهت إليها دون استثناء؛ وأن بيعة ابنه وخلفه إدريس بن إدريس كانت بجامع هذه المدينة. مما يفرض طرح عدة تساؤلات حول ظروف ترك إدريس الثاني لهذه العاصمة وعزمه على إنشاء غيرها؟ وحول مؤهلات الموقع المقترح لإقامة هذه المدينة البديلة؟

أ- مدينة وليلي ظروف طارئة ووضعية صعبة:        

1- التعريف بمدينة وليلي[53]:

مدينة وليلي، مدينة من بناء الأوائل في المغرب. أكدت الأبحاث الأركيولوجية، وما وقف عليه الباحثون من آثار البناء هناك، وما عثروا عليه من لقى الصناعات الحجرية، أن الإنسان راوح موضعها منذ العصر الحجري الحديث على الأقل، منجذبا إلى موقعها المتميز في منطقة معتدلة المناخ، خصيبة غنية بالينابيع والجداول وانتشار شجيرات الدفلة الوردية المعروفة في الأمازيغية باسم ” أليلي”، وذلك فوق هضبة مصونة منيعة تسهل حمايتها والدفاع عنها، ومتحكمة في مجال حيوي كثير الأغراس والزيتون يمتد من مقدمة جبال الريف شمالا إلى أطراف سهل سايس جنوبا. عرفت منذ القرن الرابع  ق.م عدة تأثيرات بونيقية في عمرانها ونظام حكمها وتدبير شؤونها. اتخذها بعض الأمراء والملوك الموريين قاعدة من قواعد المملكة الموريطانية في الرتبة الثانية بعد عاصمتهم إيول قيصرية، على غرار ما فعل الملك يوبا الثاني(25 ق.م- 23 م)  تطورت وليلي في ظل الاحتلال       الروماني وبصفتها عاصمة لولاية موريطانيا الطنجية، من مدينة صغيرة بأزقة ضيقة إلى مدينة أوسع وأرحب، بحي ذي طابع روماني صرف، وزينتها العديد من المنشآت التي لا زالت أطلالها تدل على هندستها البديعة، منها: الكابتول والبازيليك والفوروم وقوس النصر والمخابز والمعاصر والمطاحن والحمامات والسقايات والعديد من الدور المفروشة بالفسيفساء، وما إلى ذلك من الشوارع المرصوفة والدكاكين المصطفة، والأسوار الدائرة والأبراج والأبواب القائمة، وقنوات توزيع المياه العذبة وتصريف المياه العادمة.

 هذا وطلعت العديد من الحفريات هناك بأواني خزفية وأدوات نحاسية وبرونزية وعاجية وزجاجية، محلية ومستوردة من إيطاليا وإسبانيا وغاليا، مما يؤكد مدى العلاقات التجارية التي كانت تربط هذه المدينة مع هذه الجهات مساهمة في التواصل بين ضفاف البحر الأبيض المتوسط.

ومع نهاية القرن الثالث للميلاد، وأمام تصاعد صمود ومقاومة قبائل الباكواط ومن والاهم، اضطرت روما إلى التخلي عن هذه المدينة التي تُرجح كل القرائن التاريخية أنها لم تخضع مباشرة للوندال(429-534م)، وأنها وكل باقي المغرب الأقصى، باستثناء مدينة سبتة، ظلت خارج النفوذ  البيزنطي[54]، وأنها عاشت مستقلة إلى أن قصدها القائد العربي عقبة بن نافع الفهري خلال ولايته الثانية على المغرب سنة 62 هـ/681 م وهي إذاك واحدة من أعظم وأشهر مدن المنطقة، فافتتحها وغنم ما فيها من الخيرات، وحمل أهلها على الإسلام والطاعة[55].

 وفي نهاية القرن الّأول للهجرة / السابع الميلادي، وعلى إثر الهزائم الشنعاء المتوالية التي منيت بها قبيلة أَوْرَبَة بزعامة كُسَيلة في مواجهتها للقائد العربي زهير بن قيس البلوي في كل من المغربين الأدنى والأوسط، اضطرت هذه القبيلة إلى ترك معاقلها الأصلية بجبال الأوراس وهجرها واللجوء قسرا إلى الاستقرار بالمغرب الأقصى حيث تملكت مدينة وليلي[56]. وأصبح لها في هذه المدينة شأن حافظت عليه إلى أن قدم عليها هناك إدريس بن عبد الله العلوي في غرة ربيع الأول سنة 172 هـ/ 9 غشت 788 م[57].

2- وليلي العاصمة الإدريسية ووضعيتها الصعبة:                   

إدريس هذا الداخل إلى المغرب، والوافد على قبيلة أَوْرَبة، هو إدريس ابن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب، أحد سادة آل البيت الناجين من موقعة “فخ” التي كانت سنة 169هـ/786م بضواحي مدينة مكة بالحجاز من أشد وأفجع مصائب العلويين على يد العباسيين الذين حاولوا استئصالهم[58]. استضافه أمير وليلي إسحاق بن عبد الحميد الأوربي وأكرمه غاية الإكرام وأنزله منازل الإجلال والإعظام، منتبها لنسبه الشريف، وشمائله الحميدة، وتفقهه في الإسلام، ومعارضته للخلافة العباسية المشرقية[59].

دامت هذه الضيافة حوالي ستة أشهر يظهر أنها كانت كافية لاقتناع قبيلة أوْرَبة وأميرها بخلع طاعة العباسيين والمبادرة إلى مبايعة إدريس بالإمامة. فكانت هذه البيعة بمدينة وليلي، يوم رابع رمضان عام 172 هـ / 6 فبراير سنة 789 م[60]، منعطف تحول في مسار هذه المدينة لتصبح عاصمة سياسية لأهم دولة إسلامية في المغرب الأقصى المستقل عن المشرق آنذاك. واستقبلت بصفتها الجديدة الطارئة العديد من الوفود المبايعة لإدريس بن عبد الله من مختلف قبائل المغرب الأقصى ونواحيه، كما أصبحت منطلقا لكل غزواته الجهادية نشرا للإسلام واستئصالا لما كان سائدا هناك، حسب منطوق المصادر التاريخية، من النصرانية واليهودية والمجوسية. فامتد بذلك نفوذ وليلي إلى جهات تامسنا وتادلة وماسة وتحكمت في حصون فندلاوة ومديونة وبهلولة وغياثة وفازاز وما إلى ذلك شرقا إلى مدينة تلمسان وأحوازها[61].

هذا ورغم الرجة الكبرى التي أصابت الدولة الإدريسية الناشئة من جراء اغتيال المولى إدريس الأول (الأكبر) في شهر ربيع الثاني عام 177 هـ / يوليوز سنة 793 م، بإيعاز من الخليفة العباسي هارون الرشيد؛ فقد حافظت مدينة وليلي على مكانتها السياسية المكتسبة بفضل حنكة وتبصر وإخلاص أحد مواليه ، رفيقه في الهجرة إلى المغرب، راشد بن منصة الأوْرَبي[62]. فكانت مهدا للمولى إدريس الثاني (الأزهر) ومرتعا له في صباه وسني شبابه، إذ فيها وُلد وتربى وتأدب، وفيها تعلم القرآن والحديث والعربية والفقه وسِيَر الملوك وأمثال العرب وأيامهم والبلاغة والفصاحة، وفي أحوازها تدرب على ركوب الخيل وفنون الحرب ومراوغات القتال[63]. وفي جامعها بايعته جموع البربر وسنه إحدى عشرة سنة، وذلك يوم الجمعة 7 ربيع الأول عام 188 هـ /23 فبراير سنة 804 م[64].

 واستقبلت مدينة وليلي، طيلة السنة، وفود القبائل البربرية المبايعة والمهنئة لإدريس الثاني[65]، وفتحت أبوابها في السنة الموالية 189 هـ / 805 م مستقبلة وفودا عربية من إفريقية والأندلس، في نحو خمسمائة فارس[66] سرَّهم ما بلغهم عنه من تجديد تعاليم الدين ونشر العدل وإقامة السُّنة، وما سمعوا عن دولته من الرسوخ والاستقرار. وتوالت الوفود المؤيدة له بعد ذلك من البربر والعرب من جميع الآفاق، فكان ذلك مما وطد ملكه وسلطانه”وقوى جنده وأتباعه وكثر جيشه وأشياعه” [67]. فضاقت بالجميع مدينة وليلي التي كانت مساحتها العامة داخل أسوارها لا تتعدى الأربعين هكتارا، لم يكن صالحا للسكنى منها إذاك أكثر من ثلثها على أكبر تقدير، حسب شهادة الحفريات الأركيولوجية التي عرفتها أطلالها على امتداد القرن العشرين، وهو الثلث الغربي من المدينة الذي يشكل منحدرها نحو واد الرمان[68].

ب- إدريس الثاني ودواعي تأسيس مدينة فاس: تؤكد كل الكتابات أن إدريس الثاني وحاشيته أدركوا أن مدينة وليلي بمساحتها المحدودة لم تعد قادرة على استيعاب الوافدين عليها من كل أصقاع المغرب وإفريقية والأندلس المؤيدين والمساندين لدولة الأدارسة، وعلى مسايرة متطلبات مرافق هذه الدولة الفتية إداريا وعمرانيا. كما أدركوا أن مصادرها المائية المعتمدة على عين فرطاسة بالدرجة الأولى هي بدورها لم تعد قادرة على سد الحاجيات المتزايدة من المياه الضرورية للحياة هناك.

وعلى الرغم مما كانت تسمح به هضبة وليلي من توسع عمراني للمدينة خارج أسوارها في عدة اتجاهات، تطلع إدريس الثاني إلى إقامة مدينة ” يُعبد فيها الله، ويُتلى بها كتابه وتقام بها حدوده وشرائع دينه وسُنَّة نبيه”[69]. مدينة تكون، مقارنة مع وليلي، أرحب فضاء، وأكثر ماء، وأنسب موقعا، ينقل إليها سلطانه وينتقل إليها بجنده وأشياعه وخاصته ورؤساء دولته[70]. مدينة يؤكد بإقامتها شخصيته واستقلاله ويبرهن بإنشائها أمام أعداء دولته على قوة هذه الدولة وقدرتها. مدينة تكون على قدر تطلعاته وطموحاته، تحرره من نفوذ قبيلة أوْرَبة وتأثيرها وعصبيتها وخطرها[71]، وتستوعب  حاشيته وجنده، وتكفيه حاجته سياسيا وعسكريا واقتصاديا واجتماعيا وحضاريا. مدينة تضاهي عواصم جيرانه، سجلماسة المدراريين بتافيلالت، وتاهرت الرستميين بالمغرب الأوسط، وقيروان الأغالبة بإفريقية، وقرطبة الأمويين بالأندلس، وتنافس بغداد عاصمة الخلافة العباسية بالمشرق.

ج- مؤهلات الموقع المقترح كما تؤكد عليها الروايات:

وقع الاختيار النهائي لبناء مدينة إدريس الثاني على موقع متميز يتوسط شمال المغرب الأقصى، على بعد تسعين كيلومترا إلى الجنوب الشرقي من مدينة وليلي، بين جبال الأطلس المتوسط جنوبا وتلال مقدمة جبال الريف شمالا، عند المدخل الشرقي لهضبة سايس، ملتقى محورين طرقيين. أولهما محور إجباري غربي شرقي يربط السهول الأطلنتيكية الغربية مع المغرب الشرقي وأبعاده المغاربية عبر ممر تازة. وثانيهما محور جنوبي شمالي يوصل سجلماسة وتافيلالت وما وراءهما من الصحراء الكبرى مع الساحل المتوسطي وآفاقه الأندلسية والأوروبية عبر فجاج ومضايق سلسلة الأطلس وأودية سبو وورغة.

وبخصوص موضعها بالذات، حيث أقامها إدريس الأزهر، والذي أطنبت المصادر في وصفه، فهو موضع وسط بين كديتين متقابلتين متوسطتي الارتفاع ، جبل الزعفران شمالا ومرتفعات اللويزات جنوبا، على ضفاف واد “فاس” المعروف كذلك عبر تاريخ المدينة باسم واد الجواهر، والذي ينبع من عيون “رأس الماء” على بعد حوالي اثني عشر كيلومترا غرب المدينة. وهو واد وصفته الجغرافيا الحديثة بتميزه بنظام مستقر ومنسوب مستمر وصبيب منهمر تزوده ينابيع جوفية عديدة تندفع من جبال الأطلس المتوسط الكلسية.

وقد أقيمت المدينة، حسب ما هو متداول في المصادر، في شِعب جميلة بهية غنية بعيونها وآبارها وأنهارها، متميزة بعذوبة وخفة مياهها، ورطوبة واعتدال هوائها، وطيب تربتها، وسعة محرثها بعلا وسقيا، وقرب محطبها من جبال البهاليل بضواحي مدينة صفرو، وامتداد بساتينها والتفاف أشجارها وتنوع ثمارها وأزهارها، وحلاوة ولذة فواكهها من الرمان والتين والعنب والخوخ والجوز والعُنَّاب والسفرجل والأترج (الرنج) والتفاح والكمثري والمشمش والبرقوق والتوت وغير ذلك حسب ما ذكرته المصادر.[72].

مياه هذه الشِّعب على صنفين، ماء العيون وماء الأنهار، ولكل منهما صفاته ومزاياه. فمياه العيون هناك باردة في الصيف دافئة في الشتاء، وكأن الخالق يسرها مُعينا على النظافة والطهارة والدين والصلاح. ومياه الأنهار على عكس ذلك دافئة في الصيف باردة في الشتاء. وكلها مياه خفيفة عذبة المذاق وذات فضائل طبية وتطهيرية كثيرة ومتنوعة محمودة عند الأطباء أشار إليها بتفصيل ابن أبي زرع والجزنائي، إذ تداوي عددا من الأمراض الظاهرة والباطنة وتقوي الجسم وتنبه شهوته وتطهر الأثواب وتُطَيِّبها[73].

الصفحة السابقة 1 2 3الصفحة التالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق