مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

مزايا المذهب المالكي

لقد من الله سبحانه وتعالى على العالمين بشريعة إسلامية سمحاء، ليخرج بها العباد من ظلمات الأهواء إلى أنوار العبودية والاهتداء، و ابتدأ عصر الرسالة الإسلامية بالوحي الذي أنزله الله على  سيدنا محمد بن عبد الله ، وبنزول الوحي ابتدأ التكليف وبه بدأت مرحلة التشريع، وفي عصر الرسالة اكتملت الأسس الكلية والأصول العامة للشريعة التي بنت عليها فيما بعد الحركة الفقهية اجتهاداتها، والتي تزعمها فقهاء أفذاذ استطاعوا أن يدفعوا الفقه دفعا قويا على أسس علمية وضوابط منهجية، كالإمام الجليل مالك بن أنس الذي ينسب إليه المذهب المالكي، والذي اختاره المغاربة نهجا فقهيا، وطريقا تعبديا، ومنطلقا اجتهاديا في حياتهم الخاصة والعامة، في الإفتاء والقضاء. فماهي أهم مزيا المذهب المالكي؟

من المعلوم أن المذهب المالكي قد استقر بالمغرب منذ عصر الأدارسة (172 هـ)، والتزم به المغاربة منذ ذلك الزمن إلى اليوم وهذا ما صرح به ابن خلدون في مقدمته بقوله: “وأهل المغرب جميعا مقلدون لمالك رحمه الله”([1]).

وكان هذا الاختيار لأسباب كثيرة منها أن الفقه -ومنه الفقه المالكي- هو العلم بالأحكام المنوطة بأفعال العباد ، والمبين للمعيار الشرعي الذي يترتب بحسبه الجزاء في الميعاد. والاشتغال به من أجل بيان شرع الله لعباده وتعليمهم مايلزمهم معرفته بما يحقق عبوديتهم وحقيقة خلافتهم؛ من أسباب الخيرية.

    قال الشاعر:

والعمر عن تحصيـــل كل علم *** يقصـــر فابدأ منـه بالأهــم

وذلك الفقـــه فإن منــــــه ***  ما لا غنـى في كل حال عنه

ومن أسباب اختيار المغاربة للمذهب المالكي أيضا؛ ما يختص بشخصية الإمام مالك، ومنها ما يتعلق بطبيعة المذهب المالكي وخصائصه، ومنها ما يرتبط بالمدينة مهد المذهب وموطنه الأول.

لذلك كله، وبما أن تدوين مسائل المذهب وبيان مزاياه مما يثري المكتبة الإسلامية، ويقدم للأجيال تراث السابقين، لتظل الصلة العلمية قائمة بين الخلف والسلف؛ وقع اختياري على موضوع: (مزايا المذهب المالكي). وجعلته في محاور كالآتي:

  • المزية الأولى: شخصية إمام المذهب المالكي.
  • المزية الثانية: موطن المذهب المالكي.
  • المزية الثالثة: أصول المذهب المالكي وقواعده.
  • المزية الرابعة: غنى المذهب المالكي بمؤلفات النوازل الفقهية.
  • المزية الأولى: إمام المذهب المالكي:

ترجع أسباب انتشار المذهب المالكي في أقطار عديدة بما فيها المغرب إلى أسباب كثيرة ومتنوعة([2]) على رأسها شخصية صاحب المذهب، لما عرف عنه من تمسكه بالسنة، وتحريه في العلم والفتيا، وتشبثه التام بآثار الصحابة والتابعين، واستجماعه أدوات الإمامة. فمن هو الإمام مالك؟

أ- نسبه :

هو الإمام مالك بن  أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي نسبة إلى أصبح قبيلة من اليمن كبيرة ([3])، إمام دار الهجرة وأهل المدينة، المولود سنة ثلاث وتسعين (93 هـ)، والمتوفى سنة 179 هـ([4]). نشأ في بيت علم وصلاح، فأبوه أنس كان عالما فقيها، وعماه: ربيع ونافع،  كانا عالمين محدثين، وجده مالك كان من كبار التابعين([5])، وجده أبو عامر صحابي جليل رضي الله عنه شهد المغازي كلها مع النبي  خلا بدر([6]).

ب – صفاته وأخلاقه :

كان _ رحمه الله_ أبيض يميل إلى الشقرة طويل القامة، عظيم الهامة، أبيض الرأس واللحية، أصلع أشم، يلبس الثياب البيض امتثالا للسنة، ويستعمل الطيب… حسن الصورة، عظيم اللحية، كان أعظم الخلق مروءة وأكثرهم سمتا، وكان إذا جلس جلسة لا ينحل منها حتى يقوم، كثير الصمت، قليل الكلام، متحفظا للسانه، وكان أحسن الناس خلقا مع أهله وولده، ويقول في ذلك: مرضاة لربك ومثراة في مالك، ومنسأة في أجلك([7]).

قال عبد الرحمان بن مهدي (198 هـ) عنه: “ما رأت عيناي أحدا أهيب من هيبة مالك، ولا أتم عقلا ولا أشد تقوى، ولا أوفر دما من مالك”([8]). وقال ابن مهدي: “أئمة الناس في زمانهم أربعة؛ سفيان الثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام، وحماد بن زيد بالبصرة” ([9]).

وأجمع ما قيل فيه قول صاحب الفكر السامي، الثعالبي: “فهو مجمع على إمامته ودينه وورعه، ووقوفه مع السنة” ([10]).

ج- علمه :

كان رحمه الله عالما فاضلا، عرف بتحريه وإتقانه وعمق نظره، لم يكن يقف عند ظواهر النصوص بل كان يغوص في أعماقها لبيان عللها انطلاقا من روح الشريعة، قال عنه ابن عبد البر: “كان من أشد الناس تركا لشذوذ العلم، وأشدهم انتقادا للرجال وأقلهم تكلفا، وأتقنهم حفظا، فلذلك صار إماما”([11]). وكان “عارفا بتفسير الغريب من الحديث. وكانت له مشاركة في علوم كثيرة غير الحديث والفقه، فقد ألف في علم الأوقات والنجوم، وفي التفسير وغيره”([12]).

وقد شهد له بالأصالة والريادة العلمية جمع من العلماء، قال الشافعي: “إذا ذكر الأثر فمالك النجم”([13]).

وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: “فلا ريب عند أحد أن مالكا – رضي الله عنه – أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا، فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه، كان له من المكانة عند أهل الإسلام – الخاص منهم والعام – ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام”([14])، فقد كان رحمه الله جامعا بين رواية ودراية الأحاديث والآثار والاجتهاد والنظر.

وقال أيضا: “من تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد، وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما”([15])، وهذا يدل إلى جانب الشهادة بالمكانة العلمية لإمام من أئمة المذاهب الأخرى، على خصال الود والاحترام والتقدير وعدم التعصب، التي عرف بها علماء الأمة الأعلام فيما بينهم .

وقال الواقدي: “كان مجلس مالك مجلس وقار وحلم، وكان رجلا نبيها ليس في مجلسه شيء من المراء واللفظ ولا رفع الصوت.. “- هذا في شأن تعليمه -، وفي موضوع روايته، فقد روى عنه ما ينيف عن ألف وثلاثمائة من أعلام الأقطار الإسلامية من الحجاز واليمن والعراق وخراسان والشام ومصر وإفريقيا والأندلس، هؤلاء هم رواة حديثه وروى عنه غيره، أما رواة الفقه عنه كابن القاسم ونافع وابن وهب وغيرهم فهم أيضا كثير. وروى عنه من مات قبله من العلماء كابن جريح وشعبة والثوري، وروى عنه من أصحاب المذاهب المدونة، أبو يوسف والثوري والأوزاعي وابن عيينة والليث والشافعي، ومن الخلفاء أمير المؤمنين المنصور والمهدي، والهادي، والرشيد، والأمين والمأمون.

وقد روي عنه أنه قال: “ما جلست للفتيا حتى أذن لي في ذلك سبعون من أهل العلم، وقد زاد شهرة بكتابه الموطأ”([16]). وبرغم ذلك كان ورعا في فتاويه محتاطا لدينه فقد جاء في الحلية: “عن سعيد بن سليمان قال: قلما سمعت مالكا يفتي بشيء إلا تلا هذه الآية(إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ {الجاثية/32})”([17]).

والإمام مالك يندرج في صنف المجتهد المطلق وهو كما عرفه ابن قيم: “العالم بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة؛ فهو المجتهد في أحكام النوازل، يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت، ولا ينافي اجتهاده تقليده لغيره أحيانا، فلا تجد أحداً من الأئمة إلا وهو مقلد من هو أعلم منه في بعض الأحكام، وقد قال الشافعي رحمه الله ورضي عنه في موضع من الحج: “قلته تقليدا لعطاء”. فهذا النوع الذي يسوغ لهم الإفتاء، ويسوغ استفتاؤهم ويتأدى بهم فرض الاجتهاد، وهم الذين قال فيهم النبي: «إن الله يبعثُ لهذه الأمّة على رأس كل مائة سنةٍ من يجدّد لها دينَها»)[18](،  وهم غرس الله الذين لا يزال يغرسهم في دينه، وهم الذين قال فيهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: “لن تخلو الأرض من قائم لله بحجته” “)[19](.

وفي هذا المقام، نود الإشارة إلى أن المذهب المالكي ليس نتاجا خالصا لإمام المذهب وحده، ولا يقتصر على علم الإمام واجتهاداته فقط، بل هو نتاج اجتهادات كثيرة لفقهاء المذهب أيضا، ذلك أن المذهب المالكي هو حصيلة جهود فقهية واجتهادية متوراثة عن الصحابة والتابعين وأتباع التابعين في تسلسل جماعي، كما هو مقرر في تاريخ الفقه الإسلامي، ومرجعه الفقه العمري، ومرجع الجميع إلى الإسلام نفسه فكل ذلك متأصل فيه نابع منه([20]).

د- الإمام مالك من معجزات رسول الله :

قال فيه ابن الحسن الحجوي الثعالبي :”وهو من معجزات رسول الله  ([21]) المبشر به في حديث الترمذي وغيره: “يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة”، قال الترمذي([22]): حديث حسن. وصححه عياض في المدارك.

قال الترمذي في سننه: “وقد روي عن ابن عيينة أنه قال في هذا: سئل من عالم المدينة؟ فقال: إنه مالك بن أنس”([23]).

 وقد اعترف له بتفرده وبعلو كعبه في العلم في زمانه طائفة من أهل العلم من السلف؛ فقال الشافعي: “مالك أستاذي، وعنه أخذت العلم، وما أحد أمن علي من مالك، وجعلت مالكا حجة بيني وبين الله، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم الثاقب، ولم يبلغ أحد مبلغ مالك في العلم، لحفظه وإتقانه وصيانته”([24])، وممن اعترف له بالإمامة: سفيان بن عيينة، وعلي بن المديني، والأوزاعي والليث، وابن المبارك والبخاري وغيرهم كثير. قال ابن عبد البر: “الأخبار في إمامة مالك، وحفظه، وإتقانه، وورعه، وتثبته، أكثر من أن تحصى، وقد ألف الناس في فضائله كتبا كثيرة”([25]).

  • المزية الثانية : موطنه:

قال ابن فرحون نقلا عن القاضي عياض: “ثم اختلفت الآراء في تعيين المقلَّد منهم على ما نذكره، فغلب كل مذهب على جهة: فمالك بن أنس رحمه الله بالمدينة، وأبو حنيفة والثوري بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، والأوزاعي بالشام، والشافعي بمصر، وأحمد بن حنبل بعده ببغداد، وكان لأبي ثور هناك أتباع أيضا”([26]).

فالمدينة المنورة هي موطن المذهب المالكي وإمامه، وهي قاعدة الانطلاق لهذا المذهب ثم الانتشار في الآفاق، لذلك نجد العلامة ابن خلدون يجعل من أسباب اختصاص أهل المغرب والأندلس به رحلتهم إلى الحجاز، يقول: “وأما مالك رحمه الله تعالى فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس، وإن كان يوجد في غيرهم إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا في القليل، لما أن رحلتهم كانت غالبا إلى الحجاز وهو منتهى سفرهم ، والمدينة يومئذ دار العلم، ومنها خرج إلى العراق ولم يكن العراق في طريقهم، فاقتصروا عن الأخذ عن علماء المدينة وشيخهم يومئذ وإمامهم مالك وشيوخه من قبله وتلميذه من بعده، فرجع إليه أهل المغرب والأندلس وقلدوه دون غيره ممن لم تصل إليهم طريقته”([27]).

نعم كانت المدينة دار العلم وليس أي علم ولا ملح العلم وإنما صلب العلم، كما يقول الإمام الشاطبي في موافقاته.

قال فيها ابن تيمية: “مذهب أهل المدينة دار السنة ودار الهجرة، ودار النصرة، إذ فيها سن الله ورسوله محمد  سنن الإسلام وشرائعه، وإليها هاجر المهاجرون إلى الله ورسوله، وبها كان الأنصار الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم. مذهبهم في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أصح مذاهب أهل المدائن الإسلامية شرقا وغربا،  في الأصول والفروع”([28]).

وهكذا نجد من مزايا المذهب المالكي انتسابه إلى بلد مبارك، دار هجرة وسنة ونصرة وعلم أصيل، وردت الآثار الدالة على بركتها واختصاصها بمزايا جليلة، ففي السيرة النبوية نجد قصة الهجرة وكيف اختار الرسول الكريم  المدينة مقرا لدين الإسلام،  ودارا جامعة للمهاجرين والأنصار.

لذلك اختارها الإمام مالك مقرا لإقامته واقتداء بنبينا المصطفى ، الذي دعا لها بالبركة، فقال : “اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة”([29]). ومما ورد من الفضائل والمزايا في شأنها أنها محل للإيمان([30])، وأنها محصنة من دخول الأوباء والفتن ولا تقبل شرار الخلق([31]).

1 2 3الصفحة التالية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق