مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

مراتب الاعتقاد بين مشرب أهل الخصوص والعموم

     إن حجج أهل هذه الطائفة أظهر من حجج كل أحد، وقواعد مذهبهم أقوى من قواعد أي مذهب… والناس إما أصحاب النقل والأثر، وإما أصحاب العقل والفكر… وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا هذه الجملة؛ فالذي للناس غيب فهو لهم ظهور، والذي للخلق من المعارف مقصود  فلهم من الحق سبحانه موجود، فهم أهل الوصال، والناس من أهل الاستدلال [1].

     يتحصل من هذا أن العقيدة السنية الصحيحة تتوزع بين الخلق إلى ثلاثة تمظهرات في غالب الأمر، توصف: باعتقاد العوام، واعتقاد الخواص، واعتقاد خواص الخواص، وهو تقسيم شائع ذائع في كتب القوم رضي الله تعالى عنهم، کـ «اللمع» للإمام الطوسي ، و «التعرف» للإمام الكلاباذي ، و«قوت القلوب» للإمام أبي طالب المكي، و «الرسالة القشيرية» للإمام أبي القاسم القشيري، و«عوارف المعارف» للإمام السهروردي ، فهذه أمهات كتب التصوف المتقدمة، تكلم الأئمة فيها عن هذا التقسيم، وجعلوه على ثلاث مراتب [2] .

     إن هذه الأقسام تطلق ويراد بها مراتب الإيمان والمعرفة ودرجاتهما؛ إذ لا شك في أن العقيدة واحدة، لكن الإيمان ثم التحقق به مراتب ودرجات، قال حجة الاسلام رضي الله عنه:

المرتبة الأولى، إيمان العوام: وهو إيمان التقليد المحض .

والثانية، إيمان المتكلمين: وهو ممزوج بنوع استدلال، ودرجته قريبة من درجة إيمان العوام.

والثالثة، إيمان العارفين: وهو المشاهدة بنور اليقين [3] .

     وبالرجوع إلى كتاب « اللمع » للإمام أبي سراج الطوسي قُدس سره فسوف نجده يتحدث عن توحيد العامة، وتوحيد الخاصة، وتوحيد أهل الحقائق على الظاهر، ولسان توحيد الواجدين؛ أي: توحيد خاصة الخاصة، حيث قال عنه: وإشارتهم في ذلك تبعد عن الفهم… وهذا العلم أكثره إشارة لا تخفى على من يكون أهلَه [4]، فإذا صار إلى الشرح والعبارة يخفى ويذهب رونقه [5].

     وقال الإمام السيد أحمد الرفاعي الحسيني رضي الله عنه: “فأهل المعرفة عامتهم يعرفونه على سبيل الخبر في التوحيد عن الصادق الأمين سیدنا محمد صلی الله عليه وسلم، فصدقوه بقلوبهم، وعملوا بأبدانهم، إلا أنهم دنسوا أنفسهم بالذنوب والمعاصي، فعاشوا في الدنيا على الجهل والتقصير، فهم على خطر عظيم، إلا أن يرحمهم أرحم الراحمين.

     وأناس فوقهم يعرفونه بالدلائل، وهم أهل النظر والعقل والفكر، أيقنوا بالتوحيد من قِبل الدلائل والآيات وآثار الربوبية، استدلوا بالشاهد على الغائب، واستيقنوا صحة الدلالة، فهم على طريق حسن، إلا أنهم عاشوا محجوبين عن الله تعالى برؤية دلائلهم.

     وخواص أهل المعرفة من أُلي اليقين عرفوه به سبحانه، فوقفوا متمكنين مع معرفتهم، لا تخطَفهم الأدلة، ولا تصرفهم العلة، دليلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإمامهم القرآن، ونورهم يسعی بین أيديهم”[6].

     وقال الإمام برهان الدين اللَّقاني رضي الله عنه في شرحه على جوهرته الموسوم بـ «هداية المريد لجوهرة التوحيد»: “للتوحيد ثلاث مراتب، الأولى: الحكم بالدليل أن الله واحد، والثانية: العلم بالدليل أن الله واحد، الثالثة: غلبه رؤيته تعالى على قلب العارف حتى لا يشهد سواه.

     فالأولى توحيد المؤمن، والثانية توحيد العالم، والثالثة توحيد العارف. 

      وقال رضي الله عنه عند قوله: (للتوحيد ثلاث مراتب.. الخ): ثم رأيت في بعض الأوراق ما نصه: واعلم أن للتوحيد مراتب:

أولها: توحيد اللسان مع تصديق القلب، وهو قول: لا إله إلا الله، وهذا القول يدفع الشرك الجلي وما يترتب عليه، لا غير .

وثانيها: أن لا يشاهدَ – القائلُ – فاعلا ومتصرفا في الوجود إلا الله، وهو توحيد الأفعال .

وثالثها: أن لا يشاهد صفة كمالية إلا لله، وهو توحيد الصفات .

ورابعها: أن لا يشاهد لشيء ذاتا ووجودا إلا الله، وهو توحيد الذات.

     فالطالب مادام في نظره لشيء فعلا أو صفة أو ذاتا ووجودا -وإن كان قائلا بكلمة الشهادة- فهو مشرك الشرك الخفي، ولا مـَخلَصَ منه إلا عند استهلاك ما سوى الله في نظره ذاتا ووجودا وصفة وفعلا، فإذا استهلك كلَّ ما في الوجود، سُمِّيَ بالغير عنده، وفني نَفْسُهُ عن رؤية الاستهلاك هذا أيضا… بقي الحق وحده، ثم في ثاني النظر يرى الأشياء كلها باقية بالحق، موجودة بوجوده، قائمة بقيومیته، مظاهرًا لذاته وأسمائه وصفاته، فيكون بالخلق والحق، ولا يلزم هذا الشركَ الخفي؛ فإنه لا يرى الأشياء كلها إلا مظاهر الربوبية الإلهية، لا أنها حقائق موجودة سوى الحقِّ كما كان يرى أول وهلة[7].

     فهل ما سلف من تلك التمظهرات يقع لها التناقض فيما بينها أم لا تناقض ولا تنافي؟

     ولعل الصواب أنها تتنافى فيما بينها، من حيث الظاهر، لا من حيث الحقيقة؛ أي: في نفس الأمر. وإلا لما وقع التشنيع من أرباب رتبة عقائد العوام على رتبة الخواص وخواص الخواص المتفرعة عنها.

     و”التنافي من حيث الظاهر سببه تفاوت الإدراكات بين العموم والخصوص؛ فإن لخواص أهل الله تعالى إدراكات مطلقة غير مقيدة بعالم الحسن من الزمان والمكان والألوان والأكوان؛ بل إدراكاتهم محض نور ينظرون به ما غاب عن سواهم” [8] من المعارف الربانية التي يقصر دونها الروح العقلي والفكري [9]، فهم ينظرون بنور الله.

     وهذا الإدراك هو ما اصطُلح عليه عندهم بأنه طور فوق طور العقول، ومن هذا التفاوت يظن المقيَّد بطور العقل أن ما يتكلم به أصحاب الإدراك المخصوص، من المحالات؛ لأنه لا يجد في إدراکه ما أخبروا به؛ بل قد يقيم ما يتوهم أنه براهین عقلية على إحالة كلامهم[10] .

     وقد ضرب حجة الإسلام لذلك مثالا ، فقال :

     ولو قيل لواحد: هل يجوز أن يكون في الدنيا شيء هو مقدار حبة يوضع في بلدة، فيأكل تلك البلدةَ بجملتها، ثم يأكل نفسَه، فلا يبقى شيء من البلدة وما فيها، ولا يبقى هو نفسه، لقال: هذا محال، وهو من الخرافات. وهذه حالة النار، ينكرها من لم ير النار إذا سمعها [11].

     ومن هنا قال حجة الإسلام في «مشكاته»: فلا يبعد أيها العاكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل، كما لا يبعد كونُ العقل طورا وراء التمييز والإحساس تنكشف فيه غرائب وعجائب يقصر عنها الإحساس والتمييز ، ولا تجعل أقصى الكمال وقفا على نفسك [12]. وقد استقيت بتصرف كبير جل ما ورد هنا من كتاب: “حبل الله المتين في عقيدة الشيخ الأكبر محيي الدين” للعلامة البيتماني.

الهوامش :

[1] الرسالة القشيرية، للإمام زين الدين أبي القاسم القشيري، دار: جوامع الكلم، القاهرة (د ط تا)، ص:434.

[2]ينظر على سبيل المثال: «اللمع» للطوسي، (ص 424)، و«التعرف» للكلاباذي، ( ص:38) و«قوت القلوب» لأبي طالب المكي، (3/ 1187) و«الرسالة القشيرية» للقشيري (ص 620)… والأمر مشتهر في كتب القوم رضي الله عنهم.

[3]”إحياء علوم الدين” للغزالي، دار المنهاج، المملكة السعودية، جدة، ط1/2011م، 5/56.

[4]قال الإمام الكلاباذي رضي الله عنه: “إنما قيل: علم الإشارة؛ لأن مشاهدات القلوب ومكاشفات الأسرار لا يمكن العبارة عنها على التحقيق؛ بل تعلم بالمنازلات والمواجيد، ولا يعرفها إلا من نازل تلك الأحوال ، وحل تلك المقامات” من كتاب: «التعوف»، تحقيق: آرثر جون آربري، ط1/2010م، دار الوراق، بغداد/العراق ص: 60.

[5] “اللمع” للطوسي، تحقيق: عبد الحليم محمود، وطه عبد الباقي سرور، دار الكتب الحديثة، 1960م، القاهرة مصر، باب التوحيد وصفة الموحد وحقيقته، ص:49-55.

[6]”حالة أهل الحقيقة مع الله”، ص:37 أحمد الرفاعي الحسيني، تحقيق: محمد أديب الجادر، ط1/2000م، دار صادر، بيروت لبنان.

[7] “هداية المريد لجوهرة التوحيد”، للقاني، تحقيق: مروان البجاوي، دار البصائر، ط1/2009م القاهرة مصر. ص:85.

[8] “حبل الله المتين في عقيدة الشيخ الأكبر محيي الدين”، للبيتماني، دار الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي، ط1/2020م، ص:25.

[9]”مشكاة الأنوار”، للغزالي، تحقيق: أبو العلاء عفيفي، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، ط1/1964م، ص:77.

[10]”حبل الله المتين”، ص:25.

[11]”المنقذ من الضلال”، للغزالي، دار المنهاج، جدة المملكة العربية السعودية، ط1/2013م، ص:123.

[12] “مشكاة الأنوار”، ص:77.

Science

ذ. محمد المنصوري

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق