مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

مراتب أهل الظاهر في تدبر القرآن الكريم

    ولنذكر لك –أخي- بحثا كافيا في المراد، وقس ما لم يقل، فإن الشيء إذا خفي معناه بالمثل يتضح:

مراتب أهل الظاهر في تدبر القرآن الكريم [1]

    فاعلم أن المصلي إذا افتتح الصلاة ولاحظ معنى الصلاة في اللسان العربي، ووجه وجهة قلبه إلى مولاه، ولم يقل: إن الخشوع ليس من ذاتيات الصلاة حتى في آخر عمره لو جمعت له ألف صلاة، والتأم القدر الواقع فيه الحضور مع الله في جميع صلواته، لما وجدت إلا صلوات يسيرة تامة، فإن الله كامل لا يقبل إلا الكمال، فلا تدخل عليه إلا الصلوات التامة بواسطة هذا التلفيق؛ فمن اشترط الخشوع لنفسه ووصل في التلاوة لقوله جلت عظمته: ﴿اهدنا الصراط المستقيم ﴾ [سورة الفاتحة آية 5].

مرتبة علماء اللسان.

    فإن كان من أهل اللسان: فإما أن يذهل فهمه أول وهلة إلى تصريف حروفها وتعليقها، ثم يخوض فكره في حقيقة الضمير واشتراك المفرد والمثنى فيه دون الجمع، وأنه من باب ضرب: هداه، يهديه، وأنه متعد، وأن همزة الأمر مكسورة، وأن صيغة اسم فاعل من استقام. وهل سينه أصلية أم زائدة؟ وهل ألفها عن واويها؟ وما علة قلبها إلى أمثال ذلك؟ نظر أهل التصريف.

مرتبة اللغويين.

    وإما أن يذهب فهمه إلى معنى الهداية: هل هو إرادة الطريق أو الإرشاد؟ وهل اشتقاقه من الهدو أو الهدي؟ وأن الصراط: اسم للطريق، وهل هو مرادف له أو مغاير؟ وأن الاستقامة هي الاعتدال، مشتقة من القيام أو القومة…وإلى غير ذلك من المعاني. وهذا نظر أهل العلم بجواهر الألفاظ المعبر عنه بعلم اللغة.

مرتبة القراء.

    وإما أن يذهب فهمه إلى تركيب حروفها ومخارجها ؛ فيخطر بباله مخرج الصاد والضاد والقاف، وأنه يجوز أن يقال: السراط بالسين، والزراط بالزاي، لقرب المخارج، ومالها من الترقيق والتفخيم، والإشمام والقلقلة والإمالة، والتحفظ على مخرج الدالحتى لا يشبه بالتاء، وعلى مخرج القاف حتى لا يخلطه بالقاف العجمية…إلى غير ذلك. وهذا نظر أهل القراء.

مرتبة الإعرابيين.

    وإما أن يذهب فهمه إلى تركيب هذه الجملة من حيث المجموع، فيقول: اهدنا: فعل أمر مضاف إلى ضمير المتكلم، وفيه ضمير مستتر تقديره: أنت. وأن المخاطَب فيه هو الله تعالى، والصراط: مفعول اهدنا، وهو يتعين فيه النصب، والمستقيم: صفة؛ فهي بمجموعها جملة انشائية، ولا يكاد يتجاوز فهمه إلى معنى الصراط والاستقامة. فهذا وأمثاله هو نظر أهل الإعراب، وهو من خواص هذه الأمة المحمدية.

مرتبة البيانيين.

  وإما أن يذهب فهمه إلى خواص الجملة الإنشائية وما لها من التجردات، والفارق بينها وبين الإسمية، وتفاوت مراتبها، وتناسبها مع السياق والبيان إلى غير ذلك من الأمور الناشئة من التركيب الجمعي. وهذا نظر البيانيين.

مرتبة العروضيين.

    وقد يعرض على قلبه –حينئذ- أن اهدنا الصراط المستقيم: موزون من بحر الرجز الكامل، وقد دخله بعض العلل. وهذا نظر أهل العروض.

مرتبة علماء الأسماء والحروف.

    وإما أن ينظر إلى حروفه: هل هي نورانية أو ظلمانية، أو سعدية أو نحسية، والنحس إما أكبر أو أصغر أو أوسط، ولأي شيء ذكرت كذلك في ديباجة القرآن مع أنه قد يتشاءم من بعضها، وهل حروفه قمرية أو شمسية؟ وهذا نظر علماء الأسماء والحروف.

مرتبة علماء سر الحروف وعلم الأسرار الغيبية.

    أو مما تتصرف في الكون أم لا؟ وهل هي من سادة الحروف أو من عملتها أو سوقتها. وهذا نظر علماء سر الحروف وعلم الأسرار الغيبية.

مرتبة الفقهاء.

    أو: يذهب إلى استنباط بعض الأحكام منها الشرعية. وهذا نظر الفقهاء.

مرتبة الأصوليين.

    وهل صيغة الأمر للوجوب أو الندب أو الإباحة، أو للقدر المشترك بين الكل، واستخراج الأحكام الخمسة منها، وتتبع إعطاء اللفظ مقتضى كل حكم من الأحكام الخمسة منها، وتتبع إعطاء اللفظ مقتضى كل حكم من الأحكام الخمسة منه، وهذا نظر أهل أصول الفقه.

مرتبة المؤرخين.

    وهل آية مكية وما يترتب عليه، أو مدنية وما يترتب عليه، أو لا مدنية ولا مكية، ويستفاد من هذا: العلم بالتاريخ،  وهو نظر أهل التاريخ. كمن أراد الاستدلال على أن البسملة تقرأ في الفاتحة أم لا؟ واحتاج لوقت نزولها حتى يعرف من أي زمن والرسول يقرأها، فيأخذ ما أعطته قواه المدركة، المؤيدة بالنور.

مرتبة الكلاميين.

    أو يذهب عقله إلى أن العبد ليس له من الفعل إلا هذا المأمور به، فليس له اختراع ولا تأثير، ولا خلق للفعل، وليس –أيضا- بتارك للعمل رأسا كالجبرية، وهذا نظر أهل الكلام في طلب الهداية.

    فكل هؤلاء من أهل الظاهر، ينظرون لما تعطيه الألفاظ إفرادا وتركيبا، وكل ذلك ليس مرادا في التفهم المأمور.

هوامـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــش

   [1]  سلم الارتقاء في منشأ التصوف ووجوب شيخ التربية: الإمام المجدد أبي الفيض محمد بن عبد الكبير الكتاني، تقديم ومراجعة، محمد حمزة بن علي الكتاني، تحقيق ودراسة، الدكتور اسماعيل المساوي، دار الكتب العلمية، ط. الأولى 1426هـ-2005م. ص 167-170.

Science

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق