مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

مدخل إلى علم السلوك

التصوف الإسلامي: المفهوم والنشأة

 

التصوف وفق الرؤية الإسلامية ليس مذهبًا، وإنما هو مقام الإحسان أحد أركان الدين الثلاثة (الإسلام، الإيمان، الإحسان)؛ فمثلما اهتم الفقه بتعاليم شريعة الإسلام، وعلم العقيدة بالإيمان، فإن التصوف اهتم بتحقيق مقام الإحسان، وهو منهج أو طريق يسلكه العبد للوصول إلى الله، أي الوصول إلى معرفته والعلم به، والتحقق بمقام الإحسان «وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»؛ وذلك عن طريق الاجتهاد في العبادات واجتناب المنهيات، وتربية النفس وتطهير القلب من الأخلاق السيئة، وتحليته بالأخلاق الحسنة. وهذا المنهج كما يقولون يستمد أصوله وفروعه من القرآن والسنة النبوية واجتهاد العلماء فيما لم يرِد فيه نص، فجعلوه عِلما سمّوه بعلم التصوف، أو علم التزكية، أو علم الأخلاق، فألّفوا فيه الكتب الكثيرة بيّنوا فيها أصوله وفروعه وقواعده، ومن أشهر هذه الكتب: قواعد التصوف للشيخ أحمد زروق، وإحياء علوم الدين للإمام الغزالي، والرسالة القشيرية للإمام القشيري.

انتشرت حركة التصوف في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنـزعات فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة، ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرقا مميزة متنوعة معروفة باسم الطرق الصوفية. والتاريخ الإسلامي زاخر بعلماء مسلمين انتسبوا للتصوف مثل النووي والغزالي والعز بن عبد السلام، كما القادة مثل صلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح وعمر المختار..، وقد نتج عن كثرة دخول غير المتعلمين والجهلة في طرق التصوف بعض الممارسات الخاطئة التي عرّضها في بداية القرن الماضي لهجوم المتعلمين في الغرب باعتبارها ممثلة للثقافة الدينية التي تنشر الخرافات، ثم بدأ مع منتصف القرن الماضي الهجوم عليها من قبل المدرسة السلفية باعتبارها بدعة دخيلة على الإسلام.

اشتقاق التصوف عند المسلمين:

  • إنه منالصوفة، لأن الصوفي مع الله كالصوفة المطروحة، لاستسلامه لله تعالى.
  • إنه منالصِّفة، إذ إن التصوف هو اتصاف بمحاسن الأخلاق والصفات، وترك المذموم منها.
  • إنه منالصُفَّة؛ لأن صاحبه تابعٌ لأهل الصُفَّة الذين هم الرعيل الأول من رجال التصوف “وهم مجموعة من المساكين الفقراء كانوا يقيمون في المسجد النبوي الشريف ويعطيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات والزكاة طعامهم ولباسهم”.
  • إنه منالصف، فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيث حضورهم مع الله؛ وتسابقهم في سائر الطاعات.
  • إنه منالصوف، لأنهم كانوا يؤثرون لبس الصوف الخشن للتقشف والاخششان.
  • إنه منالصفاء، فلفظة “صوفي” على وزن “عوفي”، أي: عافاه الله فعوفي، وقال أبو الفتح البستي:
تنازع الناس فى الصوفى واختلفوا وظــنــه البعض مشتقاً من الصوف
ولست امنح هذا  الأسم غير فتى صفا فصوفى حتى سمى الصوفي
  • إنه في الأصلصفوي، ونقل ذلك الطوسي أبو نصر السراج، في كتابه الذي يعد أقدم مرجع صوفي، عن صوفي فقال: “كان في الأصل صفوي، فاستثقل ذلك، فقيل: صوفي”، وبمثل ذلك نقل عن أبي الحسن الكناد: “هو مأخوذ من الصفاء”.

بينما أرجع البعض اسم “التصوف” إلى رجل زاهد متعبد في الجاهلية كان يلقب بـ”صوفة” واسمه هو الغوث بن بركان أو في رواية الغوث بن مر. كما أشار الزمخشري في أساس البلاغة والفيروز آبادي في قاموسه المحيط إلى أن قوماً في الجاهلية سموا بهذا الاسم وكانوا يعبدون الله في الكعبة ومن تشبه بهم سمي صوفي ومنهم نشأت طبقة المتحنفين مثل ورقة بن نوفل.

المستشرقون يرون أن كلمة صوفي مأخوذة من “صوفيا” اليونانية بمعنى الحكمة وعندما فلسفت العرب عبادتهم حرفوا الكلمة وأطلقوها على رجال التعبد والفلسفة الروحية، أو مأخوذة من “ثيوصوفيا” بمعنى الإشراق أو محب الحكمة الإلهية. بسبب المشابهة الصوتية بين كلمة “صوفي” والكلمة اليونانية “صوفيا”، وكذلك لوجه الشبه الموجود بين كلمة “تصوف”، “تيوصوفيا”، وأن كلمتي صوفي وتصوف أخذتا من الكلمتين اليونانيتين “سوفيا” و”وتيوسوفيا”، وبهذا الرأي أخذ محمد لطفي جمعة، إلا أن “نولدكه” أثبت خطأ هذا الزعم كما أيده في ذلك “نيكلسون”، و”ماسينيون”، وبالإضافة إلى البراهين القوية الأخرى التي أقامها نولدكه“، فإنه يدلل على أن (س) اليونانية نقلت إلى العربية كما هي سينا، لا صادا كما أنه لا يوجد في اللغة الآرامية كلمة تعد واسطة لانتقال سوفيا إلى الصوفي.

فهذا هو الاختلاف الواقع في أصل لفظة التصوف واشتقاقها، ولذلك اضطر الصوفي القديم علىّ الهجويري المتوفى سنة 465هـ إلى أن يقول: “إن اشتقاق هذا الاسم لا يصح من مقتضى اللغة في أي معنى، لأن هذا الاسم أعظم من أن يكون له جنس ليشتق منه”. وبمثل ذلك قال القشيري في رسالته: “ليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق”. كما أنه مما لاشك فيه أنه لا يصح ولا يستقيم اشتقاقه من حيث اللغة إلا من الصوف، ولو أنه هو اختيار الكثيرين من الصوفية وغيرهم كالطوسي، وأبي طالب المكي، والسهروردي وأبي المفاخر يحيى باخرزي، وابن تيمية، وابن خلدون من المتقدمين. وأرجح الأقوال وأقربها إلى العقل مذهب القائلين بأن الصوفي نسبة إلى الصوف، وأن المتصوف مأخوذ منه أيضا، فيقال: تصوف إذا لبس الصوف.

من حيث الاصطلاح:

كثرت الأقوال أيضا في تعريف التصوف تعريفا اصطلاحيا على آراء متقاربة، كل منها يشير إلى جانب رئيسي في التصوف، والتي منها:

قول الشيخ زكريا الأنصاري: “التصوف علم تُعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية”.

قول الشيخ أحمد زروق: “التصوف علم قصد لإصلاح القلوب وإفرادها لله تعالى عما سواه. والفقه لإصلاح العمل وحفظ النظام وظهور الحكمة بالأحكام. والأصول علم التوحيد لتحقيق المقدمات بالبراهين وتحلية الإيمان بالإيقان..“، وقال أيضا: “وقد حُدَّ التصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ نحو الألفين، مرجع كلها لصدق التوجه إلى الله، وإنما هي وجوه فيه”.

قول الإمام الجنيد: “التصوف استعمال كل خلق سني، وترك كل خلق دني”.

قول الإمام أبو الحسن الشاذلي: “التصوف تدريب النفس على العبودية، وردها لأحكام الربوبية”.

قول الإمام ابن عجيبة: “التصوف هو علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرذائل، وتحليتها بأنواع الفضائل، وأوله علم، ووسطه عمل، وآخره موهبة”.

نشأة التصوف:

يرجع أصل التصوف -كسلوك وتعبد وزهد في الدنيا وإقبال على العبادات واجتناب المنهيات ومجاهدة للنفس وكثرة لذكر الله- إلى عهد رسول الله  سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة، وأن أوّل صوفي هو نبي الإسلام سيدنا محمد عليه السلام، لأنه بحدّ ذاته أول من دخل الخلوة في غار حراء. وأن التصوف يستمد أصوله وفروعه من تعاليم الدين الإسلامي المستمدة من القرآن والسنة النبوية. وكوجهة نظر أخرى، يرى بعض الناس أن أصل التصوف هو الرهبنة البوذية والكهانة النصرانية، والشعوذة الهندية، وأصول الديانة الفارسية التي ظهرت بخراسان بينما يرفض الصوفية تلك النسبة ويقولون بأن التصوف ما هو إلا التطبيق العملي للإسلام، وأنه ليس هناك إلا التصوف الإسلامي فحسب.

بداية ظهور اسم الصوفية:

يقول الإمام القشيري: “اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَتَسمَّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ لا أفضلية فوقها، فقيل لهم الصحابة، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس -ممن لهم شدة عناية بأمر الدين- الزهاد والعُبَّاد، ثم ظهرت البدعة، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادّعوا أن فيهم زهاداً، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله سبحانه وتعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة”.

ويقول محمد صديق الغماري: “ويعضد ما ذكره ابن خلدون في تاريخ ظهور اسم التصوف ما ذكره الكِنْدي -وكان من أهل القرن الرابع- في كتاب “ولاة مصر” في حوادث سنة المائتين: إنه ظهر بالإسكندرية طائفة يسمَّوْن بالصوفية يأمرون بالمعروف. وكذلك ما ذكره المسعودي في “مروج الذهب” حاكياً عن يحيى بن أكثم فقال: إن المأمون يوماً لجالس، إذ دخل عليه علي بن صالح الحاجب، فقال: يا أمير المؤمنين! رجل واقفٌ بالباب، عليه ثياب بيض غلاظ، يطلب الدخول للمناظرة، فعلمت أنه بعض الصوفية. فهاتان الحكايتان تشهدان لكلام ابن خلدون في تاريخ نشأة التصوف. وذُكر في “كشف الظنون” أن أول من سمي بالصوفي أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة خمسين ومئة (150هـ)”.

اتّباعهم للقرآن والسنة:

يرى أئمة التصوف أنهم متبعون للكتاب والسنة، وأن علمهم هذا كباقي العلوم الإسلامية من الفقه والعقيدة مستمد من الكتاب والسنة، دل على اعتقادهم بذلك أقوالهم، والتي منها:

  • قولالجنيد: “الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام”. وقال أيضا: “من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يُقتدي به في هذا الأمر؛ لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة”.
  • قولسهل التستري: “أصولنا سبعة أشياء: التمسك بكتاب الله، والاقتداء بسنة رسوله، وأكل الحلال، وكفِ الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق”.
  • قولأبو الحسن الشاذلي: “إِذا عارض كشفُك الصحيح الكتابَ والسنة فاعمل بالكتاب والسنة ودع الكشف، وقل لنفسك: إِن الله ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة، ولم يضمنها لي في جانب الكشف والإِلهام”.
  • قول أبو الحسين الورّاق: “لا يصل العبد إِلى الله إِلا بالله، وبموافقة حبيبه في شرائعه، ومَنْ جعل الطريق إِلى الوصول في غير الاقتداء يضل من حيث يظن أنه مهتد”.
  • قولعبد الوهاب الشعراني: “إن طريق القوم -أي الصوفية- محررة على الكتاب والسنة كتحرير الذهب والجوهر، فيحتاج سالكها إِلى ميزان شرعي في كل حركة وسكون”.
  • قولأبي يزيد البسطامي حيث سئل عن الصوفي فقال: “هو الذي يأخذ كتاب الله بيمينه وسنة رسوله بشماله، وينظر بإِحدى عينيه إِلى الجنة، وبالأخرى إِلى النار، ويأتزر بالدنيا، ويرتدي بالآخرة، ويلبي من بينهما للمولى: لبيك اللهم لبيك”.

ويستدلون أيضا على صحة توجههم بمواقف أئمة المذاهب السنية الأربعة الداعية إلى التصوف بمعناه الصحيح. أما معارضيها فيعتبرونها ممارسة تعبدية لم تذكر لا في القرآن ولا في السنة ولا يصح أي سند لإثباتها وعليه فهي تدخل في نطاق البدعة المحرمة التي نهى عنها رسول الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

مصطلحات الصوفية:

إِن لكل علم من العلوم كالفقه والحديث والمنطق والنحو والهندسة والفلسفة اصطلاحات خاصة به، لا يعلمها إِلا أصحاب ذلك العلم، ومن قرأ كتب علم من العلوم دون أن يعرف اصطلاحاته، أو يطلع على رموزه وإِشاراته، فإِنه يؤول الكلام تأويلات شتى مغايرة لما يقصده العلماء، ومناقضة لما يريده الكاتبون فيتيه ويضل.

وللصوفية اصطلاحاتهم التي قامت بعض الشيء مقام العبارة في تصوير مدركاتهم ومواجيدهم، حين عجزت اللغة عن ذلك. فبسبب ذلك دعى الصوفية من يريد الفهم عنهم إلى صحبتهم حتى تتضح لهم عباراتهم، ويتعرفوا على إِشاراتهم ومصطلحاتهم. قال بعض الصوفية: “نحن قوم يحرم النظر في كتبنا على من لم يكن من أهل طريقنا” .وقال عبد الوهاب الشعراني: “سمعت سيدي عليًا الخواص يقول: إِياك أن تعتقد يا أخي إِذا طالعت كتب القوم، وعرفت مصطلحهم في ألفاظهم أنك صرت صوفيًا، إِنما التصوف التخلق بأخلاقهم، ومعرفة طرق استنباطهم لجميع الآداب والأخلاق التي تحلَّوْا بها من الكتاب والسنة”.

وإِن كلام الصوفية في تحذير من لا يفهم كلامهم ولا يعرف اصطلاحاتهم من قراءة كتبهم ليس من قبيل كتم العلم، ولكن خوفاً من أن يفهم الناس من كتبهم غير ما يقصدون، وخشية أن يؤولوا كلامهم على غير حقيقته، فيقعوا في الإِنكار والاعتراض، شأن من يجهل علماً من العلوم. لأن المطلوب من المؤمن أن يخاطب الناس بما يناسبهم من الكلام وما يتفق مع مستواهم في العلم والفهم والاستعداد.

فمن هذه المصطلحات:

  • الأنس: قال الجنيد: “هو ارتفاع الحشمة مع وجود الهيبة”.
  • الاتصال: “وهو أن ينفصل العبد بسره عما سوى الله، فلا يَرَى بسره -بمعنى التعظيم- غيرَه، ولا يسمع إلا منه”.
  • التجريد: “وهو أن يتجرد العبد بظاهره عن الأعراض، وبباطنه عن الأعواض”.
  • الوجد: “هو ما صادف القلب من فزع، أو غم، أو رؤية معنى من أحوال الآخرة، أو كشف حالة بين العبد والله”.
  • التواجد: “هو ظهور ما يجد في باطنه على ظاهره، ومن قوي حاله تمكن فسكن”.
  • الغيبة: “أن يغيب عن حظوظ نفسه فلا يراها، وهي قائمة معه، موجودة فيه، غير أنه غائب عنها بشهود ما للحق”.
  • الهمم (جمع همّة): “وهو أن تكون الهموم كلها هما واحدا وهو الله”.

الصفحة السابقة 1 2 3 4الصفحة التالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق