مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

محاضرة بجامعة ألمانية عن التأويل في الخطاب الأشعري

 

 

الدكتور عبد القادر بطار*
 
بدعوة كريمة من البروفيسور شتيفان رايشموت، رئيس قسم الدراسات الشرقية والعلوم الإسلامية في جامعة الرور في مدينة بوخوم بجمهورية ألمانيا الاتحادية، حاضرت برحاب هذه الجامعة العريقة، بصفتي أستاذا زائرا خلال شهر نونبر 2012، وقد تطرقت في تلك المحاضرات إلى العقائد والمذاهب الدينية بشمال إفريقيا: التراث والمسائل المعاصرة، باقتراح من البروفيسور رايشموت، وقد تابع هذه المحاضرات باهتمام كبير الطلبة الباحثون بقسم الدراسات الشرقية والعلوم الإسلامية، بحضور بعض الأستاذة الباحثين بذات الجامعة، في مقدمتهم الدكتور ختيمة بوراس، وهي باحثة مغربية في جامعة بوخوم، إضافة إلى الأستاذ مجدي من مصر، والدكتور عبد الله من العراق. وقد قدم لها البروفسير شتيفان ريشموت، كما كانت تتوج هذه المحاضرات بمناقشة عميقة لبعض القاضايا الدقيقة في علم الكلام الإسلامي قديما وحديثا.
وقد ركزت في تلك المحاضرات على موقف الخطاب الأشعري من بعض المشكلات الكلامية، منها ما يتعلق بالمنهج: كالتأويل، والموقف من الاشتغال بعلم الكلام، ومنها ما يتعلق بنتائج المنهج: كتكفير المخالف في الرأي… كما تطرقت إلى التراث المنطقي والكلامي بشمال إفريقيا ومواقف مفكري الإسلام من علم المنطق وعلم الكلام الإسلامي. كما وقفنا في أثناء مناقشتنا لبعض القضايا الكلامية عند آراء بعض الفرق الإسلامية كالجهمية، والقدرية والمعتزلة والشيعة والخوارج والمرجئة والماتريدية وأهل الحديث والصوفية ملتزمين المنهج العلمي في تقريب وجهات النظر بين هذه التيارات الفكرية.
وأود أن أتحف القراء الكرام بنموذج واحد من تلك المحاضرات، وبالأحرى بجزء من محاضرة، حول التأويل الكلامي بين السلف والخلف. فأقول وبالله التوفيق:
لعب التأويل بمفهومه العلمي الأصولي دورا مهما في إثراء النص الديني–الكتاب والسنة- وأسهم إلى حد كبير في تكوين منظومة تشريعية شاملة تواكب النزعة التجديدية للإسلام، وتستوعب جميع النظريات التي أبدعها مفكرو الإسلام في هذا المجال، اعتمادا على آلية الاجتهاد الذي يعتبر التأويل أحد أدواته الأساسية، كما ساعد على ذلك طبيعة اللغة التي جاء بها القرآن الكريم، والتي تتسع لمثل تلك النظريات.
لكن في مجال الدراسات العقدية التي تتسم موضوعاتها بالثبات فقد أخل التأويل بروح النص العقدي، وأضر بمقاصده الجوهرية، حيث استغلت تيارات محسوبة على الإسلام هذا الفضاء المعرفي، فعمدت إلى تقسيم القرآن الكريم إلى ظاهر وباطن، وتحت هذا التقسيم عرف المسلمون نظريات غريبة عن روح الثقافة الإسلامية الأصيلة حملتها إلينا بعض التفاسير التي تصدر عن منهج باطني ملئ بالرموز والإشارات، لم تحترم شروط قراءة النص الديني، ولا لغته التداولية، كما تسربت إلى العالم الإسلامي نظريات فلسفية إشراقية كان له تأثير واضح على التصوف الفلسفي الإسلامي.
كما وظف بناة الخطاب الفلسفي الإسلامي التأويل في محاولاتهم التوفيقية بين النص الديني – النقل- والفلسفة الإغريقية –العقل- معتقدين أنهما يعبران عن حقيقة واحدة، حتى أصبح التأويل قانونا لا غنى عنه لتحقيق هذا الهدف عند أصحاب هذا الخطاب. وهذه الحقيقة يشير إليها أبو الوليد بن رشد على سبيل القطع في كتبه فصل المقال”… أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي وهذه القضية لا يشك فيها مسلم ولا يرتاب بها مؤمن”.
وقد اشتغل بعض دعاة التجديد على التأويل بمفهومه الغربي: – تفسير الكتب المقدسة تفسيرا رمزيا أو مجازيا يكشف عن معانيها الخفية – فانتهى بهم الأمر إلى إقرار نتائج مخالفة للعقائد الإيمانية كالقول بقدم العالم ونفي الصفات …
التأويل الكلامي:
يرتبط لفظ “التأويل” عند علماء الكلام بالنصوص العقدية المتشابهة التي يوهم ظاهرها مشابهة الذات الإلهية المقدسة للحوادث أو الممكنات التي من صفاتها أن لها صورة وجسما، وهي مؤلفة من أجزاء ولها زمان خاص ومكان خاص. والله سبحانه وتعالى لا يشبهها في شيء من هذا ولا من غيره، لأنه – كما يقول الإمام الأشعري- ” لو أشبهها لكان حكمه في الحدث حكمها، ولو أشبهها لم يخل من أن يشبهها من كل الجهات أو من بعضها، فإن أشبهها من جميع الجهات كان محدثا مثلها من جميع الجهات، وإن أشبهها من بعضها كان محدثا من حيث أشبهها، ويستحيل أن يكون المحدَث لم يزل قديما وقد قال الله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] وقال: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: 4]”.
وعلى هذا الأساس الأشاعرة يعرف التأويل بأنه: “حمل اللفظ على خلاف ظاهره مع بيان المعنى المراد، فيحكم المكلف بأن اللفظ مصروف عن ظاهره قطعا. ثم يؤول اللفظ تأويلا تفصيليا بأن يبين فيه المعنى الذي يظن أنه المقصود من اللفظ” ويقابل هذا المدلول لفظ “التفويض” الذي يعني صرف اللفظ عن ظاهره، مع عدم التعرض لبيان المعنى المراد منه، بل يترك ويفوض علمه إلى الله تعالى بأن يقول: الله أعلم بمراده.
المحكم والمتشابه:
يشتمل القرآن الكريم والسنة النبوية على طائفة من النصوص وصفت بأنها متشابهة، بمعنى أن ظاهرها يوهم التشبيه والتجسيم والنقص كالاستواء والمجيء والوجه واليدين والعينين … التي هي صفات المحدثين الذي قامت الأدلة النقلية والعقلية على نفيه انسجاما مع مبدأ التنزيه الإسلامي، ومن ثم صارت تحتمل معاني يصعب الجزم بأنها هي مراد الله تعالى. وهذا الصنف هو الذي وقع الخلاف بين العلماء في إمكان تأويله بغرض التوصل إلى المعاني الحقيقية التي ينطوي عليها. أم لا سبيل إلى إدراك ذلك لأنها تتجاوز أحكام العقل، ومن ثم وجب الإيمان بها بوصفها نصوصا ثابتة وتفويض معناها وعلمها إلى الله تعالى؟
دلالة لفظ المتشابه:
يفيد لفظ المتشابه على مستوى الدلالة اللغوية معنى المماثلة بين شيئين أو أكثر تؤدي عادة إلى الالتباس في مدلول الخطاب. إذا شابهه وأشبهه ماثله، وتشابها واشتبها أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا… وأمور مشتبهة ومشبهة مشكلة، والشبهة الالتباس والمثل، وشبه عليه الأمر تشبيها لبس عليه.
أما على مستوى الدلالة الاصطلاحية فقد تعددت التعريفات وتباينت العبارات في تقريب مدلول هذا اللفظ، نختار منها الصيغ التالية:
• المتشابه من القرآن: ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره، إما من حيث اللفظ، أو من حيث المعنى. ويجعل صاحب هذا التعريف المتشابه من جهة المعنى: “أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا، إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه. أو لم يكن من جنس ما نحسه”.
• وصف الخطاب بالمتشابه معناه أنه: “محتمل لمعان مختلفة، يقع على جميعها أو يتناولها على وجه الحقيقة، أو يتناول بعضها حقيقة وبعضها مجازا. ولا ينبئ ظاهره عما قصد به”.
• المتشابه: ما استأثر الله بعلمه، أو ما خالف ظاهر لفظه المراد منه.
• يطلق ويراد به ما ليس بواضح الدلالة على معناه مما لا يتبين المراد من لفظه.
وهذه التعريفات تكاد تجمع على أن المتشابه هو اللفظ الذي يساعد بناؤه اللغوي على احتمال عدة وجوه يتم الكشف عن الوجه الصحيح المراد منها باعتماد آلية التأويل، أو يكتفى بتقريب مدلول اللفظ لغويا مع عدم الخوض في الكيفية التي استأثر الله بعلمها.أو التماس معنى يحتمله اللفظ والعقيدة. وهذا أصل، والأصل الثاني، أن المتشابه ليس بقطعي الدلالة، ومن ثم وجب رده إلى المحكم الذي تتميز دلالته بالقطع.
موقف الخطاب الأشعري من مشكلة المتشابه:
عرف موقف الأشاعرة من النصوص المتشابهة تطورا ملحوظا انتهى عند كبار المنظرين منهم إلى ما قرره السلف. حتى إذا ما انتهى الأمر إلى المتأخرين منهم رأينا من يعمد إلى تأويل تلك النصوص كلها بهدف تحقيق التتزيه بشكل مفصل للذات العلية ، أو من يميل إلى عدم التأويل لاقتناعه الشديد بتناهي العقل المجرد. كما رأينا كثيرا من الشراح يختارون لغة التوفيق بين مذهب السلف ومذهب الخلف الذي باتت تحكمه تحولات معرفية وبلاغية لا يمكن تجاهلها. وقد أضحى هذا الموقف هو الصيغة النهائية لمذهب أهل السنة والجماعة الذي صاغ بُنَاة الخطاب الأشعري قواعده المنهجية صياغة نهائية ومحكمة أصبحت على أساسها تحرر العقائد الدينية المرتبطة بمشكلة المتشابه.
موقف الإمام الأشعري من مشكلة المتشابه:
لم يهتم أبو الحسن الأشعري بمشكلة النصوص المتشابهة اهتماما نظريا، بل اكتفى في تقريب آرائه بإيراد النصوص المحكمة كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ اَلسَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى 11]. وبمقتضى هذا النص المحكم يقرر الإمام الأشعري كما تقدم أن الخالق سبحانه لا يشبهه شيء ولا يشبه شيئا لأنه تعالى لو أشبه المخلوقات لأدى ذلك حتما إلى الحدوث الذي هو مصير المخلوقات والخالق يتنزه عن ذلك.
ولنترك الإمام الأشعري يقرر هذا الأصل العقدي الهام على طريقته في الجدل الكلامي:
“فإن قال قائل: لم زعمتم أن الباري سبحانه لا يشبه المخلوقات ؟
قيل: لأنه لو أشبهها لكان حكمه في الحدوث حكمها، ولو أشبهها لم يخل من أن يشبهها من كل الجهات أو من بعضها، فإن أشبهها من جميع الجهات، كان محدَثا مثلها من جميع الجهات. وإن أشبهها من بعضها كان محدثا من حيث أشبهها، ويستحيل أن يكون المحدث لم يزل قديما وقد قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]. وقال تعالى: لَمْ يَكُنْ لَهُ, كُفُؤاً اَحَدٌ [الإخلاص: 4].
وهذا النص هو الإطار المنهجي لمعالجة النصوص المتشابهة، بل هو القانون الذي سار عليه أئمة العقيدة الأشعرية في مرحلتها الأخيرة.
وإذا ما انتقلنا إلى كتاب الإبانة، الذي ألفه الإمام الأشعري وعينه على إنقاذ عقيدة التنزيه التي وجدت من يروج لها تحت أسماء مختلفة. فنجد أسلوب الإثبات بلا كيف هو الأكثر تداولا في التدليل على بعض الصفات الخبرية، ولا يكتفي الإمام الأشعري بترديد مقولة “بلا كيف” التي تنتهي عند الخطاب الحشوي إلى التجسيم المادي بل حلل اللفظ تحليلا لغويا مستقرئا جميع المعاني التي يحتملها. سواء على مستوى الحقيقة أو على مستوى المجاز، معتبرا الحقيقة هي الأصل التي لا يعدل عنها إلا بحجة.
أما في “رسالته إلى أهل الثغر” وهو عمل علمي يسير على منهجه في “الإبانة” فهو يقرر تلك الصفات تقريرا سنيا، ويصوغ ذلك في صيغة إجماع – الإجماع السابع والثامن والتاسع- على أن ذلك ينبغي أن يفهم في إطار الإجماع الثاني الذي يقرر فيه ” أنه عز وجل غير مشبه لشيء من العالم، وقد نبه عز وجل على ذلك بقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ اَلسَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11… لأنه تعالى لو أشبهها لشيء من خلقه لاقتضى من الحدث والحاجة إلى محدث ما اقتضاه ذلك الذي أشبهه، أو اقتضى ذلك قدم ما أشبهه من خلقه، وقد قامت الأدلة على حدث جميع الخلق، واستحالة قدمه – أي الخلق -… وليس كونه عز وجل غير مشبه للخلق ينفي وجوده، لأن طريق إثباته كونه تعالى على ما اقتضته العقول من دلالة أفعاله عليه دون مشاهدته.”
كما يفصح عن هذا الأصل التنزيهي الذي هو شعار بناة الخطاب السني في جميع مراحله، فيقرر أنهم – السلف الصالح- “أجمعوا على وصف الله تعالى بجميع ما وصف به نفسه، ووصفه به نبيه، من غير اعتراض فيه، ولا تكيف له، وأن الإيمان به واجب، وترك التكييف له لازم”.
وأخيرا نجد الإمام الأشعري يعبر بوضوح عن موقفه من الصفات التي تصنف ضمن مجموع الصفات الخبرية التي دلت عليها بعض النصوص، كلفظ الاستواء والوجه والعينين واليدين.. وذلك بعد عرضه لمذهب أهل الحديث والسنة الذين يؤمنون بتلك الصفات على نحو ما قرره الشرع. من غير خوض في كيفياتها، فيقول: “… فهذه جملة ما يأمرون به، ويستعملونه ويرونه وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب”.
وخلاصة القول فإن الإمام الأشعري سلك في كتابه “الإبانة” و”رسالة إلى أهل الثغر” منهجا كان الهدف منه التدرج بالحشوية الذين نزلوا إلى مرتبة العوام، من أجل الارتقاء بهم إلى مستوى يجعلهم يقبلون بالنظر العقلي السديد وتخليصهم من نتائج القراءة الحرفية لبعض النصوص المتشابهة. وإلا فالمنهج العام الذي سلكه أئمة الفكر الأشعري في هذا الموضع بالذات يتأرجح بين مذهبين كلاهما يحقق المقصود العقدي الذي لا يختلفون حوله، والمتمثل أساسا في صرف النصوص المتشابهة عن ظواهرها المستحيلة، واعتقاد أن هذه الظواهر غير مرادة للشارع قطعا. أو حمل اللفظ على معنى يسوغ في اللغة ويليق بالله تعالى.
موقف إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني:
يعتبر الإمام الجويني (تـ 478ﻫ) من المتكلمين المتحمسين لظاهرة التأويل، بل هو أحد المنظرين الكبار لهذه الظاهرة التي نجد لها تطبيقات واسعة في تقريب مختلف مباحث علم الكلام عند هذا الإمام العظيم.
والواقع أن انشغال الجويني بقضية التنزيه الذي يقتضي نفي جميع أشكال التجسيم والمماثلة عن الذات الإلهية المقدسة بمقتضى: ” أن الله تعالى لا يشبه شيئا من الحوادث ولا يشبهه شيء منها” جعله يلجأ إلى التأويل لتحقيق هذا المقصد العقدي العظيم الذي لا يختلف في جوهره أهل الحق قاطبة.
وقد اعتبر الإمام الجويني التأويل ضرورة شرعية وعقلية تمكن المؤول من حفظ قضايا أصول الدين من الشبهات التي قد يثيرها الخصوم بهدف: “اللبس والإبهام واستزلال العوام وتطريق الشبهات إلى أصول الدين، وتعريض بعض كتاب الله تعالى لرجم الظنون… “.
منطلق الإمام الجويني في الدعوة إلى التأويل هو تحقيق التنزيه، غير أن القبول بهذا الأصل يظل رهينا بالنتائج التي ينتهي إليها الناظر في النصوص التي هي من قبيل المتشابه. وهذا بدوره يخضع لمستوى المؤول ومقصوده من التأويل، وطرق القراءة للنص المؤَول. وكل ذلك ينتظم عند الجويني في ثلاثة مستويات تتفاوت ضعفا وقوة:
أولا: حمل الألفاظ المتشابهة على الظاهر من غير إخضاعها لقانون التأويل ويلزم عن هذه الحالة الوقوع في التشبيه حتما.
ثانيا: حمل تلك الألفاظ على ظاهرها مع القطع بكونها غير مرادة للشارع. وهذا ضرب من التأويل.
ثالثا: صرف تلك الألفاظ عن ظاهرها إلى معان تحتملها عقلا وشرعا. وهذا هو التأويل الذي ينتصر إليه الجويني. ويقيده بضابطين اثنين:
الأول: أن يكون مدلول اللفظ الذي انتهى إليه المؤول مستقيما في العقول.
الثاني: أن يكون هذا المدلول موافقا لما استقر في منطق الشرع.
وعلى هذا الأساس تعامل الإمام الجويني مع بعض الصفات الخبرية مع اعترافه بموقف سلفيه الأشعري والباقلاني على وجه التحديد من تلك الصفات، واعتبارها صفات ثابتة لله تعالى دل عليها الشرع دون العقل فإنه يعمد إلى تأويلها ويقرر في هذا المجال ضرورة حمل اليدين على القدرة، وحمل الوجه على الوجود، والعينين على البصر…
لكن هذا المشروع الذي بدأه بعض أئمة المذهب الأشعري كابن فورك وعبد القاهر بن طاهر البغدادي (ت429ﻫ) هل توقف فعلا عند الإمام الجويني في رسالته الموسومة “بالعقيدة بالنظامية” التي قرر فيها الرجوع إلى مذهب السلف والعدول عن التأويل الذي أصبح عنده محرما كما يقول ابن تيمية ؟
من المؤكد أن الإمام الجويني أثناء عرضه لمذاهب العلماء بخصوص النصوص المتشابهة قد بين المذهب الذي استقر عليه وهو عدم تأويلها فيقول في نص لا يقبل التأويل: ” قد اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة. وامتنع على أهل الحق اعتقاد فحواها، وإجراؤها على موجب ما تبدره أفهام أرباب اللسان منها. فرأى بعضهم تأويلها، والتزام هذا المنهج في آي الكتاب، وما يصح من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى. والذي نرتضيه رأيا، وندين الله به عقدا، اتباع سلف الأمة، فالأولى الاتباع وترك الابتداع، والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة.
وقد درج صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم على ترك التعرض لمعانيها، ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة، والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا ومحتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة.
وإذا انصرف عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعا وأنه الوجه المتبع، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب تبارك وتعالى.”
نستنتج من هذا النص ما يلي:
أولا: أن الإمام الجويني لا ينكر على من اختار لغة التأويل لصرف تلك النصوص عن ظواهرها المستحيلة.
ثانيا: أن مذهب السلف عند الإمام الجويني يشمل القرون الثلاثة الأولى التي تغطي عصري الصحابة والتابعين وتابعيهم. وهذا التحديد الزمني مهم جدا، لأن كثيرا من التأويلات جاءت متأخرة عن هذه الفترة بكثير وتنسب إلى السلف.
ثالثا: أن الإمام الجويني ظل وفيا لمبدأ التنزيه الذي شيد أسسه النظرية في “الإرشاد” و”الشامل”. و”اللمع”… متابعا في ذلك أئمة المذهب بدأ بالإمام الأشعري نفسه.
رابعا: أن هذا النص كثيرا ما يستدل به خصوم العقيدة الأشعرية على رجوع الإمام الجويني عن عقيدته الأشعرية، وكأن هذه العقيدة لا تنتمي لمدرسة أهل السنة والجماعة. وهي مغالطة ينبغي التنبيه عليها، والتحذير منها، إذ الجويني الذي عرفناه في “الإرشاد” و”الشامل” سنيا جماعيا هو نفسه الجويني في “العقيدة النظامية” فقد ظل متمسكا بآرائه، ما عدا قضية الصفات الخبرية التي أمسك عن تأويلها تماما كما فعل سلفه الأشعري والباقلاني من قبل. بل إن “العقيدة النظامية” جاءت تقرر نفس المبادئ المتداولة في الفكر الأشعري عموما الذي هو في الوقت نفسه فكر سني جماعي. والقول بتراجعه يبقى مجرد دعوى يكذبها ما سطره الجويني ذاته في “العقيدة النظامية”.
وخلاصة القول فقد اختار الخطاب الأشعري المتأخر في هذا الموضع الشائك، لغة التوفيق بين مذهب السلف وطريقة الخلف التي لا تعني شيئا سوى المذهب السني الجماعي في صورته العقلية والذي تبلور بشكل نهائي على يد الشراح، حيث أصبح المخاطب بتلك النصوص في رأي هؤلاء بين خيارين اثنين:
الأول: الاكتفاء بصرف تلك النصوص عن ظواهرها مع تفويض معانيها إلى الله تعالى بعد تنزيهه عن ظواهرها المستحيلة، كما هو مذهب السلف.
الثاني: حمل تلك الألفاظ على معاني تسوغ في اللغة وتليق بالله تعالى، وهذه طريقة الخلف.
وقد أصبح هذا المعتقد هو الصيغة النهائية لمشكلة المتشابه بالنسبة للخطاب الأشعري الذي اكتمل على يد شراحه، وعلى هذا الأساس فإن الانتصار لظاهرة التوفيق بين مذهب السلف ومذهب الخلف هي التي يعبر عنها صاحب جوهرة التوحيد الإمام اللقاني بقوله:
وَكُـلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا * أَوِّلْــهُ أَوْ فـــَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهَا

*الدكتور عبد القادر بطار، أستاذ العقيدة والمذاهب الكلامية بجامعة محمد الأول بوجدة، المملكة المغربية.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. شكرا أستاذي الموقر و نعلمكم أننا في أمس الحاجة لمثل هذه المعلومات و بارك الله فيكم.

  2. هناك ملاحظة أردت التنبيه عليها وهي أن التفويض عند السلف هو تفويض الكيفية وليس تفويض المعنى كما ورد عن الإمام مالك رحمه الله الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.

  3. تعريف التفويض عند السلف الوارد في هذا المقال هو: "صرف اللفظ عن ظاهره، مع عدم التعرض لبيان المعنى المراد منه". فلا يفهم من هذا "تفويض المعنى" بل تفويض بيان المعنى، وما ارتبط به، ومنه الكيفية.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق