مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

ما ينبغي أن تعتقده الأفئدة وتنطق به الألسنة من فرض أمر الديانة في الذَّب عن رسل الله وأصفيائه وتوقيرهم وتجلية الوجه التربوي السلوكي فيه

مُلْجِئة القراء والمقرئين

إلى

ما ينبغي أن تعتقده الأفئدة وتنطق به الألسنة من فرض أمر الديانة في الذَّب عن رسل الله وأصفيائه وتوقيرهم

[شأن تأويل عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لقول الله عز وجل: (حَتَّى إِذا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذبوا جَاءَهُمْ نَصْرُنا)]

وتجلية الوجه التربوي السلوكي فيه

حمداً لله رب العالمين وبه نستعين، وصلوات ربنا وسلامه على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين وبعد؛

فقد كتب ربُّنا سبحانه على نفسه الرحمة واللطف، إذْ جعل بيننا أنبياء بشرا مرسلين، أكمل الخلائق سيرة وأشرفهم منصبا ووظيفا، يكون لنا بهم في أَوَّلنا وآخرنا الضمانُ الإيماني الأكفل لتحقيق سبيل الهدى والنجاة من مزالق الرّدى، نَرودُ من خلاله النهوض الأرسى على جميل الذرائع إلى ابتغاء مراد الله تعالى على وجهه، مع ما نَبْغي في كل ذلك من حُسْن التحادث والذِّكْرى لنا، وسَبْق سُعود السُّمعة بين الأمم والأجيال قال الله جلَّ وعلا: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلى المْومِنينَ إِذْ بَعَثَ فيهِمْ رَسولاً مِّنْ اَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمُ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [آل عمران 164]، فأُمُّ المِنَن وأَكْملها أن ابْتَعَثَ الله سبحانه سفراء السماء تَقُومُ في الناس نظراً واعتباراً واستدلالا، كما أَلْقى سبحانه في الأرض مناصب تنطق بربوبيَّته وإلهيته، وبَثَّ مشاهد دالّة تعرِّف بمعاهد هدايته ومعالم شريعته، قال الحافظ أبو عمرو الداني (ت‍ 444 ه‍): (إنَّ الله سبحانه قد احتجَّ على عباده برسله، كالسفراء بينه وبين خلقه، وقطع عذْر الدلالة على صدقهم بما آتاهم من الآيات وقاهر المعجزات … وأنزل عليهم الكتاب وشرع الشـرائع وفرض الفرائض وختم النبوة برسالة محمد أمينه وصفيّه خاتم النبيين كما قال عز وجلّ: رُسُلاً مُّبَشِّـرينَ وَمُنذِرينَ لِيَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء 165]) [الرسالة الوافية ص 51]، وعليه؛ فعقود أنبياء الله ورسله ومطاوي قلوبهم مُتْرعةٌ مُمَلَّـأَةٌ علماً ويقيناً – مما له تعلق بأمور التوحيد وسنن الشرع وسائر الأحوال الدينية التعبدية- منزَّهة عن شوائب الغفلة والريب والحيرة …، بل هم من وراء الغاية في الاعتناء بأنباء الآخرة وقوانين الشـريعة ومعارف الدين والدنيا، إذ عمدة منصب النبوة والرسالة قائم على البلاغ والإعلام والتبيين [الشِّفا للقاض عياض ص 659] والقطع عن يقين وتسليم أنَّ العبودية جوهرة كنهها الربوبية، وأنَّ الله تعالى قد اتَّخذ رسله عباداً قبل أن يتخذهم أنبياء مصطفَون أخيار، فكم لله من لطْف سَرِيٍّ خَفيّ وكَمْ له من كَرم مَليٍّ حَفِيّ، ثم هذا أوان الشـروع في المقصود، فنقول وعلى الله الاعتماد:

اختلف تُلاّء الأمصار – الحجاز والكوفة والبصـرة والشام – ورواتها في قراءة قوله سبحانه: (كُذِّبوا) بالشد و(كُذِبوا) على التخفيف من قوله جلَّ وعلا: (حَتَّى إِذا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذبوا جَاءَهُمْ نَصْرُنا) وكل ذلك شافٍ كافٍ – بشرطه – في تحصيل مسالك الإبانة والدلالة وكافلٌ مُسْعفٌ في تحقيق سبيل الرّشد والهداية، آخذٌ بعضه بحُجَز الآخر في تأدية مراد الله والإسفار عن مكامن الحجّة في صنعته، تناصفتْ أوجه معانيه ورقّت حواشي مبانيه، فتظاهرت حتى أَعربتْ عن دلائل إعجاز آي الكتاب العزيز فَعَلاَ ولم يُعْلَ عليه، وعليه؛ فالكوفيون (عاصم وحمزة والكسائي) وأبو جعفر وخَلَف في اختياره على أدائه بتخفيف الذال وكسرها (وَظَنّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبوا) وأما نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب فعلى قراءته بالذال المشدّد [المبسوط لابن مهران ص 248]، فأما أهل التخفيف (كُذِبوا) فالحجّة وَفقهم تكون أَحدَ وجهين: الأول: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان القوم الذين ظنوا برسلهم الكذب وإخلاف الوعد بالنصـر والتأيُّد والنّفاذ؛ آتى الله النصـرَ رسلَه وأَمْكَنَهم فأصبحوا ظاهرين، فلأجله احتمل الضمير في قوله (ظَنّوا)  العوْد إلى (القوم) والأَوْل إلى جُملتهم، لجواز اقتناص جُثمان المرسَل إليهم واكتناهه من ذكر حال الرسل، وما تقضـي به مَهَمَّة بَعْثهم في خُويصَّة مبناها، على جهة الكناية بلازم المعنى والاستدلال بضميمة خواصّه (هداية الخلْق وبثّ معالم الشِّـرعة) في تبلُّغ المُراد المكنون، مثل إضمار (الثمرة) لجَرْي ذكر (النخلة) في قوله تعالى: (وَهُزّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تَسَّاقَطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً)، وكذا التَّكنية عن (الرعد) عند جَرْي ذكر (البرق) في معهود كلام العرب ومُسْتَمِرِّ خطابهم، في مثل قول الشاعر: (أَمِنْكَ البَرْقُ أَرْقُبُه فَهاجا *** فَبِتُّ إِخاله دُهْماً خلاجا)، فقد شبّه هزيم الرعد وجَلَبَته بِدَوِيِّ هذه النّوق الخلاج، التي جُذب عنها ولدها بذبح أو ثكلٍ أو موت فحنَّت إلى تَفَقُّده وتطلُّبه؛ فأُضمر الرعد الذي لم يجرِ له ذكر، لكونه مع البرق [البيت لأبي ذؤيب الهذلي، شرح أشعار الهذليين ص 177]، ثم استقلَّ (الظن) هنا بالدلالة الحقَّة الصـريحة (قوة أحد النقيضين) النكت لأبي الحسن القيرواني (ت‍ 479 ه‍)، فوافق مبناه معناه من غير تجوُّز في المنطق أو اتّساع في الحمْل أو ما أشبه، الوجه الآخر: وتأويله حتى إذا استيأس الرسل وانقطعتْ ذرائع أطماعهم، واندقَّتْ أعناق رجائهم من إيمان القوم أو الأُمَم، فظن القومُ الكذبَ برسلهم فيما ادَّعَوْه من أمر النبوَّة، أو فيما أَوْعدوهم بِطَرَيانه من دوائر السوء وخوالي المَثُلاث إذا هم امتنعوا عن الاستجابة لداعي الإيمان، وعاندوا في ذلك أو رَكِبوا رأس المضلَّة، [حجة زنجلة ص 365]، وإنما أُلْزِق نعتُ الكذبُ بالرسل ونُسبوا إليه وَفْق هذا الضـرب الأدائي (كُذِبوا) المبني للمفعول؛ لِثَلَجِ صدور المكذِّبين وتوسعة مجامع أضغانهم – ظُلماً وعلوّاً – بالَّذي شهدوه، مِنْ إمهال الله سبحانه – استدراجاً وفُتوناً – مَنْ كَذَّب مِن القوم وإملائه لهم في بُلَهنيّة الدَّعَة وبَحْبوحة الرَّفاهة على العَمَه في طغيانهم، وإصرارهم في الاستكبار عن سبيل الحق والصدّ عنه [مفردات الراغب، قوله تعالى: (حَتَّى إِذا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ)]، فهم في ريْبهم يتردّدون، ولقد استفاض هذا التأويل وذاع خبره عن ابن عباس وابن جبير رضي الله عنهم وجَمعٌ كريم، ثم أسند الإمام أبو جعفر الطبري (ت‍ 310 ه‍) أنّ مسلم بن يسار قال لسعيد بن جبير: يا أبا عبد الله، آيةٌ قد بلغتْ منّي كلّ مبلغ (حَتَّى إِذا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذبوا جَاءَهُمْ نَصْـرُنا) مثقلة، فهذا هو الموت أن تظنَّ الرسل أنهم قد كُذِّبوا أو نظنَّ أنهم قد كُذِبوا (مخففة)، فقال سعيد ابن جبير: يا أبا عبد الرحمان، إنَّما يئس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم، وظن قومُهم أنَّ الرسل كَذَبَتْهم، فحينئذ جاءهم  نصرنا، فقام مسلم إلى سعيد فاعتنقه وقال: فرَّج الله عنك كما فَرَّجْتَ عَنّي [الدر المنثور (سورة يوسف 110)]،  وهذا التأويل هو ما ذهب إليه أبو علي الفارسي (ت‍ 377ه‍) فرجّحه وقال: إنَّ ردَّ الضمير في (ظَنّوا) وفي (كُذِبوا) على المرسل إليهم وإن كان لم يتقدَّم لهم ذكرٌ صريح جائز [الحجة (سورة يوسف 110)] وأما أهل التشديد (كُذِّبوا)؛ فقد أصْفَوْا الضمير في (ظَنّوا) بالرسل وحملوا مادّته وسِنْخ اشتقاقه – هنا – على غير ما اطّرد في بابه، بل على الخارج المفيد للإيقان المحض والعلم الجازم غير المتردِّد، مع ما قد يحتمل مِن معنى: (حَسِبوا) [الحجة الفارسية] إلا أنه لا وجه لهذا الحسبان في مثل هذا المقام خاصة إذا عُلم أنَّ تكذيب غير المؤمن مقطوعا به لا يستدعي إشكالا إلا ما تندَّر، وصَنَعهم في ذلك مُقْرِنٌ ناهضٌ على أنه لمّا لم يُذكر اسم المرسَل إليهم ابتداءً وأَوَّلَ مَرَّة، وإنما المذكور هُم خاصّة الرسل فقط؛ استحق الضميرُ العوْدَ على الرسل والأَوْبَ إلى جملتهم، على جهة الأولوية الاِقترانية المعززة بالدلالة السياقية؛ فتتصل لأجل ذلك أجزاءُ القصة وتُضحي لُحْمة الكلام وأَسْدِيتهُ نسجاً متّحدا، فيرجع الفِعْلان (استيأس، ظنوا) معاً إلى جملة الرسل وتَنْحسـر نسبتهما بمُهْلة ميدانهم، فيكون المعنى وَفْق ذلك: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان القوم وظنوا  على إرادة معنى (أيقنوا) – تكذيب القوم إيّاهم تكذيباً عَمَّ جماعتَهم، حتى لا يفلح فيهم أحد بالمتابعة والمطاوعة أو يَسْعَد [النكت للقيرواني (قوله تعالى: حَتَّى إِذا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ)]؛ جاء الرسلَ نصـرُ الله وفُتوحه، وحلَّ بهم نَعمة ما كانوا يَرْجون من شآبيب التأييد والنصـرة، وحصَّلوا ما كانوا يَرْقُبون من طلائع ما تستبشر به أنفُسُهم.

على أنه لا ينبغي أن يُذْهِبَ المتعبّدُ المُتشرِّع نَفْسَهُ حَسْـرةً وحزنا على من مسَّه طائفٌ في أنبياء الله وصفوته، فاعتقد فيهم غيرَ تمام الخُلُق في التحمّل والتأدية، وسَجاحة الطبْع في التلقّي والبذل والتنمية – ذهولا أو غَباوة أو فتوراً – أو على الذي تعلّق بما لجْلج في فؤاده من شوْبة المُروق من ابتغاء عُهْدة الأمان – من لدن الرسل – في الأحوال البلاغية والتقريرات المحكمة الشـرعية، التي حُمِّلَتْها سُفراء الله وأنبياؤه أو ما أشبه ذلك من موجبات الإزراء ومُسقطات المروءة، كَلاّ بل إنّ الذي عليه الكافّة من طبقات المسلمين محدّثين وفقهاء ومتكلمين وأقطاب القلوب والأبدال المتصوفة …؛ كَمِنٌ في جمْع النفس وشدِّ نياط القَلْب على تنزيه الأنبياء والمرسَلين، وتبْرئتهم من كل عَيْب، وعِصمتهم من قِبَل الله عز وجلّ من كل ما يوجب الرَّيْب مُطْلقا، إلى حدِّ ترك التزام قرينةٍ دالّة تَميز أحوال البشـر ومجاري سعيهم – مما لا تعلّق له بتشـريع – عن خواصّ أمور الديانة وسنن التكليف عند البعض (مثل الإمام مالك والأبهري وابن القصار … برَّد الله ضرائحهم)، وذلك مثل الذي قد يُتلقَّف من قراءة وجه التخفيف في (كُذِبوا) الآنف، والذي يتحمَّل أن يكون مَرْجع الإضمار في (ظَنّوا) (كُذِبوا) على الرسل فتصير الدلالة: (كَذَبَهم من بلَّغهم عن الله) فتكون مادَّة (الظن) على بابها، وممن رُوي عنه هذا التأويل ابن عباس وابن مسعود وابن جبير رضي الله عنهم، والحجَّة فيه كَمنةٌ في أنهم: ألم يكونوا بشرا ؟ ثم أجاب ابنُ مسعود من سأله عن هذا فقال له: (هو الذي نكره)، وكان ابن عباس رضي الله عنهما: يقرؤها (كُذِبوا) مخففة، ويتأوَّلها: (أُخلفوا) وذلك لما يئسوا وضَعفوا؛ فظنوا أنهم قد أُخلفوا [الدر المنثور (سورة يوسف 110)] وهو التأويل الذي اطَّيَّرتْ منه أمُّنا عائشة رضي الله عنها ولم تُؤامِرْ نَفسيْها في ردِّه أو تَتَأَلَّ في ترك اعتباره، بل نَكِرَتْهُ وأَعْظَمتْ أن توصَف رسل الله صلوات ربي وسلامه عليهم بمثله [المحرر لابن عطية (سورة يوسف 109 إلى 110)]، فقالت: (ما وعد الله رسوله من شيء إلاَّ علم أنه سيكون قبل أن يموت، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أنَّ من معهم من المؤمنين قد كذَّبوهم، وكانت تقرؤها: (وَظَنّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبوا) مثقّلة للتكذيب) [الدر المنثور (سورة يوسف 110)] قال الإمام أبو علي الفارسي (ت‍ 377 ه‍): (هذا غير جائز على الرسل) [الحجة]، روى البخاري في الجامع عن عروة أنه سأل عائشة رضي الله عنها: أَ كُذِّبوا أم كُذِبوا (بالتخفيف أم بالشّدّ) ؟ قالت: كُذِّبوا (أي بالشّدّ)، قال: فقد استيقنوا أنَّ قومهم كذَّبوهم، فما هو بالظنِّ؛ فهي قد كُذبوا أي بالتخفيف، قالت: معاذ الله لم يكن الرسل عليهم السلام تظنّ ذلك بربّها، وإنّما هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدَّقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل عليهم السلام من إيمان من كذّبهم من قومهم؛ وظنَّت الرسل عليهم السلام أنَّ أتباعهم قد كذّبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك [الدر المنثور (سورة يوسف 110)] إذن، فالسلامة عند أهل الديانة؛ قد ضُرِبَتْ في حِرْز التفاني في تمثُّل خصال المرسلين ومن تلاهم، وقَفْو أثرهم ونهْج رُحْمى سيرتهم، قال القاضي عياض (ت‍ 544 ه‍) رحمه الله: (لا خلاف أنهم معصومون من كتمان الرسالة والتقصير في التبليغ؛ لأنَّ كل ذلك تقتضـي العصمة منه المعجزة، مع الإجماع على ذلك من الكافة) [الشفا 668]، وعليه؛ فالآية البيّنة (قصة الاستيئاس) إنما انساقت مساق الأسوة والعبرة بالذي جرى فمضـى، وقد  دلّ عليه قوله سبحانه (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالا يُّوحَي إِلَيْهِمْ)، على جهة تثبيت قلب النبي عليه الصلاة والسلام، ومواساته وتسكينه مما يَحُسُّه من مُقاساة معاندي قومه ومكابدة صلافى رسالته، وهو الذي يُغَانُ على قلبه صلى الله عليه وسلم [حديث الأغرّ المزني، أخرجه مسلم (2702)] فيفرُّ إلى وَزَر مولاه ذاكرا مُرْتويا مستغفرا ربه جل وعلا على حال الإغانة والخَشية، التي تتغشّى قلبه فتحْمِله صلى الله عليه وسلم على الشكر وملازمة مراقي العبودية واعتلاء ذراها، فقد آثر عن معاناة الأهل وسياسة الأمّة ومغالبة النفس والضَّلاعة بأمور الرسالة؛ روضةَ الصابرين الذاكرين الشاكرين لم يَعْدُ مثْراةَ رِيِّها، قال القاضي عياض (ت‍ 544 ه‍) رحمه الله: ( المراد بهذا الغَيْن؛ إشارة إلى غفلات قلبه وفترات نفسه، وسهوها عن مداومة الذكر ومشاهدة الحق، بما كان صلى الله عليه وسلم دُفع إليه من مُقاساة البشـر وسياسة الأمة ومعاناة الأهل ومقاومة الوليّ والعدوّ ومصلحة النفس، وكُلِّفه من أعباء أداء الرسالة وحمل الأمانة، وهو في كل هذا في طاعة ربّه وعبادة خالقه، ولكن لمّا كان صلى الله عليه وسلم أرفع الخلق عند الله مكانة، وأعلاهم درجة وأتمّهم به معرفة، وكانت حاله عند خلوص قلبه وخلوّ همّته وتفرّده بربّه وإقباله بكلّيّته عليه، ومقامه هنالك أرفع حاليْه؛ رأى عليه السلام حال فتْرته عنها وشغله بسواها؛ غضّا من عليّ حاله، وخفضاً من رفيع مقامه، فاستغفر الله من ذلك) [الشفا 618]، وعليه؛ فالظن المأثور عن أجلاء الصحابة مثل: ابن عباس وابن جبير رضوان الله عليهم وغيرهم؛ يُحمَل – كما عند الزمخشري والبيضاوي وغيرهما – على الذي يهجس بالبال، أو يتخرَّج على خاطر القلب من أضغاث النفس المُوَسْوَسة، مما يعرض لجملة البشر ونوعه فيستولي على رُوعه ونبْض عروقه، فذلك معفوٌّ عنه متجوَّزٌ فيه بل هو تَرْجُمان الإيمان وعنوانه، قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسولٍ وَلا نَبيءٍ إِلاَّ إِذا تَمنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِه)، سواء كان إلقاء قَلْب أم لسان أم علم فحدُّه سواء، فينسخ الله ما يشاء ويُحْكِم، ووجه استعمال الظن هنا وسوقه؛ إنما القصد منه التهويل للخطب (تطاول مدة التكذيب واستبطاء  النصر المفضي إلى استشعار اليأس والقنوط)، وإلا فإن الظنَّ الذي هو ترجّح أحد الجانبين على الآخر؛ لا يتصور من أفراد الأمة وآحادها ممن أيقن، فما الظنُّ بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهُمْ، مَن هُمْ ومعرفتهم بشئون الله سبحانه منزلتهم ؟ [تفسير أبي السعود، سورة يوسف 110]، ولقد استرشدت الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في مثل هذا المعرض بسُيوب هُدى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يمنعهم حياؤهم من الصّدع جهراً بما مثله لم يسلم منه بشر: (إنَّ أَحدَنا ليجد ما يتعاظم أن يتكلَّم به أو ما أَنْ يُحرق حتى يصير حمما أو يَخرّ من السماء إلى الأرض أَحَبّ إليه من أن يتكلّم به)، فأحسن عليه الصلاة والسلام جابتهم، وترفَّق في تنويرهم غاية الترفُّق فقال: (ذلك صريح الإيمان) أو (الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة) أو غيرها مما يثلج صدر المؤمن الموقن … نظير حال إبراهيم عليه السلام في شأن إحياء الموتى المُترجَم بقوله تعالى: (وَلكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبي)، إذ قال فيه صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام، إذ قال له ربه: (أَوَلَمْ تومنْ) ؟، فبان بذلك ما بين الإيمان والاطمئنان من البوْن والتفاوت، قال الآلوسي (ت‍ 1270 ه‍): (وعلى هذا يقال: الوعد بالنصـر في الدنيا لشخص قد يكون الشخص مؤمنا بإنجازه، ولكن قد يضطرب قلبه فيه فلا يطمئنّ فيكون فوات الاطمئنان ظنّا أنه كذب، فالشك والظنّ أنه كذب من باب واحد، وهذه الأمور لا تقدح في الإيمان الواجب، وإن كان فيها ما هو ذنب، فالأنبياء عليهم السلام معصومون من الإقرار على ذلك، كما في أفعالهم على ما عرف من أصول السنة والحديث، وفي قصّ مثل ذلك عبرة للمؤمنين بهم عليهم السلام، فإنهم لا بدّ أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك، فلا ييأسوا إذا ابتلوا ويعلمون أنه قد ابتلي من هو خير منهم، وكانت العاقبة إلى خير؛ فيتيقّن المرتاب ويتوب المذنب ويقوى إيمان المؤمن، وبذلك يصحُّ الاِتّساء بالأنبياء، ومن هنا قال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولي الْأَلْباب) ولو كان المتبوع معصوما مطلقا لا يتأتّى الاتساء؛ فإنه يقول التابع: أنا لست من جنسه، فإنه لا يذكر بذنب، فإذا أذنب استيأس من المتابعة والاقتداء، لما أتى به من الذنب الذي يفسد المتابعة على القول بالعصمة بخلاف ما إذا علم أنه قد وقع شيء وجبر بالتوبة؛ فإنه يصحّ حينئذ أمر المتابعة …) [روح المعاني، سورة يوسف الآيات 96 إلى 111].

وعليه فإنَّ الظاهر في إنكار أمِّنا عائشة رضي الله عنها لوجه متواتر (كُذِبوا) المبني للمفعول المخفف؛ أنه لا يصحّ [حاشية الشهاب الخفاجي، سورة يوسف]، ثم على فرْض الصحة والثبوت؛ فإنَّ فيه مَئِنَّة راسية على الاعتداد بعود الإضمار إلى أقرب مذكور وهم الرسل، لأجل ما يحتمله التخفيف مما لا يليق بالأنبياء عليهم السلام من الخِلال والمعاني [التسهيل لابن جزي، الباب الثامن: القراءات]، قال العلامة الطاهر ابن عاشور (ت‍ 1393 ه‍): وذلك ليس بمتعيّن، بل ذهب – رحمه الله – إلى أبعد من ذلك فرأى أنه: لم تكن عائشة قد بلغتها رواية كُذِبوا بالتخفيف [التحرير والتنوير، سورة يوسف الآيات 109 إلى 110]، قال النجم الطوفي (ت‍ 716 ه‍):  (وليس ما أنكرته بالمنكر، إذ الإنسان يطرأ عليه لخوف أو حزن أو مرض أو همّ وغم أحوالٌ يقول ويظن فيها أقوالا وظنونا؛ هو فيها معذور، لغلبة ذلك الحال، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا تراخى عنه الوحي في مبادئ أمره خرج ليتردّى من شواهق الجبال وَجْداً لانقطاع الوحي، والرسل يوم القيامة يقال لهم: (ماذا أُجبتم) ؟ فيقولون: (لا علم لنا)، ينسون أو يشدهون لغلبة تلك الحال عليهم، ثم يتذكرون فيشهدون بما علموا، فكذا ظنّ الرسل هاهنا أنهم قد كُذِبوا هو من هذا الباب، والله عز وجل أعلم بالصواب ) [الإشارات الإلهية، القول في سورة يوسف]، [حاشية الشهاب الخفاجي على البيضاوي].

وعليه؛ فالأثر الرّجْعي والفائد المحصَّل من سوق قصة الاستيئاس واستشعار خيبة المنقلب والابتئاس، فيه مَقْمنة لصبر المكلف الأَيِّد الموقن بربه وملائكة قدسه وأنبياء رسالته …، وشدة بأسه وعزْمته على حَرِّ لقاء خطوب الزمان وعواديه عند سوء الحال، ومضض العيشة واختلاط القلب والبال …، خاصة إذا أخذته من نفسه غاشية الوَجْد واليأس والحزن وما إليه، إذ يصبح الاهتزاز إلى الاِتساء بمنازل المرسلين، والتَّحَفّي بأحوال الأبدال من رجال الغَيْب الصالحين؛ حَتْماً مَقْضياً مفروضا، وقَدَراً نافذاً مقدوراً، فتلك مطيّة المخرج وداعية الفرج، والله هو العليّ الكبير، وصلى الله وسلم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع.

Science

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق