مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينشذور

ما روي عن الحسن البصري رحمه الله على جهة الاستغفار والدعاء، والنهي عن التصنع والرياء

تقديم واختيار: ذ. نورالدين الغياط.

كان الحسن البصري رحمه الله، علَم من أعلام التابعين، اشتهر واستفاضت شهرته علماً وأدباً وزهداً وورعاً؛ فكان القدوة والمثل لعلماء الأمة من بعده. كان رحمه الله فقيها، محدثا، مفسرا… أقواله منثورة في كتب الفقه والتفسير…كان رحمه الله واعظا متمكنا وخطيبا فصيحا له تأثير كبير على القلوب مما جعل له القبول بين الناس. قال عنه مالك بن دينار: (بلى والله، لقد رأيناهم، الحسن، وسعيد بن جبير، وأشباههم، الرجل منهم يحيي الله بكلامه الفئام من الناس)([1])

وكان رحمه الله دائم الأحزان، قد غلب عليه ذكر الآخرة، كان معتدلا في طعامه، قال أبو هلال (قلما دخلنا على الحسن، إلاّ وقد رأينا قدرا يفوح منه ريح طيب)([2])

ذكر الإمام القرطبي عن ابن صبيح قال: شكا رجل إلى الحسن الجدوبة : فقال له : استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر فقال له : استغفر الله وقال له آخر : ادع الله أن يرزقني ولداً فقال له : استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له : استغفر الله، فقال له الربيع بن صبيح أتاك رجال يشكون أنواعاً فأمرتهم كلهم بالاستغفار ! فقال : ما قلت من عندي شيئاً ! إن الله عز وجل يقول في سورة نوح:  (قُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا )([3]) .

قال الرجل للحسن البصري: أما يستحي أحدنا من ربه ؟ نفعل الذنب، ثم نستغفر، ثم نفعله مرة أخرى، ثم نستغفر وهكذا .

فقال له الحسن : ودَّ الشيطانُ لو ظفر منكم بهذا ؛ لا تتركوا الاستغفار أبداَ .

فيما يلي ما أورده على جهة الاستغفار والدعاء، والنهي عن التصنع والرياء.

حيث قال:

إلهي! مَنْ أولى بالزَّلَلِ والتَّقْصير مِنِّي؟ وأولى بالمغفرة والعفو منك عنِّي؟ وقد خلقتني ضعيفاً لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً!

إلهي! عِلْمُكَ فيَّ سابقٌ، وقضاؤك بي مُحيطٌ، وأمرك في نافذٌ، أطعتُك بإذنك ومعونتك، والمنّة لك، وعصيتُك بعلمك، والحجة لك، فبوجوب حجتك، وانقطاع حجتي، ثبت خوفك في قلبي حتى لا أرجو سواك، ولا أخاف غيرك.

اللهم يا أرحم الراحمين! صل على محمدٍ خاتم النبيين، واغفر لي ولكافة المؤمنين، وحسبي الله ونعم الوكيل.

وروي أنه كان إذا أراد سفراً قال: يا من إذا استُودع شيئاً حفظه وأداه، أستودعك من غاب عني، ومن حضر من أهلي وولدي، وكل ما ملكته يدي، فاحفظهم يا من لا يخيب ودائعه.

وكان إذا عرض له هَمٌّ، أو أصابه كربٌ، قال: يا حابس يد إبراهيم عن ذبح ابنه، وهما يتناجيان فيقول ابنه: ارفق يا أبت، ويقول إبراهيم: اصبر لأمر ربنا يا بني، يا مقيض الركب ليوسف في الأرض القفر وغيابات الجب، وجاعله بعد العبودية ملكاً، يا سامع همس ذي النون في ظلماتٍ ثلاثٍ، يا راد بصر يعقوب عليه، وجاعل حزنه فرحاً، يا راحم عبرة داود، وكاشف ضر أيوب، يا من يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، ويغيث من استغاث به ورجاه، يا من لا يعبد رب سواه، يا عالم النجوى، وكاشف البلوى، أسألك أن تصلي على نبيك المصطفى، وعبدك المرتضى، محمدٍ وعلى آله وصحبه، وأن تكفيني ما أهمَّني، وتفرِّج كربي، يا خير من سُئل، وأفضل من رجي، وأرحم من استرحم، افعل بي من الخير ما أنت أهله، يا أرحم الراحمين، وحسبي الله ونعم الوكيل.

وكان يقول إذا دخل الجَبَّانَة: اللهم رب هذه الأجساد البالية، والعظام النخرة، التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنةٌ، ولرحمتك راجيةٌ، أرسل عليها روحاً منك وسلاماً مني.

ثم يقول: روي أن العبد إذا قال ذلك، استغفر له كل ميتٍ مذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة.

وروي: أن الحجاج أخافه وطلبه، فقال: يا سامع دعوتي، ويا عدَّتي في مُلمَّتي، وكاشف كربتي وشدتي، ويا راحمي وولي نعمتي، ويا إلهي، وإله إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، وموسى، وعيسى، ومحمدٍ، ورب الناس كلهم، بحق {كهيعص}([4]) و{طه}([5]) و {يس. والقرآن الحكيم}([6])، صل اللهم على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ الطاهرين، واكفني شرَّه، وشر كل ذي شر، وعافني من الحَجَّاج، وحزبِه، وأشياعه، وجنده، واصرف عني بقدرتك ما يُحَاوله، وكفَّ عني أذاه وشره، ولا تجعل له عليَّ سبيلاً يا رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمدٍ خاتم النبيين وسلم.

وكان يقول إذا مرض: اللهم لا تجعلني ممن إذا مرض ندم، وإذا شُفي فُتن، وإذا افتقر حزن، واكفني اللهم كفاية من استكفاك، وعافني عافية من استعفاك، ووفقني اللهم لمحبتك ورضاك، يا من يرحم من استرحمه، ويجيب دعاء من دعاه.

وقيل: كان يغشى مجلس الحسن رجلٌ من الخوارج، فيؤذي أهله، فقيل للحسن: ألا تشكوه للأمير؟ فقال: أرجو أن يَكفينا إياه رب الأمير، فلما قدم الرجل، استقبل الحسن القبلة وقال: اللهم اكفنيه بما شئت، فَخَرَّ الرجل على دابته، وحُمل ميتاً إلى أهله، فعرف الحسن، فقال: الحمد لله الذي يكفي من استكفاه، ويقبل دعاء من دعاه، يا ويحه ما كان أغره بربه!

وكان إذا فرغ مجلسُه قال: اللهم ألحقني بصالح من مضى، واجعلني من صالح من بقي، وأعِذْني من شر نفسي، ومن شر كل ذي شر.

ولما انتهى إلى الحسن موت الحجاج قال: اللهم إنه عقيرك([7])، وأنت قتلته، اللهم فأمت حاشيته.

وكان إذا ختم القرآن قال: صدق الله الذي لا إله إلا هو الحي الذي لا يموت، وبلغت الرسل الكرام، ونحن على ما قال ربنا ومولانا من الشاهدين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمدٍ خاتم النبيين، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه المنتجبين، وأزواجه أمهات المؤمنين.

اللهم إنك علمتنا القرآن قبل رغبتنا في تعليمه، واختصصتنا به قبل معرفتنا بفضله، ومننت علينا به قبل علمنا بنفعه، اللهم فإذا كان ذلك مناً منك وجوداً، وكرماً ولطفاً لنا، ورحمةً وسعتنا، من غير حولنا، ولا حيلتنا، ولا قوتنا، ولا قدرتنا، اللهم فهب لنا رعاية حقه، وحسن تلاوته، وحفظ آياته، والعمل بمحكمه، وتبيين متشابهه.

اللهم اهدنا بهدايته، ونور قلوبنا ببصيرته، اللهم إنك أنزلته شفاءً لأوليائك، وشقاءً على أعدائك، وعمىً على أهل معاصيك، فاجعله اللهم دليلاً لنا على عبادتك، وحصناً حصيناً من عذابك، ونوراً نهتدي به يوم لقائك، ونستضيء به بين خلقك، ونجوز به صراطك، ونصل به إلى جنتك.

اللهم إنا نعوذ بك من العمى عن علمه، والحور عن قصده، والتقصير دون حقه.

اللهم احمل عنا ثقله، ويسر لنا حفظه، واجعلنا ممن يقوم بحقه، ويؤدي فرائضه، ويؤمن بمتشابهه، ويستسن بسنته، ويحل حلاله، ويحرم حرامه.

اللهم اسقنا من النوم باليسير، وأيقظنا عند أفضل الأجلين التي تنزل فيها الرحمة، وتستجيب الدعاء.

اللهم وانفعنا بما صرفت فيه من الآيات، وذكرنا بما ضربت فيه من الأمثال، وكفر بتلاوته السيئات، ولقنا به البشرى عند الممات.

اللهم انفعنا بالقرآن العظيم، وبالآيات والذكر الحكيم.

اللهم إنا نعوذ بك من قساوة قلوبنا، ونسألك العفو عن جرائمنا وذنوبنا.

اللهم إنك جعلت القرآن مباركاً، فارزقنا به من كل بركةٍ، ونجنا به من كل هلكةٍ.

اللهم اجعله لنا شافعاً مشفعاً، ونوراً وشفاءً وهدىً وموعظةً.

اللهم ألزم قلوبنا به السكينة والوقار، ويسر لنا به كثرة الاستغفار واجعل لقلوبنا ذكاءً في تفهمه، ولذةً في تردده، وعبرةً عند ترجيعه حتى لا نبتغي به بدلاً، ولا نشتري به ثمناً، ولا نؤثر عليه من الدنيا غرضاً، إنك سميع الدعاء، قريبٌ مجيبٌ.

اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا وشفاء صدورنا، ونور أبصارنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، وقائدنا ودليلنا إلى جنات النعيم.

اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا دَيناً إلا قضيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حاجةً من حوائج الدنيا والآخرة لك فيها رضاً، ولنا فيها فائدةٌ إلا أتيت على قضائها في يسر منك وعافيةٍ يا أرحم الراحمين، يا غياث المستغيثين، يا مجيب دعوة المضطرين.

وصلِّ اللهم على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطاهرين.

يتبع

 


([1])  حلية الأولياء 2/360.

([2])  سير أعلام النبلاء 4/584.

([3]) سورة نوح، الآيات: 10-12 

([4])  سورة مريم، الآية: 1.

([5])  سورة طه، الآية: 1.

([6])  سورة يسن، الآية: 1-2.

([7])  يقال: عقرت الفرس، إذا كسفتَ قوائمه بالسيف، وفرس عقير وخيل عقرى، وعُقرَت الناقة، عن الأصمعي قال: ويقال: (ما رأيت كاليوم عقيرة بين قوم): الرجل إذا كان سريعًا ثم قُتل، أصابته ظبة سيفه فانعقر؛ انظر: غريب الحديث للحربي 3/998.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق